بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 20 ديسمبر 2018

التصوف و الإسلام



السؤال الذي يتبادر إلى الذهن كلما طرح موضوع التصوف هو: - هل التصوف نبتة إسلامية أصيلة أم بذرة خبيثة زرعت في الإسلام لتشويهه؟ 

الحقيقة أنه لا يمكن الجواب على هذا السؤال بمعزل عن الإشكالية التي يطرحها الموروث الديني في الثقافة الإسلامية، لأن ما تؤكده التجربة التاريخية هو أن هذه الثقافة قد خلفت لنا ثلاثة مواريث: الفقه وما يمثله من انغلاق وتطرف،  الكلام وما أنتجه من تعصب وقهر سياسي، والتصوف وما أنتجه من ثورة هادئة على المنظومة الدينية الظاهرية المتكلسة.../...


والانتقاد الذي يوجه إلى التصوف مرده الأساس أنه أحدث ثورة ثقافية على مستوى المفاهيم الدينية باعتماده لآليات التأويل التي ساهمت بشكل كبير في إعادة فهم الدين على ضوء معطيات الواقع انطلاقا من ثابتة تقول، أنه إذا كان النص المقدس صالح لكل مكان وزمان فمن التناقض القول بضرورة اعتماد ما أنتجه المفسرون من الجيل الأول والثاني والوقوف عند فهمهم مع إضفاء نوع من القدسية عليه، وهو الأمر الذي ساهم إلى حد كبير في جمود المعرفة الدينية وعزلها عن بقية المعارف الإنسانية التي تطورت بشكل كبير (نصر حامد أبو زيد – دراسة في تأويل القرآن عند محيي الدين ابن عربي).

أما الانتقاد الذي يُكال للتصوف من قبل الأصوليين، فمرده الجهل بحقيقته والتشبث بما يعطيه ظاهر النص من معاني، ورفض البحث فيما تكتنزه بواطنه من جواهر روحية وحقائق معرفية كفيلة بأن تساعد الإنسان على معرفة حقيقة ذاته التي اجتمعت فيها حقائق الوجود وحقائق الألوهة كما يقول ابن عربي في الفتوحات المكية عند تفسيره لمقولة الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم (من عرف نفسه فقد عرف ربه).
وقد ساهم في تشكل الصورة السلبية عن التصوف عدم التمييز بين التصوف كتجربة روحية فردانية تمثل مرتبة الإحسان في الإسلام، والتصوف كظاهرة اجتماعية شعبوية متمثلة في بعض الزوايا التي شوهت مفهوم هذا العلم الشريف، بحيث أصبح يعتبر في رأي الكثيرين مظهرا من مظاهر التخلف بسبب ميول الزوايا نحو تقديس الفقر، وتمجيد العجز، والتظاهر بالزهد والتقوى، والانقطاع عن الدنيا، وشيوع علاقة المريد والشيخ.

والمفارقة العجيبة، أن من أنصف علم التصوف وكرس له الكثير من الوقت والجهد في البحث هم علماء الغرب الذي استفادوا من أفكاره أيما استفادة ساعدتهم على تطوير نظريات فلسفية ومعرفية غيرت من فهمهم لمعادلة (الله – الإنسان – العالم) بفضل عامل الخيال الذي وهبه الله للإنسان دون غيره من المخلوقات لمساعدته على توسيع آفاقه المعرفية في رحلته نحو السمو والكمال.

ومهما يكن من أمر، فهناك قلة من المفكرين العرب والمسلمين الذين اهتموا بدراسة هذا العلم دراسة موضوعية وخلصوا إلى أن التصوف يمثل أكبر تيار روحي عرفه الإسلام، باعتباره تجربة ذوقية همها البحث عن الحقيقة الإلهية بالتعبد والمجاهدة الروحية لقوله تعالى: (واعبد ربك حتى يأتيك اليقين) الحجر: 99.

لأنه إذا كان الإيمان من مجال القلب لا العقل، ومعرفة الله لا تكون إلا من خلال الإيمان به إيمان يقين كما يقول تعالى في كتابه الحكيم، فإن هذا الإيمان يبقى من مجال الذوق بامتياز، وهو الأمر الذي لا يشعر به إلا من خاض مغامرة المعراج المعرفي وفتح الله عليه بالفهم فتحرر من ظلام الجهل وذاق حلاوة الحال في كنف الله العلي العظيم.

والدارس للفكر الإسلامي لا بد وأن يقف عند ملاحظة أصبحت اليوم تمثل جوهر المعضلة في المجتمعات الإسلامية بسبب انقسامها إلى مذاهب ومدارس وتيارات متنافسة ومتصارعة بسبب جدل الديني والسياسي بدل الاعتصام بحبل الله المتين الذي هو القرآن الكريم، للتمييز بين ما هو ديني وما هو سياسي دون الفصل الحاد بينهما نظرا لسمو الديني على السياسي لجهة مراقبة الأول لأخلاقيات الثاني، فحصل لها ما حصل للأمم السابقة من تفرقة في الدين نهى عنها تعالى في أكثر من آية وسياق. وسبب ذلك يعود بالأساس إلى اختلاف الرؤى لدى المسلمين حول ماهية الله ذاتا وموضوعا، بحيث كل يرى المعبود على شاكلته ويخضع الدين لإديولوجيته بهدف استقطاب الأتباع وتدجينهم.

ومرد هذا الإشكال يعود إلى أن الإسلام تحول من دين ارتضاه الله للعالمين إلى كهنوت بفضل تحالف الإقطاع والفقهاء في مجتمعات تبنت الإسلام بالوراثة بدل القناعة، الأمر الذي انعكس سلبا على كيان الأمة ومصيرها، ويدرك الجميع أن تصرفات الغالبية العظمى من المسلمين اليوم لا علاقة لها بما جاء في كتاب الله الحكيم من تعاليم، وبالتالي، ليس من الموضوعية في شيء الحكم على الإسلام انطلاقا من تصرفات المسلمين.

من هنا أهمية التصوف الذي أعاد للإسلام جماله ورونقه وتسامحه انطلاقا من رؤية مفاهيمية ثورية نجحت في تفكيك معادلة (الله – الإنسان – العالم)، ونزعت شرعية احتكار إنتاج المعنى من المؤسسات الفقهية التقليدية وأعادتها للإنسان المعنى الأول والأخير بالخطاب القرآني وبالعلاقة المباشرة مع الله دون وسيط، وهو الأمر الذي جعل حراس العقيدة وتجار الفتوى يكفرون الصوفية ويعتبرون التصوف بدعة دخيلة على الإسلام مستوردة من معتقدات وثقافات قديمة، لا لشيء سوى دافع الخوف من أن يفقدوا مكانتهم وامتيازاتهم التي تخولها لهم المتاجرة بالدين من خلال الهيمنة على مجال عقيدة المسلمين.

والحقيقة أن التصوف نبتة إسلامية أصيلة لم تعرفها المعتقدات القديمة لاختلافه عن الرهبنة التي هي مظهر من مظاهر الزهد في الدنيا، وبسبب الخلط القائم بين مفهوم الزهد ومفهوم التصوف تحديدا، نجد الكثير من الدارسين للظاهرة في التاريخ الإسلامي ربطوا التصوف خطئا بأصول غير إسلامية، كالهندوسية والبوذية والصينية والفلسفة اليونانية بل والمجوسية واليهودية والمسيحية أيضا.

وبالرغم من أن التصوف يعتبر منهج حياة وطريقة قلبية هدفها الوصول إلى الحق من خلال معرفة الحقيقة الباطنية التي بها يتحقق الكمال الأخلاقي والسعادة الروحية في الدنيا والآخرة، إلا أننا نجد من ينكر على الصوفية انتسابهم للإسلام بزعم أن الإسلام يدعو إلى التوحيد فيما التصوف يقول بالوحدة، وبالتالي فتوحيد الله تعالى ووحدة الوجود أمران لا يجتمعان، ما يؤكد أن التصوف ليس نبتة إسلامية خالصة وفق زعمهم، وهم بهذا القول يفصلون بين الله والإنسان والعالم، وكأن الله خلق الإنسان والعالم من مادة خارجية كانت موجودة معه، وهذا هو عين الشرك بالمفهوم الغليظ، لأنه إذا كان لا موجود في الوجود إلا الله الواجب الوجود، فكيف يمكن أن يوجد شيء معه أو من خارجه؟.. وكيف يمكن أن يحل الله الموجود في كائن غير موجود بقدر ما هو تجلي لأعيان الثابتة في علمه العظيم؟ وهو الموضوع الذي خصصنا له فصلا مستقلا للحديث عن نظرية الوجود بين الوحدة والثنائية لما تطرحه من إشكال مفاهيمي لدى العقل الظاهري عند معالجته لثنائية الظاهر والباطن بين التفسير والتأويل، بحيث نراه يثبت الظاهر وينكر الباطن لأهداف إيديولوجية لا علاقة لها بالحقيقة الدينية.

لا نريد الحديث هنا عما يقوله الفكر الوهابي المتطرف الذي يكفر، ليس الصوفية فحسب، بل وكل المذاهب والمدارس والتيارات الإسلامية التي تخالفه العقيدة، لأنه وبإجماع علماء وعقلاء الأمة يعتبر فكرا خبيثا طوره الاستعمار البريطاني في شكل نسخة مشوهة إلى أبعد الحدود عن الإسلام السمح الجميل كي لا تقوم لأمة محمد قائمة، وغير خاف على أحد ما ألحقه هذا الفكر الإقصائي والدموي المتطرف بالأمة من قتل وخراب وتدمير للحضارة ومحو للتاريخ وطمس للهوية بما يفوق ما ألحقه بها أعدائها عبر التاريخ.

لكن ما يهمنا هنا هو الفكر السلفي الظاهري الذي خصص أتباعه العديد من الكتابات لانتقاد التصوف ونزع الطابع الإسلامي عنه من خلال اتهامه بما ليس فيه. ومرد ذلك يعود لكون منتقدي التصوف من المتشبعين بالفكر السلفي الظاهري يختزلون الدين في الشريعة وينكرون أن تكون الشريعة بوابة لمعرفة الحقيقة، هذا فيما الشريعة لا تمثل سوى أقل من 5 %  من آيات القرآن الكريم كما هو معلوم.

فمثلا، تنكر هذه الفئة أن يكون التصوف علما مقيّدا بالقرآن والسنة، لا لشيء سوى لأن فهمهم للقرآن والسنة يقوم على أساس المأثور من أقوال فقهاء الظاهر أو فقهاء الرسوم كما يسميهم الصوفية، وعلى رأسهم ابن تيمية الذي يتخذونه مرجعا في فهم الدين، متجاهلين الفرق بين الدين باعتباره حقائق إلهية مطلقة والفهم البشري الذي هو في أساسه فهم نسبي يحتمل الصواب والخطأ، خصوصا عندما يزعمون أن الحقائق الدينية هي تلك التي يعطيها تفسير ظاهر الآيات من معاني استنادا إلى أدوات اللغة، دون حاجة للبحث عن المعاني الباطنة بآليات التأويل، متجاهلين أن للقرآن ظاهر وباطن وحد ومطلع وأنه حمال أوجه كما قال الإمام علي عليه السلام.

وغالبا ما نجدهم يتحججون لنكران انتساب التصوف للإسلام بمقولة أن "المعرفة في التصوف مصدرها من داخل النفس" (لاحظ تركيزهم على استعمال مصطلح "النفس" بدل "القلب" لما تتصف به النفس من أهواء) فيما القلب هو جوهر الإنسان وعرش الرحمن ومنبع المحبة ومرآة الأنوار وفق الحديث القدسي المشهور. ثم يقولون إن الصوفي يستمد معرفته من الذوق والكشف و"المنام" (لاحظ أيضا ما يحيل عليه مصطلح "منام" من حمولة تؤشر إلى أن الأمر يتعلق بـ “أضغاث أحلام"، منكرين بذلك الرؤيا وما خصص لها القرآن الكريم من مقام. وبعد تفعيل معول الهدم في التصوف، يذكرون بأن "المعرفة لدى المسلمين مقيدة بأصول العلم الذي يعطيه الكتاب والسنة"، متجاهلين أن الكتاب باعتباره وحي يختص تعالى دون سواه بتبيان معانيه لمن يشاء من عباده بدل الفقهاء لأن لا رهبانية في الإسلام، لقوله تعالى: (لا تحرك به لسانك لتعجل به * إن علينا جمعه وقرآنه * فإذا قرآنه فاتبع قرآنه * ثم إن علينا بيانه) القيامة: من 16 إلى 19. وقوله: (ولا تعجل بالقرآن قبل أن يقضى إليك وحيه وقل ربي زدني علما) طه: 114.

أما السنة التي يتحدثون عنها فالمقصود بها سنة السلف من الفقهاء والمفسرين الأوائل، زاعمين أنهم كانوا أكثر فهما للقرآن والسنة من الأجيال التي تلتهم، هذا علما أن الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم لم يفسر القرآن، ولو كان فعل لأصبح القرآن نصا تاريخيا مغلقا لا يصلح لكل زمان ومكان ولأقفل باب الاجتهاد إلى الأبد، لكنه ترك لنا منهجا علميا يقول بتفسير القرآن بالقرآن من داخله دون حاجة للاعتماد على مصدر غيره ما دام الله لم يفرط في الكتاب من شيء وجاء تفصيلا لكل شيء.

وتكفي العودة لأمهات التفاسير التي تزخر بها المكتبات الإسلامية حد التخمة ليدرك الدارس للقرآن أنها تعج بالمرويات الإسرائيلية وتفسر الظواهر بالعجائبي والغرائبي الذي لا يقبله العقل ولا يطمئن له القلب. وقد وصل بهم الأمر حد تكفير من يفسر القرآن برأيه استنادا إلى حديث مكذوب على الرسول صلى الله عليه وسلم يزعم أن  "من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار"، هذا فيما صاحب الخطاب يحث على تدبر القرآن بالقلب والعقل بلا قيود ولا حدود لمعرفة الحقائق الإلهية ومدى تطابق ما ورد في الرق المنشور مع ما هو موجود في الكون المنظور، لقوله تعالى: (افلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها) محمد: 24. وقوله: (أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) النساء: 82.

ومن التهم التي يكيلونها إلى التصوف الزعم بأن الصوفية يعتمدون الكشف والذوق وما يتوهمونه في الخيال، فألحقوا بالإسلام ما ليس فيه، بدعوى أن هذا المصدر الغريب الذي يعتمده الصوفية لمعرفة الحقيقة ألحق الأذى بالإسلام ونسب له ما ليس منه من تصورات لا تعدو عن كونها أوهام في أوهام، خصوصا عندما قسموا التصوف إلى إسلامي وفلسفي، فنسبوا للفلسفي كل ما يتنافى مع أصول الإسلام ويناقض العقيدة الصحيحة من حلول واتحاد ووحدة، وما عدا ذلك من زهد وذكر وعبادة نسبوه إلى الإسلام، الأمر الذي يناقض العقل والنص.

فهل ما زعمه نقاد التصوف صحيح يعتد به للحكم على هذا المسلك الرباني الراقي بأنه بذرة غريبة زرعت في الإسلام لتشويهه؟

هذا ما سبق وأن أجبنا عليه بإسهاب في باب "العناصر الدخيلة على التصوف الإسلامي" المنشور في جزئيين على هذا الموقع.


هناك 3 تعليقات:

  1. متجاهلين أن للقرآن ظاهر وباطن وحد ومطلع وأنه حمال أوجه كما قال الإمام علي عليه السلام.
    لماذا عليه السلام وليس كرم الله وجهه

    ردحذف
  2. أزال المؤلف هذا التعليق.

    ردحذف
  3. القرآن يحث على السلام الذي هو تحية المسلم في الدنيا والآخرة، أما كرم الله وجهه فبدعة قال بها الفقهاء للتفريق بين المذاهب سنة وشيعة في حين أن لا فرق بين مؤمن ومؤمن في دين الله ولا وجود لأديان أو مذاهب في شرع السماء، هناك فقط إسلام كوني واحد ولا يقبل الله بدين آخر غيره، واليهود والنصارى عرفهم القرآن بأنهم مسامين أيضا.

    ردحذف