بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 1 أغسطس 2023

هل "الدين الإبراهيمي" دين جديد حقا؟ (2/2) ...

 

(مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَٰكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا)

    - آل عمان: 67 -

في سعينا للوقوف على صحّة مفهوم "الدين الإبراهيمي الجديد" من عدمه نظرا لكثرة ما أثير حول هذه التّسمية من انتقادات لا تخلو من بداهة، تناولنا في الجزء الأول من هذا المبحث "مفهوم الدين" و"مفهوم الإسلام" انطلاقا من القرآن، مستشهدين في ذلك بعديد الآيات الكريمة التي تبيّن بوضوح المعنى الحقيقي لكل مصطلح على حدة، وخلصنا إلى أن الدين هو مجموع المعتقدات التي تعتنقها  جماعة أو أمة وتظهر من خلال سلوكها، وأن الإسلام هو الدين الوحيد الذي ارتضاه الله تعالى للعالمين في كل زمان ومكان، وأن لا وجود لدين غيره سوى الكفر بدليل ما ورد في سورة "الكافرون"، وأن كل الأنبياء والرسل من نوح صعودا إلى محمد هبوطا عليهم السلام جميعا كانوا مسلمين بشهادة القرآن، وبالتالي، فلا وجود لشيء اسمه "الديانة اليهودية" أو "الديانة المسيحية" ولا حتى "الديانة الإبراهيمية" قديمة كانت أم جديدة.../...

وهنا لا بد من الوقوف عند خلاصة أولية تترتب عليها نتائج خطيرة تقوّض ما استقرّ في الفهم الجمعي للأمة من معنى يخلط بين الدين والملّة، ذلك: أنّ الدّين مصدره إلهي لا بشري، وبالتالي فمن الخطأ الجسيم القول "دين إبراهيم" أو "الديانة الإبراهيمية"، لأن الدين لا ينسب إلاّ لله حصريّا، أما الملّة فلا تنسب إلى الله بالمطلق، بل إلى إبراهيم عليه السلام أو غيره كالآباء والأجداد وخلافه ممّا ورد ذكره في القرآن الكريم. 

وبعد أن أوضحنا مفهوم الدين ومفهوم الإسلام من القرآن نأتي الآن لاكتشاف مفهوم "الملّة" كما حدّده تعالى في محكم التنزيل والذي نعتبره كمؤمنين مصدرا للحقيقة.

مفهوم الملّة:

وردت كلمة "ملّة" منسوبة إلى إبراهيم الخليل عليه السلام 8 مرّات في القرآن الكريم لقوله تعالى:

- (ومن يرغب عن ملة ابراهيم الا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وانه في الاخرة لمن الصالحين) البقرة: 130.

- (وقالوا كونوا هودا او نصارى تهتدوا قل بل ملة ابراهيم حنيفا وما كان من المشركين) البقرة: 135.

- (قل صدق الله فاتبعوا ملة ابراهيم حنيفا وما كان من المشركين) آل عمران: 95.

- (ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة ابراهيم حنيفا واتخذ الله ابراهيم خليلا) النساء: 125. 

- (قل انني هداني ربي الى صراط مستقيم دينا قيما ملة ابراهيم حنيفا وما كان من المشركين) الأنعام: 161.

- (واتبعت ملة ابائي ابراهيم واسحاق ويعقوب ما كان لنا ان نشرك بالله من شيء ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون) يوسف: 138.

- (ثم اوحينا اليك ان اتبع ملة ابراهيم حنيفا وما كان من المشركين) النحل: 123.

- (وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة ابيكم ابراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة واتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير) الحج: 78.

فما معنى "الملّة" إذن؟ ...

من المفارقة العجيبة أن معاجم اللغة العربيّة لم تراعي الفرق القائم بين الدين والملّة، فاعتبرت أن الملّة (بتشديد اللاّم) هي الدين، لقول معجم المعاني على سبيل المثال لا الحصر: أنّ "ملّة أبيكم إبراهيم تعني دينه" (هكذا)، وهو تعريف مأخوذ ممّا استقرّ عليه فقهاء القشور من معنى لا يقول به إلا جاهل لأنه ينسب ما هو لله حصرا فيجعله لخلقه. ومن الفقهاء من ذهب حدّ القول: إن "الملّة والدين متّحدان بالذات ومختلفان بالاعتبار، لأن الشريعة من حيث أنها تُطاع تسمّى دينا، ومن حيث أنها تجمع تسمّى ملّة، ومن حيث أنّها يرجع إليها تسمّى مذهبا"، وهذا لعمري قمة الخطل العقلي. لأن الدين كما سبق القول لا ينسب للبشر بل فقط لله بخلاف الملّة التي تنسب للبشر ولا تنسب لله، أما الشريعة فليست مذهبا لأنها من مجال اختصاص الله الذي يشرّع لعباده ما فيه صلاح دنياهم وخلاص آخرتهم ولا علاقة لمذاهب الفقهاء بذلك ما دام التشريع في الدين مع الله يعتبر شركا.

وهنا نأتي إلى بيت القصيد، ذلك أن "الفطرة" لما لها من علاقة وطيدة بالدين جعلها الله تعالى مشتركة في جينات جميع البشر يولدون بها، وهي بمثابة المادة الأوليّة للديّن يسيغها الإنسان في مختلف مراحل حياته حسب قناعاته المتولّدة من طريقة تفكيره، أي من الملّة التي سيتبعها، أو إن شئت قلت من طريقة التفكير التي سينهجها للوصول إلى الحقيقة الدينية المتمثلة في وحدانية الله وعدم الشرك به، تماما كما فعل إبراهيم عليه السلام. 

وهذا يعني، أن الملّة وفق المفهوم القرآني تعني تحديدا طريقة ومنهج التفكير الذي على الانسان اتباعه للوصول إلى الحقيقة التي لا تورث بالنقل من ثقافة القبور ميّت عن ميّت، بل تتكرّر دائما وابدا مع كل إنسان يخوض تجربة الابتلاء من خلال التفكير بالعقل، تماما كما حصل مع إبراهيم الخليل عليه السلام، لذلك أمر الله تعالى عباده باتباع ملّته، أي طريقة تفكيره للوصول إلى حقيقة التوحيد بالعقل الذي يولّد الإيمان القوي المبني على القناعة الذاتية بدل الاتباع كما هو حال المسلمين الذين أخذوا دينهم بالوراثة.

وهذا بالتحديد هو ما أشار إليه ضمنا عبد الله العروي في مؤلفه القيّم (السنّة والإصلاح – الطبعة الأولى – ص: 70) بقوله: "تجربة إبراهيم فريدة، قابلة للتجدد والتكرار، لكن في صورتها الأصلية قبل كل تخصيص". هذا الكلام يعني بالعربي الفصيح أن من أراد الوصول إلى الله فعليه بتكرار تجربة إبراهيم في صورتها الأولى، وذلك من خلال التفكير في خلق السماوات والأرض، لأن الإنسان كلّما أمعن التفكير في خلق الكون إلاّ وأدرك عظمة الله واكتشف أسرار الوجود وقدرة الخالق التي لا يعجزها شيء في الأرض ولا في السماء.  

فما هي ملّة إبراهيم المتمثلة في منهجه وطريقة تفكيره التي أمرنا تعالى باتباعها وتكرارها ليتكشف لنا من خلال اتباعها المزيد من الأسرار عن عالم الملك وعالم الملكوت؟ .. أقول عالم الملكوت لأن الإنسان كلما سعى من خلال التدبّر بالعقل لمعرفة أسرار عالم الملك إلا وكشف له الله تعالى بعض من أسرار عالم الملكوت فضلا منه، وهذا هو ما حصل بالضبط مع تجربة إبراهيم الخليل عليه السلم.

 كيف ذلك؟ ...

في البدء كانت التجربة...

      قال تعالي: (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِين) الأنعام (6) الآيات : من 76 إلي 79.

      هكذا عرف إبراهيم ربه من خلال تجربته التأملية الفريدة... وإذا كان آدم في القرآن يمثل الأب الجيني بطبيعته المادية، فان إبراهيم هو الأب الروحي الذي نجح من خلال معراجه التأملّي في نقل الخلق من حالته البشرية البدائية الي أرقي حالات النضج في سلم الكمال الإنساني..  

      السماء لم تتصل بإبراهيم لتخبره أن له ربّا خالقا ومُدبّرا كما فعلت مع نوح في وقت لم يكن البشر على استعداد للنضج بعد...  بل إبراهيم وبمبادرة منه، هو من بدأ رحلة البحث عن ربه في المحسوسات أولا.. ولمّا لم يجده في الموروث من الأصنام التي قيل له أنها تجسد روح الآباء والأجداد من أبناء نوح وآدم، هجر قومه وتوجّه الي السماء بحثا عن نور الحقيقة في لحظة تعقل فارقة في تاريخ البشرية.. لكن دون جدوى، فإبراهيم رغم كل ما بدل من جهد عقلي جبار بمقاييس عصره، لم يهتدي الي اكتشاف ربه في النجوم المضيئة والكواكب المنيرة على حد سواء، لأن أفولها كان السبب الرئيس في عزوف إبراهيم عنها كما يُفهم من الآيات السالفة.. وفي عز حيرته وأوج عجزه.. جاء الكشف، فقذف الله نور الحقيقة في روعه، فعرف إبراهيم أخيرا من هو ربه فقال: (إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين). لقد كشف الله عن إبراهيم عليه السلام حجب الجهل الكثيفة التي كانت تحول بينه وبين معرفة الحقيقة معرفة يقينية لا يرقي إليها الشك، فتذكّر فجأة ميثاق ربه الذي عقده معه في عالم الذر، وأدرك سر وجوده ومناط تجربته الأرضية، وأطلعه تعالى على أسرار الغيب الخاصة بالأجرام السماوية، أي على ملكوتها الخفي كما يقول ابن رشد في تهافت التهافت (ص: 52): (وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين) أي أنه أطلعه على خلق السماوات والأرض وهو ما لم يطلع عليه أحدا غيره.   

      هكذا أصبح إبراهيم إذن، المُفكّر العقلاني والفيلسوف الصوفي الأول في تاريخ البشرية، فاستحق بذلك أسمى الدرجات وأرقي الألقاب الربانية.. لأنه إذا كان آدم يوصف بأنه "صفي" الله، ونوح "نجيّه"، وموسى "كليمه" وعيسى "كلمته وروحه"، ومحمد "حبيبه"، فان إبراهيم جمع أكثر من صفة، فجعله الحق سبحانه "صدّيقا" (بتشديد الدّال) و "نبيّا" بما كشف له من أسرار الغيب، و "رسولا" بما حمّله من شريعة وطريقة عبادة إلى قومه (صحف إبراهيم)، بحيث في عهده فرضت كافة طقوس وشعائر العبادة من صلاة وصوم وحج وذمر وتسبيح، وجعله "تقيّا" و "وفيّا" و "إماما" و "أمّة" وفق ما يستفاد من مختلف آيات الذكر الحكيم.. وإذا كان إبراهيم يشترك في هذه الصفات مع الرسل والأنبياء كافة من ناحية الفضل، فان صفة "خليل الله" لم يحظى بها نبي أو رسول قبله لقوله تعالى: (واتخذ الله إبراهيم خليلا) 4: 125. 

      وأصل الخليل بالمعنى اللّغويّ المجازيّ: "الصاحب الحميم"، و "الرفيق الوفي الملازم"، لكن مثل هذا المعنى لا يجوز أن توصف به العلاقة بين الله وأحد عباده. أمّا من حيث المعنى الاصطلاحي، فيعتبر "التّخلل" هو امتزاج الشيء بالشيء، كما في حالة الماء والخمر مثلا، حيث يعني الامتزاج والاختلاط استحالة تمييز الواحد عن الآخر لفرزه. غير أن هذا المعني الإشاري المجازي المتداول لغويا عند الصوفية خاصّة، يطرح أكثر من إشكال لجهة تعارضه مع مفهوم التوحيد كما عرف ظاهريا في التراث الفقهي الإسلامي، حيث لا يمكن القبول بأن يكون لله صاحب أو خليل أو ولد، ولا أن يحل الله في بشر أو يتحد معه مخلوق.  وكل ذلك، مع التسليم بأن له ما في السماوات والأرض من دون أن يكون له شريك في الملك أو الحكم من خارجه أو معه، وهذا هو معني "لا إله إلا الله"..  وحيث أن الأمر كذلك: 

- فما معني أن يُسمّي الله إبراهيم خليلا؟ ...

مفهوم الخلّة:

      بالبحث في التراث، من خلال أمهات التفاسير التي بين أيدينا اليوم (الطبري، الزمخشري، الطبرسي، الرازي، القرطبي، ابن كثير، البيضاوي، المحلي والسيوطي، الشوكاني ... وغيرهم كثير...)، نكاد لا نجد شرحا شافيا لكلمة "خليل" الواردة في الآية 125 من سورة النساء.  والحقيقة أن ما من مفسر لاحق إلا ونقل عن السابق شيئا مما أورده، فيما استعان البعض بمبضع التأويل لرد ما أثير من تناقض حول المفهوم، بينما حاول البعض الأخر عبثا تأصيل المعني بناء على عدد من الأساطير والخرافات التي لا نجد لها في كتاب الله أصلا ولا فصلا. أما بعضهم، فقد بلغ به اليأس حد القول إن الجملة في الآية اعتراضية ولا محل لها من الإعراب (هكذا)، وكأن الله سبحانه وتعالي يتكلم لكيلا يقول شيئا.  وخلاصة القول إن مفهوم الخليل قد أخد العديد من المعاني عند المفسرين قديما، كالولي، والحبيب، والمساير في الطريق، والمتبع للشرع، والمتخلق بخلق الله، والإمام...الخ... وهي في مجملها أوصاف مشتركة بين الأنبياء والرسل جميعا، بل وبعضها تخص المؤمنين أيضا. وبالتالي، فإننا لا نكاد نجد تفسيرا مميّزا يعطي لمفردة "الخليل" مدلولها الحقيقي الذي خص الله به أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام. ومرد ذلك، يعود في اعتقادنا إلى إشكالية المعني الذي تفصح عنه الكلمة، والذي لا يستقيم مع السائد من مفاهيم حول ماهية الله ذاتا وموضوعا من جهة، وطبيعة الإنسان ومفهوم التوحيد كما أصّله فقهاء الظاهر من جهة أخري.  لكن الأمر يختلف تماما عند الصوفيّة، فمحيي الدين ابن عربي مثلا يقول في شرح معنى الخليل:

 "قال الله تعالى واتخذ الله إبراهيم خليلا، وقال النبي عليه السّلام لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا  ولكن صاحبكم خليل الله، والمخاللة لا تصح إلا بين الله وبين عبيده، وهو مقام الاتحاد، ولا تصح المخاللة بين المخلوقين، وأعني من المخلوقين من المؤمنين، ولكن قد انطلق اسم الأخلاء على الناس مؤمنيهم وكافريهم، قال تعالى الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدوّ إلا المتقين، فالخلة هنا المعاشرة، وقد ورد أن المرء على دين خليله، وقيل في مقام الخلة قد تخللت مسلك الروح مني وبذا سمى الخليل خليلا، وإنما قلنا لا تصح الخلة إلا بين الله وبين عبده لأن أعيان الأشياء متميزة، وكون الأعيان وجود الحق لا غير ووجود الشيء لا يمتاز عن عينه فلهذا لا تصح الخلة إلا بين الله وعبيده خاصة، إذ هذا الحال لا يكون بين المخلوقين لأنه لا يستفاد من مخلوق وجود عين، فاعلم ذلك واعلم أن شروط الخلة لا تصح بين المؤمنين ولا بين النبي وتابعيه، فإذا لم تصح شروطها لا تصح هي في نفسها، ولكن في دار التكليف فان النبي والمؤمن بحكم الله لا بحكم خليله ولا بحكم نفسه، ومن شروط الخلة أن يكون الخليل بحكم خليله، وهذا لا يتصوّر مطلقا بين المؤمنين ولا بين الرسل وأتباعهم في الدار الدنيا، والمؤمن تصح الخلة بينه وبين الله ولا تصح بينه وبين الناس، لكن تُسمّى المعاشرة التي بين الناس إذا تأكدت في غالب الأحوال خلة فالنبي ليس له خليل ولا هو صاحب لأحد سوى نبوءته، وكذلك المؤمن ليس له خليل ولا صاحب سوى إيمانه، كما أن الملك ليس هو صاحب أحد سوى ملكه، فمن كان بحكم ما يلقى إليه ولا يتصرّف إلا عن أمر إلهيّ فلا يكون خليلا لأحد ولا صاحبا أبدا، فمن اتخذ من المؤمنين خليلا غير الله فقد جهل مقام الخلة، وان كان عالما بالخلّة والصحبة ووفاّها حقّها مع خليله وهو حاكم فقد قدح في إيمانه لما يؤدى ذلك إليه من إبطال حقوق الله" فلا خليل إلا الله، فالمقام عظيم وشأنه خطير والله الموفق" (الفتوحات المكّيّة: ج 2 ص 22).

      فالنسبة لاين عربي، يعتبر مقام "الخليل" مقاما عظيما وشأنا خطيرا، فالخلة كما يقول لا تصح بين الناس، بل فقط بين الله وعباده، واستشهد بحديث للرسول مفاده، أنه عليه السلام "خليل" الله، وأن الخلة لا تصح بينه وبين غير الله، اذ لو كان متخذا من الناس خليلا لأتخذ أبو بكر خليلا.  ويستفاد من كلام ابن عربي، أن الخلة من حيث المعنى الظاهر هي مقام "اتحاد" بين الله والعباد، وهو ما لا يمكن التسليم له به من قبل فقهاء الرسوم وحراس العقيدة، الذين يعتبرون مثل هذا القول كفر وهرطقة، هذا في الوقت الذي يطرح فيه القرآن مفهوم "الخليل" باعتباره حقيقة عارية مجردة، ليجوهر به المعني الحقيقي للتوحيد في الإسلام، وسر علاقة الاتحاد التي تربط بين الله وعباده من حيث الروح لا الجسد لقوله تعالى (ونفخت فيه من روحي)، مرموز إليها بعملية "التخلل" القائم بين الله وإبراهيم عليه السلام. غير أن مثل هذا الكلام التفصيلي المُركّب، الصادر عن متصوف عارف بخبايا الأمور وبواطن الأسرار كالشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي، يبوح بالكثير دون أن يفصح عن شيء يذكر فيما له علاقة بمعني الكلمة على وجه التحديد. بل إنه وفي سياق تفصيله لمختلف أوجه الخلّة ومع من تصح أولا تصح، نخلص إلى أنه يتهرب من الاقتراب من المدلول ولو من باب التأويل ليساعدنا على إدراك طبيعة العلاقة التي يؤسسها بين الله وإبراهيم من جهة، والله والمؤمنين من جهة ثانية، وذلك من خلال مقاربة حقيقة التخلل بالمفهوم الباطني الموجود بينهما، ولا يشير من قريب أو بعيد إلى معني "الخليل"، سواء المعني اللغوي الظاهر من تراكيب الخطاب، أو المعني الاصطلاحي الكامن في تفاصيل كيميائه.  وكأن ابن عربي بموقفه هذا، يريد أن يستأثر بالمعني اللطيف لنفسه، ويرفض أن يتقاسمه مع غيره من باب التقيّة خوقا من سلاح التكفير والقتل.  فهل الأمر يتعلق فعلا بما يقال عن أنه اللغز الخفي، وسر الأسرار الذي لا يدرك بالعقل، بل فقط بالذوق؟  الجواب يصعب استنباطه من تعابير ابن عربي، لأن هذا العالم بما هو عالم – والتعبير لابن رشد – ليس قصده إظهار الحقيقة مجردة للعيان، بل التستر وراء لغة الرمز والإشارة، تلافيا لإثارة الشكوك وتحيير العقول على ما يبدو، وان كان أحيانا يستعمل بعض المصطلحات الصادمة لإيمان العامة، كمقام "الاتحاد" مثلا، والذي يعتبر من حيث الظاهر كفرا وفق عقيدة فقهاء الظاهر الذي ينظرون لهذا النوع من العلاقة بمنظار التجسيد لا التجريد.

      مثل هذا النوع من التساؤل يستمد شرعيته من طبيعة ما كان يبحث عنه إبراهيم الخليل عليه السلام في الكواكب التي كان يتأملها، هل هو شكلها وحجمها أم طبيعة النور الذي كان يصدر منها فيتخلل حاسة الإبصار التي تدرك الأشياء بفضلها فتعقلها لقوله تعالى (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار) في إشارة إلى النور الذي هو الله (بدليل منطوق الآية 35 من سورة النار)؟  يقول الغزالي في رحلته المعرفية انطلاقا من المحسوس، مرورا بالعقل، وانتهاء بالذوق ما مفاده: "أن حاسة البصر تنظر إلى الكوكب فتراه صغيراً في مقدار دينار، ثم الأدلة الهندسية تدل على أنه أكبر من الأرض في المقدار، وعليه فان الحسيات غير يقينية ولا توجب أن نسلم بها بصورة قاطعة". وبذلك، فلا يعقل أن تختزل تجربة إبراهيم عليه السلام في البحث عن الله عن طريق معرفة حقيقة حجم الكواكب بقياسات العقل من خلال قوله (هذا ربي هذا أكبر)، لأن الكبر هنا لا علاقة له بالحجم، بل بقوة الضياء في الشمس مقارنة مع خفوت النور في حالة القمر. فالذي كان يبحث عنه إبراهيم عليه السلام بالتحديد، هو منبع النور الحي الدائم، أي نور الأنوار ومصدر كل الأنوار الوهاجة منها واللطيفة. ولو لم يقذف الله العليم المؤمن شيئا من نور علمه وإيمانه في قلب إبراهيم عليه السلام، لما عرف إبراهيم ربه علي حقيقته وولي وجهه شطره حنيفا، معرضا عن نور الكواكب وضياء النجوم الآفلة، رافضا أن يعتبرها آلهة تعبد مع الله فيكون بالتالي من المشركين.. لأن إله إبراهيم أكبر وأقوي من كل ما يري من حوله، انه بتعبير إبراهيم (فاطر السماوات والأرض)، أي أصل الخلق والمخلوقات.. وهذا الأصل هو نور السماوات والأرض كما يعرف الله تعالي نفسه في الآية: 35 من سورة "النور". 

      من اللافت هنا مقارنة تجربة الغزالي وابن عربي مع تجربة إبراهيم الروحية.. فكما سبقت الإشارة في تعريف الصوفية، لم يهتدي الغزالي ولا ابن عربي الي الحقيقة عن طريق النقل (الإسلام الموروث)، ولا عن طريق العقل بأدوات الجدل الفلسفي (منهج الشك والاستدلال المنطقي) وفق ما يؤكدان في كتاباتهما، وإنما عرفا الحقيقة عارية مجردة تبوح عن جسدها من طريق ثالث يعتمد الخلوة، أي الانقطاع الي الذكر والتأمل العميق في انتظار الكشف الذي يتم بواسطة قذف نور المعرفة اللّدنية في روع السالك الأمر الذي يجعلها معرفة إشراقية قلبية لا عقلية. ففي كتابه: "المنقذ من الضلال" صفحة 60، يقول أبو حامد الغزالي: "أن العلم اليقيني هو الذي يكشف فيه المعلوم انكشافاً لا يبقى معه ريب ولا يقارنه إمكان الغلط والوهم". هذا النور الإلهي اللطيف الذي يفيض الله به على من يشاء من عباده، فتتكشف له البديهيات والحقائق الأولى، هو "مفتاح أكثر المعارف". ويستدل الغزالي على جوهر هذا النور بالقرآن والحديث، يقول تعالى: (فمن يُرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام). ولما سئل رسول الله عليه السلام عن شرح هذه الآية قال: (نور يقذفه الله في القلب).  فقيل وما علامته؟ قال: "التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود". فمن ذلك النور ينبغي أن يُطلَب الكشف، وهو ينبجس من الجود الإلهي في بعض الأحايين، فيجب الترصد له كما قال عليه السلام: "إن لربكم في أيام دهركم نفحات، ألا فتعرّضوا لها"، وهو ما يستوجب المثابرة على الذكر والاستعداد الدائم لتلقي هذا النور الإلهي اللطيف.

       وبهذا المعني، يكون إبراهيم الخليل عليه السلام، هو أول من عرف الحقيقة اللدنية معرفة يقينية تامة لم يبقي معها ذرة من شك أو ظل من وهم.  ولم تأتي هذه المعرفة بمحض الصدفة، بل حصلت بعد أن أعياه النظر بالحواس وأعجزه التدبر بالعقل، فكافأه الله على اجتهاده وتقرّبه بأن قذف نور الحقيقة في قلبه، فامتلك الخليل عليه السلام بذلك "مفتاح أعظم المعارف"، حيث انكشفت له حقيقة الحقائق وسر الأسرار.. الذي ليس في حقيقة الأمر سوي الله الذي هو نور السماوات والأرض... فقال عليه السلام بمنتهي العزم والثقة: (إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين). 

     وبذلك، يكون إبراهيم الخليل عليه السلام، أول صوفي عرفه التاريخ البشري، ويكون الطريق كما اتبعه وبيّنه الصوفية من خلال تجاربهم الروحية، هو المسلك الوحيد و الصحيح لمن أراد معرفة الحق والحقيقة، معرفة قلبية يقينية على غرار سنة أب الأنبياء وإمام المُوحّدين، رمز الإنسان الأخلاقي العاقل، الناضج في مسعاه نحو الكمال.  وهو ذات الإنسان الذي تجمعت فيه كل الحقائق الإلهية الظاهرة والخفية، باعتباره المجلي المظهر للحق ومرآته، كما يقول ابن عربي في بيانه لمرتبة "الخليل". فالحق يتخلل صورة إبراهيم وإبراهيم يتخلل جميع ما اتصفت به "الذات الإلهية" من صفات. فهناك تبادل في فعل التخلل والدليل عليه تبادل ظهور كل من الحق والخلق بصفات الآخر، وليس المتخلل والمتخلل سوي الظاهر والباطن.. يقول ابن عربي: "إنما سمي الخليل خليلا لتخلله وحصره جميع ما اتصفت به الذات الإلهية" هنا يتكلم ابن عربي عن الذات الإلهية بالتحريد الأمر الذي لا يعني التجسيد بالمطلق، فخطابه المُركّز، يوحي بأنه يعرف ماهية هذه الذات من حيث الموضوع، من دون أن يفصح عن طبيعتها الحقيقية. ثم يسترسل فيقول: " قال الشاعر: 

قد تخللت مسلك الروح مني          وبه سمي الخليل خليلا

كما يتخلل اللون المتلون... أو لتخلل الحق وجود صورة إبراهيم عليه السلام... ألا تري الحق يظهر بصفات المحدثات... ألا تري المخلوق يظهر بصفات الحق... فالمتخلل محجوب بالمتخلل... فاسم المفعول هو الظاهر، واسم الفاعل هو الباطن المستور" (فصوص الحكم ج 1 ص: 80 – 81).

- لكن ما هي هذه الذات الإلهية التي يرفض الصوفية عموما الإفصاح عنها بصريح العبارة، متعللين في ذلك بمحدودية اللغة البشرية تارة وبضرورة مراعاة مستويات الفهم لدي الناس تارة أخري؟

      بالرغم من أن الغزالي يعلن صراحة في (المنقذ، ص97): "أن الصوفية هم السالكون لطريق الله خاصة وأن سيرتهم أحسن السيَر وطريقهم أصوب الطرق وأخلاقهم أزكى الأخلاق".. إلا أن الكثير من فقهاء الظاهر من أتباع الإمام ابن حزم والإمام ابن تيمية، وبسبب رفضهم المطلق للتصوف كطريق في الله يؤدي إلى معرفته، وعدم قبولهم بنظرية "الظاهر والباطن والحد والمطلع" في فهم القرآن، فقد ذهبوا مذاهبة بعيدة في تكفير المتصوفة من دون حجة من عقل أو دليل من شرع. وذلك بسبب شطحاتهم وفق ما يبدوا لهم في الظاهر، وما يصدر عنهم من أقوال تستعمل اللغة بطريقة ثورية، جريئة ومستفزة.. الأمر الذي يزعزع إيمان العامة من الناس، أو إيمان "الجهال" بتعبير الإمامين الأنباري الحيثمي في وصفهم للإيمان بالوراثة بدل القناعة.  ولم يكن الأمر ليثير سخط حراس العقيدة، فيدفعهم لتأليب الرأي العام والساسة ضد المتصوفة لو أن هؤلاء "العارفين" بالله ظلوا مُتستّرين وراء أسلوب التلميح الغامض بلغة الرمز والإشارة بدل الإفصاح عمّا وصلوا إليه من معارف بصريح العبارة، كقول الحلاج: "ما في الجبة إلا الله"، و "سبحاني ما أعظم شأني"، أو "أنا الحق"، التي كانت القطرة التي أفاضت الكأس وأدت إلي محاكمته من قبل الحنابلة في العراق، فقتل شر قتلة عن طريق الشنق وقطع الأطراف، وتوزيعها على الجهات الأربع للبلاد الإسلامية، ليكون عبرة لمن يُعتبر. لكن دمه لم يغسل من الوجود أفكاره ولا أنسي الناس مقولاته. فتحول إلي شهيد الحب الإلهي.  وله قصيدة مشهورة تغنت بها الأجيال يقول في مطلعها:  

يا نسيم الريح قولي للحشا          لم يزدني الورد إلا عطشا

لي حبيب حبه وسط الحشا      لو يشأ يمشي على خدي مشا

روحه روحي وروحي روحه      إن يشأ شئت وان شئت يشا

والبيت الثالث من القصيدة يجسد بشكل دقيق مفهوم "التخلل" الذي يقصده الصوفية بعباراتهم الاشارية، والحبيب المشار إليه هنا هو الله سبحانه وتعالى، مع توظيف إشاري للآية الكريمة التي تقول: (وما تشاءون إلا أن يشاء الله). وبنفس الإشارة الجمالية والتحدي لجهة تفكيك المعني، نجده يقول في قصيدة أخري: 

أنا مَن أهوى ومَن أهوى أنا               نحن روحان حللنا بدَنا

فإذا أبصرتني أبصرته                     وإذا أبصرته أبصرتنا

وهو هنا يستعمل مصطلح "الإبصار" للدلالة على الحقيقة التي يبصرها الصوفي من دون الإفصاح عن ماهيتها، وهي لا تختلف في الجوهر من حيث طبيعتها الواحدة، لكنها تتعارض في الظاهر مع منطوق الآية الكريمة التي تقول (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار).  لأن الأمر في النهاية، يتعلق بروحين حلا في نفس البدن، أي بنورين سكنا في قلب واحد: "نور الروح" و "نور المعرفة" التي تجلت من خلال الكشف الرباني عن طريق الإشراق، فالتحما معا من حيث أنهما اختلطا وتخلل الواحد الآخر، كتخلل الماء الخمر في الإناء وفق التعبير الصوفي.  وأصل الروحين ومصدرهما الله تعالي، أي أن الروح هي من عند الله والعلم المقذوف في القلب أيضا، وليس للمخلوق على الحقيقة شيء من وجود على الإطلاق، لأن الوجود لله وحده من دون شريك من قبل ومن بعد. بل حتى المادة هي مصنوعة من حمأ مسنون بالنار والنور.. والعلم يؤكد اليوم أن المادة لا تفني بل تتحول الي طاقة والطاقة تولد المادة، وهكذا الي ما لا نهاية..

      لكن ما حصل، وبسبب سوء فهم العبارة الصوفية من قبل المُجسّدة الذين يأخذون بظاهر القول ويعتقدون أن لله جسم ويدين وعينين وأذنين ورجلين، مثله مثل البشر، فقد سارع فقهاء الظاهر الي اتهام الحلاج وابن عربي و البسطامي وابن السبعين وغيرهم بالكفر والزندقة، ووسموهم بالهرطقة، وبأنهم يقولون بالاتحاد والحلول ووحدة الوجود وما إلى ذلك.. وقد ساعدهم في حملاتهم التكفيرية هذه، شطحات المتصوفة أنفسهم، لعدم كتمانهم ما يتفاعل بقوة في وجدانهم من حال فلا يستطيعون عليه صبرا، وقد ذهب الحلاج مثلا حد القول منشدا:

رأيت ربي بعين قلبي فقلت            من أنت؟  قال: أنا أنت

وواضح أن عين القلب هي جوهر الإنسان، أي الروح العاقلة، المعبر عنها ضمنا بنور البصيرة، التي رأي بها الحلاج نور ربه حين قذفه في قلبه في لحظة صفاء، ولم يقل أنه أبصر شيئا آخر له أيدي يبطش بها أو أرجل يمشي بها بين الناس، لأن الحلاج استعمل في مطلع البيت مصطلح الرؤية بالقلب وليس الإبصار بالبصر. وفي هذا الصدد، ينصح أبو حامد الغزالي المتصوف "الذي لابسته مثل هذه الحالة من الوجد"، أو غيرها من الحالات، ألاّ يزيد على القول التالي: «وكان ما كان مما لست أذكره.. فظُن خيراً ولا تسأل عن الخبر". 

وقول الغزالي ذلك جاء من باب التقيّة درءا لما يمكن أن يصيب الصوفي من شر بسبب خطر من يدينون بإسلام فقهاء الظاهر المتشبّعون بالفكر التكفيري والمجبولون على السلوك الإرهابي. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق