بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 3 يونيو 2023

الفرق بين الإمام المبين واللوح المحفوظ وأمّ الكتاب ...

 


(إِنَّآ أَنزَلْنَٰهُ قُرْءَٰنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)

- يوسف: 2 -

تمهيـــد:

سنحاول في هذا المبحث معرفة الفرق بين الإمام المبين واللوح المحفوظ وأمّ الكتاب من خلال تعريف التنزيل الحكيم لكلّ لفظ على حدة، وذلك بهدف تنقية هذه المصطلحات ممّا علق بها في أذهان المسلمين من خلط، لجهة اعتقاد الفقهاء قديما أن كل ما حدث ويحدث وسيحدث في ملك الله مخطّط له بشكل مسبّق ومدوّن في اللوح المحفوظ الذي هو نفسه أم الكتاب حسب زعمهم، بالرغم من أن القرآن لا يقبل الترادف، وأن الله يمحو منه ما يشاء ويُثبّت في تأويل تعسّفي للآية: 39 من سورة الرعد ، وأن القرآن هو الكتاب دون تمييز بين اللفظين، وأنه هو الإمام المبين أيضا لما يكتسيه من طابع القدم بغض النظر عن الطبيعة التاريخية للقصص القرآني من جهة، والطبيعة الظرفيّة للحوادث الزمكانيّة التي لا يمكن أن تكتسي طابع الأزليّة من جهة ثانية.../... 

ومعلوم أن هذا الفهم الذي لا يفرّق بين الوجود الموضوعي للعالم من جهة، والوجود اللساني للقوانين الناظمة لعمله من جهة ثانية، هو الذي فجّر النّقاش القديم حول خلق القرآن ومفهوم علم الله الأزلي وعلاقته بالجبر وحريّة الاختيار ومبدأ العدل الإلهي، كما وأنه كان السبب الرئيس الذي دفع المستشرقين الذين يكنّون العداوة للإسلام إلى نقد القرآن والتشكيك في مصدريته الإلهية.

وقد أدّت مثل هذه المفاهيم الخاطئة التي استقرّت في الوعي الجمعي للأمّة إلى نتائج كارثية لعلّ أبرزها تحجيم العقل وسجنه في دائرة مظلمة حيث ظلّ أسيرا للقدريّة لا حول له ولا قوّة، الأمر الذي حرم الإنسان المسلم من الانطلاق نحو نور المعرفة المؤدّي بالتدبّر والاجتهاد إلى التغيّر والتقدّم والنموّ والتطوّر.

وحيث أن الثابت الوحيد الذي لا يتغيّر ولا يتبدّل ولا يتحوّل في سنّة الله هو التطوّر نفسه، فإن القول بقدم القرآن يجعل منه صفة ملاصقة لذات الله، ومعلوم أن الصفة إذا لحقت بالذات كانت الأخيرة ناقصة كما خلص إلى ذلك المعتزلة، وحاشا أن يكون الأمر كذلك، سبحانه وتعالى عمّا يصف الجاهلون.

وللخروج من هذه الإشكالية سبق للمرحوم محمد شحرور أن أورد مثالا جميلا يبنى عليه، ومفاده، أن قانون السّير لم يكن موجودا قبل اختراع وسائل النقل العصريّة، وبالتالي، فالكتاب في شقّه المتعلّق بأحكام الشريعة وإن كان موجودا كتصوّر في علم الله العلي العظيم قبل خلق الإنسان لشمول علمه لكل شيء، إلا أن تصرّف الإنسان لم يكن مكتوبا بشكل مسبّق في علم الله الأزلي، وإلا لما كان لإخضاع الإنسان للتجربة الأرضية من معنى، خصوصا وأن الله تعالى يقول: (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا ۖ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) البقرة: 38، ويقول أيضا: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) الملك: 2، وقوله: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ) محمد: 31.

ولعلّ أبرز دليل على أن ما يميّز شريعة الله في خلقه هو الاختلاف بحكم الصيرورة والتطوّر، لقوله تعالى: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ۖ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ ۚ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ۖ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ۚ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) المائدة: 48.

وواضح أن استعمال الله تعالى لمفردة "الجعل" للحديث عن الشّرعة والمنهاج في الآية السالفة يؤكّد الاختلاف الذي ذهبنا إليه، ومعلوم أن كلمة الجعل كلّما وردت في القرآن الكريم إلا وأفادت أمرا محدثا لم يكن قائما من قبل، ومثال ذلك ما سبق وأن أوردناه بتفصيل حول جعل الله آدم خليفة في الأرض للبشريّة المتوحّشة السابقة التي كانت تفسد في الأرض وتسفك الدماء كما ذكرت ذلك الملائكة عندما قرر تعالى جعل آدم خليفة في الأرض، الأمر الذي يفيد بوضوح أنه تعالى اصطفى فصيلة آدم بعد أن تطوّرت من بين الفصائل البشرية المتوحّشة وجعله الوارث للأرض بعد أن أصبح كائنا أخلاقيا ناضجا وقادرا على حمل أمانة التكليف من خلال التمييز بين الخير والشر والهدى والضلال. وبالتالي، فمفردة "الجعل" الواردة في الآية 48 من سورة المائدة تفيد أن الشرعة والمنهاج جعلهما الله تعالا مختلفتان يميّز بهما بين الأمم، أي أن وجودهما الموضوعي الناظم لتصرّف الأنفس الأخلاقي رافق الوجود التاريخي لكل أمّة.

الإمام المبين

يقول تعالى بشأن "الإمام المبين": (وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ) يس: 12. وهذا يعني، أن الإمام المبين هو السجل الجامع لكل الكتب التي تسجّل فيها الأعمال حال حدوثها وليس قبل ذلك بشكل مسبّق كما روّج لذلك التراثيّون، وهو ما يؤكّد أن الإمام المبين لا علاقة له باللوح المحفوظ ولا بأم الكتاب كما سيأتي تبيان ذلك.

يقول تعالى في إشارة إلى الإمام المبين: (هَٰذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ ۚ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) الجاثية 29. وهو ما يؤكّد بما لا يدع مجالا للشك أن أعمال البشر المُحدثة لم تكن مدوّنة بشكل مسبّق منذ الأزل كما زعم المفسّرون القدماء، بل تُسجّلها الملائكة حال حدوثها في كتاب خاص بكل إنسان لقوله تعالى: (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ) الانفطار: من 10 إلى 12. أي أن مجموع الكتب التي هي بعدد أنفاس الخلائق تُضمّ كلّها إلى الإمام الجامع الذي هو عبارة عن أرشيف لأعمال المكلّفين، والتي على أساسها ستتم محاسبة الأنفس يوم الدين لقوله تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) المدثّر: 38.

ودليل أن الإمام المبين لا يتضمن علم الله الأزلي بل فقط الأعمال المحدثة ساعة حدوثها نجده في قوله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَىٰ وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ ۚ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ) يس: 12. وهو ما ينفي الجبر بالمفهوم الغليظ الذي قال به التراثيون وبعض الصوفية المتطرّفين.

ويفهم من التنزيل الحكيم أيضا، أن كل القصص التي رواها القرآن الكريم عن الأمم السابقة مصدرها الإمام المبين حيث سجّلتها الملائكة وقت حدوثها، بدليل قوله تعالى: (الر تِلْك ءَايَتُ الْكِتَبِ الْمُبِينِ * إِنَّآ أَنزَلْنَهُ قُرْءَناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْءَانَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَفِلِينَ) يوسف: 1 – 3. وواضح أن الكتاب المبين المذكور هنا هو جزء من الإمام المبين الذي هو سجل الأعمال الجامع، بمعنى أن القصص القرآني المسجّل في الكتاب المبين هو جزء فقط ممّا هو مدوّن في الإمام المبين الذي هو أرشيف جامع للحادثات التاريخيّة والأعمال الإنسانية كلّها كما حدثت على أرض الواقع وسجّلتها الملائكة في حينها.

وبالمفهوم التاريخي يعتبر الإمام المبين أرشيف التاريخ الكوني الإنساني الجامع لقصص الأمم كما جرت وأعمال الناس كما حدثت، وبالتالي، فما دام القرآن يتحدث عن حادثات تاريخية وحوادث إنسانية فذلك يعني أن لها طبيعة محدثة، الأمر الذي ينفي عنها صفة القدم، أي أن الله لم يكتبها بشكل مسبّق في اللوح المحفوظ كما لو كانت جزءا من علمه الأزليّ كما ذهب إلى ذلك التراثيون، بل كتبتها الملائكة بعد حدوثها كما أكد تعالى في العديد من آيات الذكر المجيد.

ومن طبيعة الكتاب المبين أنه يظل مفتوحا خلال حياة الناس والأمم، تُسجّل فيه الملائكة الحادثات والأعمال أوّل بأوّل، ولا يغلق إلا بانتهاء أجل أمة أو موت إنسان، وهذا يعني أنه طالما يكون الكتاب مفتوحا ولمّا يُغلق بعد فما هو مدوّن فيه يكون قابلا للتغيير والتبديل إما بالدعاء المستجاب أو بالحسنات التي تمحو السيئات وفق قانون التبديل الإلهي الذي لا يسجل الحسنات فحسب بل ويحوّل السيئات المكتسبة إلى حسنات أيضا بفضل الله، وذلك لقوله تعالى: (فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ) الفرقان: 70، في إشارة إلى من تاب وآمن وعمل صالحا من العباد. لكن بمجرد أن ينتهي الأجل المقدّر للأعمار يغلق الكتاب المبين لكل إنسان ويضم مباشرة إلى الأرشيف العام الذي هو الإمام المبين، ولا يعود يسجّل فيه إلا الدعاء الصالح، أو العلم النافع، أو الصدقة الجارية.. وهي الحسنات التي تلحق بمن توجب له بعد موته لأنها تدخل في باب العمل الصالح المستمر الذي لا ينقطع بموت صاحبه.

اللوح المحفوظ:

ورد لفظ "اللوح المحفوظ" في القرآن الكريم مرّة واحدة فقط في سورة البروج لقوله تعالى: (بَلۡ هُوَ قُرۡءَانٌ مَّجِيدٌ * فِى لَوۡحٍ مَّحۡفُوظِۭ) البروج: 21 – 22، حيث أكد تعالى أن القرآن الكريم يوجد عنده في اللوح المحفوظ.

وقد طرحت الآيتين المذكورتين أعلاه على العقل النقدي المعاصر والحديث سؤالا شائكا مفاده:

- إذا كان القرآن قد نزل على الرسول الخاتم عليه السلام وحيا مقروءا ومُنجّما (مفرّقا) على امتداد 23 سنة.. فكيف يمكن اعتباره نصّا مكتوبا في اللوح المحفوظ مثله مثل التوراة التي نزلت على موسى عليه السلام كنص مكتوب دفعة واحدة فوق جبل الطور؟

وعلى هذا الأساس تم نفي أن يكون القرآن الكريم موجود كنص مكتوب في اللوح المحفوظ وفق ما توحي بذلك الآيتين 21 و22 من سورة البروج، بل وحتى اللوح المحفوظ نفسه من وجهة النظر هذه يتخذ معنى الحقيقة الموضوعية الغائبة لا أداة كتابة وفق ما توحي به مفردة "لوح" من معنى، ويستدلّون على ذلك بالقول، أن "لوح" تعني لاح وظهر على وجه الأرض بعد أن كان مخفيّا في عالم الغيب، بمعنى أن القرآن كان في الغيب ببعده الموضوعي السابق ظهوره كلسان على وجه الأرض، أي أن القرآن ما هو إلا صورة لسانية لاحقة للقرآن الموضوعي المستور كما ذهب إلى ذلك الباحث الإسلامي الدكتور سامر الإسلامبولي في مقالة له نشرها على موقعه على النت.

غير أن مثل هذا الرأي إنّما يعبّر عن وجهة نظر فلسفيّة انطلاقا من تأويل تاريخاني للآيتين 21 و22 من سورة البروج، لارتباطهما بمسار النشأة والتكوين التي تؤكد أن القرآن نزل على الرسول محمد عليه السلام شفاهيّا ومنجما على امتداد 22 سنة وليس كنص مكتوب أنزله الله دفعة واحدة، لكنه بعد ذلك اتخذ وصف الكتاب لما يعنيه هذا المصطلح من كتابة.

وتوضيح هذا المسألة يقودنا حكما لمراجعة بعض المفاهيم القرآنية الأساسيّة وعلى رأسها مفهوم القرآن نفسه والفرق بينه وبين الكتاب.

o معنى لفظ "قرآن"

كثيرة هي التفاسير التي أعطيت لهذا المصطلح الجديد وغير المسبوق في الثقافة العربية القديمة، بين قائل إن المفردة تفيد القراءة لأن جبريل كان يقرأ الوحي على الرسول ويطلب منه أن يقرأه بدوره على قومه..  وقائل إن المصطلح مجرد اسم صفة لكتاب مثله مثل التوراة والإنجيل.. وقائل بما أن القرآن نص عربي فالمصطلح يعني أنه دين قومي.. وقائل إن المصطلح من جذر "قرن" الذي يعني المقارنة بين النص والواقع.. وقائل إن القرآن يفيد الاستقراء بما يعنيه المصطلح من تدبّر واستنباط.. وقائل إنه يعني الفرقان بسبب نزوله مفرّقا على امتداد أكثر من عقدين من الزمن.. وقائل إن كلمة "قرآن" نفسها مشتقّة من "قريانا" (بكسر الكاف) والتي تعني بالسريانية "الطقوس التعبّديّة" من تراتيل وغيرها.. إلى قائل إن المصطلح مشتق من الجذر "قرء" الذي يعني قرء الماء في الحوض إذا اجتمع فيه، ولأن القرآن جمع قصص الأولين والآخرين بالإضافة لآيات الكون والحكمة والعبادات والأخلاق والمعاملات والشريعة وما إلى ذلك، فقد سمّي قرآنا لأنه جامع لكل هذه المواضيع المختلفة. 

والحقيقة أن ما ورد بشأن معنى مفردة قرآن لا يعدو عن كونه مجرّد آراء واجتهادات في ظل غياب تداول المصطلح في لغة العرب القديمة، ذلك أن كلمة (أمي وأمم) هي اصطلاح توراتي، كان العبرانيون القدماء يطلقونه للدلالة به على الأفراد والجماعات والشعوب الغير إسرائيلية، أي على الغير كتابيين (الأميين). وهو ما أكده القرآن الكريم في الآية 20 من سورة آل عمران بقوله: (وَقُل لِّلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْۚ)، فجاءت كلمة الأمّيين للدلالة على مشركي العرب الذين لا كتاب لهم كما ذهب إلى ذلك ابن جرير الطبري وغيره من المفسّرين.

وبالبحث في التنزيل الحكيم، تجد أن كلمة "قرآن" وردت في سياقات ثلاثة مختلفة وذلك كالتالي:

1. كإسم علم لقوله تعالى: (إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا) الإسراء: 9.

2. وجاءت كمصدر لفعل إلهي يشمل جمع الوحي وقرآنه وبيانه لقوله تعالى: (لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ* إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ* فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ* ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ) القيامة: من 16 إلى 19.

3. وجاءت كموضوع للقسم الإلهي العظيم بمواقع النجوم لقوله: (فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ) الواقعة: من 75 إلى 78.

وهذه السياقات الثلاثة التي ورد فيها اسم القرآن تفيد أنه ورد كاسم علم لمسمّى هو الوحي، أي أنها الكلمة جاءت كمصدر لفعل إلهي متعلّق بالوحي كاملا كما نزل على الرسول الخاتم عليه السلام، ويشمل من سورة الفاتحة إلى سورة الناس. وقد شبه الله تعالى آياته بمواقع النجوم في السماء والتي يُهتدى بها في الليلة الظلماء، وهي إشارة مجازية تفيد إلى أن الاهتداء بالقرآن في مسالك وطرقات الحياة يتطلب هو أيضا معرفة مواقع الآيات وفق السياقات المختلفة التي وردت فيها لصبر أغوار معانيها، الأمر الذي سيساعد من يدرس القرآن على الخروج من عتمات الجهل إلى عوالم النور والمعرفة لينعم بالسلام في الدنيا والخلاص في الآخرة.

أمّا البيان الذي تكفّل الله بقذفه من خلال الوحي في قلب الدارس للقرآن كما يستفاد من الآية 19 من سورة القيامة، فيشمل الكتاب الذي يضم الشريعة التي تُبيّن الحلال من الحرام، والفرقان الذي يوضّح الفرق بين الحق والباطل، ومسالك الهدى من شعب الضلال، ونور العلم المخرج من ظلمات الجهل، والحكمة التي هي قمّة المعرفة حين تتضح الرؤيا فيدرك الإنسان العلاقة القائمة بين النص والواقع من تدبّر القرآن امتثالا لقوله تعالى: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) محمد: 24.

وما دام قد ذُكر مّصطلح الكتاب في سياق ذكر القرآن، فما هو المعنى الدقيق الذي يعطيه التنزيل الحكيم للكتاب؟ وما الفرق بينه وبين القرآن؟ خصوصا إذا علمنا أن الله تعالى يصف مرّة القرآن بالكتاب ومرات يضيف الكتاب إلى القرآن من باب التمييز الأمر الذي لا يفيد أن الكتاب جزء من القرآن أو أن القرآن جزء من الكتاب كما قد يبدو من حيث ظاهر الصّياغة اللّغويّة؟ ...

o معنى لفظ "كتاب":

الكتاب مشتق من الجذر "كتب"، بمعنى جمع بين أشياء تربطها علاقة موضوعيّة، وتقال للكاتب بمعنى ألّف بين كلمات مختلفة لبناء جمل مفيدة تعطي رسالة معيّنة. ولأن القرآن تضمّن جملة مواضيع مختلفة فقذ اعتبر كل موضوع كتاب بحد ذاته لقوله تعالى: (رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً * فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) البيّنة: 2 – 3. والإشارة هنا إلى: كتاب الخلق، وكتاب الساعة، وكتال الحياة، وكتاب الموت، وكتاب الصلاة، وكتاب الزكاة" كتاب الصوم، وكتاب الحج، وكتاب المعاملات وكتاب الأخلاق وما إلى ذلك من المواضيع التي تناولها القرآن الكريم والتي يعتبر كل موضوع بحد ذاته كتاب بما في ذلك كتاب قصص الأمم الغابرة.

وهذا يعني أن الكتاب يشمل من حيث المبنى العناصر التي إذا ضم بعضها إلى بعض ينتج موضوعا محدّدا، كأن تقول مثلا "كتاب الصلاة" لكن داخل كتاب الصلاة هذا هناك كتاب فرعي يُسمى "كتاب الوضوء" وآخر يسمّى "كتاب الدعاء" وهكذا.. بمعنى أن كل عمل هو كتاب بحد ذاته يتضمّن بيانه وشروطه وموجباته وموانعه، ككتاب النكاح، و"كتاب المواريث" وكتاب الجهاد" وكتاب النفوس" وغير ذلك.. فكل شيىء يجب أن يكون مكتوبا، لذلك قال تعالى: (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا) النبأ: 29. وينطبق ذلك على كل مجالات الحياة بما في ذلك العلوم كالرياضيات والفيزياء والطبيعة والجيولوجيا والأركيولوجيا والأحياء والطب والعلوم الاعتبارية كعلم الاجتماع وعلم النفس والتاريخ والإنتربولوجيا والسياسة والقانون واللسانيات وما إلى ذلك من العلوم التي تختلف باختلاف مجالات ومناهج الدراسة.

وعودة إلى سؤال: هل يصحّ أن نطلق على القرآن الذي نزل وحيا مقروءا صفة الكتاب كما هو الحال بالنسبة للتوراة التي نزلت نصا مكتوبا؟..

الجواب نجده في التنزيل الحكيم الذي وصف القرآن بأنه كتاب أيضا بدليل قوله تعالى: (الر ۚ كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) هود: 1. وبالتالي، فالقرآن وفق ما يستفاد من هذه الآية الكريمة أحكمت آياته كلّما تعلق الأمر بموضوع عام ثم فصّلت لتبيان مقتضياتها ومنازلها بشكل يوضّح للقراء الصورة العامة والتفاصيل الجزئية المتعلّقة بها.

والحقيقة أن ما لم ينتبه له القائلين بالتفريق بين الوحي المقروء والوحي المكتوب، هو أنه أثناء مرحلة النشأة والتكوين التي دامت 23 سنة بالنسبة للقرآن كما هو معلوم، لم يكن واضحا لدى العرب طبيعة هذا الوحي بين القراءة والكتابة إلى أن اكتمل وتبيّن أنه كتاب بحق في مرحلة متأخرة من حياة الرسول بالمدينة، فكان ذلك جوابا على زعم اليهود أن الله لم ينزل للأمّيين كتابا، ومعلوم أن مصطلح أمّي في اللغة القديمة لا يعني الذي لا يقرأ ولا يكتب كما ذهب إلى ذلك المفسّرون القدماء، بل تعني حرفيّا الذي لا كتاب له مثل العرب، وهو ما يتضح بجلاء من خلال قوله تعالى لرسوله الكريم عليه السلام: (فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ ۗ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ ۚ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوا ۖ وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ ۗ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) آل عمران: 20، ومعنى الأميين في الآية هم الذين ليس لهم كتاب سماوي. وهو ما يؤكدّه قوله تعالى في إشارة إلى العوام الذين لهم كتاب لكنهم لا يعلمون ما فيه على الحقيقة فتراهم يروّجون بالظن للأضاليل: (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) البقرة: 78. وقوله تعالى بشأن اليهود: (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَّا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ۗ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) آل عمران: 75.

وبالتالي، فكلمة "أمّيين" بالمفهوم القرآني هم من لا كتاب لهم، وهكذا كان الأمر بالنسبة للعرب في بداية الدعوة، لأن القرآن لم يكن قد اكتمل بعد ليتخذ شكل كتاب كما هو الأمر بالنسبة للتوراة مثلا. ولهذا السبب قال تعالى بالنسبة لهذه المرحلة المبكرة من عمر الرسالة: (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ) القيامة: من 16 إلى 19، ما يوضح أن عمليّة تنزيل القرآن مُنجّما كان الهدف منها تعليمي وتربويّ بالأساس. لكن ذلك لا يعني انتفاء صفة الكتاب عن القرآن، بدليل قوله تعالى: (وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ۖ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ * بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ۚ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ * وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ ۖ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَىٰ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) العنكبوت: من 48 إلى 51. فأوضح تعالى هنا أن لا فرق بين كتاب مكتوب كما أنزل على بني إسرائيل من قبل، وبين كتاب يتلى عليهم ما دام فيه رحمة وذكرى لقوم مؤمنين. 

وبذلك فالكتاب وفق التعريف القرآني لا يطلق فقط الوحي الذي نزل مكتوبا من السماء مثل ما كان الحال مع توراة موسى عليه السلام، بل يعني أيضا الكتاب المقروء المنزّل وحيا في الصّدور، وبذلك اتخذ القرآن الكريم أيضا اسم كتاب بدليل قوله تعالى: (تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ) السجدة: 2. وقوله: (وَهَٰذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا ۚ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ ۖ وَهُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ) الأنعام: 92. وقوله أيضا: (الر ۚ كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) هود: 1، وغيرها كثير والتي تؤكد أن القرآن لا يختلف عن بقيّة الكتب السماوية السابقة فيما له علاقة بالثوابت، بل هو جامع لها كلّها والاختلاف هو على مستوى بعض التفاصيل المتعلقة بالمتغيّرات التي تخضع لظروف الزمان والمكان.

وبالنسبة للآية 22 من سورة البروج التي ورد فيها لفظ "اللوح المحفوظ" فقذ اختلف المفسّرون قديما وعديد الباحثين المعاصرين والحداثيين في تحديد طبيعة "اللوح المحفظ" إن كان يقصد به المعنى المادي لأداة الكتابة أم المعنى المجازي للحقيقة المطلقة.

وحيث أن اللّفظ مشكّل من مفردتين: (اللوح + المحفوظ) فإنه من البحث عن مفردة "اللوح" في القرآن الكريم نجدها قد وردت في الآيات التالية:

معنى اللوح:

يقول تعالى: 

- (وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا ۚ سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ) الأعراف: 145.

- (وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ) الأعراف: 150.

- (وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ ۖ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ) الأعراف: 154. 

- (وَحَمَلْنَاهُ عَلَىٰ ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ) القمر: 13.

وقد وردت الألواح في الآيات السالفة لتفيد بالمعنى المادي قذع الخشب العريضة التي كانت تستعمل للكتابة قديما مثلها مصل العظام والدسر وغيرها من المواد. لكنها بمجرّد الكتابة عليها تتحوّل من مواد طبيعيّة إلى صحف (جمع صحيفة)، لذلك قال تعالى عن كتاب موسى عليه السلام (وَڪَتَبۡنَا لَهُ فِى ٱلۡأَلۡوَاحِ مِن ڪُلِّ شَىۡءٍ مَّوۡعِظَةً وَتَفۡصِيلاً لِّكُلِّ شَىۡءٍ) الأعراف: 145. 

والدليل على أنّ "الألواح" هي "الصحف" التي كتب فيها الكتاب ما ورد في الآيتين 18 و19 من سورة الأعلى لقوله تعالى: (إِنَّ هَـٰذَا لَفِى ٱلصُّحُفِ ٱلۡأُولَىٰ * صُحُفِ إِبۡرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ). فالصحف بالجمع تعني الكتب السماويّة التي نزلت من قبل في الألواح على إبراهيم وموسى عليهما السلام. ويؤيد ذات المعنى ما ورد في الآية 154 من سورة الأنعام لقوله تعالى: (ثُمَّ ءَاتَيۡنَا مُوسَى ٱلۡكِتَـٰبَ تَمَامًا عَلَى ٱلَّذِىٓ أَحۡسَنَ وَتَفۡصِيلاً لِّكُلِّ شَىۡءٍ وَهُدًى وَرَحۡمَةً). 

ممّا سلف يتّضح أن الله تعالى، وكما سبق وأوضح في الآية 145 من سورة الأعراف، أن الكتاب هو الرسالة الخاصة بقوم من الأقوام والمتضمّنة في اللوح المحفوظ، بحيث وضع الله صحف كل رسالة في كتاب وضم هذه الكتب جميعها إلى اللوح المحفوظ الذي هو أرشيف جميع الصّحف التي نزلن على الرسل عبر التاريخ الإنساني.. ومن هنا بالذات جاءت عبارة "أهل الكتاب" لتؤكّد نفس المعنى الذي يفيد أن لكلّ أمّة كتاب خاص بها وأنها تنتسب لأهل الكتاب، والقرآن ليس استثناء من القاعدة، بحيث أوضح تعالى أنه هو أيضا كتاب ضمّنه في اللوح المحفوظ كما يستفاد من الآيتين 21 و22 من سورة البروج. 

ويبقى الاختلاف كما أشرنا بين المعنى المادي للصحف والألواح والمعنى المجازي الذي يفيد الحقيقة الإلهية المطلقة، لأنه لا يعقل أن يستعمل الله تعالى الصحف والألواح لتدوين ما سيوحي به من كتب إلى رسله. ذلك أن التجسيد هنا الغاية منه التوضيح من خلال تقريب المعنى لعقل المتلقي، لكن الله تعالى لا يتكلم بلغة الأمم الذين بعث إليهم برسله لقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ) إبراهيم: 4. أما اللغة الإلهية فرمزية إشارية لا يعلمها إلا الملائكة الذين يخاطبهم من خلالها فيقومون بترجمة معانيها إلى لسان الأمم المستهدفة بالرسالة. وبرغم ذلك كفر به المشركون، وما كانوا ليؤمنوا حتى لو أنزل الله تعالى القرن أعجميّا، حينها كانوا سيقولون أن محمد عربي وهذا القرآن أعجميّ فلولا فصلت آياته، والله تعالى ينبّه إلى أن القرآن أنزله تعالى ليكون للمؤمنين به شفاء من الجهل وهدى لسواء السبيل أما الذي كفروا به فقد جعل الله في آذانهم وقرا وجعله عليهم عمى لقوله تعالى: (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَّقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ ۖ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ ۗ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ ۖ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى ۚ أُولَٰئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ) فصّلت: 44.

معنى محفوظ

يقول تعالى:

- ﴿فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ﴾ البروج: 22.

- ﴿وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ﴾ الأنبياء: 32.

- (وحفظناها من كل شيطان رجيم) الحجر: 17.

و"المحفوظ" يعني بلغة القرآن "المكنون".. أي الذي لا يستطيع أحد أن يغيّر فيه بالزيادة والنقصان أو أن يحرف في آياته ليتلاعب بالعقول والقلوب على هواه، وأشار تعالى إلى أن هذا الكتاب الذي هو القرآن المكنون أي المحفوظ في اللّوح عند الله لا يمسّه إلا المطهّرون لقوله تعالى: (فَلَآ أُقۡسِمُ بِمَوَاقِعِ ٱلنُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوۡ تَعۡلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرۡءَانٌ كَرِيمٌ * فِى كِتَـٰبٍ مَّكۡنُونٍ * لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا ٱلۡمُطَهَّرُونَ) الواقعة: من 75 إلى 79. 

وقد ورد في الآيات الكريمة أعلاه مفردتان يشكّلان مفتاحا للفهم ما دامت مفاتيح فهم القرآن توجد داخله لا خارجه:

يمسّه: وواضح أن المسّ هو غير اللّمس، ذلك أن اللّمس لا يقال إلا للمحسوس كالّمس باليد أو بظاهر البشرة كقوله تعالى (أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء) النساء: 43، والمقصود به الجماع. أما المسّ فيكون معنوي بغير اتصال مباشر كقوله تعالى: (يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ) البقرة: 237، وقوله: (وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ) البقرة: 80، وقوله: (مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء) البقرة: 214، وكلها ألفاظ تفيد المسّ غير المادي، وهي إشارة لطيفة إلى أن المقصود بالمصطلح في الآية 79 من سورة الواقعة هم الملائكة لا البشر. بخلاف ما ذهب إليه بعض الباحثين الحداثيين كالدكتور سامر الإسلامبولي الذي قال أن اللّمس في الآية يقصد به إدراك المعنى اللطيف للوحي.

المُطهّرون: هذا المصطلح يدلّ أيضا على الملائكة لا البشرـ لأن المُطهّرين هم غير المُتطهّرين، ذلك أن الملائكة لا يتطهّرون بالماء ما دام الله تعالى قد خلقهم من نور وجعلهم طاهرين في أصل تكوينهم، وبالتالي فكلمة "المُطهّرون" كما هو واضج من المبنى يقصد بها الملائكة الكرام لا الكائنات المخلوقة من مادة نجسة كالإنسان. غير أن الباحث الإسلامبولي أوّل كلمة "المطهّرون" لتفيد طهارة النفس، وبذلك أصبح المعنى ينسحب على المؤمن الطاهر لا المتطهّر فحسب الذي يستطيع مسّ معني القرآن أي إدراك القصد والمراد من خطاب الله تعالى لعباده. 

لكن دليل أن الأمر يتعلّق بالملائكة وليس بالبشر يتجلّى في، قوله تعالى في سورة عبس: (فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ * مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ) الآية من 13 إلى 16، فالصحف هي الكتب كما سبق القول، وقد كرّمها الله تعالى بأن رفعها في مقام عليّ ما يفيد أنها في مطان غير الأرض، وجعلها مطهّرة في أيدي (سَفَرَةٍ)، و"السفرة" هم ملائكة كرام كلّفهم تعالى بأن يكونوا سفراء بينه وبين عباده، سواء منهم المكلّفين بتبليغ الوحي إلى الرسل المختارين من البشر، أو المكلّفين بقذف الوحي في قلب عباد الله المخلصين الذين يتدبّرون القرآن فيفتح الله عليهم بوحي المعاني لقوله: (فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ ۗ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَىٰ إِلَيْكَ وَحْيُهُ ۖ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمً) طه: 114. ذلك أن الله لا يوحي لعبد من عباده إلا عبر رسول أو من وراء حجاب لقوله تعالى: (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ ۚ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ) الشورة: 51، والمقصود بـ "بشر" في الآية الكريمة الرسل والأنبياء وغيرهم من عباد الله الصّالحين، فيما المقصود بـ "رسول" أحد الملائكة، ولم يذكر جبريل لأن جبريل ليس ملاكا كما اعتقد التراثيون خطأ، وسيأتي تعريفه في مقالة مستقلّة بإذن الله.

ويؤيّد ما ذهبنا إليه قوله تعالى في الآية 15 من سورة عبس السالفة الذكر: (كِرَامٍ بَرَرَةٍ)، والتي تعود حكما على الملائكة من رسله الذين وصفهم الله تعالى في نفس السورة بأنهم كثيري الخير والبركة، أقوياء، أتقياء، أمناء، ومطيعين، مهمّتهم الأساس حماية الذكر الحكيم من وسوسة الشياطين وعبث العابثين، الأمر الذي يؤكد أن الله تعالى تكفّل بحفظ ذكره من خلال ملائكته لا من خلال عباده حتّى لو كانوا صالحين مخلصين ومقرّبين، وهو الأمر الذي يجعل الذكر الحكيم من وجهة نظر عقليّة وإيمانيّة نصّا مقدّسا موجب للقبول بما جاء فيه والإيمان به إيمان اليقين الذي لا يرقى إليه الشك من قريب أو بعيد.

والحكمة من أن الله تعالى جعل القرآن المجيد في اللوح المحفوظ وسمّاه "الكتاب المكنون" كما يستفاد من مختلف الآيات التي ورد فيها ذكره، هو أن جميع الأمم السابقة كما يخبرنا القرآن حرّف كهنتها الكتب التي أنزلها الله تعالى لهم باسم سنّة ابتدعوها ونسبوها إلى رسلهم فحوّلوها إلى دين موازي لدين الله خذمة لأهداف سياسية ودنيوية كما يؤكد التاريخ ذلك. 

لكن ما يميّز القرآن المجيد عن الكتب السابقة، فبالإضافة لتعهّد الله بحفظه من التحريف والتزوير والزيادة والنقصان لقوله (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) الحجر: 9، هو أنه تعالى كشف في القرآن الكريم ما تم تزويره وتبديله من قبل الكهنة في الرسالات السابقة، لقوله تعالى: (لَمۡ يَكُنِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَـٰبِ وَٱلۡمُشۡرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّىٰ تَأۡتِيَہُمُ ٱلۡبَيِّنَةُ * رَسُولٌ مِّنَ ٱللَّهِ يَتۡلُواْ صُحُفًا مُّطَهَّرَةً * فِيہَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ * وَمَا تَفَرَّقَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَـٰبَ إِلَّا مِنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَتۡہُمُ ٱلۡبَيِّنَةُ) من الآية 1 إلى 4. فقوله (صُحُفًا مُّطَهَّرَةً * فِيہَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) يقصد بها الرسالات السابقة بدليل استهلال سورة البيّنة بذكره تعالى لأهل الكتاب والمشركين بقوله، أنهم لم يكونوا منفكّين حتى تأتيهم البيّنة، والبيّنة هنا هي الأدلّة التي يتلوها عليهم الرسول الخاتم عليه السلام من صحف مطهّرة فيها كتب قيّمة تتحدث تحديدا عن كتبهم التي كفروا بها في إشارة إلى التوراة والإنجيل.

وبلك، يكون الله تعالى قد قطع الطريق على تجار الدين حتى لا يُنصّبوا أنفسهم وسطاء بين الله وعباده كما حصل مع الأمم السابقة، بزعم القدرة على تفسير كتاب الله، ويقدّموا أنفسهم للناس على أنّهم حرّاسا للعقيدة، فيشرّعون لأقوامهم ما لم ينزل به الله من سلطان. لكن وبرغم ذلك، فالرسالة المحمّديّة لم تسلم هي بدورها من عبث العابثين، وحين لم يجد الكهنة مدخلا لتحريف النص المقدّس كما فعل زملائهم من أهل الكتاب، لجأوا لحيلة سمّوها "الناسخ والمنسوخ"، وقالوا بشرعية الحديث كثاني مصدر للتشريع، وبفضل هذه الحيلة الخبيثة ظل النبي عليه السلام يتكلم لعقود طويلة بعد موته، وكان من نتائج هذا الجرم الفظيع الذي ارتكب في حقّ الدين والأمة أن تفرّق المسلمون إلى طوائف ومذاهب وأحزاب كل بما لديهم فرحون وهذا هو عين الشّرك لقوله تعالى: (اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ ۗ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ) الأعراف: 3.

غير أنه ولسوء حظ رجال الدين لم يستطيعوا هذه المرّة تغييب القرآن، حيث فاجأهم الله تعالى بأن قيّد لكتابه المجيد رجالا نذروا أنفسهم لتدبّره بعد أن هجرته الأمة لقرون طويلة، وذلك بهدف إحياء معانيه، وهي الثورة المفاهيمية والمعرفية التي نشهدها اليوم من خلال الصراع الدائر بين القرآنيين والتراثيين. 

أمّ الكتـــاب:

ورد لفظ أم الكتاب في القرآن الكريم ثلاث مرّات لقوله تعالى:

- (هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ۖ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ۗ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ۗ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) آل عمران: 7.

- (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً ۚ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ * يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ ۖ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ) الرعد: 38 – 39.

- (حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) الزخرف: من 1 إلى 4.

يستفاد من الآيات المذكورة أعلاه أن "أمّ الكتاب" هو المصدر الأصل لكل الرسالات السماوية التي أنزلها الله تعالى للأمم السابقة كما هي قبل أن يطالها التحريف والتزوير والزيادة والنقصان، ذلك أن أمّ الكتاب وفق ما يفهم من الآية 7 من سورة آل عمران، هو الذي يتضمّن الآيات المحكمات، والمقصود بها مجموعة السنن والقوانين الناظمة للوجود كلّه من أصغر ذرّة إلى أكبر مجرّة، وهذه السنن لا تتبدّل بتبدّل الأمم ولا تتغيّر بتغيّر الزمنة، وما يبدو متشابها في الكتب المنزلة كالتوراة والإنجيل والقرآن وغيرهم فآيات تعبّر عن واقع محدث ومتغيّر وبالتالي فهمها يقتضي إرجاعها إلى المحكم من الآيات من خلال التأويل، أي إعادتها إلى المعنى  الأول الذي يعطيه المحكم، لأن اتباع المعنى الظاهر الذي يعطيه المتشابه من الآيات لا يخدم الحقيقة في شيء بقدر ما يسعى أصحابه إلى إثارة الفتنة والتفرقة بين الناس. 

وهو ذات المعنى الذي أكّده تعالى في الآية 39 من سورة الرعد بقوله: (يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ ۖ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ)، بمعنى أن سنن الكون وقوانين الوجود تعتبر من الثوابت التي لا يطالها التغيير ما دامت السماوات والأرض، إنما يمحو الله ويثبت ما كان متشابها بين كتاب وكتاب، وقد أوضح تعالى ذلك ضمنا في ذات السياق لقوله تعالى في الآية 38 من نفس السورة: (وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ)، ما يعني أن ما قد يبدو أنه متشابه لما ورد من الكتب السابقة إنما أتى به الله لا الرسول، فالله وحده سبحانه وتعالى هو من يمحو ويثبّت ما يشاء من آيات متشابهات ما دام عنده أم الكتاب الذي يتضمن الآيات المحكمات التي هي من الثوابت التي لا تتغيّر.

وقد أشار تعالى في الآيات من 1 إلى 4 من سورة الزخرف أن القرآن الذي نزل على الرسول الخاتم عليه السلام ما كان ليُفترى، بل هو من عند الله أخذه من أم الكتاب، وهو ما يعطي للقرآن معنى خاص وعام، المعنى العام يشير إلى السنن الكونية، والمعنى الخاص يشير إلى الشريعة البشرية، من هنا وجود بالتفريق بين العام والخاص، بين الثابت والمتغيّر.

 فقوله تعالى في الآية 36 من سورة الرعد: (وَٱلَّذِينَ ءَاتَيْنَٰهُمُ ٱلْكِتَٰبَ يَفْرَحُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ) يشير إلى أنهم عرفوا أنه الحق من ربّهم فصدقو به وآمنوا بالرسول، وفي نفس السياق يحذر الله تعالى رسوله الكريم من أن يتّبع أهواء الذين حرّفوا رسالات السماء مهم (أي من أهل الكتاب) خصوصا بعد أن أنزل الله إليه القرآن بلسان عربي مبين وغير ذي عوج.  

وهذا يعني، أن من زوّروا وحرّفوا وحوّروا وغيّروا تعاليم السماء في الرسالات السابقة من كهنة أهل الكتاب لم ينجحوا في تضليل المؤمنين أبد الآبدين، خصوصا بعد أن فضح الله ما قاموا به من جرائم في حق الدين والناس أجمعين، فعرفوا أنه الحق من ربّهم وفرحوا به. لذلك فمهما حاول الكهنوت تحريف آيات الله وأحكامه التي ضمّنها في جميع كتبه وأمر رسله بتبليغها للناس مع مراعات مسألة التمييز بين المحكم والمتشابه، بين الثابت والمتغيّر، وبذلك لم يستطيع الكهنوت تأبيد شريعته المزوّرة خدمة لمصالحه وأهواءه، لأن الله تعالى عنده الأصل الذي هو أم الكتاب الذي أخذت منه كل الرسالات التي هي عبارة عن نسخ أنزلها الله تعالى لرسله ليبلّغوها لأقوامهم كل حسب الأجل المقدّر لنزولها وفق ما يستفاد من الآية 38 من سورة الرعد لقوله: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً ۚوَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ)، وبالتالي، يستطيع المجرمون العبث بالنسخ التي بين أيديهم كما حصل مع التوراة والإنجيل مثلا، لكنهم حتما لن يستطيعوا المساس بالأصل الذي هو أم الكتاب كما أوضح تعالى في قرآنه.

وهنا لا بد من توضيح أمر غاية في الأهميّة بل والخطورة والذي يسقط بالضربة القاضية كل ما قاله فقهاء الجهل والضلال عن الناسخ والمنسوخ الذي بواسطته حرّفوا دين الله وغيّروا العديد من أحكامه لتوافق مصالحهم وهوى حكامهم، ويتمثل ذلك في قوله تعالى في الآية 39 من سورة الرعد: (يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ). وهذا يعني أنه وحده سبحانه دون سواه من يستطيع تثبيت ما يشاء ويمحو ما يريد من رسالة إلى أخرى وفق ما تقتضيه شروط وظروف الزمان والمكان، خصوصا ما له علاقة بأحكام الشريعة التي يعتبر الثابت فيها هو المتغيّر، بحكم ما تقتضيه صيرورة التطوّر.

وهذا يعني أن الناسخ والمنسوخ لا يكون من داخل نفس الرسالة، بل يطال بعض أحكام الرسالة القائمة مقارنة مع الرسالة أو الرسائل السابقة لها. ودليل ذلك قوله تعالى: (مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ * مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ۗ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) البقرة: 105 - 106. والمعنى واضح، فالذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين ما كانوا يودّون أن ينزل الله على رسوله الخاتم خيرا، خصوصا القرآن الكريم الذي فضحهم وكشف كذبهم وبهتانهم، لكن الله ذو فضل عظيم يختص برحمته من يشاء من عباده. 

وهنا يوضّح تعالى معنى النسخ الذي لا يكون إلا فيما له علاقة بأحكام الشريعة لا سنن الكون وقوانين الوجود، أي فيما له علاقة بالحرام والحلال والمباح والمحظور وغير ذلك.. لا في الأمر والنهي والحظر والإطلاق والمنع والإباحة. ومعنا نسخ آية أي نقل نصها من الأصلي إلى نسخة مغايرة لها، وهو نفس المعنى الذي يستفاد من نسخ الحكم أيضا، أي إلغاءه بالمرّة أو استبداله بحكم آخر، وهو ما أكده ابن جرير الطبري بقوله: "فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مَعْنَى نَسْخ الْآيَة فَسَوَاء - إذَا نُسِخَ حُكْمهَا فَغُيِّرَ وَبُدِّلَ فَرْضهَا وَنُقِلَ فَرْض الْعِبَاد عَنْ اللَّازِم كَانَ لَهُمْ بِهَا - أَأُقِرُّ خَطّهَا فَتُرِكَ، أَوْ مُحِيَ أَثَرهَا فَعُفِيَ وَنُسِيَ، إذْ هِيَ حِينَئِذٍ فِي كِلْتَا حَالَتَيْهَا مَنْسُوخَة. وَالْحُكْم الْحَادِث الْمُبَدَّل بِهِ الْحُكْم الْأَوَّل وَالْمَنْقُول إلَيْهِ فَرْض الْعِبَاد هُوَ النَّاسِخ، يُقَال مِنْهُ : نَسَخَ اللَّه آيَة كَذَا وَكَذَا يَنْسَخهُ نَسْخًا، وَالنُّسْخَة الِاسْم يعنى بها الرسالة كالقرآن مثلا، لذلك فهو وحده سُبحانهُ الّذي يستطيع أن يمحو (ينسخ هنا بمعنى يُبطل) آية تم تحريفها أو حكما تم استبداله بآخر من قبل الكهنوت في الكتب السابقة التي أنزلها، فيُثبت كُتُبه بجميع أحكامها وشرائِعها الأصلية، ولقد أثبتها تعالى من خلال إعادة تنزيلها في القرءان العظيم الذي هو نسخة أخذت من الأصل الذي هو أم الكتاب، فحماها بذلك من أي ناسخ أو منسوخ (سواء بتغيير أو تحريف أو إبطال) وهو ما يعني وفق الطبري أنه لا وجود في القرآن المجيد لا لِناسخ ولا لمنسوخ بل الناسخ والمنسوخ المذكور في الآية الكريمة يتحدث وفق ما يؤكّده السياق على ما تبّثه الله في القرآن العظيم وما محاه من أحكام لها علاقة بالكتب السماوية السابقة. لا من داخل القرآن نفسه.

وبهذا المعنى القرآني الواضح والجميل، نفهم أنه إذا كان الله تعالى عنده أم الكتاب الذي هو النسخة الأصلية المأخوذ منها كل الكتب السماوية بما في ذلك القرآن.. بمعنى أن اللوح المحفوظ هو فقط الجزء المتضمن للقرآن كما أن كل كتاب سماوي مدوّن في لوح محفوظ خاص عند الله، وهذه الألواح المحفوظة هي عبارة عن نسخ من رسالات السماء جمعت كلّها في أم الكتاب الذي يعتبر النسخة الأصلية أو الإمام الجامع لكل الألواح (الرسالات).. فإنه يترتب عن ذلك نتيجة حاسمة قطعية ونهائية مفادها: أن كل ما قاله التراثيّون عن أن أمّ الكتاب هو السّجّلّ الذي كتب الله فيه أقدار العباد من يوم مولدهم إلى يوم يرجعون وحدّد فيه أيضا مصيرهم إما سعداء أو أشقياء.. هو محض هراء، لأن أم الكتاب كما تم توضيح ذلك من القرآن الكريم يضم رسالات السماء حصريّا ولا علاقة له بأقدار البشر التي يكتبها الملائكة في كتب خاصة مستقلة لقوله تعالى: (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ ۖ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ) الأنعام: 61. هؤلاء الحفظة هم الملائكة التي يتعقبون الإنسان ليلا ونهارا، يحفظون أعماله ويحصّنونها ولا يفرّطون في كبيرها ولا صغيرها خيرا كان أم شرّا ويحفظونها من الضياع إلى أن يسلّم للإنسان كتابه الذي سيحاسب على ما جاء فيه من أعمال يوم القيامة لقوله تعالى: (قْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا) الإسراء: 14. 

إلى هنا تبدو معاني المفردات والألفاظ التي تناولناها في هذا المبحث واضحة لا تحتاج لمزيد تفصيل، لكن ما يحتاج للتدبّر بالعمق المطلوب هو ما قيل من قبل التراثيين حول القضاء والقدر والجبر بمفهومه الغليظ الذي يحرم الإنسان من الإرادة وحرّية الاختيار ويجعله كائنا خلق ليكون سعيدا أو شقيّا بحكم مسبّق في علم الله الأزلي. الأمر الذي يتعارض مع مبدأ العدل الإلهي، ويجعل من تجربة الابتلاء في الحياة الدنيا مجرد ملهاة إلهية، سبحانه وتعالى عمّا يصف الجاهلون.

وهذا لعمري هو الموضوع المهم والخطير الذي سنتناوله بالبحث في المرّة القادمة إن شاء الله تعالى.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق