بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 1 يناير 2019

ثنائية الظاهر و الباطن (2/2)



الظاهر والباطن في القرآن الكريم
بخلاف ما يقوله ابن تيمية وغيره من فقهاء الرسوم، من أن ظاهر الآيات وباطنها متلازمان من حيث المعنى، يزخر القرآن الكريم بعديد الآيات التي يبدو ظاهرها معارضا لباطنها ما يطرح إشكالية الدلالة، والتي لا يمكن الوقوف عليها إلا بإرجاعها إلى الأصل الذي يحكمها، وهذا هو معنى التأويل في القرآن، أي إرجاع المعنى الظاهر إلى المعنى الأول الباطن لفهم المراد من كلام الله، ولا يتم ذلك إلا من خلال إرجاع المتشابه إلى المحكم الذي يعقله.../...

هذه الإشكالية لا يمكن حلها من خلال التفسير بأدوات اللغة كما ذهب إلى ذلك الفقهاء، بل من خلال تأويل القرآن بالقرآن كما حثنا على ذلك الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم، وهذا التأويل لا يكون إلا بالتعلم في مدرسة الله من خلال تأمل ملكه وتدبر كلامه ليحصل الفهم المبين بالوحي الإلهي، لقوله تعالى: (لا تحرك به لسانك لتعجل به * إن علينا جمعه وقرآنه * فإذا قرأناه فاتبع قرآنه * ثم إن علينا بيانه) القيامة من 16 إلى 19. وقوله: (ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل ربي زدني علما) طه: 114. واتباع قرآنه يكون من خلال البحث في العلاقة القائمة بين النص والواقع، بين الظاهر والباطن.
هذه العلاقة الدقيقة والعميقة لا يمكن فهمها من خلال ما يعطيه ظاهر الكلام وظاهر المحسوس المادي من معاني، لأن الأشياء ليست كما تبدو للعيان، لقوله تعالى: (فلا أقسم بما تبصرون * وما لا تبصرون) الحاقة: 38 – 39. وهو قسم عظيم يشير بوضوح إلى ثنائية الوجود المكونة من عالم الظاهر وعالم الباطن.
وبالنسبة للمحسوسات التي هي من عالم الظاهر، نعلم يقيما من القرآن الكريم أن الله تعالى قد علم الإنسان دون الملائكة الأسماء كلها، لكنه حجب عنه مسمّياتها التي هي من عالم الباطن كما سبقت الإشارة خلال الحديث عن الآية 31 من سورة البقرة. وقيّد تعالى فهم هذه المسمّيات بجهد ومجاهدة وصبر ومثابرة الراغب ومدى درجة تقربه إلى الله قبل أن يفتح عليه بالفهم من خلال نور الوحي. وهذا هو العلم اللدني الوهبي الخاص، بخلاف العلم الكسبي المشاع الذي هو في متناول الجميع.
ولنا مثال آخر حول جدلية الظاهر والباطن، تناوله ابن رشد في شرحه لقوله تعالى: (وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين) الأنعام: 75. حيث زعم أن تجربة إبراهيم العقلية التأملية (الفلسفية) لعالم الملك المحسوس أوصلته إلى معرفة عالم الملكوت الذي هو عالم الباطن القابع وراء حجب الغيب، في حين أن إبراهيم لم ينجح في معرفة ربه من خلال تأمله العقلي للمحسوسات في عالم الملك فحسب، وإن كان هذا التأمل مدخلا لولوج الباطن من بوابة الظاهر، بل عرف ربه من خلال شغفه المخلص للمعرفة القلبية بحثا عن اليقين، وفي لجة الحيرة والشك فتح عليه تعالى بمشاهدة عالم الملكوت من خلال ما أوحى في روعه من حقائق مدهشة فرأى بنور بصيرته ما لم يراه ببصره.
ومثلا في مجال الهداية، هناك من يرى أن في القرآن اختلاف يصل حد التناقض، لأنه إذا كان الله قد قضى ألا يعبد أحد سواه، والقضاء أمر مبرم لا راد له بخلاف القدر، وأنه تعالى لا يرضى الكفر لعباده، وأن الهداية والضلال شأن من اختصاصه تعالى دون سواه لقوله تعالى: (إن علينا للهدى) الليل: 12، وقوله لرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم بصريح العبارة: (إنما أنت منذر ولكل قوم هاد) الرعد: 7، وغيرها كثير...  فلماذا يقول تعالى في شأن من كفروا (إن الذين كفروا سواء عليك أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون) البقرة: 6، وقوله في الآية التي تليها مباشرة من نفس السورة: (ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم)؟
التعارض الظاهر هنا مرده الحكم على الذين كفروا قبل الإنذار، لقوله "سواء أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون" ما دام الله تعالى قد ختم على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة لا ينفع معا إنذار، وبالتالي، فما فائدة الرسل إذن إذا كان هؤلاء لا يؤمنون؟ .. وكيف يحرمهم الله تعالى من الهداية وهو القائل أنه لا يرضى الكفر لعباده؟
قد يبدو الجواب على هذا السؤال مستعصيا من ظاهر الكلام لاعتقاد الفقهاء أن دور الرسل هو هداية الناس التي هي شأن من مجال الله وحده دون سواه كما سبقت الإشارة. لكن لو عاد الإنسان إلى المحكم في القرآن، أي إلى اللحظة الأولى التي قرر فيها تعالى إخراج الخلق من العدم إلى الوجود في عالم الذر لاكتشف المعنى الحقيقي الباطن وراء ظاهر الآيات التي أشرنا إليها. ونقصد بذلك ما ذكّر الله تعالى به عباده في كتابه الحكيم من خلال آية الميثاق لقوله: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين) الأعراف: 172. وبالتالي، فدور الرسل كما يفهم من باطن الآية ليس هداية الناس بل فقط تذكيرهم بميثاقهم الذي قطعوه مع ربهم في عالم الذر قبل الخلق المادي على الأرض، لكيلا تكون للناس حجة على الله يوم القيامة، لقوله تعالى: (رسلا مبشرين ومنذرين لئلا تكون للناس حجة على الله بعد الرسل) الشورى: 15. ومعنى المعنى أن كل من قبل بميثاق الله وشهد على نفسه حضوريا أمامه بربوبيته له وقبل بحمل الأمانة طوعا لا كرها، ثم نقض العهد وخان الأمانة وكذب على الله، فلن يُصدّق بالتالي رسله ولا فائدة من إنذاره، وهذا لا يعني أن الله منع الهداية عنهم، بل هم من قرروا نكث العهد فتحولت قلوبهم إلى قلوب مظلمة ختم الله عليها إلى يوم الدين، فلا فائدة ترجى من إنذارهم، وما ربك بظلام للعبيد.
هذا وجه من أوجه الظاهر المتجلي في الخلق المادي للبشر والباطن الروحي المتجلي في الخلق الروحي لهم خلال القيامة الأولى التي حصلت في حضرة الله قبل قبولهم بميثاق الربوبية والتكليف المتمثل في حمل الأمانة، وهو الوجه الذي يعطي لآية الميثاق حكم المحكم ويجعل كل ما تفرع عنها من معاني في حكم المتشابه، ودون العودة إلى المحكم يستحيل فهم المتشابه، ما يؤدي بالمفسر للانزلاق نحو معاني ما أنزل الله بها من سلطان.
وهناك وجه آخر أكثر رمزية عن ثنائية الظاهر والباطن المتجلي في الأفعال، يستشهد به الشيعة والصوفية في شرح قضية الظاهر والباطن في القرآن، ويتعلق الأمر بقصة موسى والخضر عليهما السلام الواردة في سورة الكهف. وقد سبق وأن تناولنا هذه القصة بإسهاب في باب "الإنسان بين الجبر وحرية الاختيار"، لمن أراد العودة إليها. لكن وللتذكير، هذه القصة تكتسي أهمية كبرى في مجال الباطن والظاهر والتعارض المتوهم القائم بينهما، فيما الحقيقة الجوهرية الكلية هي واحدة وإن اختلفت وتعددت مظاهرها.
والأمثلة أكثر من أن تحصى في هذا المضمار، وقد يتطلب الأمر كتابة آلاف الصفحات لجردها، لكننا أوردنا هذه الأمثلة فقط للدلالة على طريقة التعامل مع إشكالية الظاهر والباطن في القرآن لحل التعارض المتوهم الذي قد يبدو لقصيري النظر الذين يحكمون على الأشياء من منطلق رؤية ظاهرية تجزيئية تبعدهم عن إدراك الحقيقة الجوهرية الكلية الباطنة في الأشياء كلها، غير أن هذه الحقيقة التي نتحدث عنها لا تدرك بأدوات العقل فحسب، بل وبنور الوحي الذي هو علم لدني يهبه الله تعالى لمن يشاء من عباده الذين يسعون للتعلم على يده من كتابه وفي مدرسته، شريطة أن يطهروا قلوبهم من ظلام الكراهية لتحل محلها المحبة الصافية.
وعودة لمنهج التأويل عند ابن عربي والذي تميز به عن غيره من الصوفية، يجمع الدارسون الموضوعيون لتراثه، بخلاف ما ذهب إليه أعدائه من اتهامات باطلة له بالكفر والزندقة، أن الرجل يولي اهتماما بالغا للكلمة، بل واحتراما شديدا للحرف القرآني في كل كتاباته، كما أن القارئ العادي لنصوصه، يلاحظ بشكل جلي صفحة تلو أخرى، غزارة الآيات القرآنية التي يستقي منها أفكاره، لدرجة يصعب معها عزل ما هو قرآن عما هو كلام ابن عربي.  وأكبر دليل على ذلك، ما أورده عبد الغني النابلسي في دفاعه عن الشيخ الأكبر في كتابه " الرد المتين"، حيث أكد، أنه وعلى شاكلة محاكم التفتيش الكنسية في عصور الظلام الأوروبية -  صدرت فتوى عن مجموعة من العلماء السنة وعلى رأسهم الشيخ السلفي المتشدد ابن تيمية، قضت بإحراق كل أعمال ابن عربي بعد اتهامه بالكفر ووصمه بالهرطقة، غير أن المكلفين بتنفيذ الحكم امتنعوا عن ذلك، بعد أن تبين لهم أنهم أمام معضلة مستعصية على الحل، ذلك أنهم إن أحرقوا أعمال الشيخ الأكبر، فسيحرقون معها كلام الله، و إن هم أزالوا كلام الله منها، فلن يبقي بعدها شيء يذكر اسمه كلام ابن عربي.
وفي نفس السياق يقول الدكتور نصر حامد أبو زيد في كتابه "فلسفة التأويل عند ابن عربي" (ص 258/259): "إن هذه الموازاة بين طريقة التأليف في كتب ابن عربي وبين ترتيب آيات القرآن، تستهدف توحيد المنبع الذي يستقي منه ابن عربي بالوحي الإلهي، ومثل هذا التوحيد من شأنه أن يمنحه حرية واسعة في التعامل مع نصوص القرآن، بحيث يستوعبها جميعا استشهادا وتضمينا وتأويلا.  ويصعب على الباحث في أحيان كثيرة الفصل بين النص القرآني وكلام ابن عربي. فهو حين يحدث – مثلا – عن حروف أوائل السور يستطرد إلى الجمع والإفراد على المستوي الوجودي والمعرفي، مضمنا كلامه آيات من سورة الرحمن على النحو التالي:
" ثم جعل سبحانه هذه الحروف على مراتب منها موصول ومنها مقطوع، ومنها مفرد ومثني ومجموع.  ثم نبه أن في كل وصل قطعا وليس في كل قطع وصل، فكل وصل يدل على فصل، وليس كل فصل يدل على وصل.  فالوصل والفصل في الجمع وغير الجمع، والفصل وحده في عين الفرق.  فما أفرده من هذه (الحروف) فإشارة إلى فناء العبد أزلا، وما ثنّاه فإشارة إلى وجود رسم العبودية حالا، وما جمعه فإشارة إلى الأبد بالمواد التي لا تتناهى، فالإفراد للبحر الأزلي، والجمع للبحر الأبدي، والمثني للبرزخ المحمدي الإنساني مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان فبأي آلاء ربكما تكذبان، هل بالبحر الذي أوصله به فأفناه عن الأعيان؟ أو بالبحر الذي فصله عنه وسماه بالأكوان؟ أو بالبرزخ الذي استوي عليه الرحمن؟ فبأي آلاء ربكما تكذبان يخرج من بحر الأزل اللؤلؤ و من بحر الأبد المرجان، فبأي آلاء ربكما تكذبان و له الجواري الروحانية المنشآت من الحقائق الأسمائية في البحر الذاتي الأقدس كالأعلام، فبأي آلاء ربكما تكذبان كل من عليها فان و إن لم تنعدم الأعيان ولكنها رحلة من دنا إلى دان، فبأي آلاء ربكما تكذبان سنفرغ منكم إليكم أيها الثقلان، فبأي آلاء ربكما تكذبان، فهكذا لو اعتبر القرآن ما اختلف اثنان، ولا ظهر خصمان، ولا تناطح عنزان، فدبروا آياتكم ولا تخرجوا عن ذاتكم، فان كان ولا بد فإلى صفاتكم فانه إذا سلم العالم من نظركم و تدبيركم كان على الحقيقة تحت تسخيركم، ولهذا قال تعالى وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه". (الفتوحات المكية 1/60 – 61 وانظر سورة الرحمن 1/422 – 4 / 360). 
وكمثال على حرص الشيخ الشديد على التقيد بالكلمة والحرف القرآني، يقول الباحث ميشيل شودكزيويسز، مدير الدراسات في المعهد العالي للعلوم الاجتماعية بفرنسا، والذي أمضى أربعون سنة من حياته في دراسة فكر ابن عربي ما يلي: “في نظر الشيخ الأكبر، فان بعض علوم الباطن تبعدنا عن الظاهر، لكن كثيرا من علوم الباطن تقودنا إليه".  ويعترف ابن عربي في كتاباته بضرورة القبول بل والتسليم بعلم الظاهر لأنه المنفذ الوحيد الذي لدينا لولوج الباطن، بمعني أن لولا الظاهر لما كان هناك باطن على الإطلاق.
ففي الفتوحات المكية، يشرح ابن عربي الآية القرآنية: (وهو معكم أينما كنتم) الحديد: 4 فيقول ما مفاده: إن شرح الآية باستعمال كلمة "حيثما" التي لها نفس معنى كلمة "أينما" غير مقبول وموجب لطلب الغفران من الله تعالى بسبب الابتعاد عن الاستعانة بحرفية النص القرآني، فالله لا يترك سدى كلمة ليفضل عليها أخري، ولذلك، لا يجب علينا تحت أي ظرف أو سبب، الاكتفاء بشرح كلام الله وفق المعني فقط، بل علينا كذلك التقيد بحرفية الكلمات المستعملة في النص المقدس. لأن التصرف عكس هذا المنحى، يعتبر شكلا من أشكال تحريف الوحي الذي نهي الله عنه وعاتب أهل الكتاب بسببه لقوله: (أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) البقرة: 75. وقوله: (فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَائِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) 5: 13.

ولا يقتصر ابن عربي على النص القرآني في احترام حرفيته، بل وعلى نصوص الحديث الشريف أيضا، وينصح كل من يلجأ للاستعانة بالحديث في استدلالاته، بالانتباه الشديد وعدم وضع حرف "و" مثلا بدل حرف "ف“، علما بأن هذين الحرفين يستعملان بشكل متبادل في اللغة العربية.
والحقيقة أن هذا التركيز الدقيق على كلام الله من ناحية الشكل، باعتبار أن الأمر يتعلق بأسلوب إلهي مقدس، لا يمثل فقط التعبير الأكثر ملائمة لوصف الحقيقة، بل هو الحقيقة ذاتها، أي أنه لا يعتبر وسيطا بيننا وبين المعنى الذي يريد الله إيصاله لنا، لأنه هو عين الحقيقة وجوهر المعنى.
هذا الاهتمام الكبير الذي يوليه ابن عربي لشكل وأسلوب تركيب كلمات وحروف القرآن، يجعل من كتاباته تعاليق قرآنية تبرز منهجية دقيقة في التأويل لا تذهب في البحث عما هو أبعد من الكلمة، بل تركز على المعنى من داخل الكلمة نفسها وفي السياق الذي وردت فيه، وهذا هو المنهج الصحيح الذي يعتمد تفسير القرآن بالقرآن الذي أوصى به الرسول صلى الله عليه وسلم أمته، أي البحث عن المعنى من داخل النص المقدس لا من خارجه، ومن خلال استعمال حروفه ومفرداته كمفاتيح لفك رموز تراكيب عباراته. وهذه هي الطريقة الناجعة للوقوف على حقيقة المحكم والمتشابه في مختلف آياته وفق منهج الشيخ الأكبر التحليلي.
فمثلا، عند تفسيره لكلمة "الله"، يقوم ابن عربي بتفكيك المفردة إلى حروف، ثم يفسر كل حرف على حدة بكل المعاني الظاهرة والباطنة التي يحملها، لينتهي إلى نتيجة معرفية مركبة، تلخص بشكل غريب ودقيق، حقيقة الحق والخلق معا، وتفسر لنا ما الله وما الوجود على الحقيقة. يقول ابن عربي في هذا الصدد:
" قوله (الله) من بسم الله ينبغي لك أيها المسترشد أن تعرف أولا ما تحصل في هذه الكلمة الكريمة من الحروف وحينئذ يقع الكلام عليها إن شاء الله وحروفها: (ا ل ل ا ه و)  فأول ما أقول كلاما مجملا مرموزا ثم نأخذ في تبيينه ليسهل قبوله على عالم التركيب، وذلك أن العبد تعلق بالألف تعلق من اضطرّ والتجأ فأظهرته اللام الأولى ظهورا ورثه الفوز من العدم والنجاة فلما صح ظهوره وانتشر في الوجود نوره وصح تعلقه بالمسمى وبطل تخلقه بالأسماء أفنته اللام الثانية بشهود الألف التي بعدها فناء لم تبق منه باقية وذلك عسى ينكشف له المعمى ثم جاءت الواو بعد الهاء لتمكن المراد وبقيت الهاء لوجوده آخرا عند محو العباد من أجل العناد فذلك أوان الأجل المسمى وهذا هو المقام الذي تضمحل فيه أحوال السائرين وتنعدم فيه مقامات السالكين حتى يفنى من لم يكن ويبقى من لم يزل لا غير يثبت لظهوره ولا ظلام يبقى لنوره فان لم تكن تره اعرف حقيقة أن لم تكن تكن أنت اذ كانت التاء من الحروف الزوائد في الأفعال المضارعة للذوات وهى العبودية".
وبذلك يصل ابن عربي إلى خلاصة مفادها أن لا وجود لشيء غيره "هو"، ولا بقاء لكائن غيره "هو"، لأنه "هو" الأول والآخر والظاهر والباطن، و "هو" بكل شيء عليم. وهذا الـ "هو" هو سر قول الصوفية في ذكرهم وترديديهم "هو" بكثرة. وبعد هذا الملخص المقتضب لمعنى الحروف المكونة لاسم "الله"، يسترسل ابن عربي في الشرح المستفيض لكل أوجه معاني الحروف الظاهرة والباطنة للإسم الأعظم في (الفتوحات 1 / 104 – 105 – 106) لمن أراد العودة إليها.
هذا الكلام يحيلنا على نظرة ابن عربي إلى إشكالية الظاهر والباطن، فهو يري أن الله ظاهر وباطن، وأن الحقيقة الكونية هي كذلك على شاكلته، وتشبه في بنائها الهندسي النظري شكلا ذو وجهان، واحد خارجي والآخر داخلي، لكن في الواقع لا يري له إلا وجه واحد لاستحالة وجود الوجهان في الواقع المحسوس.  وبهذا المعني، سيكون من العبث التمييز في كلام الله بين ما هو رسم (كلمة) وروح (جوهر)، وبالنسبة لابن عربي، فان الكلمة العارية هي الحقيقة التي تقول كل شيء وتكشف حجب الستر عن أسرار الوجود.
من هنا تأتي الأهمية الخاصة التي يوليها ابن عربي على سبيل المثال للطريقة التي يعبر بها الله عن نفسه في القرآن، فمرة يخاطبنا باسم إلهي ومرة باسم آخر. أحيانا يستعمل صيغة الجمع "نحن” وأحيانا أخري "أنا" المفرد، ومرات يلجأ إلى ضمير الغائب "هو".  وحول أسلوب هذا النوع من الخطاب يقول ابن عربي في كتاب له لم ينل حقه الكافي من الدراسة ويحمل عنوان " كتاب العبادلة" ما مفاده: أن كل حقيقة في هذا العالم هي عبارة عن إشارة توجهنا نحو حقيقة إلهية، وتعتبر بالتالي نقطة ارتكاز لوجودها ومحل عودتها إلى أصلها عندما يصل العالم إلى أجله المقدر له، فعندما يتحدث الله – مثلا - عن العالم في القرآن، يجب علينا أن نركز اهتمامنا على الاسم الإلهي الذي يستعمله في كل حالة على حدة، وبهذه الطريقة، يمكننا معرفة عن أي عالم يحدثنا الله تحديدا. وعندما يتحدث الله بضمير المفرد "أنا" ويتوجه إليك بضمير الجمع "أنتم"، فالآية المعتبرة تشير إليه من زاوية وحدانيته وتشير إليك من زاوية كثرتك.  وعندما يشير إلى نفسه بواسطة الجمع، قائلا "إنا" (بمعنى نحن)، فلأن الأمر يتعلق بالله منظور إليه من زاوية "جمع الكثرة" الممثل لأسمائه وصفاته. وعندما يتحدث إليك بالمفرد، فذلك لأنه يتوجه إليك من منظور أحد العناصر المكونة لك وليس إليك في مجموعك.  فراجع إذن العنصر الكامن فيك والمستهدف بالخطاب الإلهي لتفهم قصده بالتحديد. 
هذا الحرص الشديد من قبل ابن عربي على التقيد بحرفية النص المقدس لا يعني سعيه لاستخراج معناه الظاهر إرضاء لأهل الرسم من فقهاء النقل، وخير دليل على ذلك الطريقة التي يؤول بها ابن عربي على سبيل المثال، الآية القرآنية الشهيرة: (ليس كمثله شيء) 42: 11. والتي يمكن فهمها ظاهريا كالتالي: "لا يوجد شيء يشبهه". لكن وبخلاف هذا المعنى الظاهر، يلزم الكثير من الوقت والجهد للبحث في الكم الضخم من كتابات ابن عربي حول هذا الموضوع والعديد من الصفحات حتى يتمكن الباحث من القيام بتحليل تفصيلي للمعنى الباطن الذي وصل إليه ابن عربي بالنسبة لهذه الآية، ذلك أن المعضلة تكمن في الفرق الكبير القائم بين عبارة "ليس كمثله شيء " الواردة في القرآن، وعبارة "ليس مثله شيء" التي شرح بها الفقهاء الآية.
وبكلمات مختصرة ومفيدة، يمكن القول إن الإشكالية التي تطرحها هذه الآية، تدور حول حرف “الكاف" الملحق بـ "مثله". والسؤال الذي يفرض نفسه في هذا السياق هو: هل حرف "الكاف" هنا جاء من باب الحشو والإضافة لتقوية كلمة "مثله"؟  ففي رأي تلميذ ابن عربي "القشيري" الذي يعود له الفضل في وضع أول تفسير صوفي كامل للقرآن وصلنا حتى الآن، يعتبر حرف "الكاف" مجرد ذرة أو جسيم للوصل خال من أي معنى خاص، وهو كذلك رأي أحد المعاصرين الكبار لابن عربي العالم الظاهري فخر الدين الرازي، الذي يعتبر وجود حرف "الكاف" في الآية للمبالغة، وليس له بالتالي أي معنى مستقل. لكن ابن عربي له رأي آخر مستفز ومعارض جملة وتفصيلا لما سبق، فهو يؤكد أن الله سبحانه وتعالى لا يتكلم لكي لا يقول شيئا، وحيث أن الأمر كذلك، فالجسيم "ك“ يجب أن يحتفظ بكل قوة معناه العادي. وبذلك تأخذ الآية المعنى التالي: "لا يوجد شيء كمثله"، وهو تأويل يضعه الفقهاء في خانة الكفر الفاضح، لأنه يفترض وجود "مثل" لله سبحانه.. فمن هو هذا "المثل" الذي يتحدث عنه ابن عربي؟
-       انه الإنسان الذي خلقه الله تعالى على صورته، لا الصورة الذاتية كما قد يتوهم البعض، بل الصورة التي كانت في علمه العظيم قبل الخلق لإنفاذ رؤيته وإرادته ومشيئته. ذلك أن من أسمائه المصور والمبدع، أي أنه صوّر الإنسان في علمه العظيم فأبدع قبل أن الخلق المادي ليكون بمثابة الأداة التي يُنفذ من خلالها إرادته في الخلق.
قد يبدو هذا النوع من التأويل غريبا على الفهم السائد لدى عامة المؤمنين، لكن من المعلوم أن الأفعال وإن كانت تنسب للإنسان من حيث الظاهر، إلا أنها أفعال تخضع في أصلها إلى إرادة ومشيئة الخالق، أي أن الذي يقوم بالفعل على الحقيقة في الباطن هو الله وليس الإنسان المتصرف في الظاهر والذي هو مجرد أداة ليس إلا.
وهو ما يؤكده القرآن نفسه من خلال عديد الآيات التي سبق وأن أوردناها في باب "الإنسان بين ثنائية الجبر وحرية الاختيار" نقلا عن الإمام أبو حامد الغزالي حيث يقول في "الإحياء" موضحا طبيعة الأفعال وحقيقة الفاعل، ما يلي: "... فإن الفاعل بالحقيقة واحد، فهو المخوف والمرجو وعليه التوكل والاعتماد، ولم نقدر أن نذكر من مجاز التوحيد إلا قطرة من بحر المقام الثالث من مقامات التوحيد... وكل ذلك ينطوي تحت قول: (لا إله إلا الله)، وما أخف مؤنته على اللسان، وما أسهل اعتقاد مفهوم لفظه على القلب، وما أعز حقيقته ولبّه عند العلماء الراسخين في العلم، فكيف عند غيرهم... فإن قلت: فكيف الجمع بين التوحيد والشرع؟  ومعنى التوحيد أن لا فاعل إلا الله تعالى، ومعنى الشرع إثبات الأفعال للعباد، فإن كان العبد فاعلاً فكيف يكون الله تعالى فاعلا؟ ... وإن كان الله تعالى فاعلا فكيف يكون العبد فاعلا؟ ... ولأجل توافق ذلك وتطابقه نسب الله تعالى الأفعال في القرآن مرة إلى الملائكة ومرة إلى العباد، ونسبها بعينها مرة أخرى إلى نفسه! فقال تعالى في الموت: (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ) السجدة:11، ثم قال عز وجل: (اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا) الزمر:42، وقال تعالى: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ) الواقعة:63، أضاف إلينا، ثم قال تعالى: (أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا..)[عبس:25-28، وقال عز وجل: (فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا) مريم:17، وكان النافخُ جبريل عليه السلام، وكما قال تعالى: (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ)[التوبة:14، فأضاف القتل إليهم والتعذيب إلى نفسه! والتعذيبُ هو عين القتل! بل صرح وقال تعالى: (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ) الأنفال:17، وقال تعالى: (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى) الأنفال:17، وهو جمع بين النفي والِإثبات ظاهراً، ولكن معناه: وما رميت، بالمعنى الذي يكون الرب به رامياً، إذ رميت، بالمعنى الذي يكون العبد به رامياً؛ إذ هما معنيان مختلفان. وقال الله تعالى: (الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) العلق:4-5، ثم قال: (الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ) الرحمن:2، وقال: (عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) الرحمن:1-4، وقال: (إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ) القيامة: 19، وقال: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ * أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ) الواقعة:58- 59. (إحياء علوم الدين 4/221).
ويمكن القول إن كل ما أورده الإمام الغزالي مفصلا في هذا الباب يندرج مختصرا في قوله تعالى: (والله خلقكم وما تعملون) الصافات آية 96 والتي تعتبر من الآيات المحكمات. وقد روى أبو هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن اللّه خالق كل صانع وصنعته) ذكره الثعلبي وخرّجه كذلك البيهقي من حديث حُذَيفة حيث قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: (إن اللّه عز وجل صنع كل صانع وصنعته فهو الخالق وهو الصانع سبحانه). وبنفس المعنى قال العطار مفصحا عن ماهية سر الأسرار عند الصوفية: "الآن سأقول لك ما لا يقال، اعلم يا أخي، أن النقش هو النقاش". وبذلك يكون الله وحده هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو الخالق لكل الأعمال.
وابن عربي في تأويله لقضية "الشبه" يستشهد بالحديث النبوي القائل: (إن الله خلق آدم على صورته)، مُستغلا رمزية المرايا التي اعتمدت كمقاربة معرفية من خلال حديث مفاده أن الإنسان هو المرآة التي ينعكس فيها ظل الحق، أي أن ما هو باطن في الله يكون ظاهرا في الإنسان وما هو باطن في الإنسان يكون ظاهر في الله.
والأمثلة على الطريقة الفريدة للمنهج الباطني التي يعتمدها ابن عربي في تأويل آي القرآن الكريم أكثر من أن يسعها هذا المقام، وسنقتصر هنا على ذكر بعضها على سبيل المثال لا الحصر:
ففي شرحه للآية الكريمة: (وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ) - 2: 35.  يقول ابن عربي: إن الأمر الإلهي المُوجّه لآدم وحواء لا ينهاهم عن أكل الفاكهة الممنوعة كما هو سائد في اعتقاد العامة حسب ظاهر الكلام، بل يأمرهم الله تحديدا بأن لا يقتربوا من الشجرة (لا تقربا هذه الشجرة).  فالشجرة بالنسبة لابن عربي لها معنى مستمد من فعل " التشاجر"، أي من نفس الأصل الوارد في الآية القرآنية: (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا) - 4: 65.  فالتشاجر الوارد في سورة النساء معناه الخصومة المؤدية إلى الانقسام.  ولأن جوهر القضية مرتبط بهذا التشاجر الذي قام بين آدم وحواء فأدى إلى الانقسام وانفصام الوحدة التي كان يفترض أن تضل قائمة بينهما، وبالتالي، فالمعنى الحقيقي لعصيانهما تجده كامنا في موضوع المنع، وليس عليك البحث عنه بعيدا...  ويأتي هذا التأويل منسجما بشكل كامل مع بقية القصة كما وردت في سورة " طه " 20 - الآية 121: (فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى).
والمعنى واضح، حيث أن العصيان أدى لأول مرة إلى ظهور سوآتهما، أي اختلاف جنسيهما الذي سيترتب عنه التوالد وما يتبعه من آلام وشقاء ومسؤولية. فما حدث وفق ابن عربي هو أن آدم وحواء بتشاجرهما عصيا ربهما فأدى ذلك إلى اختلافهما جنسيا بعد أن كانا نفسا واحدة (وخلقناكم من نفس واحدة). فاختلاف الجنس هي الظاهرة الأساسية الأكثر تعبيرا عن الانقسام والاختلاف وانفصام الوحدة المادية. هذه الوحدة التي كانت ترمز إلى الشكل شبه الكروي الأوّلي الذي كان عليه البشر. وكأن ابن عربي يحيلنا هنا إلى الخرقة المادية بالتعبير الصوفي، أو "الخلية" الأولى بالتعبير العلمي، باعتبارها أول شكل للحياة سكنتها النفس الإلهية ساعة حدوث الخلق، والتي انقسمت بعد ذلك إلى ذكر وأنثي، ومن ثم تكاثرت مع الصيرورة بفعل التوالد، الشيء الذي يؤكد نظرية الوحدة في الكثرة والكثرة في الوحدة والخلق عبر مراحل كما يقول تعالى: (وقد خلقكم أطوارا) نوح: 14. يقول تعالى في هذا الصدد:
- (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء) النساء: 1.
- (هُوَ الَّذِيَ أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ) – 6: 98.
- (مَّا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) - 31: 28.
وفي قضية أخري مرتبطة بموضوع الأُحديّة، يقول الله تعالى: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) الكهف: 110.
وحسب تأويل ابن عربي، فان كلمة "أحدا" الواردة في آخر الآية، هي في نفس الوقت اسم من أسماء الله تعالى تفيد أحاديته كما تأكد على ذلك الآية الأولى من سورة الإخلاص: (قل هو الله أحد). وبالتالي، يمكننا فهم الجملة الأخيرة الواردة في سورة الكهف أعلاه بشكل حرفي على منهج ابن عربي في تأويلاته لنصوص القرآن وفق ما ورد في كتابه "رسالة الأحدية"، وذلك بالمعني التالي: "إن من ينتظر لقاء ربه، فلا يشرك - أحدا - بعبادة ربه".
      وبالفعل، فبالنسبة لابن عربي، يعتبر مفهوم "الرب" مرتبطا ارتباطا كليا بمفهوم "المربوب"، بحيث لا يمكن أن يفترق عنه، لأن وجود الرب يستلزم بالضرورة وجود المربوب، في حين أن وجود الله لا يشترط ذلك لأنه موجود بلا شرط شيء على الإطلاق لقوله تعالى (فإن الله غني عن العالمين) آل عمران: 97 وغيرها، الأمر الذي يُولّد من هذه العلاقة الثنائية بين الله والإنسان إلغاء اسم "أحد" بالكامل، لقول ابن عربي: “الأحادية تجهلك وتلغيك". أو بتعبير آخر: "إن الواحد بالنسبة للإنسان يبقي بعيد المنال". هذا الكلام مفاده أن الإنسان أثناء عبادته، لا يجب أن يتوجه، بل ولن يستطيع أن يتوجه مهما حاول، سوى للاسم الإلهي الذي هو "ربه"... أي إلى "الوجه" الإلهي الخاص الذي هو متجه نحوه والذي يرجو أن ينال منه ما يسعى إليه.  وبمعني أكثر وضوحا: أن المريض يتوجه إلى وجه ربه الشافي، والفقير إلى وجه ربه الغني، والضعيف إلى وجه ربه القوي، والمذنب إلى وجه ربه الغفور، والمعذب إلى وجه ربه الرحمن، والمؤمن إلى وجه ربه الكريم... وهكذا إلى آخر ما يعرف الإنسان من أسماء ربانية وفق حاجاته الظرفية الذاتية والموضوعية، لكنه لن يستطيع التوجه إلى ربه بكل أسمائه وصفاته، أي إلى "الله" أو "هو" كاسم جامع بكل أحديته لاستحالة ذلك. وهو ما أراد قوله ابن عربي من خلال عبارة "الواحد يبقى بعيد المنال"، لأن: " الأحدية تلغيك" وفق تعبيره.
هذا الموضوع هو الذي يحدد العقيدة الأكبرية في معرفة الله، كما يعبر عنها ابن عربي في جزء من الفصل الثاني من "فصوص الحكم" من بين نصوص أخري كثيرة، حيث نعود لنلتقي مع صورة "المرآة" كما يشكلها الشيخ الأكبر في تصوراته فيقول: "أنه عندما يظهر لك (يقصد الله)، فأنت لا تستطيع أن تري شيئا أكثر من شكله في مرآة الحق.. وبالتالي، فأنت لا تري الحقيقة الإلهية ولن تقدر أن تراها، بالرغم من معرفتك أنك من خلالها استطعت إدراك شكلها الخاص (...).  الله هو مرآتك التي تري فيها نفسك، وأنت بالتالي هو مرآته حيث يرى (هو) أسمائه من خلال تعابير القدرة الخاصة بكل اسم منها.. وكل هذا ليس شيئا آخر غيره هو".
وبالنسبة لكلمة التوحيد، فقد وردت عبارة (لا إله إلا هو) 29 مرة في القرآن الكريم، في حين وردت كلمة (لا إله إلا الله) مرتان، وكلمة (لا إله إلا أنا) ثلاث مرات، ومرة واحدة فقط كلمة (لا إله إلا أنت). لذلك يولي الصوفية اهتماما خاصا بالضمير "هو"، لما له من دلالات باطنية عميقة بدليل تركيز القرآن عليه (أي الضمير الحاضر في الغياب) أكثر من غيره من الضمائر.
ومن جهة أخري، يكشف لنا ابن عربي عن جانب أساسي من عقيدته الأكبرية، من خلال ما كتبه في شرحه لسورة الإسراء: آية 23، حيث يقول تعالى: (وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه). يقول الشيخ الأكبر في تأويل هذه الآية الكريمة ما معناه، أن كلمة " قضى" تعنى هنا: "شرع" و "حكم" و "قرر"... وعليه، فهناك استحالة في عبادة الآلهة المزورة من قبل كائن من كان، لأن أحدا لا يستطيع تحدي قضاء الله سواء برده أو تغييره، فالله إذا قضى شيئا فلا راد لقضائه، وقضائه ساري في عباده وفق ما هو مسلم به من قبل المؤمنين كافة. كما أن هدف العبادة لدى كل عابد ليس في الحقيقة سوى الله، ولا شيء غير الله يعبد لذاته. وذنب المشرك لا يكمن في أنه يعبد إلها غير الله، لأنه لا إله إلا هو ولا إمكانية لوجود إله آخر معه أو من خارجه يمكن أن يعبد، سواء قبل الأزل أو أثناء الوجود المحدث أو بعد الخلود، فالله سبحانه هو وحده الواجب الوجود، له الدين الخالص والمتفرد بالعبادة، وهذا هو المعنى الحقيقي لكلمة "لا إله إلا هو".  لكن ذنب المشرك تحديدا يكمن في أنه انقاد إلى شكل خاص من العبادة التي لم يشرعها له الله.  ودليل ذلك ما ورد في سورة الزمر / آية 3 حيث يقول تعالى: (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ).
من هنا يرى ابن عربي أنه أمام "القضاء" الإلهي المبرم والقاهر، فان كل مخلوق بالمحصلة، سواء أراد أم لم يرد، عرف أم لم يعرف، لا يمكن أن يعبد إلا الله سبحانه مهما اختلف الشكل والموضوع المباشر لعبادته، أو بعبارة أكثر دقة: "لا يمكن للعبد إلا أن يعبد اسما من أسماء الله، علما أن الأسماء على كثرتها تشير كلها إلى نفس المُسمّى، ويعبر عن ذلك ابن عربي بالقول:
عباراتنا شتى وحسنك واحد                  وكلٌّ إلى ذاك الجمال يشير.
وهذا بالضبط ما تفصح عنه الآية 40 من سورة يوسف من معنى، حيث يقول تعالى: (ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون)، ونفس المعنى ورد في الآية 71 من سورة يوسف، والآية 23 من سورة النجم.
وفي معالجته لموضوع مختلف آخر لكنه ذو ارتباط وطيد بالسالف، يقول ابن عربي في الفصل العاشر من " فصوص الحكم " في شرحه لسورة هود 11 – آية 56: (إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ). التعبير المفتاح لجوهر المعنى في هذه الآية هو "الصراط المستقيم".  والرجال وفق ابن عربي، ينقسمون إلى فئتين: من جهة، هناك الذين يمشون في اتجاه يعرفونه ويعلمون إلى أين يوصل، وبالنسبة لهم، هذا الاتجاه هو الطريق المستقيم. ومن جهة أخرى، هناك من يسلكون اتجاها يجهلونه ولا يعلمون الي أين يؤدي. وهذا الاتجاه هو مماثل بشكل كبير للذي يسلكه الفريق الأول ويؤدي لنفس الغاية. وعلى هذا الأساس: "ما في العالم إلا الطريق المستقيم" ما دام الله سبحانه آخذ بالنواصي لما لهذه الكلمة من معنى رمزي عميق. وطبعا، مثل هذا التأويل يجر سخط أئمة الظاهر من أمثال ابن تيمية الذي يعتبر "القضاء" بمثابة وصية ومكتوب وليس أمرا تكوينيا. غير أن مثل هذا النوع من التفسير الذي يقول به ابن تيمية يسقط في الخلط الخطير بين الأمر " التكويني"، بمعنى الأمر "الوجودي" الذي لا يمكن أن يبقى من دون تنفيذ، أي لا يمكن عصيانه لأنه ينفذ من خارج إرادة المكلف من جهة، والأمر التكليفي الذي هو أمر قياسي والذي يمكن عصيانه بإرادة المكلف من جهة أخري.
وفي الخلاصة تجذر الإشارة إلى أن القرآن هو عبارة عن علامات ظاهرة يهتدي بها الإنسان ليخرج من ظلمة الجهل إلى نور المعرفة مرورا بقنطرة التأويل لحصول الفهم. والعلامة مصطلح أساسي في علم الألسنيات عند سوسير، وقد أخذه عنه البنيويون عند معالجتهم لنظرية البنائية في النقد الأدبي، فهي حقول دلالية لكل منها خصائص مميزة. أي أن كل علامة تشكل حركة مكونة من حركات النص القرآني، كما يقول د. حازم فاضل البارز في "ثنائية الظاهر والباطن في تقريب القرآن إلى الأذهان" من خلال تناوله لسورة الكهف نموذجا. وبالتالي، فمن تفاعل الحركات تتشكل حزم من العلاقات التي تحدد بنية الآية القرآنية ودلالاتها من جهة، وعلاقتها بالآيات الأخرى الواردة داخل الصورة نفسها من جهة أخرى.
وبهذا المعنى، فالثنائيات الواردة في النصوص القرآنية التي تمثل الظاهرة ليست ذات دلالة بحد ذاتها بمعزل عن العلامات، وإنما تنبع الدلالة من العلاقات التي تتكون بين الظاهرة والعلامات المرتبطة بها، والتي على أساسها تتكشف الحقيقة الباطنة، فتذوب الثنائيات ولا يعود لها من وجود يذكر، وهذا هو مستوى الوحدة الكامنة في مقام الأحادية الباطن حين ينزع الإنسان عن قلبه وعقله وهم الكثرة الظاهرة في المحسوسات الخادعة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق