بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 10 يونيو 2020

من قتل الرسول؟ كيف؟ ولماذا؟

ليس اليهود فقط من قتلوا أنبياءهم ..  بل الأعراب أيضا قتلوا رسولهم



تعتبر قضية وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم من القضايا المسكوت عنها في الثقافة الإسلامية لأسباب سياسية أكثر منها دينية، فقد ظل العقل المسلم يعتقد جازما أن وفاة الرسول كانت طبيعية بعد أن بلٌغ الرسالة وأدى الأمانة وخطب في الناس خطبة الوداع وترك فيهم ما إن تمسكوا به لن يظلوا بعده: "كتاب الله وسنتي" وفق ادعاء السنة، و"كتاب الله وعثرتي" وفق زعم الشيعة، هذا بالرغم من أن الرسول صلى الله عليه وسلم أوصى أمته في خطبة الوداع بالاعتصام بكتاب الله فقط دون سواه وهو الصحيح، أما الحديث الذي أضاف "وسنتي" فأسانيده لا تخلوا من ضعف، كما أن  الحديث الذي أضاف "وعثرتي" يعتبر معلولا لدخول حديث قيل في غدير خم في خطبة الوداع.../...

وعلى أساس هذا التحوير الذي طال وصية الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته هجر المسلمون القرآن بشهادة الرسول نفسه أمام ربه يوم القيامة: (وقال الرسول يا ربي إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا) الفرقان: 30، وتمسكوا بالتالي بمنظومة فقهية مغلقة باسم سنة ابتدعها حراس العقيدة ونسبوها إلى النبي لصبغها بالقداسة، ولتكون بديلا عن الإسلام السمح الجميل، فأصبحوا بذلك ممًن قال فيهم تعالى: (من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون) الروم: 32.

غير أنه وبسبب ما أفرزه الواقع من متغيرات فرضتها سنن التطور والتبدل والتغير، كٌسِرت القيود التي وضعها فقهاء السلاطين على المجال الديني لقرون طويلة، فظهرت في العقود الأخيرة إرهاصات ثورة ثقافية بدأت خجولة لتتحول زمن طفرة المعلومات وانفجار المعرفة إلى ثورة حقيقية طالت بشكل خاص المنظومة التراثية السنية، قادها عدد من الباحثين الشجعان الذين انكبوا على مراجعة التراث الديني بالعقل النقدي، رافضين التسليم بثقافة النقل التي أدت إلى ما عرفه تاريخ الأمة من انتكاسات حضارية، هدفهم الأسمى البحث عن الحقيقة الدينية العارية، لتطهير هذا الموروث الديني الضخم من غثاء المفاهيم الخاطئة التي استقرت فيه وأثرت بشكل سلبي في كل مناحي حياة المسلمين، ما أدى بالنتيجة إلى تشويه صورة الإسلام وسمعة المسلمين.

وكان لزاما في خضم هذه المراجعة الجريئة أن يبدأ البحث والتقصي انطلاقا من اللحظة التي فارق فيها الرسول الحياة وما أعقبها من أحداث دموية خطيرة لا تمت لدين الله بصلة بقدر ما لها علاقة بالسياسة ومصالح الدنيا، الأمر الذي وضع من وجهة نظر التاريخ والدين معا مشروعين في مواجهة بعضهما البعض:

- مشروع الإمام علي الذي كان مشروعا إنسانيا يصبو لنصرة المستضعفين والمظلومين، وإقامة مجتمع المؤمنين الذي يقوم على الوحدة والتضامن والتعاون وحب الخير، ونبذ الخلاف والشقاق وحب الذات، ونشر العدالة والمساواة بين الناس، والولاء لله ورسوله والمؤمنين، وهو المجتمع الذي وضع لبنته الأولى المصطفى عليه الصلاة والسلام الذي كانت أخلاقه أخلاق القرآن وشهد الله له بالخلق العظيم.

- ومشروع تحالف أبو بكر وعمر وعثمان الذي كان مشروعا طبقيا يقوم على العصبية القبلية، ويُروّج لهيبة نبلاء قريش وأحقيتهم في السيادة على القبائل، ويقدس رابطة القرابة والدم، وهي سمات طبعت الشخصية العربية زمن الجاهلية، وتشبه إلى حد بعيد سمة التعصب العنصري والعدائي التي تميزت بها الشخصية اليهودية وبرزت من خلال ظاهرة الكفر والنفاق التي تحدث عنها القرآن فوصف بها اليهود والأعراب على حد سواء.

ولعل ما يؤكد هذه الخلاصة، هو أنه عند وفاة الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم، لم يحضر حزب قريش الجنازة ولا الصلاة ومراسم الدفن، حيث كان أبو بكر وعمر وعثمان منهمكين في تدبير انتقال الخلافة في سقيفة بني ساعدة في غياب الإمام عليّ وباقي الصحابة الكرام في انتهاك صارخ لمبدأ الشورى الذي جعله الله فرض عين على كل مؤمن مثله مثل فريضة الصلاة بنص القرآن لقوله تعالى (والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم) الشورى:38، وهو ما دفع بصفوة القراء والأنصار الذين تفطنوا لأبعاد المؤامرة إلى نصرة الإمام علي عليه السلام، الأمر الذي يضع ما أسماه ابن خلدون بالوازع الديني الذي كان وراء إقامة الخلافة محل تساؤل، ويسقط ما أصبغه الفقهاء على سيرة الخلفاء من قداسة. والمفارقة أن عمر بن الخطاب اعترف بعد ذلك بعدم شرعية تولية أبو بكر الخلافة حسب الحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه وأحمد في مسنده، والحميدي والموصلي في الجمع بين الصحيحين، وابن شيبة في المصنف وغيرهم عن ابن عباس في حديث طويل سموه "حديث السقيفة" جاء فيه: "إن بيعة أبي بكر كانت فلتة ولم تكن عن تدبر وتروّ، وتمّت، ألا وإنها قد كانت كذلك، ولكن الله وقى شرّها. من بايع رجلا عن غير مشورة المسلمين فلا يُبايع هو ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا". وفي رواية أخرى: "ألا إن بيعة أبي بكر كانت فلتة، وقى الله المؤمنين شرها، فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه". وقد ذكر هذا الحديث السيوطي في تاريخ الخلفاء، وابن كثير في البداية والنهاية، وابن هشام في السيرة النبوية، وابن الأثير في الكامل، والطبري في الرياض النضرة، الأمر الذي يقطع الشك باليقين ويضع شرعية ما تمخض عن سقيفة بني ساعدة تحت عنوان "اغتصاب الخلافة".


ولعل من المقدمات المهمًة التي تؤشر إلى حادثة الاغتيال التي أودت بحياة النبي بسبب الصراع على السلطة، ما ذكره التاريخ الإسلامي من واقعة حدثت قبل وفاته صلى الله عليه وسلم بعام واحد في تبوك عندما تمرد الأنصار ورفضوا المشاركة في موقعة حنين التي انتهت بهزيمة المسلمين بسبب الخلاف على تقسيم الغنائم، فتدخًل النبيً وأخذ بخاطر الأنصار واسترضاهم بمزيد من المال وقرر تولية الإمام علي حاكما على المدينة بسبب مؤهلاته وحب الأنصار له. هذه الوقاعة  الفارقة في تاريخ الغزوات النبوية أثارت غيرة حزب قريش، فخرج عليه وهو في طريقه بين مكة والمدينة زمرة من المنافقين الملثمين عند العقبة، قدًرهم الرواة ببضعة عشر نفرا، حاولوا تنفير خيوله ليسقط بمعية مرافقيه من أعلى الجبل في هوة سحيقة بقعر الوادي فيموت، وفق الحديث الذي ذكره الطبري ورواه الإمام أحمد في مسنده ومسلم في صحيحه عن أبي الطفيل، وهي الحادثة التي نزلت فيها الآية الكريمة التي تقول: (يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله فإن تابوا يك خيرا لهم وإن يتولوا يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا والآخرة وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير) التوبة: 74 وحسب ما ذكره ابن كثير والطبري وغيرهما من المفسرين السنة والشيعة، فإن فمعنى الآية: "أن المنافقين كانوا أرادوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بسوء كالفتك به و مفاجأته بما يهلكه و أقدموا على ما قصدوه و تكلموا عند ذلك بشيء من الكلام الرديء لكنهم أخطئوا في ما أوقعوه عليه و اندفع الشر عنه بإذن الله، فخاب سعيهم ولم يحققوا هدفهم فزعموا أنهم كانوا فقط يخوضون ويلعبون، لكن الله كشف ما يحذرون منه ورد عليهم اعتذارهم و بيًن ما قصدوه بقولهم ليخفوا حقيقة ما اقدموا عليه من فعل شنيع" (الميزان في تفسير القرآن).

وقد ذكر ابن حزم في المحلى (الجزء 11 ص 224 وما بعدها) استنادا إلى رواية الوليد بن جميع (وهو من التقاة المجمع على عدولهم عند أهل الحديث) أسماء المنافقين الذي همًوا بقتل النبي وسمًاهم بأسمائهم، ومن بينهم أبو بكر وعمر وعثمان وطلحة، كما أورد نفس الحديث ابن كثير في جملة رواته الثقات، وذكره مسلم في صحيحه، غير أن الحاكم بعد أن اطًلع على حديث حذيفة المذكور بواسطة الوليد بن عبد الله بن جميع قال: "لو لم يذكره مسلم في صحيحه لكان أولى" (؟؟؟)، وهذا يعني أن الوليد بن جميع ثقة في نظر الحاكم ولكنه منزعج منه لذكره الحديث لما كشفه من أسماء. ووفق مسلم، والذهبي، وابن معين، والعجلي، وأبي زرعة، وأبي حاتم، والرازي، وابن حجر، يعتبر سند هذا الحديث صحيحا لا يرقى إليه الشك، لأن الرواة يثقون في حذيفة بن اليمان والوليد بن جميع ويعتبرونهم من الشهود العدول الذين عايشوا واقعة العقبة وأسرً لهم النبي صلى الله عليه وسلم بأسماء المنافقين المتآمرين عليه. وقطع ابن حزم الأندلسي بعدم صلاة حذيفة بن اليمان على أبي بكر وعمر وعثمان إذ قال: "ولم يقطع حذيفة ولا غيره على باطن أمرهم فتورع عن الصلاة عليهم"، ويعزو ابن حزم الأندلسي عدم كشف حذيفة بن اليمان لأسمائهم إلى وصية الرسول صلى الله عليه وسلم له من جهة، والخوف من الاغتيال بعد أن حاول عمر استدراجه مرارا لمعرفة إن كان يعرف أسماء المنافقين الذي تربصوا بالنبي في العقبة من جهة ثانية.

ودليل معرفة حذيفة بن اليمان معرفة يقينية بأسماء المنافقين المتآمرين على الرسول صلى الله عليه وسلم في العقبة يتضح جليا في ما ذكره  البيهقي عن حديث عروة الذي قال: (ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم قافلا من تبوك إلى المدينة، حتى إذا كان ببعض الطريق مكر برسول الله صلى الله عليه وسلم ناس من أصحابه فتآمروا عليه أن يطرحوه في عقبة في الطريق، فلما بلغوا العقبة أرادوا أن يسلكوها معه، فلما غشيهم رسول الله أخبر خبرهم، فقال: من شاء منكم أن يأخذ بطن الوادي فإنه أوسع لكم، وأخذ النبي العقبة، وأخذ الناس بطن الوادي إلا النفر الذين مكروا برسول الله، ولما سمعوا بذلك استعدوا وتلثموا، وقد هموا بأمر عظيم، وأمر رسول الله حذيفة بن اليمان، وعمار بن ياسر، فمشيا معه مشيا، وأمر عمارا أن يأخذ بزمام الناقة، وأمر حذيفة أن يسوقها، فبينما هم يسيرون إذ سمعوا بالقوم من ورائهم قد غشوهم فغضب رسول الله، وأمر حذيفة أن يردهم، وأبصر حذيفة غضب رسول الله، فرجع ومعه مِحجن، فاستقبل وجوه رواحلهم، فضربها ضربا بالمِحجن، وأبصر القوم وهم متلثمون، لا يشعر إنما ذلك فعل المسافر، فرعبهم الله عز وجل حين أبصروا حذيفة، وظنوا أن مكرهم قد ظهر عليه، فأسرعوا حتى خالطوا الناس، وأقبل حذيفة حتى أدرك رسول الله، فلما أدركه، قال: اضرب الراحلة يا حذيفة، وامش أنت يا عمار، فأسرعوا حتى استوى بأعلاها فخرجوا من العقبة ينتظرون الناس، فقال النبي  لحذيفة: هل عرفت من هؤلاء الرهط أو الركب، أو أحدا منهم؟ قال حذيفة: عرفت راحلة فلان وفلان، وقال: كانت ظلمة الليل، وغشيتهم وهم متلثمون، فقال صلى الله عليه وسلم: هل علمتم ما كان شأن الركب وما أرادوا؟ قالوا: لا والله يا رسول الله، قال: فإنهم مكروا ليسيروا معي حتى إذا أظلمت في العقبة طرحوني منها، قالوا: أفلا تأمر بهم يا رسول الله إذا جاءك الناس فتضرب أعناقهم؟ قال: أكره أن يتحدث الناس ويقولوا إن محمدا قد وضع يده في أصحابه، فسماهم لهما، وقال: اكتماهم).

ويذكر عديد المفسرين أنه وبسبب ما بدر من حفصة بنت عمر بن الخطاب في حق رسول الله من إفشاء للسّرّ الذي ائتمنها عليه، نزلت الآية الكريمة التي تقول: (وإذ أسرً النبي إلى بعض أزواجه حديثا فلما نبأت به وأظهره الله عليه عرُف بعضه وأعرض عن بعض فلما نبأها به قالت من أنبأك هذا قال نبًأني العليم الخبير * إن تتوبا إلى الله فقد صغت فلوبكما وإن تظاهرا عليه فإن الله ومولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير) التحريم: 3 – 4. ويتعلق الأمر بسر خطير أفضى به النبي لزوجته حفصة، فقامت الأخيرة بإخبار عائشة التي أفشت بدورها السّرّ لأبي بكر وعمر. وحقيقة الأمر وفق الحديث الذي أخرجه الطبراني وابن مردويه عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر حفصة بأن الله أنبأه بأن والدها ووالد عائشة سيتوليان الأمر من بعده، فجاء الوحي ليؤكد أن إفشاء سرّ الرسول صلى الله عليه وسلم يُعدّ إثما كبيرا يستوجب التوبة، أما في حال صغت قلوبهما (أي زاغت) و (إن تظاهرا عليه) بمعنى اتفقا عليه وتآمرا على قتله، فإن الله وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة سيكونون له ظهيرا. وهو ما يفسر أن النبوءة نقلت للرسول واقع الحال الذي سيكون عليه الأمر من بعده نتيجة زيغ القلوب والتآمر عليه وفق ما يفهم من نص الآية، وهو ما أكده التاريخ بعد نجاته من حادثة العقبة.

وبسبب حادثة العقبة التي كشف الله لرسوله عن أسماء المتورطين فيها، طرحت مراجعة حادثة موته الأخيرة أسئلة حارقة من قبيل: كيف؟ ومن؟ ولماذا؟ ...

أما كيف مات الرسول صلى الله عليه وسلم؟ فالمصادر التاريخية من تدوينات ومرويات وأحاديث لدى السنة والشيعة تتفق على أن النبي لم يمت موتة طبيعية كما هو اعتقاد العامة، بل مات مسموما، وهناك العشرات من هذه المصادر التي تناولت الموضوع لدرجة لم تعد معها واقعة الاغتيال بالسًم محل شك. فقد ورد حديث تسميم الرسول صلى الله عليه وسلم في البخاري ومسلم، وذكره أنس ابن مالك في الموطأ بإسناده إلى عائشة، ورواه الإمام عبد الرزاق بن همام الصنعاني في المصنف عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، ورواه الإمام ابن سعد عن شيخه الواقدي في الطبقات الكبرى بإسناده لعبد الله بن مسعود وجابر بن عبد الله، وذكره ابن القيم تلميذ ابن تيمية في زاد المعاد، وسار أكثر المحدثين وكتاب السيرة على ذلك حيث أكدوا في مجملهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم مات مسموما.

ولعل أبرز ما يستشهد به في هذا الصدد ما ورد في السيرة النبوية لابن كثير عن الأعمش عن عبد الله بن نمرة عن أب الأحوص عن عبد الله بن مسعود إذ قال: "لئن أحلف تسعا أن رسول الله قُتل قتلا أحب إليً من أن أحلف واحدة أنه لم يقتل، وذلك لأن الله اتخذه نبيا واتخذه شهيدا".

أما الأعراض التي تؤكد واقعة التسمًم، فقد ذكرها القاضي والفقيه والمؤرخ عامر الشعبي بقوله: "والله لقد سمم رسول الله، وأن أعراض التسمم ظهرت على وجهه وبدنه قبيل وبعد وفاته وتغير لونه وساءت حالته". وتذكر كتب السيرة أن درجة حرارته ارتفعت ارتفاعا خطيرا في مرضه الذي توفي على إثره بصورة غير طبيعية، لما صاحبه من ألم فظيع في بطنه وصدره، وصداع عنيف في رأسه، وتعرًق وإغماء من حين لآخر، وهي أعراض من نتاج التسمًم، وقد تعذًب الرسول صلى الله عليه وسلم كثيرا خلال 13 يوما التي لازمه فيها الألم، لأن جرعات السمً كانت تعطى له بكميات ضئيلة خلال هذه الفترة على أنها دواء يُلدً به حتى لا يفتضح الأمر في حال موته الحاد بجرعة واحدة كبيرة. ويذكر البخاري في صحيحه أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما فطن للأمر طلب من عائشة وحفصة أن لا يطعموه (يلدّوه) الدواء، لكنهم فعلوا رغم ذلك حين كان يغشى عليه بدعوى أن المريض لا يعرف مصلحته، ولما استفاق استنكر عليهم فعلتهم زعموا كذبا أن عمًه العباس هو من لدًه (أي أطعمه الدواء)، فأمر الرسول بإطعام نفس المُركًب (الدواء المزعوم) كل من كان حاضرا في بيت عائشة إلا عمًه العباس الذي برأه، ونص الحديث كما ورد في صحيح البخاري كتاب المغازي باب مرض النبي ووفاته هو كالتالي: (حدثنا عليً، حدثنا يحيى، وزاد، قالت عائشة: لددناه في مرضه فجعل يشير إلينا أن لا تلدًوني، فقلنا كراهية المريض للدواء. فلما أفاق قال: ألم أنهكم أن تلدًوني؟ قلنا: كراهية المريض للدواء. فقال: لا يبقى أحد في البيت إلا لدً وأنا أنظر إلا العباس فإنه لم يشهدكم). وفي حديث آخر أن النبي صلى الله عليه وسلم أشار بأصبعه إلى الجهة التي جاء منها مركًب السمً ففهموا منه أنه يشير إلى الحبشة.

أما من تآمر عليه، فيؤكده تفسير العياشي (ج 1 ص 200) وفق ما ورد في بحار الأنوار للمجلسي (ج. 82 ص 20) في الحديث الذي يقول: (عن عبد الصمد بن بشير عن أبي عبد الله أنه قال: أتدرون مات النبي أو قتل: إن الله يقول: أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم. فسمً قبل الموت، إنهما سمًماه. فقلنا إنهما وأبويهما شر من خلق الله)، وهي إشارة واضحة إلى عائشة وحفصة وأبويهما أبو بكر وعمر.

وما يزيد الأمر ريبة ويلقي الضوء بشكل لا لبس فيه على هوية الفاعل هو الحديث الذي رواه البخاري عن عائشة في كتاب المغازي باب مرض النبي ووفاته حيث يقول: (وقال يونس عن الزهري، قال عروة، قالت عائشة: كان النبي يقول في مرضه الذي مات فيه: يا عائشة ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر، فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري من ذلك السمً) "أي شريان قلبي". وهو الأمر الذي طرح العديد من التساؤلات حول من له مصلحة في قتل النبي، وأثار ضجة كبرى لدى المدافعين عن عائشة من أهل السنة والجماعة بالرغم من أنهم يعتبرون صحيح البخاري من المقدسات التي لا يجوز التشكيك في محتواها، فذهب بعضهم حد القول إن الحديث المذكور غير مقبول لأنه أُخرج معلقا لا موصولا، هذا بالرغم من أن عديد الأئمة وصلوه كابن حبان والبزار وأبو بكر الإسماعيلي وأبو عبد الله الحاكم في المستدرك من طريق عنبسة بن خالد عن يونس بن يزيد الأيلي عن الزهري عن عروة بن الزبير عن عائشة. واستند الباحث عدنان إبراهيم على رواية الحافظ ابن حجر في فتح الباري للتشكيك في سند الحديث بزعم أن للحديث شاهدان مرسلان مما يجعله غير موصول، وهو رأي لا يعتد به على كل حال أمام الكم الهائل من المحدثين والمفسرين الذين اعتبروا الحديث موصولا مما يجعله من الصحاح.

ومعضلة هذا الحديث الذي يريد أهل السنة والجماعة إسقاطه للتستًر على المتآمرين على النبي، أنه يدين عائشة بشكل لا لبس فيه، بعد أن لم تنفع محاولتها المكشوفة تقويل الرسول ما لم يقله لتحميل اليهودية التي دست السم له في الشاة بعد فتح خيبر قبل ثلاث سنوات مسؤولية موته، ذلك أن تصديق كلام عائشة يقتضي حكما تكذيب القرآن وإسقاط آية العصمة التي يقول فيها تعالى (والله يعصمك من الناس) المائدة: 67، وهو أمر لا يستصيغه عقل ولا دين، لتبقى الفرضية الوحيدة القائمة التي تشير إلى نوع من الاعتراف الضمني بالجريمة على شاكلة "كاد المريب أن يقول خذوني"، ولا يوجد تفسير آخر يمكن الركون إليه، خصوصا إذا علمنا أنه من الناحية العلمية وفق ما وصلت إليه الدراسات الحديثة في علم السموم، أن الإنسان الذي لم يتعرض لجرعة تفوق 120 ملغ من هذا المركب لا يموت ميتة حادة، وأن تعرضه لجرعة أقل تجعل الجسم يقاوم بما يفرزه بواسطة الكلى في حال كانت الخلطة مشروبا أو الكبد في حال كانت الخلطة طعاما، وبالتالي، يتعافى الجسم رويدا رويدا من خلال عمليات الطرح التي تتم عن طريق اللعاب والبول والغائط والعرق، فيتخلص الجسم بالفرز الطبيعي من الزئبق ولو بعد حين. وبذلك يكون ما زعمته عائشة على لسان النبي ليس صحيحا من الناحية العلمية بالمطلق، خصوصا بعد مرور فترة ثلاث سنوات على حادثة خيبر، ناهيك عن أن عديد المرويات تؤكد أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأكل من الشاة المسمومة التي قدمتها له اليهودية في خيبر، بل أخذ لقمة منها ثم لفظها بعد أن أخبره جبريل بأنها مسمومة وفق عديد الروايات، فيما تقول روايات أخرى أن الله أنطق الشاة فأخبرت الرسول بأنها مسمومة، ولم ترد رواية واحدة في التراث بمجمله تشير إلى معاناة النبيً من مرض جسدي بسبب طعام اليهودية في خيبر، بل يذكر كتاب السيرة أنه صلى الله عليه وسلم كان يتمتع بصحة وعافية، وشارك في معارك كبرى بعد خيبر، كمعركة حنين، وحرب بني قريضة، والحديبية، وفتح مكة، وغيرها... ولم يشعر بضعف أو خلافه، الأمر الذي يضع حديث عائشة الذي رواه البخاري عن أن النبي كان يجد طعم ما أكله في خيبر في لهاته خلال مرضه الذي توفي عقبه موضع شك، ويؤكد أن ما قالته عائشة على لسان النبي كان من باب تبرير ما لا يبرر لدفع الشبهة عنها من باب التضليل.

كما أن ما قيل عن موت الصحابي الذي كان أحد جلساء النبي على مائدة اليهودية في خيبر المدعو البراء بن معرور بسبب أنه ازدرد بضع لُقيمات من الشاة قبل أن يمد الرسول يده إليها فكان مصيره الموت لا مصداقية له وتكذبه روايات أخرى أكثر موثوقية تؤكد أن البراء بن معرور توفيً قبل أن يهاجر الرسول إلى المدينة بشهر واحد، هذا فيما حادثة الشاة المسمومة كانت في السنة السابعة بعد الهجرة، وأما إذا كان المقصود هو ابنه بشر بن البراء الذي تقول بعض الروايات أنه هو من مات في خيبر جراء أكله من الشاة المسمومة كما يزعم ابن الأثير الجزري في مصنفه "أسد الغابة في معرفة الصحابة" فمردود لمعارضته الأخبار المتواترة التي تؤكد أن الضحية هو البراء وليس ابنه بشر.

وحول هذه الحادثة التي وقعت بمنزل اليهودية بخيبر، يذكر أبو داود في سننه كتاب الديات باب فيمن سقى رجلا سمًا أو أطعمه فمات أيقاد منه؟ عن أبي هريرة أنه قال: (حدثنا وهب بن بقيًة في موضع آخر عن خالد عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة قال: كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ولا يأكل الصدقة، فأهدت له يهودية بخيبر شاة مصلية سمًمتها فأكل الرسول منها وأكل القوم فقال: ارفعوا أيديكم فإنها أخبرتني أنها مسمومة. فمات بشر بن البراء بن معرور الأنصاري، فأرسل إلى اليهودية وقال لها: ما حملك على الذي صنعت؟ قالت: إن كنت نبيا لم يضرك الذي صنعت، وإن كنت ملكا أرحت الناس منك. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتلت). ويضيف أبي هريرة في نفس الحديث واقعة التسمم التي حدثت ثلاث سنوات بعد ذلك فيقول: (ثم قال - أي الرسول - في وجعه الذي مات فيه: ما زلت أجد من الأكلة التي أكلت بخيبر فهذا أوان قطعت أبهري) دون الإشارة إلى أن عائشة هي من روت هذا الجزء الأخير في حديث مستقل لاحق جاء بعد ثلاث سنوات من حادثة خيبر، الأمر الذي يكشف الصناعة والتلفيق. وهو أمر اعتاده بعض رواة الحديث لنية في نفس يعقوب، فتجدهم يلجؤون لتجزئة حديث حينا أو جمع أكثر من حديث في حديث واحد أحيانا دون مراعات الفارق الزمني بينهما، همهم الأساس أن يوافق الحديث الرأي الذي يرغبون في ترويجه لأسباب لا علاقة لها بالدين بقدر ما كانت تهدف إلى التضليل من خلال التحوير والتعتيم والتزوير.

أما المركب الذي أطعمته عائشة وحفصة للرسول وأشار صلى الله عليه وسلم إلى مصدره وفق عديد الروايات، هو الزرنيخ المسمى بـ "القاتل الصامت"، أي السمً الفعال الذي كان معروفا وسائدا في ذلك الزمان واستعمل للاغتيالات السياسية في العصور القديمة والوسطى وعصر النهضة بل وفي العصر الحديث أيضا، فقد قتل به مالك الأشتر وهو ذاهب إلى مصر ليكون والياً للإمام عليّ فمات قبل أن يبلغ مقصده وقد دُس له السُم في العسل، وبعد ذلك الإمام الحسن بن علي دُس له السُمً بأمر من معاوية فمات، وكذلك الخليفة عمر بن عبد العزيز مات مسموماً، والإمام عليّ الرضا دسوا له السُم في العنب، وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد مات مسموماً، وسمم بالزرنيخ نابليون بجرعات صغيرة.. وهذا ما كان أيضا مع عديد المشاهير كجورج الثالث ملك بريطانيا، وسيمون بوليفار قائد أمريكا الجنوبية، وإمبراطور الصين جوانجكسو، وفيصل الأول ملك العراق، وصولا إلى الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات حسب ما كشفت الفحوصات المخبرية الفرنسية من تحليل شعره. ومن خصائص سمً الزرنيخ أنه لا طعم ولا لون ولا رائحة له، كما أن الأعراض التسمًمية الناشئة عنه تختلط مع كثير من الأمراض المعوية السارية فلا تثير شكا لدى الطبيب المعالج فأحرى الناس العاديين، ومن أعراضه انخفاض نبضات القلب حينا وتسارعها أحيانا، وحدوث خلل في الجهاز العصبي، ووعند ارتفاع مستوى ضغط الدم بشكل كبير يتعرض المريض إلى ذبحة صدرية. والغريب أن الجرعة الزائدة من سمً الزرنيخ تحفظ الجثة من التحلل في التراب لزمن طويل. ويذكر ابن أبي الحديد في تفسيره لنهج البلاغة بأن النبيَّ صلّى الله عليه وآله وسلّم "مات مسموماً وأنه قذف دماً حال مرضه"، وأن الإمام علي عليه السلام هو من مسح الدم عنه حيث مات صلى الله عليه وسلم بين يديه.

ومن المؤشرات الدالة أيضا على أن الأمر يتعلق مؤامرة دنيئة أعدت بتخطيط مسبق، ما تؤكده عديد المرويات عن أن الرسول صلى الله عليه وسلم لمًا أحس دنو أجله طلب من الحاضرين ورقة وقلم ليكتب لهم شيئا لن يضلوا بعده، فرفض أبو بكر وعمر تلبية طلبه بدعوى أنه يهجر (أي يهذي)، وترجًح بعض المصادر أن رفضهم كان جراء خوفهم من أن يترك النبي وصيًة مكتوبة يذكر فيها بالاسم من له أحقية تولًي شؤون المسلمين من بعده، خصوصا بعد الذي حدث عقب حديثه في غدير خم عن تولية الإمام عليً، لأنه لا يعقل أن يكتب الرسول حينها شيئا عن الدين بعد أن اكتمل الوحي من جهة، كما لا يعقل أن يُودًع بحكم مقامه ومسؤولياته الجسيمة وخوفه على مصير أمته من دون أن يترك وصية تجنب المسلمين صراع السلطة الدموي وهو العارف بخبايا الأطماع وما كان يدور في خلد أصحابه. وفي هذا الصدد روى البخاري في صحيحه ضمن الفتح (1/208) كتاب العلم باب كتابة العلم بسنده عن عبيد الله بن عبد الله (أي ابن عتبة بن مسعود) عن ابن عباس أنه قال: "لما اشتدَّ بالنبي صلى الله عليه وسلم وجَعُه قال: ائتوني بكتاب أكتبْ لكم كتابًا لا تضلوا بعده. قال عمر بن الخطاب: إن النبي صلى الله عليه وسلم غلبه الوجع، وعندنا كتابُ الله حسبنا. فاختلفوا، وكثر اللغط. فقال النبي: قوموا عني، ولا ينبغي عندي التنازع. فخرج ابنُ عباس يقول: إنَّ الرزية كلّ الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين كتابه".

وبالتالي، فهناك شبه إجماع على أن ما حصل كانت له مقدماته، خصوصا وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يتمكن من العودة إلى مكة كما سبق وأن أعلن قبيل تعيين الإمام علي وليًا على المدينة في غدير خم حين قال قولته الشهيرة: (أيها الناس: من أولى الناس بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: إن الله مولاي وأنا مولى المؤمنين وأنا أولى بهم من أنفسهم، فمن كنت مولاه فعلي مولاه – قالها ثلاث مرات – وفي لفظ أحمد إمام الحنابلة: أربع مرات، ثم قال: اللهم والي من والاه، وعاد من عاداه، وأحب من أحبًه، وأبغض من أبغضه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحق معه حيث دار، ألا فليبلغ الشاهد الغائب). فقال أبو بكر وعمر: "بخ.. بخ.. يا بن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة"، وقال ابن عباس: "وجبت والله في أعناق القوم". هذا الحديث وبرغم وروده في عديد المصادر الشيعية خصوصا والسنية على وجه العموم كصحيح مسلم ومسند أحمد والترمذي والنسائي وبن حجر العسقلاني وغيرهم كل بروايته مع إثبات أمر الولاية لعليّ، وبرغم استنكار الطبري تحوير الحديث وتقسيمه من قبل بعض فقهاء السنة إلى أربعة أجزاء بهدف فك الارتباط بين مُكوّناته لتضييع السياق الذي يحدد معناه، الأمر الذي دفع الطبري لجمع أجزائه وتصحيحه، غير أن بعض الرواة السنة ولأسباب سياسية، أصرّوا على تجزئته والاكتفاء بالإشارة فقط إلى قول الرسول في ذات المناسبة: (وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي)، دون ذكر بقية مفاصل النص الذي تتحدث عن ولاية عليّ، هذا فيها ذهب أغلبهم بمن فيهم مسلم وأحمد وابن كثير وغيرهم حد القول أن الولاية لا تعني الخلافة التي لم ترد حرفيا فيه، وهو تفسير تعسفي يتلاعب بمعاني الكلمات ليفرّق بين الولاية والخلافة التي تعني الشيء نفسه ما دام الولي هو ولي أمر المؤمنين بنص القرآن، فيما مصطلح الخلافة لا أصل ولا فصل له بالمعنى السياسي في القرآن الكريم، ولا بالمعنى الديني أيضا ما دام الله هو من يصطفي الأنبياء والرسل ولا يسمح للبشر بتعيين خلفاء لهم بالمطلق، ومخالفة ذلك تعد اعتداء سافرا على مجال من اختصاص الله تعالى دون سواه.

وعودة لواقعة موت الرسول بالسمً، ولأن الحدث جلل والمصيبة عظيمة، فقد حاول بعض المتربصين بالرسول صلى الله عليه وسلم من المناوئين للإسلام والمشككين في نبوة محمد استغلال هذه الحادثة الأخيرة لزرع البلبلة في عقول المسلمين، من خلال القول أنه: إذا كان محمد رسول بعثه الله بالإسلام كما يزعم المسلمون، فكيف يعقل أن يُقتل بالسًم والله يقول في القرآن: (والله يعصمك من الناس) المائدة: 67؟ ليخلصوا إلى أن هذا التناقض القائم بين القرآن وحادثة موت محمد بالسمُ إنما يؤكد بطلان ما يزعمه المسلمون من أن محمدا كان نبيا ورسولا.

والحقيقة أن الرسول صلى الله عليه وسلم تعرض أثناء الدعوة في مكة والمدينة إلى أكثر من عشرة محاولات اغتيال نجًاه الله منها، وبالتالي، فالآية التي استشهد بها المشككون في نبوة ورسالة محمد لا تعتبر حجة لهم بل عليهم، بدليل أن منطوقها يقول: (يا أيها الرسول بلًغ ما أُنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين) البقرة: 67، وبالتالي فالعصمة التي تعني الحماية والحفظ من الموت قد تكفل بها الله لرسوله أثناء فترة تبليغ الرسالة للناس، وواقعة التسمم التي أودت بحياته صلى الله عليه وسلم حدثت 90 يوما بعد انتهاء نزول الوحي وختم الرسالة في خطبة الوداع لقوله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) المائدة: 3، ما يؤكد أن العصمة المتحجًج بها ليست مطلقة، بل مرتبطة حصريًا بفترة الوحي وفق ما يستفاد من سياق الآية 67 من سورة البقرة، ودليل ذلك ما أوضحه تعالى من خلال قوله: (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين) آل عمران: 144. والمعنى واضح إذ يؤكد تعالى من خلال هذه الآية الكريمة أن الرسول هو بالنهاية بشر مثله مثل من سبقوه من الرسل وليس له من الأمر شيء باستثناء تبليغ ما كلف به من رسالة، وبالتالي فالإيمان لا يرتبط بحياة الرسول لينتهي بموته أو قتله، بل يرتبط بالله الحي الذي لا يموت، وهو ما فهمه أبو بكر في حينه فخرج على الناس بعد وفاة الرسول ليقول لهم: "أيها الناس، من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت". والانقلاب الذي وقع وأدى إلى المجازر الدموية التي ذهب ضحيتها عشرات الآلاف من المسلمين بسيوف المسلمين، وقع مباشرة بعد وفاة الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم كما أخبر بذلك تعالى في الآية 144 من سورة آل عمران.

ومهما يكن من أمر، فإن واقعة موت النبي بالسمً تكشف إلى أي حد كان إيمان من تآمروا عليه من قومه محل تساؤل، وتكسر بالتالي الصورة النمطية التي روجها الفقهاء عن ورع وتقوى بل وقداسة الرعيل الأول من الصحابة الذين عايشوا تجربة الوحي عن قرب، وكيف تحوّل الجشع على السلطة إلى وازع أدى إلى قتل النبي وسفك دماء المسلمين زمن ما سُمّي بـ "الخلافة الراشدة" التي كانت، وبخلاف ما يعتقده العامة، أبعد ما تكون عن الرشد والعقلانية.

وليس أدل على ذلك من شهادة الله نفسه حين وصف مجتمع يترب في سورة التوبة التي جاءت ما قبل الأخيرة من حيث ترتيب النزول، أنه كان بمثابة خليط من المؤمنين والمسلمين الجدد الذيم وفدوا إلى المدينة من مختلف أصقاع المعمور لمبايعة الرسول، بالإضافة إلى المنافقين، والمشركين، واليهود، والنصارى، والأعراب من مختلف القبائل والبطون... مجتمع يتسم في عمومه بالجهل، والغلظة، والعصبية القبلية، والأمية الكتابية وفق شهادة ابن خلدون التي أوردها في مقدمته، وبحكم هذا التنوع العرقي والقبلي والعقائدي، لم يكن الوازع الديني هو الأساس الذي بنيت عليه السلطة زمن الخلافة المسماة بالراشدة، وذلك لأربعة أسباب رئيسة على الأقل كما هو واضح من تسلسل الأحداث التاريخية:

السبب الأول: إعلان أبو بكر الحرب على من أسماهم بالمرتدين ضدا في قوله تعالى (لا إكراه في الدين) البقرة: 256، وقوله أيضا (من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) الكهف: 29. ما يؤكد أن الوازع كان سياسيا بامتياز ولا علاقة له بالدين، ولتبرير الجرائم التي وقعت زمن الخلافة وما تلاها لجأ الفقهاء إلى حيلة الناسخ والمنسوخ ليحوّلوا الإسلام السمح الجميل من دين يدعو إلى الحرية والمحبة والتسامح إلى دين يدعو إلى العنصرية والكراهية والعنف والإرهاب. لأنه إذا أخذنا بمنطق الناسخ والمنسوخ الذي اعتمده الفقهاء من دون أن يكون له لا أصل ولا فصل من القرآن، سنصل إلى خلاصة تقول أن آية السيف (التوبة) تنسخ القرآن كله، وهذه قضية يطول شرحها وتحتاج إلى كثير تفصيل.

السبب الثاني: تذكر كتب التاريخ أن من قاتلهم أبو بكر بزعم رفضهم دفع الزكاة لم يكونوا كلهم مرتدين، بل كان منهم الكثير من المسلمين الذين رفضوا دفع الزكاة للخليفة الأول لعدم اعترافهم بشرعيته وخصوصا القراء وجموع الأنصار، كحال قبيلة تميم التي أفناها خالد بن الوليد وقتل زعيمها مالك بن نويرة اليربوعي التميمي المؤمن الذي كان من أنصار الرسول ومحبي الإمام عليّ، فقطع رأسه وطهى عليه الطعام في النار ثم دخل بزوجته واغتصبها وفق ما يؤكد الطبري وابن كثير وعديد الرواة في مصنفاتهم، وعلى هذا المنوال ذهب دواعش العصر الحديث كما رأينا في العراق وسورية ولبنان. وزعم بعض الرواة أن عمر بن الخطاب غضب ممًا فعله خالد بن الوليد غضبا شديدا وطالب أبو بكر بالقصاص منه، لكن الأخير امتنع، والغريب أن عمر بن الخطاب عندما تولى الخلافة لم يقم بعزل خالد بن الوليد الذي كان قد عيًنه أبو بكر واليا على الشام، ولم يعاقبه بسبب ما نسب إليه من جرائم وكبائر وفق ما تقتضي الشريعة من عدل، بل عزله عندما رفض خالد بن الوليد الامتثال لقرار عمر بأن لا يعطي شاة ولا بعيرا إلا بأمره، وهو ما يؤكده حديث مالك بن أنسٍ الذي قال: "أنَّ عمر لمَّا ولِّي الخلافة كتب إِلى خالد: ألاُّ تعطي شاةً ولا بعيراً إِلا بأمري. فكتب إِليه خالد يقول: إِمَّا أن تدعني وعملي وإِلا فشأنك بعملك. فقال عمر: ما صدقتُ الله إِن كنت أشرت على أبي بكرٍ بأمرٍ فلم أنفِّذه، فعزله. ثمَّ كان يدعوه إِلى العمل، فيأبى إِلا أن يخلِّيه يفعل ما يشاء، فيأبى عليه".   وهذا مثال صارخ فاضح من أنموذج العدل الذي كان سائدا زمن الخلافة المسماة بـ "الراشدة".

السبب الثالث: يذكر الرواة والمحدثين أن حكم الشريعة لم يكن هو السائد زمن الخلافة، فكانت تجارة العبيد والإماء والخمور ولحم الخنزير رائجة في المدينة، بدليل أن أبا بكر وعمر خلال توليتهم الخلافة كانوا يستخلصون المكوس من التجار المسلمين على بيع ما كان الإسلام يعتبره من المحرمات، إلى أن اعترض بلال على عمر بسبب ذلك، وكاد موقفه يؤدي إلى نزاع بينهما بالسيف، الأمر الذي أرغم عمر على منع تجارة المحرمات على المسلمين، لكنه في المقابل، ظل يستخلص المكوس على المحرمات من التجار غير المسلمين، وفق ما تؤكده مختلف الروايات التاريخية المعتمدة.

السبب الرابع: الاغتيالات التي تمت زمن الخلافة المسماة بالراشدة لأسباب سياسية لا علاقة لها بالدين بالمطلق، فهذا أبو بكر قُتل بعد سنة من تسميمه هو والحارث بن كلدة حسب ما ورد في كتاب الكامل لابن الأثير الجزري، واتهم أهل السنة والجماعة اليهود بقتله دون دليل واضح. وهذا عمر بن الخطاب قتله لؤلؤة فيروز الفارسي غلام المغيرة بن شعبة في المسجد وهو يؤم الناس لصلاة الفجر، فاتهم أهل السنة والجماعة المجوس الفرس بقتله، هذا بالرغم من أن من حرض هذا الغلام الفارسي الفاقد للحرية والأهلية هو سيده المغيرة بن شعبة الذي هو عربي الأصل ولد بالطائف وكان من كبار الصحابة أولي الشجاعة والمكيدة والدهاء كما يصفه الطبري في مؤلفه تاريخ الأمم والملوك، فما علاقة الفرس بمقتل عمر إذن؟. وهذا عثمان بن عفان قتل بالسيف في بيته بتحريض من عائشة التي رفعت قميص الرسول وقالت إن عثمان بدّل سنة النبي قبل أن يبلى قميصه، وكالعادة، اتهم أهل السنة والجماعة اليهودي عبد الله بن سبأ بتدبير الفتن التي كانت سببا في مقتله. وهذا علي بن أبي طالب الذي قتله عبد الله بن ملجم فاتهم أهل السنة والجماعة الخوارج بقتله وبرءوا معاوية من دمه بالرغم من أن معاوية هو من خرج على الشرعية ونازع الإمام عليّ الخلافة بعد أن بايعه المسلمون، الأمر الذي يؤكد خروج معاوية عن الشرعية طبقا للقاعدة التي تقول "إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما" وفق حديث النبي الذي أخرجه مسلم في صحيحه برواية أبي سعيد الخدري، إلا أنه في هذه الواقعة بالذات، ولأن الأمر يتعلق بمعاوية الذي أسس لما أصبح يعرف اليوم بأهل السنة والجماعة، يتجاهل فقهاء السنة هذا الحديث ويفضلون التحالف مع الشيطان بصمتهم على الانحياز للحق والجهر بالحقيقة. ونفس الأمر حصل مع الحسين بن علي الخليفة الخامس الذي قتل بالسمً بأمر من معاوية وبرأ أهل السنة والجماعة معاوية من دمه. وهذا الحسين قتله اليزيد بن معاوية في كربلاء وذبح أسرة الرسول كما تذبح الخراف وقذف الكعبة بالمنجنيق وحرقها بحجارة من النار كما هو معلوم للجميع، ومع ذلك برّأ أهل السنة والجماعة اليزيد من دم الحسين وأسرة النبي، متهمين من يعادون الإسلام ويسعون للفتك به بالجرائم التي حصلت، مفضلين انتهاج سياسة الإنكار على قول الحقيقة والتضحية بمصالحهم.

وخلاصة القول، أنه كلما تعلق الأمر بتناول مرحلة الخلافة وما قام به الخلفاء بالنقد التاريخي العقلاني والبناء، إلا وهب أهل السنة والجماعة للدفاع الأعمى عن حزب قريش، زاعمين أن الخلفاء كانوا من المؤمنين التقاة، وأنهم كرسوا حياتهم للذبً عن الشريعة والتضحية بالغالي والنفيس في سبيل الدين. وواضح أيضا مما سبق ذكره أن الاغتيالات السياسية بالسمً كانت ممارسة شائعة لدى الأعراب زمن الخلافة أيضا.

ويبقى أن نشير في الأخير إلى مسألة غاية في الأهمية، تتعلق بحديث "العشرة المبشرين بالجنة" الذي يتحجج به أهل السنة والجماعة كلًما فتح باب النقاش حول من تولوا الحكم في مرحلة الخلافة لتغطية الشمس بالغربال، هذا بالرغم من أن الأحداث مترابطة بعضها ببعض كما يخبرنا التاريخ، ما يجعل النتائج رهينة بمقدماتها كما يقول ابن رشد. ونص حديث العشرة المبشرين بالجنة كما ورد في باب فضل الصحابة حسب رواية أحمد والترمذي والنسائي وأبو داود وابن ماجة، باستثناء البخاري ومسلم اللذان لم يذكرا هذا الحديث في صحيحيهما بالمطلق يقول: "عن عبد الرحمن بن عوف أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة، وطلحة في الجنة، والزبير في الجنة وعبد الرحمن بن عوف في الجنة، وسعد في الجنة، وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة". إلا أن هذا الحديث لم يرد في أي مصدر من مصادر آل البيت.

ومهما يكن من أمر، فالحديث موضوع بسبب الصناعة البادية في مبناه لاختلاف أسلوبه عن أسلوب الرسول صلى الله عليه من حيث الشكل، وموضوع من حيث معناه لتعارضه مع ما قاله صلى الله عليه وسلم فيمن قاتلوا معه في بدر وبايعوه عند الشجرة حيث ينقل مالك بن أنس في موطئه ما نصه: "عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله أنه بلغه أن رسول الله صلى قال لشهداء أحد هؤلاء: أشهد عليهم، فقال أبو بكر الصديق: ألسنا يا رسول الله بإخوانهم أسلمنا كما أسلموا وجاهدنا كما جاهدوا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بلى ولكن لا أدري ما تحدثون بعدي. فبكى أبو بكر ثم بكى ثم قال: أإنا لكائنون بعدك؟".

وواضح من نص هذا الحديث، أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقطع بخلود أصحابه في الجنة لسبب بسيط وهو أنه لم يكن شاهدا عليهم في حياته، ولذلك أخبرهم بأنه لا يعلم ما سيحدثون من بعده كاتما ما أنبأه به تعالى، سواء لجهة مخالفة القرآن أو أخلاقه في حياته، وبالتالي، فتصديق حديث "العشرة المبشرين بالجنة" بعد حديث الشجرة إنما يحمل في طياته إساءة للرسول الأعظم واتهام لا يليق به لقوله الشيء ونقيضه، وهو الذي لا ينطق عن الهوى.

ومن نافلة القول التأكيد أن الحديث الذي يبطل حديث العشرة المبشرين بالجنة يعني بوضوح لا لبس فيه التغيير والتبديل الذي سوف يحدثه أصحابه من بعده، وهو ما جاء به الوحي كما سبقت الإشارة، وأكدته أحداث التاريخ التي أوردنا بعضا منها في سياق هذا المبحث، وخلصنا إلى أن ما حدث لا علاقة له بالوازع الديني بقدر ما له علاقة بالسياسة ومصالح الدنيا.

فأين نذهب من هنا؟ ... وكيف يمكن التسليم لأهل السنة والجماعة برشد، وعقلانية، وتقوى، وورع من تآمروا على الرسول صلى الله عليه وسلم في العقبة، وشاركوا في تسميمه في بيت عائشة، وارتكبوا المجازر التي يندى لها الجبين في حق عشرات الآلاف من القراء المؤمنين وعامة المسلمين، مخالفين بذلك المعلوم من شرع الله كما ورد في كتابه وسنة نبيه الذي أوصاهم في حجة الوداع بأن لا يتحوّلوا من بعده كفارا يضرب بعضهم رقاب بعض.. أقول، كيف يمكن من هذا حاله بشهادة القرآن والتاريخ ورواة الحديث أن يكون من المبشرين بالجنة؟

ولعل ما يمكن استنتاجه من هذه السيرة الدموية الأليمة، أن اليهود ليسوا وحدهم من كانوا يقتلون أنبياءهم كما أخبرنا القرآن، بل حتى الأعراب الذين وصفهم تعالى بأنهم أشد كفرا ونفاقا، نهجوا نفس سنة اليهود فقتلوا نبيّهم الذي بعثه الله رحمة للعالمين، وليس غريبا أن يكون ثمن هذه الجريمة الفظيعة، ما ذكره التاريخ عن أحوالهم منذ عصر ما يسمى بالخلافة وإلى يوم الناس هذا، ولا سبيل لتغيير هذا الواقع البئيس للتأسيس لمستقبل أفضل، إلا إذا غيّر الأعراب من أنفسهم، وقبلوا بمراجعة تاريخهم، وكسروا الأصنام التي يدينون لها بالولاء، وفكّكوا منظومة الكهنوت التي تكبّل عقولهم وتضع الأقفال على قلوبهم.

ملحوظــــــة
كتبت هذه المقالة استنادا إلى ما جاء في القرآن والتراث وكتب التاريخ، فمن أراد شتمي أو تكفيري أقول له: "سامحتك.. وأرجو من الله أن يسامحك".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق