بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 20 يونيو 2023

ملامح النظام العالمي الجديد تتشكل..

 


لعلّه من المبكر الحديث عن الصورة النهائية التي سينتهي إليها النظام العالمي الجديد على ضوء الصراع الدائر اليوم بالوكالة في أوكرانيا بين الغرب وروسيا، ذلك أن أوكرانيا ليست في نهاية المطاف سوى الفخ القاتل الذي نصبته الولايات المتحدة الأمريكية وحلف الناتو للدب الروسي بهدف إضعافه سياسيا واقتصاديا وعسكريا بل وقوميّا قبل الإجهاز عليه وتمزيقه، خصوصا بعد أن فشلت سياسة الاحتواء التي انتهجتها واشنطن بعد نهاية الحرب الباردة وسقوط سور برلين سنة 1991 معلنا بذلك نهاية العهد السوفياتي القديم، حيث تبيّن بوصول بوتين إلى السلطة أن للدب الروسي أوهام إمبراطورية توسعيّة تقوم على منطق القوّة.../...

الثابت والمتغيّر في السياسة الأمريكية: بين الاحتواء والمواجهة:

صحيح أن روسيا تعتبر دولة نووية قويّة لا يمكن هزيمتها في مواجهة عسكرية مباشرة أو بالوكالة، لكن من قال إن هدف أمريكا هو هزيمة روسيا عسكريّا في أوكرانيا؟..

إن المتابع لتطورات الأحداث الجيوسياسية في آسيا وأوروبا والمنطقة العربية منذ أن أصبحت الولايات المتحدة الأمريكية الوريث الشرعي للإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية المتداعيتين بعد الحرب العالمية الثانية، وواشنطن تنتهج استراتيجية الاحتواء كإحدى ثوابت سياستها الخارجية والتي نجحت أيّما نجاح في إخضاع أوروبا واليابان وكوريا الجنوبية وفيتنام وغيرها، كما وأنها نجحت في كسر شوكة المعسكر الشرقي بتفكيك الاتحاد السوفياتي وحلف وارسو العسكري واحتواء الدول الشرقية التي كانت تدور في فلكه مرة بالمواجهة الساخنة كما حدث مع يوغوسلافيا السابقة، ومرات  بفضل الثورات الملونة. 

ونتيجة لخروج عدد من دول حلف وارسو سابقا من تحت العباءة السوفيتية، انضمت هذه الدول إلى حلف الناتو. ففي عام 1999 لحقت دول مجموعة فيسغراد وهي هنغاريا وبولندا وجمهورية التشيك بالناتو، أما في عام 2004 فقد انضمت إلى الحلف دول مجموعة "فيلنيوس" وهي بلغاريا وإستونيا ولاتفيا وليتوانيا ورومانيا وسلوفاكيا وسلوفينيا. وفي عام 2009، وافق حلف الناتو على انضمام ألبانيا وكرواتيا، ليبلغ عدد أعضاء الحلف 30 دولة مع انضمام الجبل الأسود عام 2017 ومقدونيا الشمالية عام 2020. ومؤخرا، تم إدراج ثلاث دول هي البوسنة والهرسك وجورجيا وأوكرانيا تحت فئة الدول الطامحة للانضمام.

ولم تكتفي الولايات المتحدة بإشعال الثورات الملونة في شرق أوروبا لاقتلاع دولها من المعسكر الاشتراكي القديم، بل خطّطت لاستنزاف روسيا بصمتها على سلوكها في كل من الشيشان وجورجيا وجزيرة القرم وبيلاروسيا وكازاخستان وغيرها، وهي خطة ذكيّة أعطت موسكو إشارة خاطئة مفادها أن الوقت قد حان لتتمدد اتجاه أوكرانيا. كما وأن واشنطن عملت جاهدة على توريط روسيا في مساحة جغرافية أوسع من منطقة آسيا، خصوصا عندما أشعلت  ما يسمّى باثورات الربيع العربي سنة 2011 في دول عرفت بأنها من حلفاء الاتحاد السوفياتي السابق كمصر (ليس بسبب مبارك بل بسبب ثقافة القومية العربية التي زرعها جمال عبد الناصر في شعبه فأرادت استبدالها بثقافة الإسلام السياسي المتطرّف)، بالإضافة إلى العراق زمن صدام حسين، وليبيا زمن معمر القذافي، واليمن زمن علي عبد الله صالح، وسوريا التي لا يزال بشار الأسد على رأس السلطة فيها بفضل تدخل روسيا في الحرب لإنقاذه منذ شهر ستنبر من عام  2015. ولم يبقى من هذه الدول اليوم في شمال افريقيا سوى الجزائر التي تنتظر دورها الآتي لا محالة هي وجنوب إفريقيا من بعدها لتكتمل عمليّة التنظيف الاستراتيجي الكبير على المستوى الدولي.

والحقيقة أن أمريكا وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي السابق، حاولت احتواء روسيا بدمجها في النظام الاقتصادي العالمي بهدف إعادة تشكيل العقلية الروسية السلطويّة سياسيا والتأثير في الوعي الجمعي للشعب الروسي ثقافيا من خلال تسويق أنموذج الحريات وحقوق الإنسان الغربية من جهة، وتحويله إلى مستهلك اقتصاديا للمنتجات الغربية. غير أن استراتيجيتها هذه اصطدمت بشغف بوتين للسلطة وطموحاته للهيمنة وإعادة أمجاد الاتحاد السوفياتي السابق، فغيّرت واشنطن من سياستها تجاه موسكو حيث اعتمدت استراتيجية التوظيف والإلهاء، وذلك بأن تركت لبوتين المجال للتوسّع في محيطه والتدخّل في دول بعيدة عن روسيا خصوصا في البؤر التي أشعلت فيها واشنطن حروب وصراعات مفتعلة كما سبقت الإشارة، الأمر الذي ساعد على استنزاف روسيا الصاعدة اقتصاديا، هذا علما أن الدخل القومي الروسي لا يقاس من قريب أو بعيد بالدخل القومي الأمريكي الذي يفوق 23 تريليون دولار، أما روسيا فيفوق دخلها القومي قليلا مبلغ  1.7 تريليون دولار، أي أقل بكثير من الدخل القومي الألماني الذي يفوق 4.3 تريليون دولار، بل وأقل حتى من الدخل القومي لدولة متوسّطة كإيطاليا أنقذتها الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية بفضل مشروع مارشال الذي حوّلها إلى دولة صناعية والذي يبلغ أكثر من 2.1 تريليون دولار. (حسب إحصائيات البنك الدولي لعام 2021). ومعلوم أن المال هو وقود الحرب، إذا شحّ بسبب الحصار الاقتصادي وإطالة أمد الحرب في أوكرانيا خسرت روسيا الرّهان وتحوّل حلمها إلى سراب.  

اليوم اكتشفت واشنطن أنها ارتكبت خطأ جسيما باستعداء الصين بمعية روسيا وإيران في نفس الوقت حين وضعتهم في نفس السلة على أجندة المواجهة الساخنة، ودفعت الأمور نحو التصعيد الذي أصبح ينذر بقرب انفجار حرب عالمية ثالثة مدمّرة قد تنهي الحضارة البشرية إلى الأبد. وهو الأمر الذي اعتُبر من قبل محللين استراتيجيين كبار في واشنطن بمثابة غباء سياسي، ما دفع بدبابات الفكر الأمريكي إلى تغيير استراتيجيتهم في محاولة لفك التحالف الظرفي القائم بين روسيا من جهة والصين وإيران من جهة أخرى، لكن من دون التورط في الحرب الأوكرانية بشكل مباشر تجنبا لصدام دولي خطير، ومن دون القبول أيضا بأية وساطة لإنهاء الحرب في أوكرانيا إلى أن تُستنزف روسيا بالكامل وتستسلم للإرادة الأمريكية ويقبل بوتين إما بالمنفى أو بالمحاكمة الجنائية كمجرم حرب كما حدث مع هتلر وصدام.

وحيث أن السياسة هي فن اقتناص الفرص لتحقيق المصالح الوطنية، فقد جاءت زيارة وزير الخارجية الأمريكي نهاية الأسبوع المنصرم للصين بعد خمس سنوات من القطيعة الدبلوماسية بمثابة زلزال سياسي ضرب أركان الكرملين، حيث خرج المتحدث باسم الرئاسة ديميتري بيسكوف خلال مؤتمر صحفي للقول: "يتيح لنا مستوى الشراكة الاستراتيجية مع الصين التأكد من أن بناء مثل هذه العلاقات مع الدول الأخرى (يقصد أمريكا)، لن يكون موجهاً ضد بلدنا"، وهو الأمر الذي يشتم منه شعور موسكو بمخاوف جادة من المقاربة الأمريكية الجديدة والخطيرة تجاه الصين، خصوصا بعد تصريح وزير الخارجية الأمريكي توني بلينكن الذي قال فيه أن الولايات المتحدة تحترم سيادة الصين على أراضيها، وهو ما فهم منه أن أمريكا قدّمت لبكين جزيرة تايوان على طبق من ذهب مقابل أن تفك الأخيرة تحالفها الاستراتيجي مع روسيا وأن تلحق بالولايات المتحدة كشريك في النظام الدولي الجديد حماية لمصالحها الاستراتيجية سواء في بحر الصين أو جنوب غرب آسيا أو المنطقة العربية وإفريقيا، وهو ما يؤشر إلى رؤية واشنطن الجديدة لإقامة نظام عالمي جديد ثنائي القطبيّة يقوم على أساس الاستقرار الاقتصادي وتنظيم المنافسة في مجال التكنولوجيا والرقائق الإلكترونية وأشباه الموصلات المتقدمة ومصادر الطاقة البديلة، مرورا بالتوافق حول ترتيبات الأمن العسكري في كل من اليابان وكوريا الجنوبية والفليبين وأستراليا والهند، وانتهاء بقضايا التغير المناخي والاستقرار العالمي على مستوى العالم.

ويعتبر قرار الرئيس الصيني لقاء وزير خارجية واشنطن عقب انتهاء محادثاته مع الخارجية الصينية والذي لم يكن مقررا من البداية، مؤشر على أن أعلى سلطة في الصين راضية بالعرض الأمريكي وترى فيه ضمانا كافيا لمصالحها القومية الوطنية والإقليمية والدولية، خصوصا وأن الصين تعتبر مصالحها الاقتصادية البراغماتية فوق التحالفات الإيديولوجية.

أما إيران حليفة روسيا التي تدعمها بطائرات "الدرون" الانتحارية في أكرانيا وغيرها من الأسلحة الخفيفة والمتوسّطة، وتدعم التنظيمات المسلحة لزعزعة الاستقرار في كل من منطقة الشرق الأوسط (العراق وسوريا واليمن وغزة) وشمال إفريقيا (تسليح البوليساريو وتدريب عناصره من قبل حزب الله اللبناني)، ناهيك عن مساعدة روسيا على فتح قاعدة عسكرية في سورية وأخرى في السودان والثالثة في الجزائر جنوب تندوف لضرب استقرار المغرب وتحويل الجزائر إلى دولة محورية في شمال إفريقيا، وزرع مقاتلي منظمة فاغنير الروسية لطرد القوات الفرنسية والسيطرة على مالي والساحل الإفريقي وجمهورية إفريقيا الوسطى بمساعدة النظام العسكري الجزائري..  

وهو ما دفع بواشنطن حسب آخر التسريبات إلى مراجعة موقفها من الاتفاق النووي مع إيران، بحيث قررت إصلاح العلاقة مع طهران من خلال تجديد الاتفاق النووي الذي ألغاه الرئيس ترامب، لكن شريطة أن تفك إيران تحالفها العسكري مع روسيا، وفي حال رفضت ستواجه بحرب دروس إسرائيلية مدعومة من الولايات المتحدة وحلفاءها، خصوصا بريطانيا وفرنسا. 

وفي حال نجحت واشنطن في استقطاب الصين وتحييد إيران، فستتمكّن حتما من عزل روسيا ومحاصرتها، الأمر الذي سيمهّد لها الطريق لتفجير تحالف دول بريكس من الداخل، خصوصا بعد أن لاحظت واشنطن اهتمام عديد الدول بالانضمام إلى هذا التحالف الاقتصادي الدولي الصاعد الذي أصبح يهدد مكانة الدولار كعملة مرجعية عالميّة، خصوصا الجزائر والأرجنتين والبحرين وبنغلاديش وبيلاروسيا ومصر وإندونيسيا وإيران والمكسيك ونيجيريا وباكستان والمملكة العربية السعودية والسودان وسوريا وتونس وتركيا والإمارات العربية المتحدة وفنزويلا وزيمبابوي.

ولأن الرهان المستقبلي هو على إفريقيا لما تزخر به من موارد طبيعية هائلة، ونظرا لموقع المغرب الجيواستارتيجي كمحطة ربط بين أمريكا وأوروبا وآسيا وإفريقيا من جهة، وما ينعم به هذا البلد العريق من استقرار سياسي وتاريخ حضاري تميّز على الدوام بالتسامح الديني والتعايش الثقافي من جهة ثانية، ناهيك عن إخلاصه لتحالفاته الاستراتيجية خصوصا مع الولايات المتحدة الأمريكية منذ الحرب الباردة، فقد آن الأوان للدب الروسي الذي فقد الكثير من قوّته في أوكرانيا ليعيد النظر في استراتيجيته الحربية المغامرة قبل أن يجد نفسه يتخبّط في رماد الحرائق التي أشعلها في أوكرانيا من دون أن يمتلك القدرة على إنهائها قبل أن تنهيه وتنهي دولته.

أما الجزائر فسيكون لنا عودة لتحليل أوضاعها قبل قراءة الفاتحة على روحها إيذانا بقرب نهاية مغامراتها العبثيّة ضد المغرب الذي أصبح بمثابة مصنع إفريقيا الكبير الذي يستقطب استثمارات كبريات الشركات العالمية من الولايات المتحدة وأوروبا والصين واليابان وكوريا الجنوبية والهند والبرازيل و"إسرائيل" وغيرها، وهو ما يجعل هذا البلد آمنا لا يمس، وقريبا سيعلن المغرب عن سحب بعثة المينورسو من الصحراء معلنا بذلك طي ملف القضية إلى الأبد، ليتفرّغ للمطالبة بحقه الطبيعي والتاريخي في الصحراء الشرقية، ولن يتراجع هذه المرة في استعمال القبائل كورقة ضغط ضد نظام العسكر بمساعدة حلفائه الدوليين، وذلك لإشغال الطغمة الحاكمة في الجزائر بنزاع داخلي يستنزفهم وينهي أوهامهم التوسّعيّة في المنطقة إلى الأبد. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق