بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 19 يوليو 2023

التخاطر والاستبصار بين العلم والدين (2/1)

 

(بَلِ الْإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ)

  - القيامة: 14 -

  •  من حيث التعريف

يعتبر التخاطر والاستبصار من الظواهر الغريبة التي تحدث نتيجة تدخّل عوامل حسّيّة طبيعية وأخرى فوق طبيعيّة. فالتخاطر: هو الاتصال الذي يتم عن بعد بين عقل وآخر أو قلب وآخر بغض النظر عن المسافة التي تفصل بينهما، وذلك من خلال توارد الأفكار الذهنية بالنسبة للأول، والمشاعر القلبيّة بالنّسبة للثاني، وفي كلتا الحالتين يتم التخاطر عبر الحواس التي هي من مكوّنات النفس، في حين أن الاستبصار هو ظاهرة فريدة تتمثّل في رؤية الأشياء على حقيقتها لدرجة حصول اليقين دون الاعتماد على وسائط ماديّة محسوسة، ويتمّ ذلك بطريقة فوق طبيعية على شكل إلهام فطري، أو وحي يقذف في الرّوع، أو إشراقة قلبيّة يستقبلها الحدس من عوالم برزخيّة.../...

يقول العالم ألفرد أينشتاين: "إن العلم بغير الدين يصير كسيحا، والدين بغير العلم يصير أعمى"، لذلك لا يمكن معالجة أية قضية معرفية مهما بلغت تعقيداتها من دون معرفة وجهة نظر العلم والدين معا بشأنها، حتّى لو كانت نتائج أبحاث العلوم تقوم في مجملها على مبدأ الشك والاحتمال والتجربة، ومن الصعوبة بمكان إن لم يكن من الاستحالة الغوص عميقا في مجاهلها لقوله تعالى: (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلا) الإسراء: 85. لكن مع ذلك ورغم ذلك تبقى النتائج المتوصّل إليها حتى اليوم على الأقل مادّة صالحة للاستعمال ما دامت لم تدحضها نظريات علمية جديدة.

والسؤال هو: هل يتبدّل فهمنا للدين كلّما تقدّمت العلوم وتطوّرت مجالات المعرفة؟..

عندما سُئل أينشتاين عن تعريفه لله قال: "لا أستطيع أن أتصوّر إلهاً ذاتيّاً يؤثر بشكل مباشر على أفعال الأفراد أو أن يحاسب مخلوقات من صنعه هو. إن دينيّتي تتضمن إعجاباً متواضعاً بالروح السّامية اللامحدودة التي تكشف نفسها بالقليل الذي نستطيع استيعابه حول العالم الذي يمكن معرفته. ذلك الإيمان الشعوري العميق بحضور القوة المسبّبة العليا، المتكشفة في الكون الغامض، تشكّل فكرتي عن الله". 

والحديث هنا بالمفهوم القرآني هو عن النور الذي لا تُدركه الأبصار وهو يُدرك الأبصار، لأنه لا يُرى بذاته بل يرى الإنسان الأشياء بواسطته (الأنعام: 103).. النور الذي ليس كمثله شيىء في الوجود لأنه هو عين الوجود وسرّ كل موجود (الشورى: 11).. النور الذي هو معكم أينما كنتم (الحديد: 4).. النور الذي هو أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد، لأن به تذبّ الحركة في الجسد فإذا غادره تحوّل إلى تراب (ق: 16).. النور الذي لا يحدّه مشرق أو مغرب، لأنه هو وجه الله المشرق الذي يتوجه إليه كل مسبّح في الكون (البقرة: 115).. النور الذي هو عين الروح وماهيتها الحقيقيّة لأنه من أمر الله (الإسراء: 85).. النور الذي يمشي به المؤمن المتقي في الناس على هدى من ربّه فيرى بواسطته الأشياء كما هي على حقيقتها لا كما تبدو للعيان (الأنعام: 122).. النور الذي هو اللغز الخفيّ الذي يبحث عنه كل إنسان لينير به عتمات الظل في جنبات قلبه فيتحوّل بذلك إلى إنسان أخلاقي مسؤول تشهد على نفسه بالحق جوارحه يوم القيامة (القيامة: 14).. النور الذي لا يسرى عليه زمان لأنه هو من يولّد الزمان من خلال توليد الطّاقة المنتجة للمادة التي لا تفنى فتغادر الوجود بل تتحوّل في كل مرّة إلى طاقة وهكذا إلى ما لا نهاية، لذلك قال الله عن نفسه أنه كل يوم هو في شأن (الرحمن: 29)، أي أنه كل يوم في خلق جديد من نفسه بنفسه ولنفسه، وهذا هو معنى قوله تعالى في الآية المحكمة رقم: 35 من سورة النور: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ۖ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ ۖ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ ۚ نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ ۗ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ ۗ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).

ومعنى المعنى أن لا أحد يستطيع معرفة الله مهما بلغ من العلم وادعى من المعرفة لأن النور لا يُرى بالعين المجرّدة ولا تدرك ماهيته ولا طبيعته الحقيقية بالعقل، بل يدرك فقط بالذوق فيعرف مكان عرشه في القلب دون حاجة لوصفه لعجز اللغة البشرية عن ذلك. 

وعلاقة بالموضوع أقول، إن كل ما يمكن أن يكتشفه الإنسان من خلال التخاطر والاستبصار لا يعدو عن كونه أحد الأوجه القليلة للحقيقة الكليّة الكامنة في الآليات الغامضة التي يعمل بها نور الله تعالى في الوجود.  

أولا: التخاطر والاستبصار من وجهة نظر العلم:

أ – بالنسبة لعلم النفس:

برغم جهود علماء النفس لإثبات أن التخاطر والاستبصار يندرجان في مجال علم النفس السّريري، إلا أن كل التجارب التي أجريت حتى اليوم على هذين المجالين لم تحقق اليقين العلمي بذلك نظرا لعدم استفائها للشروط الأكاديمية المتطلبة، وها هم معظم علماء النفس في مختلف جامعات العالم المرموقة يؤكدون أن الأدلّة السريريّة التي يُروّج لها البعض لدعم فكرة علميّة التخاطر والاستبصار ليس لها أيّة قيمة علميّة، وأنّ ما تكوّن لدى البعض من أفكار خاطئة في هذا المجال هو نتيجة لمتابعتهم للتصريحات المتكررة التي تروّج لها وسائل الإعلام الشعبية والمواقع الاجتماعية إما بسبب الجهل أو بهدف التضليل، وعليه، فلا فائدة من الحديث عمّا قيل حول الظاهرتين من هذه الناحية، ما دامت الأمور اللاحسّيّة تعتبر من الظواهر فوق طبيعية، وبالتالي يستحيل إثباتها بمناهج علم النفس التجريبي، ما لم تحدث ثورة معرفيّة جديدة تغيّر هذه القناعة الخاطئة التي أصبحت للأسف من المسلّمات الكلاسيكيّة عند العموم نتيجة التضليل.

ب – بالنسبة لعلم الفيزياء 

بخلاف علم النفس، يأخذ الأمر في التجارب الفيزيائية أبعادا غريبة تفتح على عوالم جديدة ومدهشة قد تغيّر من مفاهيمنا للكثير من الأمور التي كنا نعتبرها إلى وقت قريب من المسلّمات، كنظرية النسبة التي قال بها ألفرد أينشتاين مثلا.

ذلك أن ما تطرحه نظرية ميكانيكا الكم يعتبر بحق معضلة علميّة مستعصيّة يستحيل فهمها من الناحية العقليّة والمنطقيّة حتى الآن، ولعلّه بسبب هذه الاستحالة رفض العالم ألبرت أينشتاين باكرا نتائج الإشعاع الحراري التي اكتشفها العالم الفيزيائي ماكس بلانك الذي يعتبر أوّل من أسّس لنظرية ميكانيكا الكمّ. 

تجربة التشابك الكمّي

إن جوهر المعضلة كما تبيّن فيما بعد، يكمن في أن نظرية ميكانيكا الكم كما تم تطويرها من خلال نظرية التشابك الكمّي، نجحت أخيرا في ملاحظة تصرف الإلكترون حين ينقسم إلى نظيرين (أصل وتوأم)، بحيث أن العنصرين وبالرغم من كونهما من أصل واحد إلا أنهما يدوران في اتجاهين معاكسين في نفس الوقت بغض النظر عن المسافة التي تفصل بينهما والتي قد تكون ملايين بل وبلايين السنين الضوئية ما يؤكد وجود نوع من التخابر عبر الاستشعار عن بعد في خرق واضح لبعد المسافة بالتعريف الفيزيائي القديم، كما وأنه تمّت ملاحظة تصرّف الفوتون بشكلين مختلفين تماما، مرّة كجسيّم (مادّة) ومرّة كموجة ضوء حسب نوع الحاجز الذي يتم وضعه بين الفوتون والهدف الذي يفترض أن يصل إليه، الأمر الذي يعطي للحوادث الفيزيائية طبيعة احتمالية بين الوقوع وعدم الوقوع، وهذا لعمري قمّة العجب والاستغراب بل والخطل العقلي وفق ما هو مبيّن بالرّسم التوضيحي أسفله:

تصرّف الفوتون كجسيّم (يمين) وكموجة ضوء (يسار

في حين أن نظرية النسبيّة كما كنا نعرفها قبل اليوم تقول بحتميّة الحوادث الفيزيائية القائمة على الأسباب، وبأن الزمن مجرّد وهم، وأن الماضي والحاضر والمستقبل شيىء واحد محدّد بشكل مسبّق. ومعلوم أنه بالنسبة لأينشتاين كما هو الأمر بالنسبة لعديد العلماء بمن فيهم علماء المسلمين كابن رشد مثلا، يعتبر القول بتعطيل الأسباب بمثابة تعطيل للعقل.. 

وكانت الأمور تبدو طبيعيّة في مطلع القرن العشرين، إلى أن كتب العالم الفيزيائي الألماني المشار إليه أعلاه ورقته البحثية حول ميكانيكا الكم، والتي خلص فيها إلى أن "قلب نظرية ميكانيكا الكم الجديدة ينبض بالشّكّ والعشوائيّة"، فرد عليه العالم اينشتاين في حينه بالقول: "أنا على يقين تام بأن الله لا يلعب بالنرد". 

- والسؤال الذي يطرح نفسه على ضوء نتائج آخر تجارب التشابك الكمي اليوم هو: هل ما يحدث في الكون من حادثات فيزيائية صغيرة كانت أم كبيرة تخضع لمبدأ السببيّة أم لمبدأ غريب آخر لا نعرف كنهه حتى الآن لكننا نلحظ طبيعته الظاهريّة فقط فنحكم عليها بالعبثيّة؟.. 

فمثلا، نحن نعرف أن العالم الفيزيائي "نيلز بور" حسم قديما الجدل النظري الذي قام بينه وبين العالم "ألبرت أينشتاين" حول هذا الموضوع خلال النصف الأول من ثلاثينيات القرن الماضي بالقول: "إن الله فعّال لما يريد".. وهذا قول صحيح من الناحية الإيمانية لكنه لا يفسر القضيّة من الناحية العلمية.

هذا في حين أن العالم ألبرت أينشتاين ومن خلال نظريّته عن "الكون المغلق" التي استقى منها فكرة أن الزمن مجرّد وهم، وأن الماضي والمستقبل سيّان، وأن كل الحوادث لمن يلحظها من قبّة الكون خارج المكان والزمان تجري جميعها في نفس الوقت، وهو ما يفترض أن كل ما يحدث في الكون معلوم ومحدّد بشكل مسبّق، الأمر الذي يترتّب عنه حكما نفي حرّية الإرادة والاختيار بالنسبة للإنسان. وبالتالي، فالذي يؤمن بنظريّة أينشتاين التي تقول بأن الزمن هو البعد الرابع، يؤمن حتما بأن الله الذي خلق المكان والحركة التي تولّد الزمان يعلم المستقبل بشكل مسبّق لأنه هو من يقرّر طريقة تصرّف المادّة في الكون ويخلق أعمال الإنسان أيضا باعتبار الإنسان مجرّد أداة خلقها تعالى لتنفّذ مشيئته وفق الاعتقاد السنّي والأشعري السّائد في الثقافة الإسلامية، بخلاف الاعتقاد لدى المعتزلة والشيعة الذي يقوم على الإرادة وحرية الاختيار التي على أساسها يحاسب الإنسان يوم القيامة. 

والحقيقة أن اعتقاد أهل السنّة والجماعة والأشاعرة لا يمكن أن يكون صحيحا لأنه يتعارض جملة وتفصيلا مع مبدأ العدل الإلهي، ومبدأ حرّية الإرادة والاختيار كما أسلفنا بشكل مستفيض في مقالات سابقة حول الموضوع، خصوصا وأن مثل هذا القول يجعل الله مجبورا في تصرّفاته مقيّدا بعلمه المسبّق لا يحيد عنه، وهذا قول لا يقبله دين ولا عقل لأن الله سبحانه وتعالى فعّال لما يريد ساعة ما يريد وكيف ما يريد.

اليوم (منتصف العام 2023)، وبفضل آخر الفتوحات العلمية التي تمخّضت عن عديد التجارب المخبريّة لنظرية "التشابك الكمّي"، أصبح الثابت المعروف عن سرعة الضوء القصوى حسب نظريّة أينشتاين (حوالي 300 ألف كلم/ثانية) في خبر كان، بمعنى أن الأجسام ما تحت ذرّيّة كالإلكترون والفوتون في حالات التشابك الكمّي يمكن أن تبعث لنظيراتها (توأمها) إشارات مرموزة بسرعة تفوق سرعة الخيال وليس سرعة الضوء فحسب، بغض النظر عن المسافة التي تقطعها في أرجاء الكون السحيق. 

هذا الاكتشاف العجيب أكّد مرّة أخرى صحّة القاعدة الفلسفيّة القائلة بأن "تاريخ العلوم هو تاريخ أخطاء العلوم". خصوصا بعد أن تبيّن أن بمقدور الإلكترون الذي نلحظ دورانه في اتجاه رأسي مثلا أن ينقل المعلومة إلى نظير له في أقصى نقطة من الكون بسرعة تفوق ملايين المرات سرعة الضوء المعروفة، ليدور الأخير في الاتجاه الأفقي المعاكس لدوران الالكترون الأول الذي هو نسخة توأم منه (كما هو مبيّن في صورة التشابك الكمّي أسفله)، وذلك بغض النظر عن المسافة التي تفصل بين التوأمين. وهذا يعني أن التخاطر الذي يقوم بين إلكترونين من نفس الأصل يتم في نفس الوقت بغض النظر عن عامل الزمان والمكان.

هذه الظاهرة دفعت بعض الباحثين التنويريين للقول بأن الإلكترون له "وعي إدراكي"، وهو ما ليس صحيحا بالمرّة، ذلك أن المادّة لا يمكن أن تتمتّع بوعي إدراكي لأنها ليست كائنا أخلاقيا عاقلا كالإنسان، بل ما تختزنه في جوهرها هو "وعي برمجي" على شاكلة الوعي الفطري الناظم لتصرّفها (تسبيحها) بشكل جبري لا إرادي.

ومهما يكن من أمر، فإن ما أفرزته البحوث الفيزيائية العلمية على المكوّنات ما تحت ذرّيّة من نتائج مخبرية بفضل مُسرّعات تحطيم الذّرّة الهائلة، أكّدت خطأ نظرية أينشتاين الذي اعتبر الزمن بعدا رابعا من حيث المفهوم. وبالنتيجة، فإن هذا الحدث يعتبر حدثا غير سببيّا وتصرّفا غريبا يتكرّر باستمرار في الكون الفسيح كل ثانية وكل دقيقة وكل ساعة وكل يوم إلى ما لا نهاية، ولا يوجد تفسير علمي أو عقلي له. هذا الحدث الغير سببي أصبح يعرف علميّا بـ "التشابك الكمّي"  

(Quantum Entanglement) 

وبالمختصر المفيد، ففي الوقت الذي أسقط فيه هذا الاكتشاف الجديد نظرية سرعة الضوء الثابتة التي قال بها أينشتاين بالإضافة إلى نظرية الفضاءات الفارغة التي تبيّن أن لا وجود لها ما دام ما كنا نعتقد أنها فراغات في الفضاء هي حقول كهرومغناطيسية لا متناهية تسبح فيها الجسيمات والفوتونات ما دون ذرّيّة، ما يؤكّد أن الكون كلّه مترابط كمّيّا كشبكة محكمة على نحو يجعله كيانا واحدا تتعاضد أجزاؤه صغيرها وكبيرها بآليات لم يفهمها العلماء حتى الآن. 

- والسؤال هو: هل نحن أمام فتح علمي كبير سيؤدى إلى تأكيد صحّة "نظرية كل شيء" (Theory of everything The) الصوفيّة التي هي عبارة عن معادلة كونيّة تشكّل وصفا شموليّا يجمع بين المادة والروح من وجهة نظر الدين والفيزياء النظريّة معا؟ 

- وهل يعتبر صحيحا ما قاله محيي الدين ابن عربي عن الذرة، بحيث إذا فهم الإنسان سرّها فسيفهم سرّ كل شيء في الكون، من أصغر جسيّم إلى أكبر مجرة، ما دام كل شيىء في الكون محكوم بقانون إلهي واحد؟

- وهل حقا أن الإنسان الذي يحسب نفسه جرما صغيرا قد حوى الكون الأكبر كما قال الإمام عليّ كرّم الله وجهه؟

-       وهل نحن مجرد صور للأعيان الثابتة التي لا وجود لها إلا في علم الله العظيم كما يقول محيي الدين ابن عربي في راسلته حول "الأحاديّة"؟ (وهي الفكرة التي جسّدها فيلم "ماتريكس" بشكل دقيق". 

لقطع الشّك باليقين وتأكيدا لهذا الفتح العلمي العظيم، قام العلماء في الغرب بإعادة تجربة الفيزيائي الفرنسي "ألين أسبكت" مستخدمين هذه المرة أشعة الليزر لفحص ما تنبأ به أينشتاين حول سرعة الضوء، فجاءت النتائج جميعها مؤكّدة لما توصّل إليه العالم الفرنسي من نتائج، وبذلك سقطت كل اعتراضات ألبرت أينشتان حول نظريّة التشابك الكّمّي التي كان يقول إن حصولها أمر مستحيل بل وغير قابل للتطبيق عمليّا.

هذا الاكتشاف غير المسبوق يفتح اليوم الباب واسعا نحو آفاق جديدة من البحث العلمي الذي قد يؤدّي إلى توحيد كبرى نظريات فيزياء الأجسام وحصول الحوادث في الكون، لتتطابق مع الحقائق القرآنية فيحصل للناس اليقين بأن للكون خالق مدبّر حكيم، وأن ما كنا نعرفه عن نظرية السببيّة لا يعدو عن كونه مجرد أوهام نبرّر بها نتائج الحادثات والأفعال، وأن ما كشفت عنه نظرية التشابك الكمّي الجديدة من فوضى وعبثية تطبع تصرّف الإلكترون والفوتون، ما هي في حقيقة الأمر إلا الوجه الخفيّ لنظام فائق الدقة، لأن من الفوضى يولد النظام كما هو معلوم، ودليل ذلك الموجات الضوئية الناقلة للمعلومات في مخ الإنسان، والتي تبدو وفق أبحاث علم الأعصاب وكأنها تعمل بنظام فوضوي في الدماغ السليم، لكنها تعمل بنظام منتظم في دماغ الإنسان الفاقد للعقل، حسب ما أظهره تخطيط إشارات الدماغ السليم مقارنة بالدماغ المريض.  

وخلاصة القول، أنه لا يمكن إلا احترام براعة آينشتاين في الرياضيات الفيزيائية، لكن ما جعل نظريته حول النسبيّة لا تصمد أمام نظريّة ميكانيكا الكم هو ما أكّدته الأخيرة من خطأ الدلالات الفلسفية التي أفرزتها نظريات أينشتاين، سواء بالنسبة لمفهوم الكون المُغلق أو لفكرة أن المستقبل والماضي سِيان، حيث أصبح اليوم الكون هو ما نلحظه في الفضاء الخارجي للدماغ وأنه صورة طبق الأصل لتصميم الدماغ، بل وأكدت آخر البحوث الفيزيائية وعلوم الأعصاب حول الأكوان المتوازية وخلود الوعي بعد الموت، أن الدماغ ما هو إلا صورة طبق الأصل لخريطة الأكوان المتوازية كما هي موجودة في الفضاء الفسيح. 

وفي هذا الصدد، أكّد البروفيسور (روبرت لانزا- Robert Lanza) عالم الطب الإحيائي في آخر مؤلف له حول الموضوع أن الحياة لا تنتهي بالموت بل هي ذات طبيعة خالدة، وهي النظرية الجديدة التي أدت لظهور ما أصبح يعرف اليوم بـ "المركزيّة الإحيائيّة" أو (Biocentrism). وخلاصة النظرية أن وجود الإنسان لم يكن يوما مرتهنا بوجود جسده الذي يموت عند انتهاء أجله ويتحوّل بحكم عوامل التعرية الطبيعية إلى أصله الذي هو التراب، في حين تظل النفس خالدة بحكم الوعي الذي هو جوهر ماهيتها، وهو ما توضّحه الآية 172 من سورة الأعراف والتي تشير إلى أن الله خلق الأنفس قبل الأجسام في قيامة أولى قبل أن تبدأ الحياة البشرية على الأرض. 

Biocentrism

استمرار الوعي بعد الموت

والجديد الذي كشفت عنه هذه النظرية المدهشة هو أن هذا الوعي يمكن أن يكون في كل مكان وزمان بل وخارج الزمان أيضا، الأمر الذي يتوافق تماما مع المفاهيم القرآنية عن الموت والنفس وحياة الخلود، كما ويتوافق أيضا من الناحية العلميّة مع المبادىء الأساسية لميكانيك الكم حيث أثبتت التجارب العلميّة الأخيرة أن الجسيم الكمّومي يمكن أن يتواجد في كل مكان كمادة وكموجة ضوئية في نفس الوقت، و أن الحدث يمكن أن يقع بأكثر من طريقة في أكوان متوازية في آن واحد بحيث يموت الجسم والوعي في أحد هذه الأكوان ليظهرا في كون آخر، و قد تتكرر هذه العملية باستمرار.. فسبحان الله.

وعلى ضوء هذه النتائج العلمية الجديدة والعجيبة، فنّد عالم الكونيات من جامعة كامبريدج "جورج إليس" (George Ellis) نظرية ألبرت أينشتاين التي تقول "إذا كنّا عبارة عن ماكينات تنتظر مستقبلاً قد تم تقريره مسبقاً، عندها يمكن القول بأن أدولف هتلر لم يكن يملك أيّة خيارات أخرى سوى ما قام به، وأن (هندريك فيرويرد Hendrik Verwoerd) مبتكر نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا لم يكن مُخيّراً فيما فعل، لذا سيكون من غير المجدي أن نخبر أحداً أن ما قام به هؤلاء خطأ، وهذا ما سيفتح الباب أمام الشر وسيقف الناس بلا حيلة أثناء حدوثه". وهو ما يطرح السؤال التالي:

- هل هذا معقول ومقبول عقلا ودينا؟

الدين من جهته ينفي مسألة الجبر بمفهومه الغليظ، ويؤكد القرآن في أكثر من آية وسياق أن الخير والشر هما مخلوقان أوجدهما الله، لكنّه لم يفرضهما قهرا على الإنسان، ذلك أن حدوث الخير أو الشرّ لا يخضع للعشوائية التي أظهرها تصرّف الإلكترون ظاهريّا، ولا للتخطيط المسبّق الذي يجعل من الإنسان مجرد أداة لا إرادة ولا خيار لها تفعل ما يُملى عليها قهرا من قبل قوّة غيبيّة وتُساءل عن نتائج ذلك يوم القيامة.. بل حدوث الخير أو الشّرّ يخضع لسلوك الإنسان لأنهما مناط الاختيار في التجربة الأرضيّة التي على أساسها سيحسم مصيره يوم القيامة، وهذا هو ما تعطيه آية الميثاق التي أشرنا إليها أعلاه (الأعراف: 172) وآية الأمانة (الأحزاب: 72)، لأن الميثاق يعتبر عهدا بين الإنسان وربّه بعد اعترافه بربوبيته له في عالم الذر والأنوار العلوية، أمّا الأمانة بالمفهوم القرآني الدقيق فهي الإرادة التي وهبها الله للإنسان فجعله مكلّفا مسؤولا يتحكم بواسطتها في قراراته وتصرّفات جسده، وساعة وفاته ينتزع الله منه الإرادة لتعود النفس إلى بارئها خاضعة مستسلمة لا حريّة ولا قوة لها بعد أن تكون قد سلّمت أمانة الإرادة لصاحبها، وليست أمانة الروح كما يعتقد التراثيون والعامة خطأ، لأن الروح تتعلّق بنور العلم الإلهي الذي هو من أمره تعالى ولا سلطة للإنسان على الروح مثل ما هو الأمر بالنسبة للنفس.

ثانيا: التخاطر والاستبصار من وجهة نظر الدين:

إذا كان العلم لم ينجح حتى الآن على الأقل في إثبات حقيقة ظاهرة التخاطر وظاهرة الاستبصار بالوسائل المحسوسة لقطع الشك باليقين، فهذا لا يعني أنهما غير موجودتان ويجب استبعادهما وفق المنطق المادي الذي لا يؤمن إلا بما هو محسوس، بدليل أن آخر تجارب نظرية ميكانيكا الكم أثبتت مصداقية هذا الاحتمال وإن كانت لا تزال في بداياتها ويشوبها الكثير من الغموض لجهة تفسير تصرّف الفوتون كجسيّم وكموجة ضوء في نفس الوقت، ودوران الإلكترون من أصل واحد في اتجاهين معاكسين بسبب وجود التخاطر الذي ينتقل بينهما بسرعة تفوق سرعة الضوء بملايين بل وبلايين المرات بغض النظر عن المسافات الضوئية التي تفصلهما كما سبق القول.

ولأن الأمر يتعلق بظواهر غير محسوسة من مجال عوالم الغيب، فيكون الإيمان بالتالي هو العامل الوحيد المساعد على حصول اليقين بما هو غيب في الحياة الدنيا، ما دام هذا اليقين سيكون بعد الموت عبارة عن تحصيل حاصل، لقوله تعالى بالنسبة للمؤمن: (واعبد ربّك حتى يأتيك اليقين) الحجر: 99، أي يأتيك اليقين بعد الموت فترى الأشياء على حقيقتها كما أخبر بها تعالى في كتابه، لا كما كانت تبدو لك من حيث الظاهر المخادع. وقوله للكافر المُكذّب بالغيب ساعة احتضاره: (لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد) ق: 22. وقد جاءت كلمة "حديد" في الآية الكريمة بمعنى "حدّة" للتعبير عن قوّة البصر وحدّته التي تفوق طبيعته في الحياة الدنيا، بحيث يصبح بإمكان المحتضر رؤية الملائكة والمكان المخصص له في الحياة البرزخية التي هي مجرّد محطة انتظار لملاقاة المصير النهائي الذي سينتهي إليه الإنسان بعد البعث يوم القيامة مؤمنا كان أم كافرا.


رؤية عالم البرزخ ساعة الاحتضار

والحقيقة أن التخاطر والاستبصار لا علاقة لهما بالمواهب الفرديّة بحكم التوارث الجيني كما ذهب إلى ذلك بعض علماء الأحياء، ولا بالقدرات المكتسبة كما ذهب إلى ذلك بعض علماء النفس، وهو ما لم يؤكده الدين الإسلامي بالمطلق، بل اعتبر بالنسبة للتخاطر أن كل من يتوفّر على هذه القدرة العجيبة من عباد الله المقرّبين إنّما يتوفّر عليها بفضل من الله وبشكل لحظي يحدث من حين لآخر، أو بشكل دائم لكن فقط بالنسبة للأنبياء كحال نبي الله سليمان عليه السلام، والذي كان يتمتّع بقدرة لدنيّة استثنائية وفوق طبيعية لرؤية الجّنّ وللتخاطر مع الكائنات بمنطقها، أي بغير اللغة البشريّة، وهبه إيّاها الله تعالى، ويستحيل أن يتوّفر مثلها لبشر عادي حتى لو كان من عباد الله المخلصين، وبذلك أصبح سليمان عليه السلام ومن دون كلام يتواصل مع الطّير والنّمل وشياطين الجنّ التي سخّرها الله لخدمته بعد أن وهبه تعالى ملكا لم يهبه لأحد من قبله ولا من بعده. 

لكن وبخلاف الجّن والشياطين، نعلم من القرآن الكريم أن الأنبياء والرسل الذين بعث الله إليهم الملائكة تمثّلوا لهم في صورة بشر ليتمكّنوا من رؤيتهم ومخاطبتهم نظرا لطبيعتهم النورانيّة، ومثال ذلك ضيوف إبراهيم، ومبعوث الله لمريم، على سبيل المثال لا الحصر. وهنا تجذر الإشارة إلى أن القدرة الخفيّة على التواصل الذي خصّ بها تعالى نبيه الكريم سليمان عليه السلام تقوم على أساسين:

الأول: الجلاء البصري: ويتمثل الجلاء البصري في كون أن شياطين الجن لا يستطيع أن يراها الإنسان بالعين المجردة لقوله تعالى: (إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم) الأعراف: 27. والسبب يعود لمسألتين:

- الأولى: لكون حركة الجن والشياطين تتم بسرعة فائقة تعيق الرؤية الطبيعية، بدليل ما ورد في القرآن الكريم بشأن عرش بلقيس لقوله تعالى: (قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين) النمل: 39، وقوله: (قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك): النمل: 40. 

- والثانية: لكون نورانية أجسام الجن باعتبارها كائنات خلقت من نار، أي من مجال الأشعة ما تحت الحمراء التي يستحيل رؤيتها بالعين المجردة إلا إذا اتخذ الجن صورة غير صورته الحقيقية كأن يتمثل في صورة بشرية أو حيوانية، وبالتالي لا يستطيع الإنسان رؤية أطياف الجن التي تتحوّل في الضوء إلى اللون الأبيض اللامرئي. 

فالجلاء البصري الذي وهبه تعالى لنبيه سليمان عليه السلام يتمثل علميا في توّفره على عدد من الخلايا البصرية المخروطية يفوق المعدل الطبيعي عند البشر، أي أكثر بكثير من 6 مليون خلية مخروطية صغيرة تعمل كخلايا مستقبلة للضوء في شبكة العين. والإنسان العادي لا يمكن أن يتوفّر على الجلاء البصري إلا ساعة الموت بحيث يستطيع أن يرى ملائكة الموت وحقائق عالم الملكوت على حقيقتها ببصر من حديد كما أكّد تعالى في الآية 22 من سورة ق.  

الثاني: الجلاء السمعي: أما الجلاء السمعي، فيتمثل في قدرة نبي الله سليمان على سماع أصوات لا يستطيع الإنسان العادي سماعها، كأصوات النمل مثلا، بالإضافة إلى فهم ما يقولون عن طريق قوة البصيرة المسماة أيضا بالسمع الحدسي، ونفس الأمر يقال بالنسبة للغة الطير وغيره من المخلوقات. وهناك تجارب لسماع أصوات من قبل أناس بقدرة خارقة لا يسمعها غيرهم، لكن دون فهم فحواها بخلاف الجلاء السمعي الذي تحدثنا عنه في حالة سليمان عليه السلام والذي يقترن فيه السمع بالفهم. 

والحقيقة أن فقهاء المسلمين حاولوا إثبات قدرة الإنسان العادي على التخاطر حين ربطوا ذلك بشرط تعلّق الشخص بأحد يحبّه حبّا جمّا، فيكون توارد الأفكار والمشاعر بينهما عظيما، لأن "روحيهما" (الصحيح القول نفسيهما) تكونا معلّقتين إحداهما بالأخرى، وهذا هو معنى التشابك الكمي المكتشف في التجارب العلميّة الفيزيائية الأخيرة التي أجريت على المكوّنات ما دون ذرّيّة، والذي لا علاقة له بتخاطر الأرواح لأن الأرواح من أمر الله لا يتحكّم فيها إلا هو سبحانه، بل له علاقة بالأنفس، وبشكل حصري بالأفكار التي تنتقل من عقل إلى عقل أو من قلب إلى قلب أو من فؤاد إلى فؤاد حسب الحالات، ومعلوم أن العقل والقلب والفؤاد هم من مكوّنات النفس، ويعتبر المخّ هو مركز العلم الظاهر الذي يستعمل الحواس الخمسة للفهم، في حين أن القلب هو مركز العلم الباطن الذي يستعمل الحدس لاستقبال الإلهام والرسائل الإشراقيّة التي تأتيه من عوالم خارجيّة، أما الفؤاد فهو موطن الهوى والشهوة والزيغ ومرتع الشيطان.. وبالتالي فالنفس هي غير الروح، لأن النفس هي التي تذوق الموت وتحاسب وتُعذب أو تُنعّم في حين أن الروح لا تذوق الموت ولا تُحاسب لأنّها من روح الله الأقدس وتعني النور الذي هو العلم الإلهي تحديدا، لأنه كلما ذكرت الروح في القرآن الكريم إلا واقترنت بالنور، وكلما ذكر النور إلا واقترن بالعلم الإلهي.

ولقد استند فقهاء المسلمين في محاولتهم لتأصيل التخاطر من القرآن الكريم على قوله تعالى: (الله يتوفّى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمّى إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون) الزمر: 42. ومفاد ذلك، أنه في لحظة النوم، تخرج النفس من الجسد، الأمر الذي جعل النوم يشبه الميتة الصغرى، فقالوا بمقدرة الإنسان من خلال طرائق معينة على التخاطر مع من يفكّر فيهم عن طريق التواصل الذهني، بحيث يبدأ الفرد في الاسترخاء التام، وقبل بلوغ النوم يفكر فيمن يرغب في التواصل معه، ومنذ تلك اللحظة تبدأ التجربة.

أما في الأثر، فيحدثنا التراث عن حادثة فريدة حصلت زمن خلافة عمر بن الخطاب سمّيت في التاريخ الإسلامي بـ "سارية الجبل"، ومفادها أن سارية بن زنيم الدّؤلي الكناني وهو أحد قادة جيوش المسلمين في فتوحات بلاد فارس سنة (645م/ 23هـ) بينما كان يقاتل المشركين على أبواب مدينة نهاوند الإيرانية، تكاثر عليه الأعداء، وفي نفس اليوم، كان الخليفة عمر بن الخطاب يلقي في الناس خطبة الجمعة من على منبر مسجد رسول الله عليه السلام في المدينة، فإذا به، ومن دون أن يشعر، ينادي بأعلى صوته: "يا سارية الجبل، الجبل، الجبل، من استرعى الذئب الغنم فقد ظلم". ولمّا سألوه بعد انتهاء الخطبة عن معنى مثل هذا الكلام قال: "والله ما ألقيت له بالاً، شيءٌ أتى على لساني". ثم ما لبث أن تبيّنت القصّة فيما بعد، حيث قدم سارية على عمر في المدينة فقال: "يا أمير المؤمنين، تكاثر العدوّ على جنود المسلمين وأصبحنا في خطر عظيم، فسمعت صوتا ينادي: "يا سارية الجبل، الجبل، الجبل، من استرعى الذئب الغنم فقد ظلم".، عندئذ التجأت بأصحابي إلى سفح الجبل واتخذت ذروته درءا لنا يحمي مؤخرة الجيش، وواجهنا الفرس من جهة واحدة، فما كانت إلاّ ساعة حتّى فتح الله علينا وانتصرنا عليهم".

والغريب في الأمر أن فقهاء القشور يقولون بتحريم التخاطر والاستبصار في الإسلام لأنهما طرق لاستدعاء الجن والقرين والاستعانة بهما بدل الاستعانة بالله، لكن عند مواجهتهم بحادثة سارية الجبل يقولون إن عمر كان ملهما صادق الظن استنادا إلى حديث نسبوه للنبي عليه السلام، بمعنى أن المكاشفة التي تمّت لعمر كانت من الملأ الأعلى.. (فتأمّل).

وبغض النظر عن صحّة قصّة تخاطر عمر مع سارية الجبل  من عدمها نظرا لما يثار حول المرويات التراثية عموما من شكوك اليوم، فشخصيّا لم أكن أصدّق مثل هذا النوع من الأحداث في بداية دراستي للدين، إلى أن حصلت معي أمورا غريبة تفوق قدرة العقل على التصديق، فعلمت أنها من المكاشفات التي لا تعرف إلا بالتجربة الشخصيّة، وأدركت أنها كرامات من مجال الذوق يخص بها الله تعالى من يشاء من عباده، فتغيّرت منذئذ حياتي، وانقلبت أولوياتي، فلم أعد أهتم بالدنيا الفانية إلا بقدر ما ينفع رحلتي، وتحوّل اهتمامي من زبد العلم الظاهري إلى جواهر المعرفة الباطنية، فأكثرت من بدل الجهد والمجاهدة في العبادة، والمغامرة بلا حدود ولا قيود في بحر المعرفة، أتسكّع مُنتشيا في بحر بلا شاطئ من ظلال المعاني، أغترف منه في كل مرّة كأسا من شراب طهور، كلّما شربت منه إلا وازداد شغفي للعلم طلبا لنشوة الثّمالة بلذّة الحقائق.. 

وظللت على هذه الحال منهمكا في تدبّر القرآن عدد سنين تزيد قليلا عن عمر دعوة الرسول الخاتم عليه السلام.. إلى أن فهمت أن المعرفة هي أسمى من العلم، ذلك أن العلم في متناول الجميع فيما المعرفة يخص بها الله تعالى من يشاء من عباده، وأدركت معنى أن الزمان مكان سائل في حين أن المكان زمان متجمّد كما يقول محيي الدين ابن عربي.. وتذوّقت بطعم المُجاهدة ما عناه الحلاج شهيد العشق الإلهي قبل صلبه وقطع أطرافه بقوله: "ركعتان في العشق لا يصحّ وضوؤهما إلاّ بالدّم".. وانقدت متحمّسا وراء دعوة مولانا جلال الدين الرومي وهو يناجي ساقيه بخمر محبة الله مناديا بقوله: "يا إسرافيل قيامة العشق".. وعرفت معنى قول حافظ الشيرازي وهو يصرخ بأعلى ذبذبات أوثار قلبه قائلا: "وشارب الخمر الذي لا رياء فيه ولا نفاق.. خير من بائع الزهد الذي يكون فيه الرياء وضعف الأخلاق".. وأدركت أخيرا ما قصده الإمام عليّ كرّم الله ودهه بقوله: "وتحسب أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر".. وخلصت إلى أن سرّ الأسرار واللّغز الخفيّ يكمن في معرفة الطريق الصحيح الذي إذا قطعه العاشق تحوّل بقدرة قادر إلى كائن خالد من بين كل طرق الحقيقة التي هي بعدد أنفاس الخلائق.. وأن هذا النوع من المعرفة الوجودية هو الذي يُتوّج بالكرامات التي هي عبارة عن أنفاس علويّة تُحرّك أشرعة مركب المسافر في بحر بلا شاطئ. 

يتبـــع...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق