بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 8 يوليو 2023

لماذا يتحدث الله عن القيامة بصيغة الماضي؟ ... (3/3)

 

(أَتَىٰ أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ ۚ)

  - النحل: 1 -

 ثالثا: من حيث القول بتعارض العلم المسبق مع مبدأ العدل الإلهي:

يشار في هذا الصدد إلى أن علم الكلام القديم بين المعتزلة والأشاعرة وإن كانت لبعض جوانبه فوائد تصبّ في خانة تطوّر الأفكار وتراكم المعرفة، إلاّ انه بالنتيجة لم ينجح أي من الفريقين المتناظرين في حسم الصراع انتصارا لوجهة نظر موضوعيّة حول مبدأ الجبر وحرّية الاختيار وعلاقتهما بمبدأ العلم المسبق والعدل الإلهي، وذلك بسبب أن كل فريق كان ينطلق من فرضيّة معيّنة ويحاول البحث لها عمّا يدعمها من كتاب الله، لكن المعضلة الحقيقية التي واجهت الفريقين كانت في عدم تمكّن أيّ منهما من التّمييز بين ما هو محكم وما هو متشابه إلا فيما نذر، ليس بسبب صعوبة ذلك وأن كان احتمالا واردا، بل بغرض التأويل المتحيّز الذي يخدم الأهداف السياسيّة لكل فريق، بعد أن اتّخذ كل منهما من جبّة الدين وسيلة لخدمة مصالحه الدنيويّة على حساب الحقيقة الموضوعية كما يشهد بذلك التاريخ.../... 

أمّا الشيعة فقد حاولوا حلّ الإشكالية من خلال ثنائية "العلم والمعلوم" أو ما أسموه بـ "نظرية البداء". بمعنى أن الفعل لا يصدر من المكلّفين عبثا، بل من أجل مصلحة مُعيّنة، وبالتالي، فما يبدو لأحدهم أنه مصلحة تبرّر فعل معيّن قد يبدو لسواه غير ذلك فيتصرف تصرفا معارضا وفق المعلوم لديه، وهذا هو معنى العلم والبداء. وللإشارة، فهذه النظرية لا يمكن أن تبرّر القول بعلم الله المُسبّق لعدم ارتباط علمه بمصلحته الذاتية التي لا وجود لها إلا في عقول المتوهّمين الذين يفترون على الله الكذب سواء علموا ذلك أم جهلوه، وبالتالي، فالله تعالى لا يمكن أن يكون عالما ولا معلوم، ولا سميعا ولا مسموع.. وهي المعضلة التي لم ينجح التّيار الشيعي في حلّها. وقد حاول بعضهم الاستناد إلى قوله تعالى: (يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ) الرّعد: 39، للقول بأن الله تعالى "لا يمحي إلا ما كان ثابتا ولا يثبت إلا ما لم يكن". غير أن مثل هذا القول لا علاقة له بالهدى والضلال والسعادة والشقاء ولا بالحياة والموت، بل بما اكتسبه الإنسان في حياته من سيّئات وحسنات، فيثبت أجر الأعمال الصالحة في سجلّ الحسنات، ويمحو ذنوب الثائب من سجلّ السّيئات، بل ويحوّل ذنوب من تاب وآمن وعمل عملا صالحا إلى حسنات وفق "نظريّة التبديل" القرآنية الشهيرة المتمثّلة في قوله تعالى: (إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا) الفرقان: 70. فالله هنا لا يمحو السيّئات بالنسبة للتائب فحسب، بل يحوّلها إلى حسنات ويضيفها إلى سجل أعماله الصالحة، وليس أعظم من التوبة كحافز لهذا العطاء الربّاني الجميل... (فتأمل).

وبذلك يتّضح أن أمّ الكتاب وإن كان سجلا مخصّصا للأقدار، فالله تعالى لا يمحو قانونا ناظما لعمل الكون ولا يغيّر سنّة حاكمة لنتائج تصرفات الخلق والتي هي من مجال القضاء المبرم الذي لا راد له لأنه بأمر "كن"، بل ما قد يتغيّر وفق المشيئة هو القدر الذي يعني "الكمّ" الذي قد يتبدّل بالزيادة او النقصان وقد يتغير بالطبيعة من سيئات إلى حسنات من جهة، بالإضافة إلى "الأجل" الذي يتغيّر هو أيضا بالزيادة أو النقصان حسب نوع وطبيعة الأسباب المأخوذ بها من قبل المُكلّف من جهة ثانية، وذلك دون القوانين والسنن التي هي من الثّوابت لا المُتغيّرات.

ويتضّح ذلك جليّا من خلال قوله تعالى: (قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمّىً عِنْدَهُ) الأنعام: 2. بمعنى أن هناك أجل قد تم تحديده بقضاء مبرم، أي بحكم نهائي قطعي لا يتغيّر ولا يتبدّل ويعتبر بمثابة قانون يدخل في مجال علم الله القديم لقوله تعالى: (كُلُّ نَفْسٍۢ ذَآئِقَةُ ٱلْمَوْتِ ۗ) آل عمران: 185، ما ينفي الخلود عن الإنسان ويجعل من الموت قضاء مبرما محتوما لا راد له، لكن تنفيذ هذا الحكم أو القانون الذي هو بأمر "كن" يظل مؤجّلا إلى أن يحصل الموت بالفعل في الأجل المسمّى الذي يمكن أن يتغيّر عند الأخذ بالأسباب، كأن يمرض الإنسان فيخضع للعلاج فيتأخر أجل موته المسمّى كما أشار إليه تعالى في الآية 2 من سورة الأنعام أعلاه، وإذا لم يُعالج يموت في الأجل المُقدّر كنتيجة لاستفحال المرض، وهذا يعني أن ما يتغير في حقيقة الأمر هو تقدير أجل الموت لا حكم الموت، وهذا هو الفرق بين القضاء والقدر، أو إن شئت قلت "بين الحكم وتنفيذه"، وهو ما أكّدته الآية 5 من سورة الحج لقوله تعالى:

- ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا).

كما وأن هناك سوء فهم فظيع لدى فقهاء السنّة لمفهوم "المكتوب"، وذلك استنادا إلى قوله تعالى: (قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) التوبة: 51. وهي الآية التي فسّرها التراثيون وعلى رأسهم ابن جرير القرطبي بما معناه أن الله أدّب رسوله عليه السلام فوجّهه ليقول للمنافقين والمرتابين أنه لن يصيب المؤمنين إلا ما كتبه الله لهم في اللوح المحفوظ باعتباره من مجال القضاء المبرم. والحقيقة أنهم بذكرهم للّوح المحفوظ يشيرون إلى السنن والقوانين الإلهية التي هي من مجال القضاء القطعي المبرم الذي لا راد له، ما يعني أن النصر أو الهزيمة ليستا قضاء مبرما كتب على المؤمنين أو الكافرين، بل هناك قوانين تدخل في باب الأسباب كل من أخذ بها انتصر بغض النظر عن الإيمان أو الكفر، ذلك أن المؤمن الذي يأخذ بالأسباب ويتوكّل على الله ينصره تعالى لأنه كان وعدا عليه نصر المؤمنين كما أوضح في آية أخرى، بخلاف المؤمن المتواكل الذي ينتظر النصر من السماء من دون أن يعد العدة للحرب ويأخذ بالأسباب فيكون مصيره الفشل والهزيمة المذلّة فيصيبه بذلك ما هو مكتوب من قانون في كتاب الهزيمة.

ونفس المعنى ينسحب على الكثير من القضايا الحياتية التي تواجه الناس مثل الأمراض مثلا، ففي هذه الحالة تحديدا حين يصاب إنسان بمرض ما فلا يعني ذلك أن الله قد كتب عليه الإصابة بالمرض في علمه القديم، بل هو من تسبب لنفسه بالمرض لأنه لم يتخذ الإجراءات الوقائية لتجنبه، وهنا تؤخذ عباره (لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا) معنى دقيقا يفيد بأن الإنسان لن يصيبه  إذا مرض إلا أحد الأمراض التي خلقها الله، وهذا هو معنى (كتب الله لنا)، أي لن يصيب الإنسان مرض غير موجود في قائمة الأمراض التي خلقها الله، والوقاية منها أو الشفاء يتوقّف على الأخذ بالأسباب أوّلا، والتوكّل على الله ثانيا، وفق ما يستفاد من الآية 51 من سورة التوبة. 

وخلاصة القول، أن ما لا يدخل في علم الله الأزلي هو كيف سيتصرّف العبد في حياته قبل الموت، لأن هذا التصرّف يدخل في حكم المُحدثات التي تخضع للوجود الموضوعي للإنسان والحدوث الواقعي للفعل، والأخذ بالأسباب هنا تخضع لحرية الإرادة والاختيار الموهوبة للإنسان في حدود معيّنة، والتي على أساسها سيحاسب على ما كسبت يداه لقوله تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) المدثّر: 38، وهذا لا علاقة له بما يقال من أن الله تعالى قد قرّر في علمه الأزلي مصير عباده بشكل مُسبّق، الأمر الذي يتعارض جملة وتفصيلا مع الأمانة التي وهبها الله للإنسان فحملها عن جهل والتي تعني حرفيّا الإرادة وحرّية الاختيار وفق مفهوم الآية 72 من سورة الأحزاب والتي نصّها: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا) من جهة، كما ويتعارض من جهة أخرى مع مبدأ "العدل الإلهي" كما سبق القول، خصوصا وأن الله تعالى يؤكّد أنّه ليس بظلاّم للعبيد، لقوله تعالى: (مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ) فصلت: 46. والمعنى واضح لا يحتاج لتفسير، الأمر الذي يؤكد أن الله تعالى لا يحاسب العبد إلا على ما كسبت يداه في حياته، وهو ما ينفي الافتراء على الله القائل بأنه سبحانه وتعالى عمّا يصف الجاهلون قد سبق وأن كتب مصير عباده في علمه الأزلي، وحكم على الشقيّ والسّعيد قبل ولادته وخوض تجربته الأرضيّة وفق ما يستفاد من الآية 172 من سورة الأعراف لقوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ)

وخلافا لما هو واضح من آيات الله البيّنات التي تؤكد أن الله تعالى وهب للإنسان الإرادة ليقرّر ويختار بحرّية دون ضغط أو إكراه بين الكفر أو الإيمان، إلا أن التراثيين ذهبوا عكس ذلك استنادا إلى حديث منسوب إلى عائشة جاء في "صحيح مسلم" تحت رقم: 2662 يقول:

- "قال الرسول: يا عائشة إن الله خلق للجنّة أهلها، خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم. وخلق للنّار أهلها، خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم".

وواضح إلى أي حدّ وصل عبث الفقهاء بالدّين، إذ لم يكتفوا بتلفيق الأحاديث باستعمال أسماء تاريخية معروفة ومنها اسم عائشة التي قوّلوها عديد الأحاديث المنسوبة إلى الرسول الأمين عليه السلام، بل تطاولوا حتّى على الله تعالى حين نفوا العدل عنه، وفي هذا الصدد، ذهب الإمام أبو حامد الغزالي الذي لم يترك حديثا ضعيفا إلا واستشهد به في مؤلفه الشهير (إحياء علوم الدين) حد القول لتبرير الظلم "إن الذي يتصرف في ملكه كيف يشاء ليس بظالم، بل الظالم هو من يتصرّف في ملك غيره"، وهو نفس القول الذي قال به فقهاء السلاطين لتبرير ظلم واستبداد حكّام المسلمين لرعاياهم،  والسؤال هو: 

- هل الحياة عبارة عن ملهاة عبثيّة والناس مجرد كومبارس لا إرادة ولا حرّية ولا اختيار لهم، خلقهم الله فقذ ليتسلّى بظلمهم بعد أن حدّد في علمه الأزلي من هم السعداء ومن هم الأشقياء؟ ... (سبحانه وتعالى عمّا يصف الجاهلون علوّا كبيرا).

ولأن القرآن الكريم كلام الله لا كلام جبريل ولا كلام محمد عليهما السلام بدليل قوله تعالى: (أفلا يتدبّرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) النساء: 82، وبالتالي، فإذا كانت من المبادئ العلمية المعمول بها لإثبات صحة نص معيّن هو "مبدأ إيجاد الأخطاء" كما هو جاري به العمل وفق قواعد نقد الخطاب، فها هو القرآن الكريم يتحدى العالمين في الآية السالفة الذكر بأن يجدوا فيه اختلافا، بل وتحداهم أيضا إن كانوا في شك منه أن يأتوا ولو بسورة من مثله لقوله تعالى: (وإن كنتم في ريب ممّا نزّلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله) البقرة 23. وأكد سبحانه بالقطع في الآية التي تليها أنهم لن يفعلوا لقوله: (فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا) البقرة: 24، وبالتالي، هذا التحدي كان كافيا ليثبت استحالة ذلك حتى لو اجتمع الإنس والجن على هذا الأمر لقوله تعالى: (قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا) الإسراء: 88، وها هو قد مرّ زمن يناهز اليوم حمسة عشر قرنا على نزول القرآن الكريم ولم ينجح أحد في رفع التحدي، والسبب يكمن في أن هذا النوع من التحدي لا يمكن أن يصدر عن كائن غير الله تعالى المُنزّه عن الخطأ والذي يتكلّم في القرآن الكريم بجرأة نادرة وثقة عالية غير معهودة في خضاب البشر.

- هذا فيما يتعلق بالإعجاز من حيث الأسلوب، لكن ماذا عن الإعجاز من حيث المعنى؟

لعل أوضح مثال على الإعجاز من حيث المعنى هو ما عبّر عنه الإمام علي كرّم الله وجهه بقوله: "القرآن حمّال أوجه" في إشارة إلى تعدّد أوجه الحقيقة التي تحملها الآيات بين المحكم والمتشابه، بين الظاهر والباطن، بين الحدّ والمطلع. ومعلوم أن هذه النسبيّة في تعدد أوجه الحقيقة هي التي تجعل من القرآن الكريم كتابا صالحا لكل مكان وزمان، وتُحوّل بالتالي كلّ التفاسير التي تزخر بها المكتبات الإسلامية حد التُّخمة إلى مجرد رُكام لأفهام عتيقة تُعبّر عن وجهات نظر أصحابها كل حسب مستوى علمه ومبلغ اجتهاده وظروف زمانه، ولا يمكن بحال من الأحوال الركون إليها واعتناقها كما لو كانت حقائق مُقدّسة مثلها مثل تلك التي أودعها تعالى في كيمياء آياته لقوله: (وبالحقّ أنزلناه وبالحقّ نزل) الإسراء: 105. 

وكدليل قاطع على أن القرآن كلام الله لا كلام محمد عليه السلام، ما أورده عالم الرياضيات الكندي الدكتور "جيري ميلر" من أمثلة عديدة عن الإعجاز في القرآن الكريم ليصل إلى نتيجة مفادها أنه من الاستحالة بمكان أن يكون القرآن من عند غير الله، والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى، ومنها قصة النبي محمد عليه السلام مع عمّه "أبي لهب" الذي كان يكره الإسلام كُرهًا شديدًا، لدرجة أنه كان يتبع محمدًا أينما ذهب حتّى يسخر ممّا يقول ويُشكِّك الناس في كلامه، وقبل وفاة "أبي لهب" بعشر سنوات: نزلت سورة في القرآن الكريم تحت اسم "المسد" تقول: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ﴾ المسد من 1 إلى 5. هذه السورة وكما هو واضح من مضمونها تُقرِّر أن "أبا لهب" سوف يدخل النار، أو بمعنى آخر: أن "أبا لهب" لن يعرف الخلاص بدخوله الإسلام.

وتعليقا على ذلك يقول د. ميلر: "الحقيقة أن ابا لهب ما كان عليه ليُكذّب محمد عليه السلام ويثبت أن هذا القرآن هو كلامه وليس كلام الله سوى أن يُعلن إسلامه، فتصبح بالتالي السورة التي نزلت فيه لا مصداق لها، لكن أبا لهب لم ينقض ما ورد في السورة بشأنه ومرّت العشر سنوات فمات، وبالتالي حق فيه ما أخبر تعالى عن مصيره، ولو كان أسلم قبل أن يموت لهدم الإسلام بكلمة واحدة وأثبت ما كان يروّج له من أن القرآن ليس كلام الله بل كلام محمد الذي لا يعلم الغيب. ويضيف د. ميلر متسائلا حول روعة ما جاء في هذه القصة فيقول: "إن لم يكن هذا القرآن وحي من الله، فكيف لمحمد أن يعلم أن أبا لهب سوف يُحقِّق النبوءة التي جاءت بشأنه في سورة المسد؟!.. وإن لم يكن يعلم أنه وحي من الله: فكيف يكون واثقًا خلال عشر سنوات أن ما لديه هو الحق وما جاء به محمد هو الباطل؟!.. إنني الآن أستطيع أن أقول: "إنه لكي يضع شخص مثل هذا التحدي الخطير، فهذا ليس له إلا أمر واحد: أن كلامه هذا هو وحي من الله لا كلام بشر". 

والحقيقة أن ما خلص إليه الدكتور ميلر لا يعني علم الله المُسبّق كما يبدو من مبنى الكلام، بل يعني حرفيّا حكم الله القطعي في حق أبو لهب والذي لم يصدر إلا بعد أن خان ميثاقه مع الله وكذّب الرسول وكفر بيوم الدين فأضلّه الله واتخذ في حقّه حكما مؤجّلا يقضي بمعاقبته في النار مباشرة بعد موته في الحياة البرزخيّة كمحطّة أولى، ثم في الجحيم الدائم المقيم بعد يوم القيامة كمحطّة ثانية نهائية حيث سيكون مصيره سوء العذاب أبد الآبدين. أما لماذا لم ينجح أبو لهب في تكذيب ما ورد في سورة المسد حول مصيره بعد موته، فذلك يعود لكون أن الله ختم على قلبه وسمع وبصره على غرار الكافرين والمشركين والخائنين لميثاقهم مع ربهم الذي عقدوه في عالم الذر وفق ما تؤكد ذلك الآية 172 من سورة الأعراف، بدليل قوله تعالى في شأنهم: (خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) البقرة: 7. ولأن الله هو ربّ القلوب فالختم في الآية الكريمة جاء بمعنى "التغطية" على الشيء حتى لا يوصل إلى ما فيه، ولا يوضع فيه غير ما فيه. وبالتالي فالمسألة هنا تتعلّق بحكم إلهي صدر بعد أن تبيّن خيانة ابي لهب لميثاقه مع الله وكفره بسبب قساوة قلبه، ومحاربته للرسول الكريم عليه السلام في دعوته. وهذا لا علاقة له بعلم الله المسبق، بل بقانون السبب والنتيجة، لأن كل ما حدث جرى في الواقع الموضوعي زمن حياة أبي لهب.

هذه القصة وغيرها مما لا يسع المقام لسردها هنا، دفعت د. ميلر عالم الرياضيات المرموق لرفع التحدي علّه يجد بعض الإخطاء في القرآن من حيث الأسلوب أو المعنى، لكّنه لم يجد، فانتهى به الأمر بإعلان إسلامه عن قناعة لا يرقى إليها الشك، وتحوّل بهُدى من الله إلى داعية يجاهد في تبليغ رسالة ربّه بالعقل والمنطق.

أوردت هذه القصة هنا لمعرفة إن كانت تصلح كقاعدة لدعم إحدى الفرضيات التي تُطرح جوابا على استعمال الله لصيغة الماضي عند الحديث عن المستقبل، وأقصد بذلك يوم القيامة تحديدا.

وفي هذا الإطار، يُعتبر السؤال المدرج في العنوان واحدا من عديد الأسئلة الصعبة التي لا يوجد في التراث جوابا مقنعا لها، بسبب اهتمام المفسرين أهل النقل والبيان حصريّا بالمعاني السطحيّة التي يعطيها ظاهر الكلام، فيما اشتغل المُؤوّلة أهل العقل والنقد على ليّ عنق الآيات انتصارا لموقفهم السياسي ضد خصومهم (المعتزلة والأشاعرة نموذجا)، فخلطوا من حيث المنهج بين المحكم والمتشابه، وبدل تفسير القرآن بالقرآن انطلاقا من المحكم لتأويل المتشابه، اختلف فقهاء المسلمين وتفرّقوا إلى طوائف ومذاهب وملل ونحل كل يقول أنه الفرقة الناجية وما سواها في النار، فعمّت الفوضى وانتشرت الفتن حين تحوّل الدين إلى سلاح سياسي في مواجهة الخصوم والسلطة القائمة على حد سواء، إلى أن لاحظ الخليفة العباسي "القادر بالله" اختلاف الآراء بسبب تعدد المذاهب وكثرة الفتاوى المتعارضة في المسألة الواحدة، فقرر وضع حد لهذه الفوضى بإغلاق باب الاجتهاد سنة 450 هجريّة كحل جذري لسد باب الفتن.

والحقيقة أن باب الاجتهاد لا يمكن أن يغلق بالمطلق، لأن الله كل يوم هو في شأن وكل يوم هو في خلق جديد، ما يعني أن الثابت في سنة الله في الخلق هو التّبدّل والتّغيّر والتّحوّل وفق "قانون الصيرورة" الذي يستدعي حكما التدبّر الدائم المستمرّ لفهم ميكانيزمات عمل السُّنن والقوانين الإلهية الناظمة للخلق بالحق في الواقع العملي المُتغيّر، وهو اجتهاد من مجال العقل يشمل العلوم الطبيعية والكونية لا الشرعية فحسب، ذلك لأن قضية الشريعة تحتاج لمعالجة مغايرة من خارج معتقلات إيديولوجيات الطوائف والمذاهب التي فرّق بها الفقهاء أمّة محمد عليه السّلام بعد أن كان قد وحّدها القرآن زمن النشأة والتكوين، وهو ما اعتبره الله تعالى ضربا من ضروب الشرك لقوله تعالى (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون) يوسف: 106، وقوله: (إن الذين فرّقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء) الأنعام: 159.  

ذلك، أن هذا التوجه المحموم لدى فقهاء القشور قديما وحديثا لاختزال الدين في الشريعة هو السبب الذي أوصل الأمة إلى ما هي عليه اليوم من جهل وفقر وتخلف وانحطاط، خصوصا إذا علمنا أن الآيات التي تتحدث عن الخلق والتطوّر والحياة والموت والبعث وغير ذلك تمثل أزيد قليلا من 95% من آيات القرآن الكريم، فيما أقل من 5% فقط من الآيات تعنى بمجال التّشريع، ولأن النتائج بمقدّماتها، فواقع الأمة اليوم سببه الأساس يكمن  في سوء فهم الدين والدنيا معا، ما دام أن المسلمين قد هجروا كتاب الله وتمسّكوا بالتراث، فأهملوا كل ما له علاقة بالفلسفة وعلوم الكون والحياة وتمسكوا بالتّفاهات التي يخجل الإنسان من الخوض في بعضها حتى لا يفقد أدبه واحترامه لعقله وإنسانيته.

الآن وبعد أن استعرضنا موقف العلم من الزمن، سنتطرق لموقف الدين منه للجواب على السؤال المعضلة الذي طرحناه في عنوان هذا المبحث.

  •  موقف الدين من الزمن:

الحقيقة أنه بالنسبة لهذا الأمر المعقد، لا نستطيع فهم موقف القرآن من الزمن إلا من خلال القرآن، ذلك أن الله سبحانه وتعالى كلّما ذكر حادثة من الحوادث سواء تلك التي وقعت في الماضي بالنسبة لقوم عاد مثلا، إلا وتحدث عن نوعين من الأزمنة: - زمن أرضي بالمقياس البشري. - وزمن فيزيائي بالمفهوم القدساني:

وكمثال على ذلك يقول تعالى: (وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ) الحاقّة: 6 – 7. حيث يذكر تعالى أن الريح التي أفنت قوم عاد استمرّت سبع ليالي وثمانية أيام بمقياس الزمن الأرضي. لكنه في موضع آخر يقول: (إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ) القمر: 19، أي أن فناء قوم عاد لم يدم بالنسبة لله تعالى غير يوم واحد بمقياس الحادثة الفيزيائية والتي وصفها تعالى بأنها "يوم مستمرّ"، ومعنى ذلك أن الله سبحانه وتعالى الذي لا يسري عليه زمان ولا يحدّه مكان، كلّما ذكر حادثة من الحوادث الأرضية أو الكونية إلا وصنّفها وكأنها يوم مستمر. ذلك أن عبارة "يوم مستمر" تدل على عمر الحادثة، لأن الزمن كما يراه الله من علاه هو مجرد يوم مستمر كنهر متدفق في اتّجاه واحد وبسرعات متفاوتة تختلف باختلاف المواقع.

ومعنى المعنى، أن الحياة الدنيا هي مجرد يوم أو أقل بالنسبة للبشر سواء من عاش 1000 سنة أو من عاش 70 سنة أو أكثر أو أقل. والحياة البرزخيّة بعد الموت هي مجرّد يوم وصفه تعالى بالخلود المؤقت إلى أن تقوم الساعة، والحياة بعد القيامة هي أيضا يوم وصفه تعالى بالأبدية، أي بالمدى السّرمدي اللامتناهي. وهو ذات المعنى الذي يفهم للزمن الفيزيائي عندما يتحدث الله تعالى عن خلق السماوات والذي حدده تعالى في ستة أيام، كل يوم بمليارات السنوات بمقياس الزمن الأرضي بالنسبة لكوننا المسمى درب التبّانة، ولا نعلم شيئا عن بقية الأكوان الستّة المتوازية الأخرى.

وهذا يعني أن الله تعالى عندما يتحدث عن الحادثات الكبرى بمفهوم الزمن الفيزيائي بصيغة الماضي فإن هذه الحادثات تكون قد وقعت بالفعل لأن الله لا يتحدث عن حوادث افتراضيّة لم تقع، لأن كلامه الصدق وما يقوله الحقّ، ونفس الأمر يقال بالنسبة لنفس الحادثات عندما يتحدث عنها بصيغة المستقبل فهذا يعني أنها لم تقع بعد لكن وقوعها حاصل لا محالة لكن في الأجل المقدّر لحدوثه.

ودليل ذلك أنه تعالى تحدث عن أحداث يوم القيامة كأنها وقعت بالفعل وفي نفس الوقت تحدث عن نفس الأحداث بصيغة أنها ستقع في المستقبل، ومثال ذلك انشقاق السّماء الذي ورد مرّة بصيغة الماضي وأخرى بصيغة المستقبل وذلك في قوله:

- صيغة الماضي: (انشَقَّتِ السَّمَاءُ) الحاقة: 16.

- صيغة المستقبل: (إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ) الانشقاق: 1.

فماذا يعني هذا؟ ...

قد يبدو الأمر متناقضا ظاهريا فقط، لكن بما أن كلام الله حق لا يأتيه الباطل من بين يديه أو من خلفه، وبما أنه تعالى تحدى العالمين أن يجدوا في خطابه اختلافا ولو صغيرا بين المبنى والمعنى، فالأمر بالنتيجة يتعلّق بحادثتين لا محالة: حادثة وقعت في الماضي وأخرى ستقع في المستقبل بمقياس الزمن الفيزيائي، وهو ما يفسّر اختلاف صيغة الكلام في مثال انشقاق السماء.

وتأويل ذلك يكون استنادا إلى فرضيات ثلاثة:

* الفرضيّة الأولى: يقول تعالى: (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ ۖ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) الحديد: 3. فالله سبحانه يصف نفسه في هذه الآية الكريمة بأنه الأوّل بلا بداية، والآخر بلا نهاية، والظاهر من دون حضور، والباطن من دون غياب (الحديد: 3). وهذا يعني أن الله لم يظهر أوّل مرة فجأة من عدم ليخلق الكون والإنسان، بل كانت هناك قبل أكواننا السبعة الحالية المتوازية كما أكّد العلم وجودها انسجاما مع ما ورد في القرآن الكريم من ذكر لها.. أقول أنه كانت هناك قبل ذلك أكوان متعدّدة لا حصر لها، خلقها الله وأفناها بنفس الطريقة: (انفجار عظيم بعد انسحاق عظيم)، بحيث كلّما أفنى أكوانا سبعة إلا وخلق غيرها، وهكذا بشكل مستمر دون بداية ولا نهائية يمكن للعقل أن يستوعبها ما دام الله يقول عن نفسه أنه كل يوم في خلق جديد وكل يوم هو في شأن؟ واليوم بالتعبير القرآني كما سبق معنا القول يعني الحادثة الفيزيائية لا الزمن النسبي. وهو ما يعني أن هناك مخلوقات سبق وأن عاشت الساعة والقيامة أعطانا الله مثال عمّا وقع لها حين عبّر عن قيامتها بصيغة الماضي لنفهم من جهتنا ما سيقع لنا أيضا حين عبّر عن قيامتها بصيغة المستقبل.

ملحوظة: ولمزيد من التوضيح يُرجى العودة إلى مبحث سبق وأن تناولت فيه الموضوع بإسهاب ونشر على هذا الموقع في جزئين بعنوان "نظريّة الأكوان المتعدّدة بين العلم والدين". 

* الفرضيّة الثانية: يقول تعالى: (أَتَىٰ أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ ۚ) النحل: 1. هذه الآية الكريمة وإن كانت في مبناها ومعناها تحمل تهديدا ووعيدا للمشركين المقصودين بالخطاب لقوله تعالى في شأنهم: (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ ۚ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) العنكبوت: 53، وهو ما يفيد الإخبار بأن العذاب واقع على المشركين لا محالة ما دام قد صدر حكم الله بشأنه، لكن تنفيذه مشروط بالأجل المقدّر له من الحقّ سبحانه، وأساس حكم الله فيهم يعود لتكذيبهم بالرسالة وتحدّيهم الرسول عليه السلام بقولهم: (إِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَٰذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) الأنفال: 33، فجاء الجواب بأن لا يستعجلوا العذاب فقد صدر أمر الله القاضي بوقوعه في الأجل المقدّر له وليس قبله ولا بعده. وهذا يعني أن العذاب واقع بهم يوم القيامة وليس قبل ذلك برغم استعجالهم له. الأمر الذي يؤكد أن لا علاقة للبلاغة من حيث أسلوب التعبير بحديث الله عن القيامة بصيغة الماضي، كما لا علاقة لعلم الله الأزلي بعذابهم لأن الله ليس بظلاّم للعبيد كما يؤكد في قرآنه، ومعنى ذلك أن حكم الله الصادر في حق المشركين هو بمثابة قانون يطبّق في حق كل من أشرك بالله عبر العصور والدهور، لكن تنفيذه سيكون يوم القيامة، بعد أن يحاسب الله العباد على ما قدّمت أيديهم في الحياة الدنيا ويعلم الكافرين من المؤمنين. وهذا هو الفرق الدقيق من حيث المعنى بين القضاء والقدر، فالقضاء هو الحكم العام الذي يكون بأمر كن، وما كان بأمر كن يكون حكما مبرما قطعيا ونهائيا لا راد له. أما القدر فهو حجم الوقوع وزمن التنفيذ الذي يخضع لتقدير الله وفق قانون السببية الموضوع في الكون والخلق، والحدوث الذي يعني تنفيذ الحكم كما ذكر القرآن قد  يكون في الدنيا كما حدث مع الأمم الغابرة التي أبادها الله، وقد يكون في الآخرة كما أوضح تعالى في عديد آيات التنزيل الحكيم، وإن كانت مسألة عقاب الأمم بإبادتها كما حدث مع الأحزاب لم تعد قائمة بعد نزول القرآن لتطوّر الوعي الإنساني وانتشار ظاهرة التدين في كل أصقاع الأرض.

* الفرضيّة الثالثة: يقول تعالى: (عَٰلِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ ۖ) الرعد: 9. وهنا لا بد من توضيح أن مفهوم الغيب الوارد في القرآن الكريم هو ما يكون متعلّقا بالإنسان، أي بما غاب عنه، ذلك أن كلمة الغيب لا تدلّ على عدم الوجود، بل على ما هو موجود فيكون إما محجوب أو معلوم. الوجود المحجوب هو ما يطلق على الغيب لأنه محجوب عن إدراك الإنسان ويعلمه الله تعالى دون سواه. أما الوجود المعلوم فهو الذي كان غيبا ولم يعد كذلك بعد أن أخبر به الله تعالى. والغيب ليس من الشهادة لأنه وجود غير مشهود يعلمه الله تعالى دون سائر خلقه من ملائكة وجن وإنس. وقد قسّمه المعتزلة قديما إلى ضربين: الأول مقدور الله وليس مقدور المكلف. والثاني معلوم الله التكويني اختص الله بعلمه، وهو ما تعنيه عبارة الله وحده عالم الغيب والشهادة، لا يشاركه في ذلك ملك مقرب أو نبي مرسل، أو جن يسترق السمع، أو أنسان بوسائل التنجيم، هذا النوع من العلم يجري في عالم الأمر لا في عالم الغيب، وهو الغيب الذي منع عن ولوجه الجن، ذلك أن الملائكة والجن لا يعلمون إلا ما يمكّنهم علمهم بفضل تكوينهم النوراني أو ما يتفضّل الله عليهم به من علم مثلهم مثل من يختارهم الله رسلا وأنبياء من البشر، لقوله تعالى: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ) الجنّ: 26.

وبالتالي، فلم يرد في القرآن الكريم ما يفيد أن الغيب علم شموليّ أزليّ، لأن القرآن لم يستعمل مصطلح الأزل بالمطلق، بل استعمل العلم ربطا بالمعلوم، أي باعتباره ظاهرة كشفيّة متعلّقة بما هو موجود في عالم الشهادة سواء علمه الإنسان أم غاب عنه بسبب توالي الأزمنة من جهة، أو ما له علاقة بالغيب المطلق الذي هو من عالم الملكوت الذي هو من عالم الأمر والخلق والملأ الأعلى. ما يعني أن علم الله يشمل ما كان وما هو كائن وما سيكون حال أن يكون، أي حال وجوده، أما مصطلح "الأزل" فلم يرد في القرآن الكريم بالمطلق، بل ابتدعه الفقهاء للقول أن كل ما حدث ويحدث وسيحدث يدخل في علم الله الأزلي، الأمر الذي يتنافى مع إرادة الله المطلقة التي لا يجبرها علم مسبق، ويتعارض أيضا مع مبدأ العدل الإلهي لأن الله تعالى وكما يوضّح في عديد الآيات القرآنية لا يخلق إنسانا بمصير مسبق ليكون سعيدا أو شقيّا، وهو الأمر الذي شرعن لمقولة الجبر بمفهومه الغليظ ما ينفي عن الله العدل سبحانه وتعالى عمّا يصف الجاهلون، والله تعالى يقول أن مسألة الكفر والإيمان  تتوقّف على إرادة الإنسان وحريّة اختياره في الحدود المسموح له التصرّف في إطارها، وعلى أساس ذلك يهديه الله السبيل فتتم مساءلته يوم العرض ليلقى الثواب أو العقاب الذي يستحقّه بقدر مسؤوليته عمّا كسبت يداه في التجربة الدّنيوّية.

أما قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) لقمان: 34. فهي آية موهمة كغيرها فسّرها فقهاء الظاهر بالمعنى الذي يفيد أن علم الله هو صفة لذاته، وهذا قول لا يقبله عقل لأن الله سبحانه غني بكماله، والصفة إذا لحقت بالذات تكون الذات ناقصة، نعوذ بالله من أن نعتقد مثل هذا الاعتقاد الذي لا يقول به إلا من جهل ماهية الله ذات الله التي هي منتهى الكمال والجمال والقدرة لا تنقصها صفة لأن الصفات هي وسائط وظيفية بين الألوهية والربوبية. والتدبّر لمثل هذه الآيات يفضي حكما إلى قناعة تقول بأن العلم الذي يتحدّث عنه تعالى هو لأمر سيوجد بحكم مسبق، كأن تقول مثلا سأسافر يوم العاشر من الشهر القادم، فأنت بذلك لا تعلم ما سيحدث في ذلك اليوم لكّنك اتخذت قرارا بالسفر، والعلم بما سيحدث حينها سيظل معلّقا على أجل الحدوث لتعلق العلم بالمعلوم. ونفس الأمر يقال بالنسبة لعلم السّاعة الذي يعلم تعالى وقت حدوثها دون سواه، ويعلم ما سيحصل خلالها لأنه هو من حدد ذلك بشكل مسبّق وفق سنن وقوانين فيزيائية دقيقة، لكنه سيحدد حينها مصير العباد وفق نتيجة تجربة كل منهم الدّنيويّة، وإلا ما فائدة بعث الرسول والأنبياء إن لم يكن ذلك بهدف تذكير الناس بميثاقهم مع ربّهم وهدايتهم إلى طريق الخلاص لقوله تعالى: (رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) النساء: 165. وبالتالي فإذا كان ما يقوله الفقهاء صحيحا من أن الله يحدد مصير الناس إما أشقياء أو سعداء قبل خلقهم فذلك ولا شك سيشكّل للأشقياء حجة على الله يوم القيامة، وهو ما لم يقل به القرآن بالمطلق.

وهذا بالتحديد هو معنى أن "الله عالم لا بجهل" التي قال بها المعتزلة قديما، لأن العلم ليس صفة تتعلّق بذات الله، بل بفعل من خلق الله بحكم إحاطته بما خلق ومن خلق ساعة خلقه. فالخلق يكون دائما بقضاء، فيوصف بأنه حكم قطعيّ مبرم لا راد له لأنه بأمر "كن" كما سبق القول، والتنفيذ يكون دائما بقدر، أي بمقدار وأجل، والتنفيذ يخضع دائما للأسباب ومتغيّرات الزمكان، وهذا هو الفرق بين القضاء والقدر أي بين الحكم والتنفيذ.

على هذا الأساس فمعضلة فهم العلم الإلهي تتعلّق بمدى وعي الإنسان بالزمان وتشبّته بالمكان، فيعجز عن فهم معنى أن الله بكلّ شيء محيط لقوله تعالى: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا) الطلاق: 12. والعلم على الإحاطة هو علم الله المحيط بكل شيىء في ملكه وملكوته على الإحاطة بما حصل ويحصل أي بالحدوث في الماضي والحاضر بالمفهوم النسبي الذي لدينا حول الزمن من منظورنا الضيّق، في حين أن الزمن مجرّد وهم لا يسري على الله الذي لا يحدّه مكان أيضا، والإنسان بسبب عجزه عن تفكيك معنى الإحاطة بتجرّد خارج وهم الزمن، تراه ينطلق من مركز ارتباطه بالمكان والزمان في وعيه الذهني ليضيف إلى الله مفهوم العلم الأزلي الذي ينفي العلم الحصولي ويؤدّي إلى نتيجة كارثية تقول بالجبر بمفهومه الغليظ والتي تتعارض جملة وتفصيلا مع إرادة الإنسان وحرّية اختياره من جهة، ومع مبدأ العدل الإلهي من جهة ثانية، خصوصا وأن الله تعالى يقول:

- (مَّنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ۖ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ۚ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ۗ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا) للإسراء: 15.

والمعنى واضح لا يستقيم مع مفهوم العلم الأزلي التي لا أصل ولا فصل له في كتاب الله المجيد، خصوصا إذا علمنا أن صفة "الإحاطة" التي أطلقها الله تعالى على علمه في الآية 12 من سورة الطلاق، تؤيّد ما جاء في الآية 15 من سورة الإسراء، وبالتالي فلا جبر ولا ظلم ولا من يحزنون، مصداقا لقوله تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) المدثر: 38.

أما من يتحجّج بقوله تعالى: (غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ ۗ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ ۚ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ ۚ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ ۖ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) الروم: من 2 إلى 5. ليخلص إلى أن الأمر يتعلّق بعلم الله الأزلي، فنسى أن وعد الله الذي هو بمثابة قانون لا يتبدّل ولا يتغيّر يقضي بنصر المؤمنين لأن في انتصارهم انتصار لدينه، والروم هم أهل كتاب مؤمنين، ولا يمكن لمن يؤمن بالله ودينه أن يهزم وينقرض في الحرب الدائرة بين الكفر والإيمان، قد يهزم في معركة لأنه لم يأخذ بأسباب القوة مثلا، لكنّه سينتصر في الحرب لقوله تعالى في نفس الآية (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ)، والأمر هنا لا يعني العلم المسبّق بل الحكم المسبّق الذي هو من مجال القضاء المبرم لأنه بأمر "كن" والمرتبط بوعد الله بنصرة المؤمنين كلّما أخذوا بالأسباب، أسباب القوة طبعا، وهذا ما حدث للروم وفق ما يخبرنا التاريخ.  

وكل من يتدبّر القرآن إلا ويقف عند حقيقة واضحة مفادها، أن كلام الله هو خطاب موجّه لكائن عاقل وأخلاقي حرّ له إرادة، ليفهم المطلوب منه فيقوم به على أحسن وجه، وليس لكائن اصطناعي مبرمج على الفعل المحدّد له القيام به، ومصيره مكتوب سلفا فيما يسمّيه التراثيّون بعلم الله الأزلي. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق