بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 30 ديسمبر 2018

ثنائية الظاهر و الباطن (2/1)



هناك لحظتان فارقتان في حياة الإنسان: لحظة الولادة، ولحظة الموت. وإذا كانت الولادة مجرد انبعاث للروح الأزلية في مستودع الوجود المادي الفاني الذي هو عالم الظاهر، فإن الموت ليس النهاية بل فقط البداية لخلود الروح في عالم الغيب الذي هو عالم الباطن.. وبين العالمين يعيش الإنسان الحيرة الشديدة المعبر عنها بالضلال، سعيا للخروج من الدهشة والغفلة والجهل، في محاولة مستميتة لتلبية نداء الوجود، نداء آدم الذي سعى بعد طرده من الجنة إلى العودة إليها، بدافع غريزة الخلود، بعد أن يمر بتجربة المحبة وما تعنيه من معاناة وشقاء مع اللوعة والتوق والشوق.../...

هذا السعي المستفز والمشوب بالحيرة والقلق والخوف والرغبة، هو الذي يولد لدى الإنسان سؤال الوجود والمصير، فيكرس حياته في تجربته الأرضية بحثا عن الحقيقة التي تؤمّن له السكينة والطمأنينة والاستقرار، أي عن اليقين الذي يخرجه من خواء الإحساس إلى نور المعرفة الذي يضيء له عتمات الجهل فيحوّله إلى كائن عارف. واليقين في أصل اللغة وفق ما ذهب إليه الجرجاني هو الاستقرار، ومصدره أن يستقر الماء في الحوض لقول العرب: "يقّن الماء في الحوض" إذا استقر ولم تعد له حركة.

وإذا كان الإنسان منظومة إحساس يتلقى بواسطتها الدماغ الإشارات الخارجية من عالم الظاهر فيعالجها وفق آلياته من جهة، ومنظومة شعور منبعه الفطرة المرتبطة بعالم الباطن الذي محله القلب جوهر الإنسان ومكمن روحه، فإن اليقين بالشيء لا يحصل إلا إذا اقتنع به العقل واطمأن له القلب وخضعت لسلطانه النفس، والسؤال هو: كيف يمكن الجمع بين الإحساس والشعور ليحصل الاستقرار؟ أو بعبارة أخرى: كيف يمكن الجمع بين الظاهر والباطن ليحصل اليقين؟

القرآن يجيب عن هذا السؤال بالقول: (واعبد ربك حتى يأتيك اليقين) الحجر: 99. والمراد بالعبادة وفق ما يفهم من ظاهر الآية الأخذ بالعبودية منهجا بما يستلزمه من طاعة وتوكل وتسليم، وهي أمور من مجال الإيمان، حيث تبدو في ظاهرها مناقضة لمبدأ الحرية الذي تتوق له النفس، وفي نفس الوقت تبدو الحرية مناقضة للإيمان الذي هو من مجال الحدس المعبر عنه بالفطرة، أي عالم الروح والباطن القابع وراء حجب الستر.

ولفهم هذه المعادلة التي تبدو متناقضة من حيث الظاهر، لا بد من معرفة طبيعة تكوين الإنسان المشكلة من ثلاثية النفس والروح والعقل. والصراع هو بين:

-        النفس الحيوانية التي تنجذب لأصلها السفلي، أي للطبيعة التي خلقت منها لقوله تعالى: (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء) النساء: 1، والحديث هنا هو عن الخلية المادية الأولى التي انقسمت وتطورت فتكاثرت وفق ما تؤكده نظريات العلم، ويعبر عنها القرآن بمصطلح المستودع لقوله تعالى: (وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع) الأنعام: 98. والمستقر هو المكان الأرضي المقدر للنفس العيش فيه.

وبين:

-       الروح التي تنجذب لأصلها العلوي، أي عالم الأنوار الذي أتت منه. ومصدرها نفس الله الأطهر الذي نفخه في الإنسان ليعلم ما لا تعلمه الملائكة وكل مخلوقات الوجود من باب التكريم الذي خص به تعالى آدم وذريته وفق ما يؤكد القرآن في أكثر من آية وسياق، حيث كلما وردت كلمة روح إلا ودلّت على معنى النور الذي هو سر الوجود بالاصطلاح الفلسفي والمفهوم العلمي معا. ومن خاصية النور أنه أصل الطاقة التي أوجدت المادة، وأننا لا نستطيع رؤيته أو إدراكه بالعين المجردة لكننا لا نستطيع أن نرى أو نعقل الأشياء إلا من خلاله، ومرد ذلك أن الله علّم آدم الأسماء كلها باعتبارها من عالم الظاهر، لكنه حجب عنه مُسمّياتها التي هي من عالم الباطن.

وأمام معضلة العلاقة الشائكة القائمة بين النفس والروح وصعوبة التوفيق بينهما كشرط لحصول اليقين، ومن ثم الشعور بالاطمئنان والاستقرار اللذان نتحدث عنهما، وهب الله تعالى للإنسان العقل الذي هو بمثابة الميزان الذي يقيس به الأشياء كلها، فيميز به بين الخطأ والصواب والحق والضلال والخير والشر وما إلى ذلك، لقوله تعالى: (ولقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط) الحديد: 25، وغيرها من الآيات التي تتحدث عن القسط في المعاملات وعدم الطغيان والفساد في الأرض والحكم بالعدل واتباع الهدى وتجتب الضلال، وهو غير المعنى الظاهري للميزان الذي ذهب إليه فقهاء الرسوم حين فسروه بأداة الكيل، فيما المعنى الحقيقي للمصطلح يحيل على عقل الإنسان الذي فاض عن العقل الأول  ليميز بين الأشياء ويقيسها استنادا إلى ما ورد في الكتاب المنزّل من علامات يهتدي بها الانسان في تجربته الحياتية ليضمن الخلاص في عالم الغيب، لقوله تعالى (والسماء رفعها ووضع الميزان) الرحمن: 7.

وبالتالي، فمن هذا المنظور تحديدا تكون منهجية التأويل معنية بالكشف عن ما وراء المعنى الظاهري للعلامات الذي هو بمثابة "حجاب" يستر المعنى الباطني المعبر عنه اصطلاحا بـ "معنى المعنى"، والذي يستحيل الوصول إليه من دون نور الله. ومن هنا أيضا يبرز الفرق الواضح بين الظاهر الذي يعطيه العلم الكسبي من جهة، والباطن الذي يعطيه العلم الوهبي من جهة ثانية.

وبهذا المعنى، يتحول البحث عن المعنى الباطن انطلاقا من ظاهر النص عملية تقشيرية تشبه إلى حد بعيد عملية تقشير البصلة طبقة بعد طبقة للوصول إلى نواتها الداخلية، وهذا هو المعنى الذي يشير إليه الحديث النبوي الشهير القائل: (إن للقرآن ظهرا وبطنا، ولبطنه بطنا إلى سبعة أبطن) جامع الأسرار ومنبع الأنوار للآملي (ص: 28). وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: (ما من آية إلا ولها أربعة معان، ظاهر وباطن وحد ومطلع، فالظاهر التلاوة، والباطن الفهم، والحد أحكام الحلال والحرام، والمطلع مراد الله من العبد بها) تفسير الصافي للفيض الكاشاني (الجزء 1 صفحة 28 – الطبعة الأولى لعام 1399 هـ)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (إن القرآن ذو شجون وفنون، وظهور وبطون) رواه ابن عباس وورد في الإتقان في علوم القرآن ج 2 ص 460. وقوله: (للقرآن ظهر وبطن، فظاهره حكم وباطنه علم، ظاهره أنيق وباطنه عميق) الأصول من الكافي، للكليني: ج 2 ص 599 كتاب فضل القرآن، الحديث رقم 2.

وتجاهل فقهاء الظاهر أو فقهاء الرسوم كما يسميهم الصوفية لهذا البعد الباطني في النص القرآني أدى إلى تعطيل العقل أو الميزان، وأنتج بالتالي، إسلاما صوريا مبثورا بلا روح، بعيد عن مسايرة متغيرات الواقع، ما جعله لا يعدو عن كونه نسخة مشوهة لأقصى الحدود عن الإسلام السمح الجميل الذي ارتضاه الله تعالى دينا للعالمين وجعل الإحسان أعلى مراتبه بما يعنيه من محبة وتسامح ورحمة، وهو ما انعكس سلبا على تصرفات المسلمين التي يشهد الجميع اليوم أن لا علاقة لها بإسلام القرآن من قريب أو بعيد، لما يشوب طباعهم المكتسبة من ثقافة القبور من حقد وكراهية وعنف.

والسؤال الذي تطرحه إشكالية الظاهر والباطن هو سؤال الفهم للتعامل مع الواقع، لأنه إذا كان كلام الله يحمل كل هذه الأبعاد الدلالية المستترة وراء ظاهر الكلام التي تحدث عنها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في الأحاديث التي أوردناها أعلاه، فكيف يمكن أن يحصل للإنسان اليقين من دون أن يستقر على معنى محدد يُقيّد النص؟

والحقيقة أن هذا التقييد المستحيل هو ما سعى إليه فقهاء الظاهر بسبب الجهل المستشري في الناس بحكم أنهم يأخذون إسلامهم بالوراثة بدل القناعة، وذلك من خلال التفسير الذي أتاح لهم احتكار انتاج المعنى الذي يعطيه ظاهر النص وانكار التأويل الذي هو السبيل الوحيد لسبر أغوار الباطن، فجاءت النتائج كارثية على كل المستويات كما أصبح معلوما للجميع. هذا فيما السر يكمن في مسؤولية الإنسان عن نفسه لقوله تعالى (كل نفس بما كسبت رهينة) المدثر: 38، وهي المسؤولية التي لا يمكن للإنسان أن يضطلع بها إلا إذا تعامل مع جدلية النص وعلاقته بالواقع بميزان العقل. لأنه إذا كان الواقع هو نتاج ديناميكية التطور بما يعنيه من تبدّل وتحوّل وتغيّر، فإن جمود المعنى الذي يعطيه التفسير لا يمكن أن يواكب الواقع المتحرك، فتكون النتيجة بالتالي مخالفة للنص والواقع معا، ومن خطورتها سجن النص في المرحلة التاريخية التي نزل فيها وتحويله بالتالي إلى نص تاريخي مغلق غير صالح لكل مكان وزمان.

ناهيك عن أن إنكار فقهاء الرسوم للبعد الباطني في كلام الله هو إنكار لاسم من أسمائه، لقوله تعالى في محكم كتابه: (هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم) الحديد: 3. فالله تعالى من خلال هذه الآية العجيبة التي تفصح عن معناها بشكل لا لبس فيه، يؤكد أن الأول والآخر والظاهر والباطن هي أسماء لذاته، وأن معرفته لا يمكن أن تتم إلا إذا عرف الإنسان نفسه وعرف العالم الذي خلق ليعيش فيه بتعقيداته، ما دام الوجود كله من عرشه إلى فرشه هو الله تعالى دون سواه.

وقد فسر ابن كثير وغيره من فقهاء السنة هذه الآية الكريمة استنادا إلى قول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم الذي رواه أبو هريرة ونصه: (والذي نفس محمد بيده لو أنكم دلّيتم حبلاً إلى الأرض السفلى، لهبط على الله" ثم قرأ: هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم). وذكر ابن كثير في معرض شرحه لهذا الحديث، أن بعض أهل "العلم" فسروا قول الرسول صلى الله عليه وسلم بما مفاده، أن "الحبل هبط على علم الله وقدرته وسلطانه، وعلم الله وقدرته وسلطانه في كل مكان، وهو على العرش كما وصف في كتابه".

غير أن مثل هذا التفسير السطحي لا يستقيم مع ما يقوله الصوفية حول حقيقة معنى الحديث، اذ يجزمون أن " تدلي الحبل" لا يقتصر فقط على (علم الله) كما يقول فقهاء الرسوم، وإنما وقع الحدث من داخل ذات الله سبحانه لا من خارجها، حيث يعتبر الوجود كله عين ذاته، وبالتالي، فأينما هبط الحبل فتم ذات الله تعالى. وطبعا هذا النوع من التفسير لا يستقيم مع عقيدة أهل الظاهر الذين يقولون بثنائية الله والعالم، أي أن العالم كالإنسان وكل الأشياء المخلوقة لها وجود مستقل عن وجود الله تعالى، وهي لا يمكن أن تكون ذاته. ومثل هذه الرؤية الثنائية المجردة للوجود والمناقضة لمبدأ التوحيد، يرفضها الصوفية ويعتبرونها مذهب شرك بالمفهوم الغليظ، حيث أنها (أي الرؤية) تقول بوجود شيء مستقل مع الله أو من خارجه، وهو ما لا يمكن أن يسلم به مؤمن عاقل. وسيأتي تفصيل ذلك في باب "الوجود بين الوحدة والثنائية".

وبالتالي، فهذا التقييد الذي اعتمده الفقهاء لوضع النص في معتقل التفسير الجامد حرم المسلمين من شغف المكابدة للبحث عن المعنى الحق. ذلك أن المعنى الحق نور يكشف عن مسميات الأسماء فيغمر الوجود بالسرور، لأنه عندما تصبح الأسماء مطابقة لمسمياتها يصبح الدال هو عين المدلول، تنكشف الحقيقة التي هي سر الوجود وغاية وجود الإنسان في ظل هذا الوجود.

وعودة لآية الأسماء المذكورة أعلاه، فقد فسرها بعض الصوفية بما مفاده: "الأول" قبل كل شيء، و "الآخر" بعد هلاك كل شيء، و "الظاهر" بالأدلة الدالة عليه، و "الباطن" غير مدرك بالحواس. وقيل أيضا: الأول قبل كل شيء بلا ابتداء، والآخر بعد كل شيء بلا انتهاء، والظاهر الغالب العالي على كل شيء فكل شيء دونه، والباطن العالم بكل شيء فلا أحد أعلم منه. وقيل: الأول بلا ابتداء، والآخر بلا انتهاء، والظاهر بلا اقتراب، والباطن بلا احتجاب.

وفسر ابن عربي هذه الأسماء بقوله: أن الله كان ظاهرا قبل الخلق ثم أصبح باطنا بعد الخلق، لقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم حين سُئل: أين كان ربنا قبل الخلق؟ فأجاب: (كان في عماء ليس فوقه هواء وليس تحته هواء)، وهو وضع ما قبل خلق السماوات والأرض وانعدام الهواء بسبب انعدام حركة الأجرام. وحين سُئل كيف هو الآن؟ قال صلى الله عليه وسلم: (هو الآن كما كان لا يزال)، ما يعني أن لا شيء تغير لأن لا وجود إلا لله الواجب الوجود وكل ما هو موجود هو عين ذاته من خلال تجلي أسمائه وصفاته، والشيء الوحيد الذي طرأ هو أن الله الذي كان ظاهرا لذاته قبل الخلق أصبح باطنا بعده، ومعرفته من قبل الإنسان لا يمكن أن تتحقق إلا بصبر أغوار هذا الباطن، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم (من عرف نفسه فقد عرف ربه)، ما دام الإنسان هو جرم صغير اجتمع فيه العالم الأكبر، ومعرفة الإنسان لذاته هي البوابة الإجبارية لمعرفة الوجود المعبر عنه في القرآن الكريم بـ "النور"، أو كما يقول ابن عربي في الفتوحات المكية (ج4 صفحة 136): "أنت مقلوبه وهو قلبك"، لأن ظاهر الإنسان هو باطن الحق وباطنه عين ظاهر الحق، فهو كالمرآة إذا رفعت يمينك عند النظر فيها إلى صورتك رأيت يمينك شمالها وشمالك يمينها، فالأشياء ليست كما تبدو من ظاهرها.

وبالنسبة لمتصوف عارف بأسرار المعاني كابن عربي، لا يعد القرآن نصا لغويا تاريخيا يمكن حبسه في سجن اللغة، لأن اللغة العربية نفسها ليست سوى ترجمة للغة الإلهية الأزلية، مثلها مثل بقية اللغات الأخرى التي نزلت بها الكتب السماوية السابقة: (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم) إبراهيم: 4. وفي هذا الإطار، يعتبر الشيخ الأكبر أن الوجود كما القرآن كلاهما كلمات الله، الأول مجالي لكلماته المنظورة، والثاني يمثل رموز وإشارات معبر عنها بكلماته المقروءة. وبالتالي، فليس المهم فهم كلام الله من خلال ظاهرة اللغة كما يقول، بل يكون ذلك عن طريق الاستماع إلى الله نفسه، باعتباره "هو" المتكلم من خلال مستوي الوجود (العالم)، ومستوي النص (القرآن) معا.
وفي سياق هذا التوازي يقول ابن عربي كذلك: " ولا تظن يا بني أن تلاوة الحق عليك وعلى أبناء جنسك من هذا القرآن العزيز خاصة. ليس هذا حظ الصوفي، بل الوجود بأسره (كتاب مسطور في رق منشور) تلاه عليك سبحانه وتعالى لتعقل عنه إن كنت عالما. وقد قال تعالى (وما يعقلها إلا العالمون)، ولا يحجب عن ملاحظة المختصر الشريف من هذا المسطور الذي هو عبارة عنك، فان الحق تعالى تارة يتلو عليك من الكتاب الكبير الخارج، وتارة يتلو عليك من نفسك، فاستمع وتأهب لخطاب مولاك إليك وفي أي مقام كنت، وتحفظ من الوقر والصمم، فالصمم آفة تمنعك من إدراك تلاوة الحق عليك من نفسك المختصرة، وهو الكتاب المعبر عنه بالفرقان إذ الإنسان محل الجمع لما تفرق في العالم الكبير" (مواقع النجوم: 67 – 68).
ولأن لكل شيء في الوجود ظاهر وباطن وحد ومطلع، فكلمات الله كذلك لها ظاهر وباطن وحد ومطلع. غير أن مثل هذا التوازي لا يعني أن ابن عربي مع التأويل القائم على الفكر والعقل والقياس، كما هو الحال بالنسبة للمعتزلة مثلا، بل يرفضه جملة وتفصيلا، وينصح المؤمن العادي بالاكتفاء بظاهر النص فقط، دون الخوض في تأويل المؤولة لمحدودية قدرته على الإدراك والتمييز. أما الصوفي العارف، فهو يعرف المعنى الحقيقي الباطن وراء المفردات والتراكيب التي توهم التشبيه، وذلك بتخلية القلب والاستعداد للفهم عن الله مباشرة من خلال العلم الوهبي اللدني، لأن الصوفي بما أنه من عباد الله العارفين والصادقين والصالحين والمقربين، وهبه الله تعالى أوجها من علم النبوة فأصبح بذلك من الوارثين لهذا العلم الشريف.
وفي هذا الصدد يقول ابن عربي: "وذلك بأن نفرغ قلوبنا من النظر الفكري ونجلس مع الحق تعالى بالذكر على بساط الأدب والمراقبة والحضور والتهيؤ لقبول ما يرد علينا منه تعالى حتى يكون الحق تعالى يتولى تعليمنا على الكشف والتحقيق" (الفتوحات: 1/89).
ومن خلال التماثل الذي يقيمه ابن عربي بين الوجود و القرآن، يتضح أن الإنسان هو مختصر الوجود و المحل الجامع الصغير له. ويُقسّم ابن عربي البشر معرفيا إلى أربعة أنواع تتماثل مع مراتب الوجود من جهة، ومع مستويات النص من جهة أخرى، وفق ما ورد في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم السابق الذكر. ويشير إلى ذلك د. نصر حامد أبو زيد في كتابه: (فلسفة التأويل - دراسة في تأويل القرآن عند ابن عربي - صفحة: 277)، فقول: "هناك رجال الظاهر، ورجال الباطن، ورجال الحد، ورجال المطلع. ولا تقوم العلاقة بين البشر العارفين بمستوياتهم الأربعة وبين موضوع معرفتهم – في الوجود والقرآن – على الانفصام والتميز بقدر ما تقوم على التداخل والتأثير المتبادل"، مستندا في ذلك إلى نص لابن عربي ورد في كتاب (تنزل الأملاك / 19 – 20 وفي الفتوحات المكية 1 / 187 -188، 4 / 9 - 10) ومفاده: " أن الرجال أربعة: رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وهم رجال الظاهر. ورجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، وهم رجال الباطن، جلساء الحق تعالى، ولهم المشورة. ورجال الأعراف وهم رجال الحد، قال تعالى: (وعلى الأعراف رجال...) وهم أهل الشم والتمييز والسراح عن الأوصاف، فلا صفة لهم، كان منهم أبو اليزيد البسطامي.  ورجال إذا دعاهم الحق يأتونه رجالا لسرعة الإجابة لا يركبون، قال تعالى (وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا...) وهم رجال المطلع. فرجال الظاهر لهم التصرف في عالم الملك والشهادة، وأما رجال الباطن فهم الذين لهم التصرف في عالم الغيب والملكوت، فيستنزلون الأرواح العلوية بهممهم فيما يريدونه، أعني أرواح الكواكب لا أرواح الملائكة، فيفتح لهؤلاء الرجال في باطن الكتب المنزلة، والصحف المطهرة، وكلام العالم كله ونظم الحروف والأسماء حيث معانيها ما لا يمكن لغيرهم اختصاصا إلهيا.  وأما رجال الحد، فهم الذين لهم التصرف في عالم الأرواح النارية، وهو عالم البرزخ والجبروت، وهم رجال الأعراف.   والأعراف سور حاجز بين الجنة والنار، برزخ باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب، فهو حد بين دار السعداء ودار الأشقياء.  وهؤلاء الرجال أسعد الناس بمعرفة هذا السور، ولهم في كل حضرة دخول واستشراف. وأما رجال المطلع، فهم الذين لهم التصرف في الأسماء الإلهية، فيستنزلون بها ما شاء الله وهذا ليس لغيرهم، وهم أعظم الرجال، وهم الملامتية".
ويشير د. نصر حامد أبو زيد في نفس المرجع، إلى أن ابن عربي ينسب هذا التقسيم إلى شيخه أبي محمد عبد الله الشكاز، حيث يورد نفس الآيات بتفصيل أكثر. 
ونحن إذ نجهل الظروف و الأسباب التي حدت بابن عربي إلى عدم الإشارة إلى المصدر الشيعي الذي استقى منه  شيخه الشكاز هذا النوع من التقسيم الذي قال به كبار أئمة الشيعة الأوائل، إلا أننا نرجح من باب الاستنتاج العقلي، أن يكون للأمر صلة بحساسية الوضع الذي كان قائما بين السنة أصحاب الشريعة من جهة، وأعدائهم الشيعة المتهمين بالباطنية من جهة أخرى، خاصة و أن شيخ الإسلام ابن تيمية المعاصر للابن عربي، سبق له و أن اتهم هذا الأخير بالكفر و الهرطقة وتبني نظرية وحدة الوجود "الفاسدة" وفق رأيه، مما دفع ابن عربي للدفاع عن نفسه معلنا رسميا أنه مسلم من أهل السنة والجماعة، أشعري العقيدة يؤمن بأحكام الشريعة. غير أن هذا الاستنتاج و برغم بعض القرائن التي تؤكد صحته، وتؤشر إلى أن ابن عربي فضل انتهاج التقية في هذا الشأن خوفا على نفسه، خاصة إذا عرفنا أن ابن عربي و خلافا لما ذهب إليه خصومه من أهل السنة والجماعة، لم يقل بمذهب وحدة الوجود بالتجريد الغليظ كما عرف عند الفلاسفة وبعض المتصوفة الغلاة، بل ذهب مذهبا آخر،  يقول بوحدة الوجود في إطار الثنائية، أي "الله والإنسان" و "الله والعالم"، من باب ستر الحقيقة، مُنبّها خصومه لعدم التسرع و السقوط في الأحكام المسبقة، ومراعاة إشكالية تعدد مستويات الفهم عند استنطاق نصوصه. كما أن أخد ابن عربي ببعض أفكار الشيعة المستمدة من مدرسة الإمام عليّ عليه السلام، والتي عرفت بمدرسة "علم القلوب" أو "الفلسفة النبوية"، لا يعني أن ابن عربي شيعي المذهب كما اتهمه الخصوم.. بل الراجح من قراءة كتاباته، أنه متأثر بالفلسفة النبوية الشيعية كما بغيرها من المدارس والاتجاهات الفكرية المختلفة، كمدرسة ألميرية التي أسسها ابن مسرة والتي جمعت بين إسلام الشرق وإسلام الغرب إن صح التعبير، نظرا لانتقال الأفكار والرجال بسهولة ويسر بين المشرق والمغرب الاسلامي زمن الأندلس.. وبهذا المعني، فهو سني المذهب، أشعري العقيدة كما يقول عن نفسه، لكنه في نفس الوقت شيعي الفكر، صوفي الهوى.
ولنا في التاريخ مثال حي لفيلسوف هليني متميز هو "مسكويه" الذي أعلن صراحة انتمائه إلى المذهب الفلسفي الشيعي، من دون أن يعني ذلك اعتقاده بمذهبهم الفقهي بالرغم من أنه فارسي الأصل. يقول د. محمد أركون في كتابه (نزعة الأنسنة في الفكر العربي – جيل مسكويه والتوحيدي): "إن الانتماء إلى المذهب الشيعي ليس هو الهدف الأساسي بالنسبة لمسكويه. فهو لا يهدف إلى التمذهب التقليدي المتمثل بالتعلق بآل البيت، أو أسرة عليّ، بقدر ما يهدف إلى أن يجد في هذا المذهب الديني استطالة للتعاليم الفلسفية أو تبريرا لها. فالتمذهب الفلسفي أهم في نهاية المطاف من التمذهب الديني بالنسبة له. وبالتالي فمن العبث أن نبحث عن الفرقة الشيعية التي ينتمي إليها مسكويه، هل هو زيدي؟  هل هو إمامي اثنا عشري؟ هذه الأسئلة غير مهمة بالنسبة له".
نفس الشيء يمكن أن يقال عن ابن عربي الذي كان على شاكلة مسكويه مع الاختلاف في المنحى بين الفلسفة والتصوف: لأن ابن عربي كان "يحتقر الخلافات الدينية والصراعات الفكرية بين المذاهب وداخل كل مذهب على حدة، وكان يؤمن بأن العقل إذا ما مورس بشكل صحيح فانه سيؤدي إلى الوحدة الجامعة" (نفس المرجع السابق).

أوردنا ما سلف للدلالة على أن قراءة باطن النص عملية صعبة ومعقدة لا يكفي القول بأنها تمر حتما من قراءة ظاهره وفق نظرية التلازم بين الظاهر والباطن التي يقول بها السنة، من دون قراءة الواقع أولا والانطلاق منه للارتقاء من مستوى الظاهر المتغيّر إلى مستوى البنية القائمة في الذات الحق، والمتستّرة وراء الرموز والإشارات والعلامات التي يعطيها ظاهر النص بعيدا عن الاسقاطات المُسبّقة التي تؤثر سلبا على آليات البحث. ذلك أن تخفي الباطن وراء الظاهر لم يكن اعتباطيا، بل حدث بحكم طبيعة الوجود نفسه الذي هو الله الذي قال عن نفسه أنه كل يوم هو في خلق جديد وكل يوم هو في شأن، الأمر الذي يضفي انسجاما وتناغما طبيعيين بين النص الصامت الذي هو كلام الله من جهة، والوجود المتحرك الذي هو عين ذاته، وهو ما يُميّز خصوصية الحضور في ظل الغياب الذي تستدعيه رؤية وإرادة ومشيئة الكينونة العظمى السارية في الحق والخلق من دون تعارض أو تناقض أو اختلاف.

وعودة لإشكالية أصل التقسيم المشار إليه أعلاه، والذي اعتمده الشيخ الأكبر نقلا عن أستاذه الشكاز كما يقول نصر حامد أبو زيد، فقد أورد الباحث هنري كوربان في كتابه " تاريخ الفلسفة الإسلامية – ص – 45 " ما مفاده، أن تعليم الأئمة الشيعة يسمح لنا بأن نفهم كيف أن التفسير القرآني، والتأمل الفلسفي كانا مدعوين "ليُجوهر" أحدهما الآخر، وفق تعبيره. فلدينا حديث الإمام السادس جعفر الصادق (148 هـ / 765 م)، الذي يقول: "إن في كتاب الله أمورا أربعة: العبارات، والإشارات، واللطائف، والحقائق. فالعبارات (ظاهر النص) للعوام، والإشارات للخواص، واللطائف (أي المعاني المستورة) للأولياء، أما الحقائق (أي العقائد الروحية) فلأنبياء الله تعالى". (تجد هذا الحديث في المقدمة التي يعقدها الملا محسن الفيض الكاشاني في تفسيره الشهير "الصافي").
وبموجب تفسير شيعي آخر: " ظاهر النص للسمع، والإشارات للفهم، واللطائف للتأمل، والحقائق (العقائد السامية) تتعلق بتحقيق الإسلام كله بعد بلوغ درجة الإحسان".
هذه الأقوال، هي صدى لقول الإمام الأول عليّ ابن أبي طالب كرم الله وجهه (40ه / 661 م) حيث روي عنه في تفسيره لحديث الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم الذي أوردناه أعلاه قوله: "ما من آية قرآنية إلا ولها أربعة معان: ظاهر وباطن وحد ومطلع.  فالظاهر التلاوة، والباطن الفهم، والحد هو أحكام الحلال والحرام، والمطلع هو مراد الله من العبد بها" أو المشروع الإلهي بتعبير آخر. ولهذا السبب بالذات قال الإمام عليّ كرم الله وجهه: "القرآن حمّال أوجه".
ويشير هنري كوربان في شرحه إلى أن هذه المعاني الأربعة الواردة في حديث الإمام عليه السلام، توازي المعادلة اللاتينية التي تطورت فيما بعد إلى ثنائية "الإيمان والمعرفة" متجاوزة فكرة "الحقيقة المزدوجة" التي كان يُعلّمها ابن رشد لتلامذته في معزل عن فلسفة الإسلام النبوية، مما أدى بها إلى مأزق لم تستطع الخروج منه منتصرة بعد أن استنزفت كل أدوات الاستدلال العقلي لديها، فانهزم الفكر المعتزلي إلى الأبد بسبب اعتقاده بنظرية "ثنائية الحقيقة" بدل التمييز بين مستويات المعنى الذي تفصح عنه نظرية "الحقيقة الكلية للوجود بدلالاتها المتعددة".




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق