بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 18 أبريل 2019

الوجود بين الوحدة والثنائية (4/4)


كيف عرفت الله من القرآن؟ ...

بعد أن تناولنا بتفصيل قضية "الوجود بين الوحدة والثنائية" في الأجزاء الثلاثة السابقة، ووقفنا على ما أثارته هذه النظرية من خلاف حاد بين الفكر السلفي الظاهري والفكر الصوفي الباطني وصل حد التراشق بالتكفير، بقي أن نشير باقتضاب إلى فئة ثالثة تناولت هذا الموضوع سواء في المجال الميتافيزيقي أو المجال المعرفي، ويتعلق الأمر بالفلاسفة. واللافت للنظر أن هذه الفئة من المفكرين وإن كانوا يبنون مقولاتهم على أساس من برهان، فلا يقبلون ما لا يقاس بالاستقراء العقلي، وما لا يدرك بالاستدلال المنطقي، إلا أنهم عند الحديث عن الله يتحولون إمّا إلى مؤمنين إيمان تسليم استنادا إلى ما قاله الصوفية عن الكائن الأعظم بسبب عجز العقل عن إدراكه، وهو ما جعل ديكارت يقول "إن حقيقة وجود الله عندي أوثق من المعادلات الرياضية"، أو إلى ملحدين ماديين منكرين ومكابرين يعتبرون أن الطبيعة هي أصل الوجود وعلّة كل موجود.../...

وخلاصة القول، أن لا أحد في هذا العالم يملك تصورا واضحا عن ماهية الله بحيث يمكن أن يشير إليه ويقول "هذا هو الله" ،لأن الأحدية تلغيه كما يقول ابن عربي، ويستحيل أن يتصورها إنسان في شموليتها، ما دام الإنسان ينطلق في بحثه من اعتقاده بأنموذج "الأنا المفكر" و "أنا أفكر إذن أنا موجود"، وهو النموذج الذي لا يتحقق إلا من خلال فكرة وجود "الآخر" المختلف التي تلعب دور تحديد وترسيخ بنية الذات، وينطبق ذلك على مقولة "الله والإنسان" بمفهوم الثنائية.

وإذا كان الصوفية يقولون أن لا أحد يعرف الله إلا الله، ويتحفظون عن البوح بسر الأسرار أو اللغز الخفي للعامة لدرجة أن بعضهم اعتبر هذا البوح شطحا وكفرا لا يجوز لما يمكن أن يجلبه على الصوفي من كوارث كما حدث للحلاج وغيره، فإن أقصى ما يمكن للإنسان معرفته هو حقيقة وطبيعة هذه الأحدية الدالة على الله والمتمثلة في الوجود كله من عرشه إلى فرشه، المعبر عنها بالواحد الكثير والكثير الواحد استنادا إلى قوله تعالى لرسوله الكريم (فاعلم أنه لا إله إلا الله) محمد: 19. وهذا العلم وفق الفكر الصوفي لا يمكن أن يصل درجة اليقين إلا إذا ألغى الإنسان وجوده وآمن بأن لا وجود في هذا الوجود إلا لله الواجب الوجود، وأن ما سواه وهم.

أمام هذه المعضلة، لا مناص من الرجوع إلى القرآن الكريم لتفكيك ما اصطلح على تسميته في القاموس الصوفي باللغز الخفي أو سر الأسرار، وذلك من خلال استنطاق الآيات التي عرّف بها الله تعالى نفسه، مرة بصريح العبارة، ومرات بلغة الرمز والإشارة.

منهجية البحث
سننطلق في سعينا هذا من مقولة الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم الذي قال: (إن القرآن يفسر بعضه بعضا)، دون الاعتماد على غيره من النصوص والمرويات، مستندين في ذلك إلى المنهجية التي حددها تعالى لعباده كسبيل قويم لفهم خطابه، وذلك من خلال قاعدتين أساسيتين:
- القاعدة الأولى: وجوب تأويل النص انطلاقا من المحكم لفهم المتشابه بدل العكس كما فعل فقهاء الظاهر فسقطوا في التجسيم وتقوّلوا على الله ما لا يجوز، لقوله تعالى: (هو الذي انزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هنّ أم الكتاب وأخر متشابهات) آل عمران: 7. وما يؤكد متانة هذه القاعدة الذهبية في التدرج من العام إلى الخاص، ومن الشمولي إلى الجزئي، قوله تعالى: (ألر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير) هود: 1. ما يعني أن الخطاب الإلهي يحتوي على أصول الحقائق وفروع المعارف، وهذه تعود جميعها إلى المنبع الأول الذي صدرت عنه، أي إلى صاحب الخطاب الذي هو الله، وبالتالي، يقتضي الفهم السليم لمراد الله من خطابه معرفته انطلاقا من الجواب على سؤال "من هو الله؟، لأنه المطلب الوحيد الذي يجب التركيز عليه في جميع تفاصيل المعاني القرآنية على ما بها من تركيب وتعقيد مرده استعمال الله لمختلف أدوات اللغة البشرية من مجاز وتشبيه وكناية وما إلى ذلك من أدوات اللغة.
- القاعدة الثانية: وجوب الانطلاق من مقدمة سليمة للوصول إلى نتيجة صحيحة عبر المرور من الظاهر لولوج الباطن لقوله تعالى: (هو الأول والآخر والظاهر والباطن) الحديد: 3. وذلك لرفع التناقض الذي يثار بين ظاهر الآيات وبعض الأفكار الخاطئة التي تكونت لدى الناس عن ماهية الله تعالى من منطلق تفاسير الفقهاء المستمدة من تراث التجسيد كما وضعه اليهود قديما استنادا لحديث منسوب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (خذوا عن بني إسرائيل ولا حرج) بعد أن كان قد نهى عن ذلك. وليس غريبا أن يتشابه موقف المجسمة من أهل النقل مع موقف بنو إسرائيل الذين كانوا أول من جسد فكرة الإله، وطلبوا رؤيته بالعين المجردة. وفي هذا الصدد يقول "ويل ديورانت" في كتابه (قصة الحضارة: 240/2) ما مفاده: "لم يكن للأمم القديمة إله آدمي في كل شيء كإله اليهود".
أما "التأويل" الذي هو بخلاف "التفسير" الذي يهتم بشرح المعنى اللغوي لظاهر العبارة، فالمقصود به (أي التأويل) إرجاع الشيء إلى "أوّله" لمعرفة مصدره والعنوان الأصلي الذي يندرج فيه، وهو من المصطلحات المختلف عليها في علوم الدين عند المسلمين. ففي الوقت الذي يرفض أهل النقل اعتماده ويتقيدون بالمعنى الحرفي الذي تعطيه ظاهر العبارة القرآنية، يرى أهل العقل أن لا مناص من اعتماد آليات التأويل لفهم المراد الحقيقي من كلام الله، لأنه السبيل الوحيد لفهمه على الوجه الصحيح لما تضمنه من رموز وإشارات جعلها الله علامات يهتدي بها الإنسان في رحلته المعرفية، وذلك انطلاقا من حقيقة تقول، أن دلالة خطاب المتكلم لها ظهور محسوس في عالم الشهادة ومعنى محجوب في عالم الغيب، أي أن الخطاب يمثل الظاهر في ما الحقيقة تكمن في في عالم الباطن، والتأويل هو الأداة اللغوية المتاحة لمعرفة مراد المتكلم على الوجه الصحيح عبر المرور من بوابة الظاهر للوصول إلى عالم الباطن، ومصداق ما يتوصل إليه الباحث من دلالة يكون له مدلول يؤكده أو ينفيه الواقع، ما دام الخطاب القرآني هو كتاب مسطور في رق منشور، وبالتالي فما حواه هذا الكون المسطور أوجده الله مدونا في رق منشور.
ذلك، أن الآيات المحكمات لا تحتمل وجود التشابه الذي سقط في فخه ما يسمى بـ"علم التفسير"، بحيث قسّم الله تعالى كتابه إلى قسمي المحكم الذي هو الأصل المستمد من أم الكتاب حيث يوجد جوهر المعنى الذي لا يقبل التشبيه، والمتشابه الذي تتولد منه معاني يؤدي اتباع ما تعطيه من فهم ظاهري إلى سوء تقدير الواقع، وبالتالي، التأثير السلبي على فهم الناس لدينهم وانعكاسه رأسا على ممارساتهم كما حدث في التراث اليهودي والمسيحي ولم يسلم منه التراث الإسلامي أيضا.
وعلى هذا الأساس، فكل من انطلق من المحكم في تأويل المتشابه - أي رد مدلول المتشابه إلى أصل معناه الأول - سيصل إلى نتيجة صحيحة وفهم سليم، والعكس يؤدي إلى الاختلاف الذي يؤدي بدوره إلى الخلاف، وهذا هو مصدر الفتنة وأصل كل الصراعات الدينية التي عرفها تاريخ الفكر الإسلامي، فتفرقت بسببه الأمة إلى طوائف ومذاهب ومدارسة وتيارات وجماعات وملل ونحل ولّدت حروب ومآسي بين أبناء الدين الواحد، لقوله تعالى (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هنّ أمّ الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربّنا وما يذكّر إلاّ أولوا الألباب) آل عمران: 7. ومعلوم أن جوهر المعضلة كان ولا يزال يكمن في عدم وضوح رؤية المسلمين لماهية الله، لأن من شأن وضوح هذه الرؤية أن يغير فهمهم للدين والدنيا معا، وينعكس على تصرفاتهم بشكل جليّ،ذلك أن معرفة المتكلم شرط لفهم المراد من خطابه.
والآن لنحاول تطبيق هذه المنهجية لمعرفة (من هو الله تعالى؟) انطلاقا مما يقوله هو عن نفسه في قرآنه، لأن من شأن النتيجة التي سنتوصل إليها أن تغيّر من فهمنا لأمور كثيرة كنا نعتقد أنها صحيحة وهي ليست كذلك، وقياسا على ذلك نستطيع الحكم بشكل منطقي على مجمل ما ورد في تفاسير السلف وغربلتها من العجائبي والغرائبي الذي اعتمدته في شرح العديد من آيات القرآن بما لا يتناسب مع الحقائق الإلهية لقوله تعالى (وبالحق أنزلناه وبالحق نزل) الإسراء: 105.

من حيث المحكم..
يقول تعالى في تعريف نفسه بصريح العبارة (الله نور السماوات والأرض) النور: 35. هذا التعريف برغم وضوحه إلا أنه يطرح إشكاليتين، إشكالية استحالة رؤيته (أي النور)، وإشكالية استحالة معرفته معرفة حقيقية شاملة (أي كنه ذاته).
ويلاحظ من خلال عملية التنقيب في القرآن الكريم، أن الاسم "النور" لأهميته ورد كعنوان لسورة (النور)، في حين أنه تردد مستقلا في 39 آية لامست سياقات مختلفة، لكن ليس بينها سياق واحد يفيد أن " النور" هو مخلوق من مخلوقات الله تعالى وهنا يكم السرّ الخفيّ. والعجيب، أن هذا الاسم جاء بمعنى اسم الله الأعظم، ولم يرد كصفة من صفاته بالمطلق، ما يؤكد أن الآية التي انطلقنا منها في هذا المبحث هي من المحكمات قولا واحدا.
هذا في حين عرّف الله تعالى "النور" كصفة بالنسبة للكتب السماوية (التوراة والإنجيل والقرآن) باعتبارها كلامه، أي النور الذي يشع من نور الأنوار الذي هو عين ذاته. كما جاءت كصفة كذلك كناية عن نور الله الذي أودعه تعالى في النجوم والأجرام والكواكب، وبصفة استثنائية خص بها رسوله الكريم محمد صلى الله عليه وآله وسلم، حيث وصفه بـ"السراج المنير"، أي المصباح المشع بنور ربه، وهو وصف لم ينله أحد من الأنبياء أو الرسل من قبل عليهم السلام جميعا. من هنا نفهم معنى قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في دعائه: "ربي اجعلني نورا"، بعد أن كان يقول من قبل: "ربي اجعل لي نورا".. وبالتالي، نحن هنا أمام مجموعة من الأوصاف التي وردت بعدد من الآيات المتشابهة التي لا يمكن فهم معناها الحقيقي إلا بإعادتها إلى أصلها المحكم الوارد في الآية 35 من سورة النور، والذي يفيد أن الله هو النور الأعظم ومصدر كل الأنوار، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم حين سُئل بعد عودته من معراجه إن كان قد رأى ربه في سدرة المنتهى، فقال: (نور أنّى أراه؟).
ومن المؤسف أن التراث قد أغفل التركيز على هذه الحقيقة الفريدة والفارقة في تاريخ المعرفة، بحيث لم تحظى بما تستحقه من بحث كان من شأن نتائجه أن تغير نظرة المسلم لنفسه وللعالم وللآخر المختلف عنه إلى الأبد، ولو فعل المسلمون ذلك لما كان هناك اليوم من حديث عن تعارض بين الدين والعلم أو بين العقل والإيمان.
من حيث المتشابه..
- يقول تعالى عن نفسه: (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار) الأنعام: 103، ويشار إلى أن هذه الآية تحديدا، أثارت جدلا واسعا بين المعتزلة والأشاعرة زمن "علم الكلام"، حيث اختلفوا حول تعريف "الإدراك" إن كان يعني "الرؤية" أم "اللّحوق" (أدركه بمعنى لحق به كقوله تعالى: "حتى إذا أدركه الغرق" أي لحق به)، وهو ما كان يتحجّج به الأشاعرة في حين كان المعتزلة يرفضون هذا التفسير ويقولون إن الإدراك إذا قُرن بالبصر أفاد ما تفيده رؤية البصر دون سواها من اللحوق أو الإحاطة.
وكان مسلك المعتزلة كما الأشاعرة يقوم في تأكيد أفكارهم عن الله تعالى على أساس التفرقة بين المحكم والمتشابه كما أسلفنا، وهي طريقة سليمة من حيث المنهج، لكن المعضلة تمثلت في الخلط بين المحكم والمتشابه لصعوبة التفريق بينهما، فما كان يعتبره المعتزلة محكما لتأييد وجهة نظرهم كان يعتبره الأشاعرة متشابها والعكس صحيح أيضا. ومرد ذلك أن الحقيقة لم تكن همهما بقدر ما كان كل فريق يسعى لتاييد وجهة نظره التي تخدم أهدافه فيبحث لها من دليل في القرآن لدعهم موقفه. وكان سلاح كل منهما هو قواعد اللغة والبلاغة، ولم يصل الفريقان إلى نتيجة متفق عليها حول مسألة رؤية الله يوم القيامة التي كان ينكرها المعتزلة ويؤكدها الأشاعرة. هذا في حين لو كان المعتزلة انطلقوا من المحكم الذي انطلقنا منه في هذا المبحث (الله نور السماوات والأرض) بتجرد بعيدا عن الإديولوجيا السياسية، ودعموا أطروحتهم برد الآيات المتشابهة كلها إلى هذا الأصل المحكم لانتصروا لرؤيتهم على الأشاعرة بالضربة القاضية، لكنهم انطلقوا من متشابه يقول (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار) فاعتبروه محكما، فضاعت الحقيقة في بحر الكلام تتقاذفها أمواج التأويل إلى لا شاطئ.
أما الصوفية الذي كانوا يدركون الحقيقة ويرفضون البوح بها من باب التقية خوفا من سيف التكفير، فقد اعتبروا النور مرادفا للوجود، لأن الله وإن كان لم يذكر مصطلح "الوجود" في القرآن الكريم بمعناه الأنطولوجي، إلا أنه ذكر بدله اسم "النور" باعتباره هو عين الوجود وسرّه الأول والآخر والظاهر والباطن لقوله تعالى: (هو الأول والآخر والظاهر والباطن)، وهذا يعني أن أول الموجودات خلقت من النور الأول بفضل الطاقة الهائلة التي يُولّدها فيُحوّل الأجسام من شكل إلى شكل إلى ما لا نهاية، دون أن تفنى هذه الأجسام أو تندثر في العدم، ليظل النور هو آخر من يتحكّم فيها، وبهذا المعنى فالنور هو الأول الذي بدأ الخلق به والآخر الذي سيعيده في خلق جديد يوم المعاد لقوله تعالى (أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد) ق: 15.

ومن طبيعة النور كما هو معلوم، أنه ظاهر يؤمن الجميع حكما بوجوده دون القدرة على رؤيته بالعين المجردة لاستحالة ذلك عمليّا، وهو الباطن المحجوب بسبب استحالة إدراك مصدره وجوهره.. وهنا يكمن سر الأسرار أو اللغز الخفي، وفي هذا يستوى المؤمن وغير المؤمن لأن لا أحد يستطيع نكران وجود النور الذي هو سر الوجود وعلّة كل موجود، والكافر بالمعنى اللغوي والاصطلاحي هو من يستر هذه الحقيقة برغم إدراكه لوجودها واستحالة العيش من دونها.
ويكون دليل ذلك من الآيات المتشابهات العديدة التي تشرح ماهية الله تعالى كالتالي:
- يقول الحق سبحانه: (هو معكم أينما كنتم) الحديد: 4، هذه الآية اقترنت بخلق السماوات والأرض في ستة أيام واستواء الله على العرش، ومعلوم أن هذا الخلق وفق ما تؤكده نظرية الانفجار العظيم قد تم بطاقة نووية هائلة لا نظير لها، وهو ما يؤكده القرآن بقوله: (أو لم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون) ألأنبياء: 30، وبث فيها نجوما وكواكب وأجرام ومخلوقات يستطيع الله جمعها إذا يشاء، ما يؤكد وجود حيوات غير الحياة التي نعرفها على الأرض لقوله تعالى: (ومن آياته خلق السماوات والأرض وما بث فيهما من دابة وهو على جمعهم إذا يشاء قدير) الشورى: 29.
والبث لغة هو إلقاء الشيء ونثره على نطاق واسع في كل الجهات مثل إلقاء البذور في الحقل، واصطلاحا يعني التناثر والانتشار الواسع الذي يخلفه الانفجار. وبالتالي، فانفجار النور عمّ الكون فأشرقت السماوات والأرض بنور ربها حين خرجت من العدم إلى الوجود ومن الظلمة إلى النور فأصبحت مرئية نلحظها، ورافق هذا النور الإنسان بعد خلقه أطوارا في كل زمان ومكان ليكون بصيرا وشاهدا على ما يُعمل في السر والعلن، وما يلفظ من قول إلا ولديه رقيب عتيد في إشارة إلى المتلقيان اللذان هما ملكان من نور في جين البشر قاعدين له عن اليمين وعن الشمال يحصون كل كبيرة وصغيرة يفعلها بما في ذلك ما توسوس به نفسه، وهذا هو معنى قوله تعالى (ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) ق: 16. ما يؤكد أن النور يتخللنا كما يتخلل الخمر الماء فيصبح شيئا واحدا، ولذلك سمى الله تعالى نبيه إبراهيم خليلا، وقال الرسول محمد صلى الله عليه وسلم أن الخلة لا تصح بين البشر بل فقط مع الله، وأوضح أنه لو كان متخذا أحدا خليلا لاتخذت أبو بكر خليلا.
وواضح أنه إذا أرجعنا الآيتين المتشابهتين أعلاه إلى الآية المحكمة التي انطلقنا منها في هذا المبحث (آية 35 من سورة النور)، لأدركنا بسهولة ويسر أن الأمر يتعلق بالنور الذي هو معنا أينما كنا وأقرب إلينا من حبل الوريد، ذلك أن لا شيء موجود في هذا الوجود إلا النور، ومن دون نور يستحيل أن يوجد في الوجود موجود على الإطلاق، بل يستحيل أن يكون ما نعتقد أنه "وجود" موجود أصلا، ولظل الحال كما كان في العدم قبل أن يقرر الله تعالى خلق العالم والإنسان بقوة نوره الذاتية.
وتجدر الإشارة بالمناسبة إلى أن القرآن نفسه، شأنه في ذلك شأن الكتب السماوية السابقة، لم يتحدث عن موضوع الذات الإلهية إلا باستعمال المجاز لتقريب المعنى إلى الأذهان، كقوله تعالى: (الرحمن على العرش استوي)، ومثل هذا القول وغيره الذي قد يوحي من حيث ظاهر المعنى، أن لله ذاتا استوى بها على العرش كما يستوي الملك على عرشه سبحانه وتعالى عما يصف الجاهلون. لأن مثل هذا الفهم الظاهر لبعض آيات القرآن الكريم هو الذي شجع فقهاء الرسوم والمجسمة للقول بأن لله صورة يمكن للمؤمن أن يراه بها يوم القيامة.  لكن، ونظرا للصعوبات التي تواجه عادة التعبير عن مثل هذه القضايا، بسبب محدودية اللغة البشرية من جهة، والقيود والضوابط التي وضعها حراس العقيدة على حرية التفكير، مخافة انزلاق الأتباع إلى هوامش الزندقة والتكفير من جهة أخري..  نجد إماما كبيرا بحجم مالك بن أنس، عندما سُئل عن معنى "الاستواء" الذي ورد في الآية السالفة الذكر، وهل كان هذا الاستواء بالذات؟  أجاب رحمه الله بالقول: "الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة".  هكذا حسم مالك الأمر، واعتبر السؤال عن قضية قرآنية تخبر عن فعل من أفعال الله تعالى بدعة، والله سبحانه يحثنا على الإيمان به إيمان اليقين الذي لا يرقى إليه الشك من قريب أو بعيد.  فكيف يمكن أن يحصل مثل هذا الإيمان من دون معرفته، وفهم ما يخبرنا عنه في قرآنه فهما صحيحا يسلم به العقل ويطمئن له القلب؟ ما دامت معرفته تعالى هي الغاية التي من أجلها نعبده، ونسلك الطريق إليه الذي ينتهي بالموت والطريق وفيه بلا نهاية لأنه طريق المعرفة بلا حدود ولا قيود، بحكم أول أمر تكليفي صدر لنا من الخالق في أول آية من أول سورة نزلت من القرآن الكريم: (اقرأ)، في إحالة واضحة إلى قراءة ما أوحاه لنا المعلم الأول الذي خلق الإنسان وعلمه بالقلم، علمه ما لم يعلم من حقائق وأمره بالقول )وقل ربي زدني علما).

وبالمناسبة، نحن لا نلوم الإمام مالك لعدم قدرته على تقريب معنى الاستواء إلى عقول العامة، لاستحالة ذلك من جهتين. الأولى: أن مالك رجل فقيه وليس فيلسوفا يمتلك من الشجاعة والأدوات المنهجية ما يُمكّنه من إخضاع المسألة إلى السؤال العقلي بأدوات المنطق. والثانية: أنه ليس بصوفي يسعى بالمجاهدة القلبية إلى معرفة الحقيقة عن طريق الكشف. ذلك، أن وظيفة الفقيه تقتصر على التعامل مع الأحكام الشرعية التي تخدم حاجة المجتمع من الدين، وتتجنب الخوض في الرؤية الفلسفية أو الصوفية من خلال سؤال الفهم وهمّ المعرفة.. فمفهوم الدين في حد ذاته ليس سواء عند الخاصة والعامة، لأن ما يخاطب به العامة في أمور الشريعة هو غير ما يخاطب به الخاصة في أمور التوحيد كما يجمع على ذلك الفلاسفة والصوفية. وبذلك تتحول الكثير من المعاني القرآنية التي تعتبر حقيقة عند العامة إلى مجاز عند الخاصة، وعلم الكلام يطفح بمثل هذا النوع من الجدل حول المحكم والمتشابه والحقيقة والمجاز... وعلى هذا تُقاس قضية الأعضاء والصفات التي وردت في القرآن عن ذات الله تعالى وأفعاله.. ولذلك قال الغزالي في كتابه (مشكاة الأنوار – ص:1) ما نصه: "ليس كل سرّ يُكشف ويُفشي، ولا كل حقيقة تُعرض وتُجلى.. بل صدور الأحرار قبور الأسرار، ولقد قال بعض العارفين: إفشاء سر الربوبية للعامة كفر".

لكن ما نأخذه على الإمام مالك كفقيه مجتهد في حدود علمه وإدراكه، أنه لم يُؤوّل "العرش" بمعني "الحاكمية" في الوجود كله عن طريق بسط "الأمر" الذي ورد مرتين في نفس الآية من باب تأكيد المعنى المقصود، خصوصا وأن من أسماء الله العظمى وفق ما ورد في التوراة من معنى لاسم الله "يهوه"، وأكده تعالى في آية الكرسي (البقرة: 255) التي يعظمها المسلوم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم هي (الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم). والحي هو الكائن الدائم الذي لا يغفل عن شؤون ملكه طرفة عين، فيما القيوم هو القائم على شؤون ملكه في كل وقت دون انقطاع ودون حاجة لمن ينوب عنه في ذلك وفق ما يعطيه معنى الاستواء على العرش بعد خلق السماوات والأرض.. 

ومعنى المعنى، أن الاستواء ببساطة شديدة هو إحاطة الله بملكه، وبسط حكمه النافذ في خلقه، وأمره المطلق على كل الكائنات في الوجود، وهذا ما تعطيه طبيعة النور وقدرته على الإحاطة بكل شيئ ظاهرا كان أن باطنا. وقد تمت هذه الإحاطة مباشرة بعد عملية الخلق التي تمت في ستة أيام كما يذكر القرآن: (إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين) الأعراف: 54.  وباستعماله تعالى لكلمتا (الخلق) و (الأمر) مرتين في نفس الآية، يكون قد أوضح بجلاء أن (الخلق والأمر) معا، هما من اختصاصه ويعودان إليه دون سواه، واللافت في الآية الكريمة، هو الحديث في جانب "الخلق" عن الليل الذي يغشى النهار ويطلبه حثيثا، والشمس والقمر والنجوم المنيرة، وهي جميعها مخلوقة من نور الأنوار وتستمد الطاقة التي تحركها من نور ربها، فتكون بالتالي مسخرة بأمر الله، أي بحكم النور الأول وسلطانه من حيث أن الله سبحانه وتعالى هو نور السماوات والأرض ومصدر كل الأنوار التي ظهر الوجود بها وأصبحنا نلحظه بعد أن كان باطنا مخفيا قبل الخلق، لأنه من خلال هذه الأنوار الوهاجة منها والمضيئة واللطيفة التي لا تدرك بالعين المجردة أصبحت قدرة الله نافذة في كل شيء، من أكبر الكواكب والأجرام السماوية إلى أصغر الخلايا والجزيئات الفائقة الدقة، تحركها وتمدها بالحياة.  

ويتسالوق هذا المعنى في مستوى الخلق مع قوله تعالى (وكان عرشه على الماء) هود: 7. وهذه الآية مرتبطة بخلق السماوات والأرض، ولا تفسير علمي لهذا القول إلا بالعودة إلى طبيعة الماء نفسها المكونة من الأكسجين والهيدروجين (H2O)، أي أن عرش الله (بمعنى أمره) كان على هاتين المادتين لإحداث الانفجار الأول وتوفير الظروف الملائمة لتطور للحياة، لذلك قال تعالى (وجعلنا من الماء كل شيئ حي) الأنبياء: 30. 

 فالنور باعتباره طاقة كامنة في كل شيء ومحيطة بكل شيء، أي قوة قاهرة وحياة أبدية دائمة، هو المعنى المحوري الباطن الذي تدور حوله كل مفردات الآية الكريمة. ومن هنا يمكن فهم معنى الاستواء الذي اعتبر الإمام مالك السؤال عنه "بدعة" وفق رأيه فيما أنه لو كان قد فهم "العرش" بمعنى الحكم أو "الأمر" بالتعبير القرآني، لما استشكل عليه المعنى واعتبره بدعة لتغطية عجزه. لأن مثل هذا القول من إمام بوزن مالك، يخيف المؤمنين خاصة، ويشل قدرتهم عن التفكير الحر بهدف المعرفة، ضدا في سؤال الله الاستنكاري الذي يحثنا بقوة على قراءة القرآن قراءة فهم عميق وتدبر دقيق لقوله تعالى: (أفلا يتدبرون القرآن أم علي قلوب أقفالها) محمد: 24. 

كما أننا نعلم أن كلام الله، من حيث أنه خطاب عام موجه للناس كافة، يستعمل اللغة البشرية المتداولة لتقريب فهم الوحي الذي هو عبارة عن رموز وعلامات كما سبقت الإشارة.. وبالتالي، يستحيل الحديث عن معنى واحد ووحيد تحمله الآيات القرآنية التي نزلت باللغة البشرية القاصرة التي هي مجرد ترجمة للرموز والعلامات الإلهية اللامتناهية، هذا بالإضافة إلى أن كل شرح أو تفسير للقرآن الكريم لا يمكن أن يحيط بمعاني الحقائق كافة، والتي أراد الله إيصالها لعباده كل حسب مستوى علمه واجتهاده. وهو ما يلاحظ من خلال تنوع الأسلوب وغنى الألفاظ، وتعدد المخاطبين، واختلاف المواضيع والسياقات.. وهذا هو السبب الذي جعل من القرآن الكريم نص حي مفتوح صالح لكل مكان وزمان، وجعل من كل تفسير مجرد ترجمة للمعاني التي وصل إليها فهم المفسر لكلام الله. ولهذا السبب أيضا، نجد أن كل آية من آيات القرآن الكريم - وفق حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي رواه الإمام عليّ كرّم الله وجهه، تحمل أربع مستويات من المعاني: (ظاهر وباطن وحد ومطلع) ولكل باطن سبع أبطن إلى سبعين بطنا كما يقول أئمة الشيعة. 

فطبيعي إذن والحالة هذه، أن يختلف الفهم وفق اختلاف مستوى المتلقي، والأمثلة على ذلك أكثر من أن تُحصى... فمن الناس مثلا، من يرى في الشمس الكوكب الذري العظيم. ومنهم من يري فيها النار والزمهرير والحرور. ومنهم من يري فيها وسيلة لحساب الأيام والشهور والأعوام. ومنهم من يري فيها النور الذي يشرق على الكائنات فيملأ الكون دفئا وجمالا، ويستمد القمر منها بهائه وضيائه. ومنهم من يري فيها دليلا على النهار وفرصة للسعي والكسب. ومنهم من يري فيها ألوان الحياة وسر أشكال الكائنات وعلة تطور الأحياء...  والله سبحانه يؤكد حقيقة هذا الاختلاف في الفهم بحسب درجات العلم، وذلك من خلال آيات كثيرة منها قوله تعالى: (نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم) يوسف: 76. ويستدل الغزالي على مثل هذا النوع من اختلاف مستويات الخطاب القرآني بقوله: "يقول تعالى: (ادع الي سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة.. وجادلهم بالتي هي أحسن) النحل: 125. فعلم أن المدعو إلى الله بالحكمة قوم.. وبالموعظة قوم.. وبالمجادلة قوم.. فان الحكمة إن دُعي بها أهل الموعظة أضرت بهم كما تضر بالطفل الرضيع لحم الطير.. وان المجادلة إن استعملت مع أهل الحكمة اشمأزوا منها كما يشمئز طبع الرجل القوي من الارتضاع بلبن الآدمي.. وان من استعمل الجدل من أهل الجدل، لا بالطريق الأحسن كما تعلّم من القرآن، كان كمن غذّى البدوي بخبز البر وهو لم يألف إلا التمر..." (القسطاس المستقيم – ص: 76).

لذلك، ومن باب تبسيط المعنى وتقريب الفهم العام بواسطة التشبيه والمجاز، أشار تعالى في بعض آياته إلى أسماء بعض الأعضاء الجسدية التي تحيل على مفهوم الذات.. منها مثلا: (خلقت بيدي) أو (يد الله فوق أيديهم) أو (يوم يكشف عن ساق) أو (هو السميع البصير) وغيرها كثير منها قضية الاستواء على العرش...  وهي صفات كلها ترتبط بضرورة وجود الذات من دون أن تفصح عن طبيعتها الحقيقية، لكن اختلاف تصورات الناس لذات الله وارتباطها بالمحسوس هي التي تقف وراء قبولهم ببعض التفسيرات الخاطئة التي تطرح عن الله من قبل فقهاء القشور.
-  ويقول تعالى: (ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا وجوهكم فتم وجه الله إن الله واسع عليم) البقرة: 115. هذه الآية تحيلنا أيضا على مفهوم النور المتواجد بكل مكان وفي كل اتجاه من دون تحديد، لا بمشرق ولا بمغرب، ولا ببداية أو نهاية، ولا بقدرة على رؤيته بالرغم من قناعتنا البديهية بوجوده ما دام لا أحد يستطيع أن يرى النور أو ينكره، هذا مستحيل. وهذا هو المعنى الدقيق لقول الصوفية: إن الله هو الأول من دون بداية والآخر من غير نهاية والظاهر من دون حضور والباطن من دون غياب، وهو ما يعطيه أيضا المعنى الحقيقي لشهادة "لا إله إلا الله" (التي هي تأكيد بعد نفي)، أو إن شأت قلت "لا نور إلا نور الله" الذي هو عين الوجود ولغزه الخفي وسرّه الأعظم.
- ويقول تعالى: (كل شيء هالك إلا وجهه)، بمعني أنه هالك الآن وليس بعد حين بمقياس الأمد اللامتناهي، حيث لا وجود للزمن بالمفهوم النسبي البشري، والهلاك هنا لا يطال وجه الله الذي هو النور الفاعل في كل شيئ لا يتبدل ولا يتغير كما هو حال المادة. وهذا هو معنى أن الله كل يوم هو في شأن وكل يوم هو في خلق جديد.. أي أن الله سبحانه يخلق كل يوم جديدا بنفسه من نفسه ولنفسه لا معه ولا من خارجه، لأن الاعتقاد بوجود شيئ معه أو من خارجه هو عين الشرك بالمفهوم الغليظ كما أشرنا مرارا إلى ذلك، لأنك لو قلت أن المادة هي غير النور الذي هو الله فقد أشركت به، لأنك افترضت وجود مادة من خارج الله صنع منها هذا الكون والإنسان، في حين أن كل ما هو موجود في الوجود من عرشه إلى فرشه مخلوق من النور الواجب الوجود دون سواه.
- ويقول تعالى: (ليس كمثله شيء)، هذه الآية تفصح لنا عن المعني الحقيقي لكلمة التوحيد "لا إله إلا الله"، وتؤكد أن لا شيئ موجود في هذا الوجود الواسع بلا حدود غير النور الذي لا يشبهه شيئ في الوجود، لأنه القوة القاهرة التي تُخرج المخلوقات من العدم إلى الوجود، أي من الظلمة إلى النور فتُظهرها لنا لنتعرّف عليها بعد أن لم تكن شيئا معلوما، ولولا ملاحظتنا للموجودات لما عرفت.. والله الذي يلاحظ كل شيء في الوجود (هو بكل شيء بصير)، خلق الخلق ليُعرف فيُعبد لقوله تعالى (وما خلت الجن والإنس إلا ليعبدون) الذاريات: 56. وهذا الخلق لا يجعل منهم كيانات لها وجود مستقل إلا من حيث الظاهر أما في الحقيقة فالكثرة وهم. لذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (كان الله ولا شيء معه)، وعندما سئل كيف هو الآن، قال: (هو الآن كما كان لا يزال)، فإذا فسرت حديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بكلمة "النور" فهمت القصد من كلامه على حقيقته، وعرفت أن الله كان قبل الخلق نورا ولا شيئ معه، وعندما خلق العالم والإنسان لم يتغير شيئ في ملكه لأنه كما كان لا يزال ولا وجود لشيئ سواه، وما حدث أنه كان ظاهرا لنفسه قبل الخلق ثم أصبح باطنا بظهور المخلوقات.
وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم المذكور أعلاه يحيلنا على كلمة (كن)، أو بعبارة أخرى وفق ما ورد في الإنجيل (في البدء كان الكلمة) ولم يقل (في البدء كانت الكلمة) لما بينهما من اختلاف في المعنى بين الكلمة الدالة على الله والكلمة الدالة على الخلق، أي بين كان وكانت. وبالتالي، فكلمة (كن فيكون) وفق ما يفهم من القرآن الكريم هي بكر كل خليقة، فهي أول شيئ يبتدئ الله به عند إرادته إيجاد الخليقة. وبالتالي، نحن أمام كلمة أزلية بها يحيي وبها يميت، وبها يخلق وبها يهلك وبها يُنفّذ أمره لتكون إرادته ومشيئته وفق رؤيته للخلق والحق، وهي سر الألوهية المتمثلة في أسمائه وصفاته، وبدونها لا معنى لإله لا تكون له القدرة على قوله للشيء كن فيكون، فالله سبحانه هو الكلمة (كن) التي إذا أمر بها كان له ما يريد متى أراد وكيفما أراد مما يكون، ومن المستحيل فصل كلمة (كن) عن ماهية الله تعالى لأنها كلمة الحق التي تثبت قدرته وأحقيته وصدقه، وبالتالي تُحوّل الحرفان (الكاف والنون) إلى أجسام وكائنات وظواهر كما كان الحال ذائما مع الهيدروجين والأكسوجين اللتان خلق منهما تعالى الماوات والأرض والمخلوقات حين جعل منه كل شيئ حي، والكلمة بهذا المعنى هي كيان من نور لا يمكن أن ينفصل عن ذات الله لأنه بها يكون الإله إلها.
- ويقول تعالى: (وفي أنفسكم أفلا تبصرون) الذاريات: 21، وهي آية معطوفة على قوله (وفي الأرض آيات للموقنين)، للتأكيد على أن آيات الله كما هي ظاهرة في الأرض لمن أبصر إليها فهي أيضا ظاهرة في الإنسان لمن بحث عنها لحصول اليقين من خلال تتبع الأثر الذي يدل على الصانع، بدليل أن الآيات التي في النفوس منها ما يدخل في تركيب البدن المادي من أعضاء كبيرها وصغيرها وصولا إلى الدقيق والمعقد منها والتي يشكل الماء ثلثيها، وانتهاء بعجائب الأفعال التي يأتيها الإنسان بواسطة الطاقة (النور اللطيف) الكامنة فيه، والتي فلولاها لما استطاع للحركة سبيلا ولما دبت في كيانه الحياة. ومنها الحواس الخمسة التي تشتغل بهذا النور اللطيف، وأيضا النفس التي تشعر من خلاله بحاجاتها الأساسية التي تغذي البدن، والعقل الذي يدرك الأشياء فيقوم بترجمة المعلومات إلى صور وعناوين، ويميز بين الخطأ والصواب والحق والباطل.. وبهذا المعنى، فالنور هو المتحكم في كل جوانب الإنسان المادية والحسية وليس له من إرادة وحرية سوى الاختيار بين الصواب والخطأ والهدى والضلال والحق والباطل، لذلك قال تعالى (والله خلقكم وما تعملون) الصافات: 96. ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أيضا (من عرف نفسه فقد عرف ربه) كما سبق وأن توسعنا في شرح هذا الحديث العجيب من منظور فكر ابن عربي في الجزء الثالث من هذا المبحث تحت عنوان "معرفة النفس أساس معرفة الله".
وعودة إلى الآية التي انطلق منها المعتزلة والأشاعرة في محاولة فهم قضية الإبصار لقوله تعالى: (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار)، يمكن القول أن المعتزلة لامسوا إلى حد معين طبيعة الله بأدوات التأويل: لكن دون أن يبرزوه بشكل حاسم كخلاصة نهائية، بسبب غرقهم في تفاصيل المتشابه من القرآن بدل تأويه بالعودة إلى أصله المحكم كما ذكرنا، هذا في ما ذهب الأشاعرة مذاهب بعيدة تجانب الحقيقة جملة وتفصيلا وتجعل من الله كائنا متحيزا في المكان يمكن رؤيته يوم القيامة سبحانع وتعالى عن ذلك علوّا كبيرا.
فمثلا، يقول القاضي عبد الجبار أحد كبار دبّابات الفكر المعتزلي في تحديده لطبيعة الذوات في (شرح الأصول الخمسة – ص: 236/237 – طبعة القاهرة 1966 م): " أن الذوات منها ما يُرى ويَري كالإنسان، ومنها من لا يُرى ولا يَري كالمعدومات، ومنها ما يُرى ولا يَري كالجماد، ومنها ما لا يُرى ويَري كالقديم سبحانه وتعالى". وهذا الوصف الأخير الذي خصصه القاضي عبد الجبار للذات الإلهية، لا ينطبق تماما على طبيعة النور، لأن النور لا يبصر بذاته، ما دام الإبصار متعلق بما كان معينا في جهة ما (أي مقابلا متحيزا في المكان)، في حين أن النور لا تحده جهة أصلا، لا شرقية ولا غربية، لأنه محيط بكل شيء، ويدرك كل الأبصار التي ترى بواسطته ويستحيل أن تفعل ذلك من دونه.
ومن خصائص النور كما هو ثابت علميا أنه لا يُرى، أي أنه لا تُدركه الأبصار كما قال تعالى، وهو ما يفيد استحالة أن تلحقه الأبصار أو تحيط به من ناحية الإبصار بالرؤية، لكنه من جهته يدرك الأبصار أي يلحق بها فترى من خلاله ما لم تكن تستطيع رؤيته من دونه.. و "إدراك الأبصار" هنا لا يفيد "الرؤية" حتى يقال أن الله يري الأشياء، ما دام تعالى قد تمدح نفسه بنفي الرؤية عنه نفيا يرجع إلى ذاته، كمثل قوله: (لا تأخذه سنة ولا نوم)، لأن السنة والنوم ليستا من طبيعة النور الحي الدائم.
والإدراك الوارد في الآية (يُدرك الأبصار) لا يفيد أنه تعالى يرى الأبصار، بل أن الله الذي هو نور من حيث طبيعته، يُدرك الأبصار ويلحق بها (العيون)، فينفذ إليها ليُمكّنها من رؤية الأشياء كما هي متجلية في الوجود، ولم تكن من قبل ظاهرة للعيان. وبهذا المعني يكون الله مبصرا بعيون مخلوقاته، أي بنفسه من نفسه و لنفسه، ما دام لا وجود في الوجود لموجود في الحقيقة غير الله تعالى وفق ما يعطيه مفهوم "لا إله إلا الله"، وكل ما في الكون هو مجلي لذاته تعالى وفق رؤيته للكون والخلق، فإذا فهت هذا أدركت معنى قوله تعالى: (الله نور السماوات والارض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الامثال للناس والله بكل شيء عليم) النور: 35. فقارن بين هذه الآية وعين الإنسان التي يبصر بها الأشياء لتفهم ما أراد الله أن يوصله لك من معنى من خلال هذه الآية العجيبة.
وفي هذا السياق، يقول أبو حامد الغزالي في مقدمة كتابه (مشكاة الأنوار): "لما كان سر النور وروحه هو الظهور للإدراك، وكان الإدراك موقوفا على وجود النور وعلى وجود العين الباصرة أيضا: إذ النور هو الظاهر المُظهر، وليس شيء من الأنوار ظاهراً في حق العميان ولا مُظهرا. فقد تساوى الروح الباصرة والنور الظاهر في كونه ركنا لا بد منه للإدراك، ثم ترجح عليه في أن الروح الباصرة هي المدركة وبها الإدراك. وأما النور فليس بمدرك ولا به الإدراك، بل عنده الإدراك. فكان اسم النور بالنور الباصر أحق منه بالنور المُبصر".. ما يعني أن النور وإن كان باصرا بطبيعته إلا أنه ليس مُبصرا إلا من خلال الأدوات (المخلوقات) التي يستعملها ليبصر بواسطتها.
أما بالنسبة لما أثير من جدل حول إمكانية رؤية الله تعالى يوم القيامة من عدمها، وهي القضية التي تمثل الأصل الثالث من أصول المذهب المعتزلي الخمسة. وقد عرفت هذه القضية جدلا واسعا وعميقا زمن علم الكلام. وهو نقاش أورده مختصرا الدكتور نصر حامد أبو زيد في كتابه "الاتجاه العقلي في التفسير – دراسة في قضية المجاز في القرآن عند المعتزلة – ص: 190 وما بعدها"،  حيث أشار إلى نفي المعتزلة لمسألة الرؤية عن الله لارتباطها بنفي "الجسدية" عنه تعالى. غير أنه في الوقت الذي كان فيه المعتزلة ينفون الرؤية عن الله في الدنيا والآخرة، كان الأشاعرة يؤكدون حقيقة رؤيته في الآخرة. غير أنه وأثناء مناقشتهم لقوله تعالى: (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار) برزت إشكالية المعنى الذي يحيل عليه تأويل كلمة "الأبصار". فبرغم اتفاق الفريقين وتسليمهم بحقيقة أن معنى "لا تدركه الأبصار" تفيد استحالة أن تلحقه الأبصار أو تحيط به  من ناحية الإبصار بالرؤية، لا الإدراك العقلي  بمعني "الفهم" كما حاول الأشاعرة الإيهام بذلك في البداية، إلا أن الشطر الثاني من الآية يفيد أنه سبحانه "يُدرك الأبصار"، وهو ما يُوحي – وفق اتهام الأشاعرة للمعتزلة - بالقول أن الله تعالى يرى نفسه بنفسه باعتباره من المُبصرين، بالرغم من نفي الجسدية عنه تعالى. وفي الوقت الذي يعتبر الصوفية أن الله سبحانه بهذا القول إنما يرى نفسه بنفسه ما دام أن لا شيء يوجد معه أو من خارجه،  كان المعتزلة ينفون هذا القول ويحاولون الرد على هذا الإشكال المثار بدليل عقلي فحواه: "أن الله تعالى وان كان مُبصرا، فإنما يري ما تصح رؤيته، ونفسه يستحيل أن تُري – بسبب أنه تمدح بنفي الرؤية عن نفسه مدحا يرجع إلى ذاته، وما كان نفيه راجعا إلى ذاته فان إثباته نقص، والنقص لا يجوز على الله تعالى".

ولا يكون هذا الإشكال واردا على مفسر معتزلي كالزمخشري لأنه لم يتأول "الأبصار" على أنها "المبصرون" كما فعل القاضي عبد الجبار، وإنما البصر عنده "هو الجوهر اللطيف الذي ركّبه الله في حاسة النظر وبه تدرك المُبصرات، فالمعني أن "الأبصار" لا تتعلق به ولا تدركه لأنه متعال أن يكون مبصرا (برفع الميم و فتح الصاد) في ذاته، لأن الأبصار إنما تتعلق بما كان في جهة مقابلة أو تابعا كالأجسام والهيئات، (وهو يدرك الأبصار) وهو للطف إدراكه للمدركات يدرك تلك الجواهر اللطيفة التي لا يدركها مدرك، (وهو اللطيف) يلطف عن أن تدركه الأبصار، (الخبير)  بكل لطيف يدرك الأبصار، لا تلطف عن إدراك وهذا من باب اللطف". والزمخشري بهذا التفسير اللغوي البلاغي، كما يقول د. نصر حامد أبو زيد، إنما نأى بنفسه عن الإشكال الذي يثيره تأويل "الأبصار" بـ "المبصرين"، لكنه من الناحية المعرفة لم يحل الإشكال. وغريب وفق رأينا أن يلجأ الزمخشري إلى نفس آلية التأويل عند الصوفي، والتي اشتهر بها بشكل خاص ابن عربي والغزالي، ليربط كلمة "الأبصار" موضوع الآية بالصفة التي استعملها تعالى في مخاطبة خلقه، وهي بالمناسبة ليست اسما للذات الجامعة، إنما صفتان من صفات الألوهة: "اللطيف" و "الخبير"، مما ينفي عن "الإبصار" مسألة رؤية الذات الإلهية، ويحصرها في صفة  "الخبير" الذي يلطف بعباده من أن تدركه أبصارهم، وهو الذي يدرك جواهر الأبصار بلطفه.

غير أن محيي الدين ابن عربي بالنسبة لهذه الآية تحديدا، لا يتأول المعنى تبعا لصفات المخاطب الواردة فيها كما يفعل عادة، بل يربط "الإبصار" بالوجود، فيعتبر أن "لا تدركه الأبصار"، تحيل إلى استحالة أن تدركه الأبصار من خارج الوجود، لعدم وجود شيء مع الله أو من خارجه يمكنه أن يحيط به فيبصره.  وهو "يدرك الأبصار" من داخل الوجود الواحد الذي لا وجود فيه لغيره، أي أنه يدركها ويلحق بها، باعتباره النور الذي تبصر المخلوقات كلها عن خلاله، ويستحيل أن يُري شيئا من دونه. وبذلك، يكون الاعتقاد بوجود شيء من خارج وجود الله، يمكن أن يدرك الله بالإبصار، ضربا من ضروب الشرك الغليظ، نستغفر الله من أن نسقط فيه، وأن الله سبحانه وتعالى يبصر بعيون عباده.. ففي هذا يتفق المعتزلة والصوفية، ويختلف معهم الأشاعرة خاصة، وأهل السنة والجماعة عامة.

وحول ما ذهب إليه الأشاعرة من إمكانية رؤية الله في الآخرة دون الدنيا، فقد قال المعتزلة باستحالة ذلك، نظرا لأن آية "الأبصار" من الآيات التي تمدح الله بها نفسه مثل (لا تأخذه سنة ولا نوم)، فلا يعقل مثلا أن لا تأخذه سنة ولا نوم في الدنيا ويحصل العكس في الآخرة، فهذا مما لا يقبله عقل ولا يُجوّزه منطق. ومن الدلائل التي يشهرها المعتزلة أيضا في وجه خصومهم، طلب موسى الرؤية من الله تعالى بقوله (رب أرني أنظر إليك) الأعراف: 143. فأخبره الله باستحالة ذلك بالمطلق لقوله تعالى: (لن تراني) نفس الآية. وبيّن له استحالة ذلك من خلال تجلي نوره العظيم كالصاعقة للجبل الذي أصبح دكا، فخر موسى صعقا، ولما استفاق أدرك طبيعة الله تعالى واستحالة رؤيته فقال: (سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين) نفس الآية.

أما ما أثاره الأشاعرة من إمكانية الرؤية استنادا إلى قوله تعالى: (وجوه يومئذ نّاضرة * إلى ربها ناظرة) القيامة: 22 – 23. فالوجوه الناضرة هي الوجوه المشرقة البشوشة المبتهجة بما تنتظره من فضل ربها، عكس الوجوه الباسرة الفاقرة الغاضبة الحزينة التي تستشعر مصيرها المظلم وما ينتظرها من عذاب. أما "ناظرة" فمعناها منتظرة لرحمة ربها وجزائه الموعود، ولا تعني النظر بالبصر من قريب أو بعيد وفق ما يفهم من سياق الآية لاستحالة تحيز الله في المكان قولا واحدا.

وما يؤكد استحالة رؤية الله يوم القيامة نظرا لطبيعته النورانية العظيمة قوله تعالى: (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وقضى الأمر وإلى الله ترجحع الأمور) البقرة: 210. وذكره لظلل من الغمام دليل على استحالة رؤية نوره كما حدث مع موسى عليه السلام في الدنيا، كما أن قوله "يأتيكم الله" لا يعني القدوم لأن الله تعالى لا يوصف بالمجيئ والذهاب الذي يعني الإنتقال في حيز المكان، بل يعني أن يأتي أمر الله والملك صفا صفا فيقضي بين الناس فيما هم فيه مختلفون ويلقى كل مصيره في اليوم الموعود.

في الخلاصة..
نخلص مما سبق إلى أن الله تعالى حين عرف نفسه بأنه "نور السماوات والأرض" يكون قد استعمل الاسم لا الصفة، وواضح أن الفرق بين الاسم والصفة يكمن في أن الأول يفيد معنى الذات، فيما أن الصفة ليست مكونا من مكونات الذات بقدر ما هي سمة تلحق بها فتطبعها من باب التعريف بالهوية الفاعلة، حيث أنها وسيط برزخي خيالي بين الذات العلية، أي "الحق" و "عالم الخلق"، وذلك بغض النظر عن إشكالية الكمال أو النقصان التي أثارها المعتزلة في مسألة الصفات عندما تلحق بالذات.. لأنه بالنسبة لله، لا تلحق الصفات بالذات بل تلحق مباشرة بالألوهية التي هي وسيط برزخي خيالي يفصل بين الله والعالم. وقد أوضحنا أن كلمة "النور" في القرآن، كلما اقترنت بالله تعالى أفادت الاسم لا الصفة.. حيث لم يرد في الكتاب ما مفاده أن الله سبحانه وتعالي "منير"، بخلاف ما نجده بالنسبة لبقية الأسماء التي تقبل الاسم والصفة في نفس الوقت، وعلى ذلك جرى الاصطلاح في أسمائه وصفاته سبحانه وتعالى. فالعلم والقدرة والحياة والإرادة صفات، والعالم والقادر والحي والمريد أسماء، لكن الاسم "النور" على وجه الخصوص، لم يرد بالمطلق كصفة لله تعالى بخلاف بقية الأسماء، ما يجعله أسم الله الأعظم لتفرده بما يحمله من خصوصية وما يميزه من معنى.
بعد هذا، نتمنى أن نكون قد وفّقنا في تحرير مفهوم الله من معتقل التجسيد، لأن المشكلة كما تبدو من الناحية التاريخية، هي أن الآلهة المجسدة تقوم على جذور عميقة في النفس الإنسانية، وذلك لأن الإنسان مفطور على أن يلبس المعاني والأخيلة لباس الواقع المحسوس، كي يجد فيها واقعا يعيش فيه ويتجاوب معه، لأنه مهما حاول المرء أن يجعل الإله فكرة خالصة مجردة فلن يستطيع أن يحمل ذهنه على الإمساك بها طويلا، إذ سرعان ما تزدحم عليها الخواطر والصور المجسدة التي تحاول أن تزيحها عن مكانها بسبب طبيعة العقل الذي لا يقبل إلا الصور كمرجعية يخزنها في الذاكرة ليقيس عليها. غير أنه كلما طهر الإنسان قلبه بالمجاهدة وتخفف الإنسان من كثافة المادة، صفت نفسه، ورقت مشاعره، وتحررت روحه من سجن الجسد في لحظة صفاء، وكان لذلك أثره البليغ في تغليب التجريد على التجسيم، وفي رفض كل صورة يلقي بها الخاطر أو الوهم في تفكير الإنسان مجسدة لله أو محددة له، لأنه إذا استطاع الإنسان تحديد ماهية النور استطاع تحديد ماهية الله، وهذا مستحيل بالمطلق، لذلك قال العرافون بالله: "لا يعرف الله إلا الله".


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق