بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 11 نوفمبر 2021

مـن أجـل لغــة دينيــة واحــدة

 


(وما هو إلا ذكر للعالمين)

(القلم: 52)

مقدمـــة
واقع الأمة اليوم يقول، إن تخلف المسلمين يعود إلى سوء فهم الدين والدنيا معا، بسبب ما ترسب في وعيها الجمعي طوال قرون من مفاهيم خاطئة حول الإسلام، ولا سبيل للخروج من هذه الأزمة إلا بإعادة النظر في كل المفاهيم المغلوطة، ليتكلم الناس لغة دينية واحدة، بعيدا عن المفاهيم الإيديولوجية التي خرّبت العقل المسلم وانعكست سلبا على تصرفاته، وليكون للدين بعده الإنساني السمح الجميل. ولنا في العلوم والتكنولوجيا المثال الواضح على ذلك، بما حققته من مكتسبات علمية هامة، وانجازات عمليّة مهمّة، ساهمت في خدمة البشرية جمعاء. وجميع من يشتغلون اليوم في مجالات العلوم والتكنولوجيا يتكلمون لغة علمية واحدة.../... 

هذا هو السبيل الوحيد لتحرير المسلم من سجن الماضي ليتمتّع بالحرية الحقيقية في كنف الله، الأمر الذي سيساعده على فهم نفسه، والتصالح مع دينه ودنياه، بعيدا عن وصاية الشيوخ والإقطاع.  

هذه العملية تتطلب تغيير الوعي الجمعي للأمة من خلال إفراغ أدمغة الناس مما تكلس فيها من رواسب، وإعادة ملئها بمفاهيم جديدة تمثل المعاني القرآنية الصحيحة للمصطلحات كما حددها تعالى في محكم كتابه، وذلك انطلاقا من قاعدة رد المتشابه للمحكم كما أمرنا تعالى، وقاعدة القرآن يفسر بعضه بعضا كما أوضح لنا الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم، من دون حاجة لمعاجم اللغة أو كتب التراث، وهو السبيل الوحيد لتحرير الإسلام من سجن الدولة، ومعتقل المذهب، وشرنقة الحزب، عملا بقوله تعالى: ولا تكونوا (من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون) الروم: 32. وقوله لرسوله الكريم: (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء) الأنعام: 159.

هذا المسعى يدخل في صلب واجب الجهاد بالقرآن لنكون شهداء على الناس ويكون الرسول علينا شهيدا، فنستحق بذلك أن نكون أمة وسطا كما أرادنا الله، وذلك لقوله تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا) البقرة: 143.  وقوله: (وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملّة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس) الحج: 78. وواضح أن الجهاد المقصود هنا هو بدل الجهد في نشر كلمة الحق، لقوله تعالى لرسوله الأعظم: (وجاهدهم به جهادا كبيرا) الفرقان: 52. في إشارة إلى القرآن الكريم. 

وتجدر الإشارة إلى أن هذا المسعى لا يهدف إلى تغيير الدين بقدر ما يتغيّى تجديده من خلال تصحيح المفاهيم الخاطئة التي علقت بأذهان الناس كما سبقت الإشارة، وذلك انطلاقا من القرآن كمرجع وحيد وأوحد للحقيقة الدينية، وحتى لا نكون ممّن سيشهد فيهم الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم يوم المحشر بقوله لربّه: (وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا) الفرقان: 30.

القــرآن.. نــص مفتــوح 

بخلاف ما هو سائد في اعتقاد العامة، فإن القرآن ليس كتاب خاص بالعرب، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يُفسّره للناس كما ذهب إلى ذلك عديد الفقهاء، اللّهمّ إلاّ ما نذر ممّا استشكل على القوم فهمه، وإلا لما كانت هناك حاجة لهذا الكّمّ الهائل من التفاسير التي تزخر بها المكتبات العربية والإسلامية اليوم. وذلك للأسباب التالية:

- أن صاحب الدين أنزل القرآن ليكون "ذكر" للعالمين كافة لقوله تعالى: (إن هو إلا ذكر للعالمين) يوسف: 104، وهي الآية التي تكرّرت في سورة ص: 87، وسورة التكوير 27، وجاء أيضا بمعنى "ذكرى" في الآية 90 من سورة الأنعام لقوله: (إن هو إلا ذكرى للعالمين). 

- أن جذر مفردة القرآن في اللغة العربية القديمة هو "القُرء"، والذي لا يعني القراءة بل الجمع والضم، كأن يقال "قرأتُ الماء في الحوض"، أي جمعت الماء في مكان واحد. وهذا هو المعنى الذي يعطيه مصطلح القرآن لما حواه من ذكر للرسل والأنبياء والأمم السابقة، ما يؤكد أن ما جاء به الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ليس دينا جديدا كما كانت تتّهمه بذلك العرب، بل يتعلق الأمر بنفس الدين الذي ارتضاه رب العباد للعالمين من نوح صعودا إلى محمد هبوطا مرورا بكل الأنبياء والرسل والأُمم ممّا نعلم ولا نعلم عليهم السّلام جميعا.

- أن القرآن أنزله الله تعالى لقوم أمّيّين، ليس لأنهم لا يعرفون القراءة والكتابة كما روّج لذلك الفقهاء، بل لأنه لم يسبق أن كان لهم كتاب، ولهذا السبب كان اليهود يصفون العرب بالأُمّيين (قالوا ليس علينا في الأمّيّين سبيل) آل عمران: 75. وبدليل لقوله تعالى: (هو الذي بعث في الأمّيّين رسولا منهم يتلوا عليهم آياته ويُزكّيهم ويُعلّمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين) الجمعة: 2. وواضح أن "الضلال" كان بسبب عدم توفّرهم على كتاب سماوّي يهتدون به.
 
- أن الكتاب نزل بلسان القوم الذين اختراهم الله أن يكونوا حملة مشعل الرسالة بعد أن نقض اليهود عهدهم مع الله، أي (بلسان عربي مبين) الشعراء: 195. و (غير ذي عوج) الزمر: 28. وبالتالي، لم يكن العرب حينها بحاجة لمعاجم لغوية أو قواعد نحوية تساعدهم على فهم معاني مفردات القرآن.

- أن اللغة العربية ليست شرطا للإيمان، لأن الذين آمنوا من مختلف الأجناس والأوطان اليوم يفوق عددهم العرب أضعافا مضاعفة، وقد أوضح الله تعالى هذا المعطى بقوله: (أأعجمي وعربي قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء) فصلت: 44.

- أن القرآن يتميز بالشمول والتفصيل لقوله تعالى: (ونزّلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة للمسلمين) النحل: 89. وقوله: (كتاب فصّلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون) فصّلت: 3. وقوله: (ما فرّطنا في الكتاب من شيء) الأنعام: 38. وبالتالي، لا يحتاج القرآن لحديث يكمّله لقوله تعالى: (تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون) الجاثية: 6. 

- أن القرآن كما قال الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم (ظاهره أنيق وباطنه عميق) وقال أيضا: (إن للقرآن ظهرا وبطنا ولبطنه بطن إلى سبعة أبطن)، وهو ما جعل الإمام عليّ عليه السلام يفسّر حديث الرسول بالقول: (إن القرآن حمّال أوجه)، وأوضح ذلك بقوله: (ما من آية إلا ولها أربعة معان: ظاهر وباطن وحد ومطلع، فالظاهر التلاوة، والباطن الفهم، والحد هو أحكام الحلال والحرام، والمطلع هو مراد الله من العبد بها). وعلى هذا الأساس فلعلّه من الصعوبة إن لم يكن من الاستحالة تحديد معنى واحد بشكل مغلق ونهائي للوحي الإلهي، وإلاّ لما أصبح القرآن صالحا لكل مكان وزمان. لكن ذلك لا يعني صعوبة تحديد المعنى الدقيق للمصطلحات برغم اختلاف السياقات التي وردت فيها، وهذا للإشارة،  هو هدف بحثنا الجديد.

- أن القرآن هو خطاب الله للناس كافّة، يستمدّ منه كل إنسان ما هو بحاجة إليه حسب مستواه، فالحاكم يأخذ منه الشرائع، والعالم يأخذ منه النظريات والقواعد الأساسية، والمؤرخ يأخذ منه فلسفة التاريخ وسننه، والمسلم يأخذ منه الفرائض وأحكام الحلال والحرام، والمذنب يأخذ منه طرق الثوبة والنجاة، والمؤمن يؤخذ منه سبل العمل الصالح ومناهج الأخلاق، والمحسن يأخذ منه أسرار الذكر وطرق التواصل ووسائل التعامل الإنساني، وهكذا... 

- أن من تكفّل ببيان المراد من خطابه هو المُتكلّم نفسه، أي الله، بدليل قوله تعالى: (إنا علينا بيانه) القيامة: 19، وقوله: (ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يُقضى لك وحيه وقل ربّي زدني علما) طه: 114. وبذلك فالله تعالى هو من تكفّل ببيان المراد من خطابه لعباده من خلال نور الوحي، ذلك أن القرآن نص صامت، لكن بمجرد أن يبدأ الأنسان بقراءة آياته وتدبّر معانيها إلاّ وتنبعث الحياة فيها فيشعر القارئ وكأنّ نورا خفيّا ينبعث من كلماتها، فيفتح تعالى بالفهم رويدا رويدا على من يشاء من عباده، كل حسب نيّته، ومستواه، وإخلاصه، واستعداده، وحاجاته، ودرجة تقرّبه من ربّه، لذلك قال تعالى عن قرآنه: أنه (هدى وشفاء للصدور)، لأنّ به ترتاح العقول وتطمئن القلوب.

- أن فهم القرآن يتطلب القراءة بموجب أول أمر نزل للبشرية من العليم الحكيم: (اقرأ باسم ربك الذي خلق) العلق: 1. والذي يُؤكّد أنه إذا كانت الغاية من التجربة الأرضية للإنسان هي الخلاص في الآخرة، فإن السبيل إلى ذلك يكون عن طريق العلم والمعرفة، وهو ما يكتسب بالقراءة، والذي لم يقرأ لا حظ له من القرآن، وذنبه على رقبته لإهماله أو على أولي الأمر الذين لم يوفروا له فرصة التعليم. ففي أوروبا مثلا، يعاقب الوالدين في حال لم يوجّهوا أبنائهم للمدارس، بخلاف بلاد المسلمين حيث تعتبر الأميّة من مميّزات الفطرة، ولأن الرسول كان أميّا، فعلى الناس أن يقتدوا به ويهتدوا فقط بما يتفضل به عليهم الفقهاء من مفاهيم ما دام القرآن ليس في متناول فهم العامة كما يقولون. 

وبهذا المعنى القرآني الجميل، فالقراءة لا تفيد التلاوة للتبرك فحسب، بل الدّراسة للتّعلّم بما تتطلّبه العمليّة من وقت وجهد ومثابرة وصبر، لأنّ المعرفة الحقيقية للخطاب القرآني لا تحصل إلاّ من خلال التّعلّم والتّأمّل والتّدبّر في ملك الله وملكوته (وكتاب مسطور * في رقّ منشور) الطور: 2 – 3. ما دام كل ما هو موجود في العالم الأكبر مكنون مُختصر في الكتاب الأصغر. وفهم ذلك بشكل صحيح يتطلّب ولوج مدرسة الله للتعلّم على يد المعلّم الأوّل والأكبر أسرار مُلكه وملكوته، لقوله تعالى: (الذي علّم بالقلم * علّم الإنسان ما لم يعلم) العلق: 4 – 5. حينها، وحينها فقط، يفتح الله على من يشاء من عباده بالفهم عبر قذف نور العلم والمعرفة بالوحي في الروع، ما دام الوحي لم ينقطع بين السماء والأرض بانقطاع التشريع، بل لا يزال الله يوحي للنّمل، والنّحل، والحجر، والشّجر، والبشر إلى يوم القيامة، بشهادة القرآن. 

وعلى هذا الأساس، لا يمكن الركون إلى تفسير بشري مهما بلغ صاحبه من العلم والورع، وكل التفاسير التي يزخر بها التراث، إنما تُمثّل وجهة نظر أصحابها، لا المراد من خطاب الله لعباده، ذلك أن الله تعالى أنزل القرآن للنّاس كافة، ولم يجعل بينه وبين عباده من وسيط، وأمرهم بالتّالي بتدبّره لقوله تعالى: (أفلا يتبرون القرآن أم على قلوب أقفالها) محمد: 24. ونهاهم عن هُجرانه حتّى لا يتبرأ الرسول منهم يوم القيامة بقوله: (وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا). لكن العكس هو ما حصل للأسف، حيث انكبّ النّاس يبحثون عن الخلاص في تفاسير الشيوخ وفتاوي الفقهاء، مُعرضين عن القرآن، مُتجاهلين أمر الله بالاعتصام بحبله، ووصيّة رسوله الكريم الذي ترك فينا كتاب الله كي لا نضلّ بعده أبد، كما أوضح لأُمّته في خطبة الوداع. 
 
المنهج من حيث التعريف

- المنهج: لغة هو الطريق الذي يسلكه الباحث. أما اصطلاحا فهو الخطة التي يضعها لبحثه. 

- التفسير: هو بيان معاني القرآن الكريم الظاهرة من كلماته، والكشف عن أحكامه، وإزالة الغموض عن آياته.

- التأويل: هو إرجاع معنى الكلمة الظاهر إلى أصله الأول ليتضح معناها الحقيقي، أي بيان المقصود من المصطلح أو الآية المضمر في الباطن ولا يفهم بوضوح من الظاهر.

تعدد المناهج

كثيرة هي المناهج التي تناولت القرآن الكريم بالتفسير والتأويل بين القديمة والمعاصرة والحديثة، وجميعها لم تعتبر القرآن هو المرجع الوحيد من حيث الموثوقية، إما بدريعة الناسخ والمنسوخ التي لا أساس لها إلا فيما يتعلّق ببعض الأحكام المُتضمّنة في الشرائع القديمة لأهل الكتاب والتي نسخها الله تعالى واستبدلها بأخرى أحسن منها في القرآن بسبب تغيّر الظروف والأحوال. أو أنه ناقص لم يشمل كل الأحكام التي تحتاج إليها المجتمعات حسب زعم الفقهاء، أو أنه نص أسطوري يتميّز بالقداسة والتعالي كما ادعى بعض الباحثين الحداثيين. وبالتالي اعتبر الفريق الأول (أهل النقل والبيان) أن القرآن هو من النصوص الصعبة والمعقدة التي تفوق طاقة البشر، وفهمه يحتاج لتفسيره على ضوء المأثور من سنة السلف. فيما اعتبر الفريق الثاني (أهل العقل والبرهان) أن تأويله يجب أن يكون على ضوء ما وصلت إليه مختلف العلوم الإنسانية من نتائج، وكأن العلوم هي المرجع الموثوق للحقيقة، هذا فيما يعتبر "تاريخ العلم هو تاريخ أخطاء العلم" وفق ما خلصت إليه الفلسفة الحديثة. وهذا يعني أن الحقائق العلمية تكون دائما نسبيّة، فيما الحقائق الدينية تتّسم بالشمول والإطلاق. بدليل أن، حتى الرياضيات التي نعتبرها من العلوم الصحيحة بالنسبة لعالمنا قد لا تكون كذلك بالنسبة للعوالم الموازية. 

راجع الموضوع بتفصيل على الروابط التالي:

المناهج القديمة: هذه المناهج اعتمدت عموما التفسير بالمأثور كقاعدة، وعرف هذا الاتجاه بمنهج النقل والبيان كما سبق القول. ويعاب على تفاسير القدماء ما تضمّنته من معاني يُصنّف بعضها في خانة الخيالي والأسطوري والغرائبي والعجائبي، ومردّ ذلك، تأثّر أصحابها بالإسرائيليات من جهة، والثقافات الدخيلة الوافدة من حضارات أخرى من جهة ثانية. وبموازاة ذلك، برزت ظاهرة التفسير بالرأي عند المعتزلة استنادا إلى العقل والبرهان كما هو معلوم، لكن مشكلة هذا المنهج، أنه كان يتبنّى رأيا مُحدّدا ومشبّقا في إطار الأصول الخمسة للاعتزال، ثم يبحث له المفسّر عمّا يدعمه من القرآن، فيُحوّل المحكم إلى متشابه والعكس صحيح أيضا، بحيث كان هدف المُفسّر من ذلك هو الانتصار لرأيه ضد الخصوم (الأشاعرة)، ما جعل هذا المنهج يفتقر إلى الموضوعية العلمية وما تقتضيه من حياد.

راجع الموضوع بفصيل على الرابط التالي

المناهج المعاصرة: تغيّت هذه المناهج مجموعة من الاتّجاهات الإصلاحيّة والتجديديّة بأهداف محدّدة تخدم في مُجملها مصالح سياسيّة معيّنة انتصارا لنظام أو مذهب أو جماعة. منها مثلا: الاتجاه الإصلاحي الذي اشتهر به محمد رضا في مؤلفه "تفسير المنار" وسيد قطب في مؤلفه "في ظلال القرآن"، بالرغم من أن مُؤلّف سيّد قطب لا يعتبر تفسيرا بقدر ما هو عبارة عن خواطر جامحة على هامش القرآن. والاتجاه الإجمالي الذي اشتهر به السعدي والمراغي. والاتجاه التحليلي الذي تميّز به الشوكاني، والألوسي، والقرطبي، وابن عجيبة. والاتجاه الموضوعي الذي تميّز به باقر الصدر والصابوني. والاتجاه العلمي الذي اشتهر به طنطاوي جوهري، ومحمد محمود عبد الله، والشعراوي. والاتجاه البياني الذي أسّس له الجرجاني، واشتهر به أمين خولي وبنت الشاطئ، وفاضل صالح السامرائي. والاتجاه الرقمي المُبتدع الذي رفضه الأزهر جملة وتفصيلا. بالإضافة إلى الاتجاه المُقارن الذي برز بموازاة ظهور الاتجاه الإستشراقي، وتعرّض للنّقد والرّفض. ولعلّ السمة التي تميّز بها رواد هذه المناهج انفتاحهم على أدوات البحث المعاصرة مع تحديدهم المسبّق للأهداف والمنطلقات، الأمر الذي أبعد أعمالهم عن الموضوعية العلمية وعرّضها لكثير من النقد والمراجعة والتصويب.

 وعموما فقد استند أصحاب هذه المناهج إلى علوم اللغة من نحو وإعراب وبلاغة وتركيب وبديع واشتقاق، بالإضافة إلى أسباب النزول، ودلالة المصطلح واختلاف الصياغة وتحليل السياق، وما وصلت إليه العلوم في عصرهم من اكتشافات.

راجع الموضوع بتفصيل على الرابط التالي:

المناهج الحديثة: أو بالأصح القول "القراءات النقدية الجديدة للنص الديني"، لأنه لا يمكن الحديث عن تفاسير حديثة بقدر ما يتعلق الأمر بمشاريع تأويلية مستحدثة تتغيّى معالجة النّص الدّيني من خلال قراءة نقديّة تاريخيّة تنزع عن النّص القرآني قدسيّته لتقوّض وثوقيّته وتُحوّله إلى مُجرّد نصّ أدبي لإثبات تاريخانيّته، بدعوى التقيّد بالقيم الإنسانيّة التحديثيّة، باعتبارها من أهمّ شروط القطع مع الماضي للإندماج في المنظومة الكونيّة لعصر الحداثة وما بعد الحداثة. 

وقد استعمل رواد هذه القراءة من أمثال محمد أركون، ونصر حامد أبو زيد، وزكي نجيب محمود، وحسن حنفي، وطيّب تيزيني، ومحمد شحرور، وهشام جعيط... مجموعة من الأدوات والعلوم المنهجيّة الحديثة، كاللّسانيات، والإبستيمولوجية، والإنتربولوجيا، والأركيولوجيا.. بالإضافة إلى علوم اللغة لتفكيك النصّ وتحليله وإعادة إنتاج معانيه ودلالاته. غايتهم في ذلك كما يزعمون، توحيد الوعي الإسلاميّ وإبعاده عن العقليّة المذهبيّة القروسطيّة.. معتبرين أن الواقع هو المدخل الحقيقيّ لفهم النصّ الدّيني، سواء ما له علاقة بالأصول والعقائد، أو الأحكام والتّشريعات. وسُميّت هذه المحاولات بالتّفسير التّاريخيّ والتّاريخاني للنّصّ الدّيني. 

ويعاب على هذا النوع من القراءات التي تدّعي العلميّة والموضوعيّة، أنّها تستبدل النّصّ الدينيّ المُؤسّس الذي هو "القرآن" بالواقع التّاريخي كمرجع موثوق للحقيقة. وقد بلغ الأمر ببعضهم كمحمد أركون مثلا حدّ وصف كتاب الله بأنه "خطاب محمد".

راجع الموضوع بتفصيل على الروابط التالية:
 
المنهج المقترح للمشروع

سننطلق في سعينا هذا من مقولة الرسول الأكرم صلّى الله عليه وسلّم الذي قال: (إن القرآن يُفسّر بعضه بعضا)، دون الاعتماد على غيره من النّصوص والمرويّات، اللّهمّ إلاّ ما يتوافق مع القرآن من حيث المضمون من باب التّأكيد على المعنى ليس إلاّ، مُستندين في ذلك إلى المنهجيّة التي حدّدها تعالى لعباده كسبيل قويم لفهم خطابه، وذلك من خلال قاعدتين أساسيّتين:

- القاعدة الأولى: وجوب تأويل النص انطلاقا من المحكم لفهم المتشابه بدل العكس كما فعل فقهاء الظاهر فسقطوا في التّجسيم وتقوّلوا على الله ما لا يجوز، لقوله تعالى: (هو الذي انزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هنّ أم الكتاب وأخر متشابهات) آل عمران: 7. وما يؤكد متانة هذه القاعدة الذهبيّة في التدرّج من العام إلى الخاص، ومن الشمولي إلى الجزئي، هو قوله تعالى: (ألر كتاب أحكمت آياته ثم فُصّلت من لدن حكيم خبير) هود: 1. ما يعني أن الخطاب الإلهي يحتوي على أصول الحقائق وفروع المعارف، الأصول هي التي وردت في الآيات المحكمة، والفروع هي التي فصّلت في الآيات المتشابهة. وهذه تعود جميعها إلى المنبع الأول الذي صدرت عنه، أي إلى صاحب الخطاب الذي هو الله، وبالتالي، يقتضي الفهم السّليم لمراد الله من خطابه معرفته انطلاقا من الجواب على سؤال "من هو الله؟، لأنّه المطلب الأساسي الذي يجب التركيز عليه في جميع تفاصيل المعاني القرآنية على ما بها من تركيب وتعقيد، مرده استعمال الله في خطابه لمختلف أدوات اللّغة البشرية من مجاز وتشبيه وكناية وما إلى ذلك.

- القاعدة الثانية: وجوب الانطلاق من مقدمة سليمة للوصول إلى نتيجة صحيحة عبر المرور من الظاهر لولوج الباطن لقوله تعالى: (هو الأول والآخر والظاهر والباطن) الحديد: 3. وذلك لرفع التناقض الذي يُثار بين ظاهر الآيات وبعض الأفكار الخاطئة التي تكوّنت لدى الناس عن عديد المفاهيم والدلالات التي تحبل بها المصطلحات القرآنيّة، من منطلق تفاسير الفقهاء المستمدة من تراث التجسيد كما وضعه اليهود قديما استنادا لحديث منسوب للنبي محمد صلّى الله عليه وسلّم يقول: (خذوا عن بني إسرائيل ولا حرج)، بعد أن كان قد نهى عن ذلك. وليس غريبا أن يتشابه موقف المُجسّمة من أهل النقل مع موقف بنو إسرائيل الذين كانوا أوّل من جسّد فكرة الإله، وطلبوا رؤيته بالعين المُجرّدة. وفي هذا الصدد يقول "ويل ديورانت" في كتابه (قصة الحضارة: 240/2) ما نصّه: "لم يكن للأمم القديمة إله آدميّ في كلّ شيء كإله اليهود".

أما "التأويل" الذي هو بخلاف "التفسير"، فالمقصود به إرجاع الشيء إلى أوّله لمعرفة مصدره والعنوان الأصلي الذي يندرج فيه كما سبقت الإشارة، وهو من المُصطلحات المختلف عليها في علوم الدّين عند المسلمين. ففي الوقت الذي يرفض أهل النّقل اعتماده ويتقيّدون بالمعنى الحرفي الذي يعطيه ظاهر الآية، يرى أهل العقل أن لا مناص من اعتماد آليات التأويل لفهم المراد الحقيقي من كلام الله، لأنه السبيل الوحيد لفهمه على الوجه الصّحيح لما تضمّنه من رموز وإشارات جعلها الله علامات يهتدي بها الإنسان في رحلته المعرفية، وذلك انطلاقا من حقيقة تقول، أن دلالة خطاب المتكلم لها ظهور محسوس في عالم الشهادة ومعنى محجوب في عالم الغيب، أي أن الخطاب يُمثّل الظاهر في ما الحقيقة تكمن في الباطن، والتأويل هو الأداة اللغوية المتاحة لمعرفة مراد المُتكلّم على الوجه الصّحيح عبر المرور من بوابة الظّاهر للوصول إلى عالم الباطن، ومصداق ما يتوصّل إليه الباحث من دلالة يكون له مدلول يُؤكّده أو ينفيه الواقع، ما دام الخطاب القرآني هو كتاب مسطور في رق منشور، وبالتالي فما حواه هذا الكون المسطور أوجده الله مُدوّنا في رقّ منشور.

ذلك، أن الآيات المحكمات لا تحتمل وجود التّشابه الذي سقط في فخّه ما يُسمّى بـ"علم التفسير"  - والذي ليس له من العلم إلا التسميّة - بحيث قسّم الله تعالى كتابه إلى قسمي المحكم الذي هو الأصل المستمد من أم الكتاب حيث يوجد المعنى الثابت والمطلق الذي لا يقبل التشبيه، والمتشابه الذي تتولد منه معاني متعددة يجب أن تعود جميعها لمعنى المحكم وإلا أدّى اتّباع ما يعطيه فهمها من حيث الظاهر إلى الخطأ وسوء تقدير الواقع، وبالتالي، التأثير السّلبي على فهم النّاس لدينهم، وانعكاسه رأسا على ممارساتهم كما حدث في التراث اليهودي والمسيحي ولم يسلم منه التراث الإسلامي.

وعلى هذا الأساس، فكل من انطلق من المحكم في تأويل المتشابه سيصل إلى نتيجة صحيحة وفهم سليم، والعكس يؤدي إلى الاختلاف الذي يؤدي بدوره إلى الخلاف وما ينجم عنه من مآسي، وهذا بالضّبط هو من ولّد الفتن والصّراعات الدينية التي عرفها تاريخ الفكر الإسلامي، فتفرّقت بسببه الأمة إلى طوائف ومذاهب ومدارسة وتيارات وجماعات وملل ونحل. ومعلوم أن جوهر المعضلة كان ولا يزال يكمن في عدم وضوح رؤية المسلمين لماهية الله، لأن من شأن وضوح هذه الرؤية أن يُغيّر فهمهم للدّين والدنيا معا، ويجعلهم يتكلّمون لغة دينية واحدة، الأمر الذي سينعكس بشكل إيجابي على تصرفاتهم الشخصيّة من جهة، وعلى مواقفهم تجاه بعضهم البعض وتجاه الأخر المختلف عنهم من جهة ثانية.

والآن لنحاول تطبيق هذه المنهجية لمعرفة المعاني والدلالات الحقيقية للمصطلحات القرآنية من السّياقات التي وردت فيها، لأن من شأن النتيجة التي سنتوصّل إليها أن تغيّر من فهمنا لأمور كثيرة كنا نعتقد أنها صحيحة وهي ليست كذلك، وقياسا على ذلك، نستطيع الحكم بشكل منطقي على مجمل ما ورد في تفاسير السلف وغربلتها من العجائبي والغرائبي الذي اعتمدته في شرح العديد من آيات القرآن بما لا يتناسب مع الحقائق الإلهية لقوله تعالى (وبالحق أنزلناه وبالحق نزل) الإسراء: 105.

نقول هذا ونستحضر مقولة الفيلسوف ليسنغ: "إن السّعي لمعرفة الحقيقة لهو أثمن من الحقيقة نفسها".

ومن الله التوفيق.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق