بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 17 نوفمبر 2018

العناصر الدخيلة على التصوف الإسلامي (2/2)


التصوف والتأثير اليهودي

بعد الديانة الفارسية والهندوسية والبوذية والإغريقية واليونانية والصينية، يعتبر آخر ما تفتقت عنه قريحة المنتقدين للتصوف، القول بأن بعض الصوفية المسلمين تأثروا بالعنصر التوراتي اليهودي. ويرى جولد تسهير، أن الصوفية تأثرت باليهودية مستدلا بدخول بعض اليهود الإسلام ووضعهم لكثير من الأحاديث النبوية (الإسرائيليات)، وأن نظرية التشبيه والتجسيم لدى اليهود تشبه نظرية الاتحاد والحلول لدى الفلسفة الإسلامية (المذاهب الإسلامية - ص: 32/33).../...


 والمغالطة فيما قاله جولد تسهير تكمن في عدم التمييز بين التصوف الإسلامي والفلسفة الإسلامية نظرا للفرق القائم بينهما، لأنه إذا كانت الفلسفة تستند في معرفة الحقيقة إلى التأمل العقلي الذي هو الطريقة للحصول على العلم الكسبي النظري، فإن التصوف يستمد معرفة الحقيقة من العلم اللدني الوهبي الذي يقذف في روع العابد بالوحي.../...

ويستشهد بعض المتحاملين على التصوف ممن يتهمون الصوفية بالاتحاد والحلول بقول الشهرستاني: "وجدوا التوراة مملوءة بالمشابهات مثل الصورة والمشافهة والتكلم جهرا والنزول من طور سيناء انتقالا والاستواء على العرش استواء". لكن حديث الشهرستاني هنا هو عن المجسمة من فقهاء الظاهر لا عن الصوفية الذين يرفضون التجسيم جملة وتفصيلا. 

أما الكلام عن التصوف اليهودي وتأثيره في التصوف الإسلامي، فلا يقره المنطق اللغوي والتاريخي معا، لأن الفكر الباطني اليهودي لم يكن يعرف بالتصوف ابتداء، ومرد الخلط بين "الباطنية اليهودية" و "التصوف الإسلامي"، يعود لسوء فهم بعض فقهاء الظاهر الذين استغلّوا بعض أوجه الشبه بين الباطنية اليهودية المعروفة بـ "القبالة" والتصوف الإسلامي، للقول إن مصدر الأخير توراتي، فأطلق اسم "التصوف" مجازا على الباطنية اليهودية  تحت مسمى "تصوف العرش"، بالرغم من أن التصوف الإسلامي لم يعرف رسميا إلا خلال القرن الثاني والثالث الهجري كما هو موثق تاريخيا، واليهود أنفسهم لم يتحدثوا عن شيء اسمه "التصوف" في مراجعهم الدينية القديمة قبل البعثة المحمدية.

ودليل ذلك، أن ابن حزم الأندلسي - الذي وُلد في قرطبة عام 994م قبل ابن رشد وقبل موسى ابن ميمون الأندلسي، قال في شأن الباطنية اليهودية: "إن الغرض من الفلسفة والشريعة هو إصلاح النفس حتى تستقيم. واليهود حتى اليوم يعتبرون موسى ابن ميمون هو موسى الثاني بعد موسى النبي عليه السلام وهو في نظرهم رائد أول مدرسة في التصوف القبالي اليهودي".

وكلام ابن حزم هذا يؤكد ما ذهب إليه اليهود أنفسهم من أن أول مدرسة لـ “القبالة اليهودية" التي تمثل "شجرة الحياة" والطريق إلى رؤية الله فوق العرش وفق اعتقادهم، أسّسها موسى ابن ميمون الأندلسي الذي اشتهر بتعليقاته وشروحه على متن "المشنا" Mishnah، أو "مشنا ميمون" كما يسميها اليهود ويعتبرونها بمثابة مراجعة شاملة وتصحيحية للناموس الشفوي (التوراة) والشريعة الموسوية التي كتبت من قبل أحبارهم وحملت اسم التلمود أثناء وبعد الأسر البابلي (بين 400 م و500 م). والتلمود هو لفظ آرامي يعني "التعلم"، وهو عبارة عن مجموعة الشرائع اليهودية التي نُقلت شفويا مقرونة بتفاسير رجال الدين، ويعتد بها جميع اليهود المحافظين (الأرثوذكس)، ويعتبر تلمود بابل في نظر المحافظين أكثر قداسة من التوراة نفسها ومن الإنجيل اليهودي الذي يسمى عند المسيحيين بالعهد القديم.

أما مدرسة القبالة الثانية، فقد كان رائدها هو اسحاق لوريا، الذى وُلد في مدينة القدس عام 1534م، وأخذته أمه صبيا صغيرا بعد وفاة أبيه إلى مصر حيث تربى في بيت عمه، وفى جزيرة الروضة بالقاهرة اعتزل الناس وعكف على دراسة مذهب القبالة، وخرج من هذه الدراسة بفكر جديد لهذا المذهب سمي بالقبالة الجديدة أو "القبالة اللوريانية" نسبة إلى اسمه، فجعل "القبالة" مدخلا لعلم اللاهوت المعاصر ومدخلا للفلسفة وعلم النفس معا، وتكونت لديه آراء في خلق الإنسان وفيما يسمى بـ"الفراغ الميتافيزيقي"، وكذلك في الحكمة الإلهية Théosophie التي هي في رأيه بمثابة الشرارة في الإنسان (الفطرة الجينية)، ومفادها، أنه كلما تحرر الإنسان من سجن الجسد كلما توهجت تلك الشرارة واستعلى على قيود المادة وكثافتها، وحقق مستويات أعلى من الكشف والصفاء الروحي والمعرفة والإدراك المباشر الذى يسمى في المصطلح الفلسفي بـ "الحدس" intuition. والحدس هو إدراك يلمع فجأة ليبرهن على غيره ولا يحتاج هو نفسه إلى برهان، أي أنه إدراك غير مسبوق بما يمهد له، وهو عند إسحاق لوريا إلهام أو وحي من عند الله. وكان منهج تفكيره هو المنهج النقدي التحليلي الذي يبدأ بالنقض والتحليل ثم ينتهي بالبناء والتركيب في صورة مختلفة وجديدة (Deconstruction and Restoration). وخدمت آراؤه هذه اتجاهات الباطنية اليهودية، كما كان لمذهبه الجديد في القبالة الأثر الواضح على فلسفة هيجل (1770 – 1831 م)، حيث ناقش هيجل مذهب لوريا في القبالة في محاضراته بعنوان "التاريخ والفلسفة والدين"، كما كان لمذهب لوريا أيضا الأثر الواضح على سيجموند فرويد في اتجاهاته في مجال علم النفس والتحليل النفسي.

وقد دأب أتباع مدرسة "القبالة اللوريانية" من نساك وفلاسفة على البحث عن تطوير دائم للدلالات النفسية والفلسفية لمبادئ ورموز القبالة بمفهومها السابق على إسحاق لوريا، مستخدمين منظومته الفكرية في النقد التحليلي. فكانت النتيجة هي إثراء الدراسات المقارنة والحوار بين النسك اليهودي والتقاليد الفلسفية والدينية لليهودية والمعتقدات والمذاهب والمدارس الأخرى بما فيها الهندوسية والبوذية والأفلاطونية والغنوصية المسيحية.

وعلى أصول مذهب لوريا في القبالة اليهودية، نشأت بعض الجمعيات السرية كالماسونية (البناؤون الأحرار) في مرحلتها الثانية (١٧٧٠ م) التي انخرط فيها عديد المسلمين بمن فيهم سيد قطب الذي كتب مقالا في جريدة "التاج المصري" التي كانت تصدر في أربعينيات القرن الماضي، والمحسوبة على الماسونية في مصر، بعنوان "لماذا صرت ماسونيًا؟" ... يعترف فيه بانتمائه للبنائين الأحرار، وهي منظمة يهودية سرية هدامة غامضة، تهدف إلى ضمان سيطرة اليهود على العالم، وتتخذ الوصولية والمنفعة أساسا لتحقيق أغراضها.

ويلاحظ الصادق النيهوم في مقالة له بعنوان "الحكمة الخفية" ضمها إلى مؤلفه (إسلام ضد الإسلام – ص: ١٠٧) أن هناك أوجه تشابه قائمة بين القرآن والقبالة فيما له علاقة بمعاني الحروف الهجائية، خصوصا وأن "ربع سور القرآن تقريبا، تبدأ بها، وهي حروف لا تعني شيئا في ظاهر اللغة، مما أطلق خيال المفسرين للبحث عن معانيها السرية، أملا في أن يقود هذا البحث إلى العثور على مفتاح لفك الشيفرة الإلهية". ويخلص إلى أن "الحروف ليست ألغازا، بل علامات مألوفة في مذهب صوفي مألوف يعرف باسم القبالة". ويربط النيهوم بشكل تعسفي واضح بين أصل كلمة "قبالة" التي تعني في اللغة الآرامية القديمة (ق ب ل) بمعنى (تقبل وارتضى وأخذ وأطاع)، وبين حال "القبول" في لغة التصوف الإسلامي.

هذا فيما يقول اليهود أنفسهم عن "القبالة" أنها "شجرة الحياة" التي تعني الحكمة، وتضم عشر مقامات تطابق وضع جسم الإنسان أثناء التأمل، وبواسطتها يستطيع الإنسان خوض تجربة المعارج لولوج العرش ورؤية الله، وأعمدة الحكمة المكونة لشجرة الحياة هي عبارة عن خطوط معدة لكي تطابق جسم المريد في وضع التأمل، وتتكون من ثلاثة مثلثات رئيسة، بالإضافة إلى إحدى عشر دائرة مرقمة، تمثل المقامات الروحية (انظر رسم القبالة على محرك البحث غوغل).

وينقسم اليهود حول أصل "القبالة" إلى فريقين: فريق يقول، إن اسم القبالة أو "شجرة الحياة" مستمد من قول سليمان عليه السلام في (كتاب الأمثال – الإصحاح الثالث) الذي جاء فيه: "طوبى للإنسان الذي يجد الحكمة، وللرجل الذي ينال الفهم. هي أثمن من اللآلئ، وكل جواهرك لا تساويها. طرقها طرق نعم، وكل مسالكها سلام. هي شجرة الحياة".


أما اسم أعمدة الحكمة السبعة، فمستمد من قول سليمان في (الإصحاح التاسع): "الحكمة بنت بيتها. نحتت أعمدتها السبعة..". وكتاب الأمثال الذي يضم النسخة الكنعانية المبكرة للقبالة، يتضمن نفس رسم شجرة الحياة الذي ظهر في نقش فرعوني منذ الألف الثاني قبل الميلاد باعتبارها الشجرة التي يقتات منها آلهة مصر لنيل الخلود، وفق ما يقول المؤرخ الصادق النيهوم في (المرجع السابق – ص ١٠٩).  

 

ولعل أبرز أوجه الشبه بين الحقيقة الصوفية والقبالة اليهودية في نسختها البابلية، يتمثل في ما سمى في اللغة الصوفية بالأوتاد والأبدال السبعة الذين يستمدون علومهم من أرواح الأنبياء المقيمين في السماوات السبعة وفق ما ورد في رحلة المعراج النبوي، الأمر الذي يؤكد الموازاة القائمة بين مراتب الوجود في التصوف الإسلامي وأعمدة الحكمة السبعة التي تحدث عنها نبي الله سليمان عليه السلام، لأن الحقيقة الدينية واحدة ومراتب المعراج إليها يعرفها كل الأنبياء والرسل والأولياء، وعلى رأسهم من يسكنون السماوات السبعة والذين ذكرهم الرسول صلى الله عليه وسلم في معراجه الشهير، وتحدث  ابن عربي بتفصيل عما أودع الله تعالى في أفلاكها من الأسرار والعلوم والآثار العلوية والسفلية في (الفتوحات المكية: ١ / ١٥٤ – ١٥٥). 

 

أما الفريق الثاني من اليهود، فيحيل أصل القبالة اليهودية إلى رؤية حزقيال بدل نبي الله سليمان، وحزقيال هو شاب من بني إسرائيل عاش ستة قرون قبل الميلاد في مدينة بابل، وزعم أنه كانت له رؤيا يتحدث فيها عن ريح عاصفة جاءت من الشمال وهي تحمل معها سحابة عظيمة من النار المتوهجة، وفي وسط تلك النار كان هناك عرش يجلس عليه شخص كهيئة إنسان، حيث اعتقد حزقيال أنه صعد به إلى السماء فرأى الله جالس على عرشه (سفر حزقيال: ٢٨ – ١). ومنذئذ، واليهود الأرثودكس يعتقدون أن لديهم أمل في رؤية الله من خلال دراستهم لتلك الرؤيا، لكي تتحد أرواحهم بالذات الإلهية.


وتذكر الروايات التاريخية، أنه في القرن الثاني بعد الميلاد، كانت الإمبراطورية الرمانية تحكم سيطرتها على أرض فلسطين، وكان اليهود الذين يمارسون شعائرهم الدينية علانية يلقون مصرعهم أو يتم نفيهم على أيدي الرومان، الأمر الذي ساهم في تحول عدد كبير من اليهود إلى "الباطنية"، سعيا منهم لفهم "إرادة الله" مما حصل لهم من مصائب. وكان الحاخام شمعون بن يوحاي أحد الشخصيات التي كانت تبحث عن إجابات بعد أن تمكن من الفرار من الرومان الذين أرادوا إعدامه، ووفقاً لذات الروايات، كان شمعون بن يوحاي متخفياً عن الرومان لمدة 13 سنة في كهفه، وخلال مكوثه فيه كان يجري تأملاته في الله وفي الكون مسترشداً بالنصوص اليهودية، حيث مهدت طرائقه الفريدة والمطورة إلى بروز فكرة "القبالة" فيما بعد ولأول مرة في التاريخ، حسب ما ذكره موقع "المعرفة" استنادا لعديد المراجع التاريخية اللاتينية عن القبالة اليهودية.

ويعتقد أن يهودي مجهول سجل أفكاره في كتاب تحت عنوان "كتاب الخلق" أو "سفر يتزيراه" كان له أبلغ الأثر على رمزية القبالة في الثقافة اليهودية، حيث يشرح فيه أن الله الذي يتكلم بالعبرية، خلق الكون مستخدما ٢٠ حرفا من الأبجدية العبرية التي تعتبر أبجدية الخلق (هذا علما أن اللغة العبرية عمرها 4000 سنة زلها 2500 جذع فيما العربية عمرها 8000 سنة ولها 16000 جذع، والأولى تفرعت عن الثانية كما هو مؤكد تاريخيا. وعلى هذا النحو يعتقد أن بقية الأشياء خلقت من تركيب الحروف مع الأرقام، ومن هنا برز الاهتمام بدراسة معاني الحروف وتحويلها إلى أرقام كما هو مطبق في الجمل وبناء الآفاق في عمل السحر والشعوذة الذي له صلة بالقبالة، لاعتقادهم أن القبالة كمذهب يعنى بتفسير الكتاب المقدس بالكلمات والأرقام التي تحتوي على الحكمة الخفية.

وفي ما له علاقة بارتباط القبالة بالسحر والشعوذة، فيؤكد القرآن من جهته، أن ظاهرة السحر لدى اليهود، قد نشأت أول مرة في بابل على عهد سليمان عليه السلام، وذلك من خلال قوله تعالى: (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما انزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا انما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد الا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون) البقرة: ١٠٢.

أما الحكمة الخفية التي تهتم بمعرفتها القبالة في نقائها وسموها، فتكمن في أسئلة الوجود والمصير كسبب وجود الإنسان ولماذا ولِدَ؟ ولماذا يعيش؟ وما هو هدف حياته؟ ومن أين أتى وإلى أين هو ذاهبٌ بعدما يُكمل تجربته الدنيوية؟ ... والقبالة بهذا المعنى، تساعد المتدين على معرفة طبيعة نفسه وطريقة تغييرها نحو الأفضل خطوة خطوة ودرجة درجة، وأن هذا التغيير يجب أن يكون عملية ذاتية تجرى من داخل النفس بمساعدة الحكمة الخفية التي تتضمنها القبالة اليهودية قبل أن تتأثر بالسحر والشعوذة.

التصوف والتأثير المسيحي

أما بالنسبة للعنصر المسيحي، فيقال إن أفكار الرهبنة والزهد قد نقلت إلى العرب عن طريق التجار. يقول المستشرق ماركس في هذا الصدد: "إن التصوف الإسلامي مأخوذ من رهبانية الشام وخاضع للروحانية المسيحية" (الأدب في التراث الصوفي – ص: 35 -36). ويرى نيكلسون أن المتصوفة تشبهوا برهبان النصارى في لبس الصوف ووافقه ماسينيون على هذا القول، حيث اعتبر التصوف دخيل على الإسلام بدليل اختلاف الصوفية مع مذاهب أهل السنة وفق رأيه (المدخل إلى التصوف الإسلامي – ص: 31 – أبو الفيض المنوفي – الدار القومية – القاهرة). وكأن المرجعية الإسلامية هي المرجعية السنية دون سواها، وهو رأي سطحي ينم عن جهل بالإسلام وتاريخ الفكر الإسلامي، بالتالي لا قيمة علمية له، ما دام لا يفرق بين المذهب والطريقة، ولا بين الايدولوجيا البشرية والعرفان اللدني. بل أكثر من ذلك، يبدو أن ماسينيون ومعه نيكلسون وماركس وهم يُسوّقون لأفكارهم هذه، قد نسوا أو تناسوا أن جوهر التصوف يقوم على العرفان وليس على لباس الصوف، وأنه لا يوجد في الواقع ما يسمى التصوف المسيحي بل الغنوص المسيحي.  لأن الرهبنة التي هي نوع من أنواع الزهد الظاهري، لا علاقة لها بالتصوف الاسلامي الذي هو معرفة قلبية لجوهر الحقيقة اللدنية (سر الأسرار واللغز الخفي).

أما المسيحية الكاثوليكية والمسيحية الغنوصية وفق وجهة نظر الكنيسة الرومانية، فيعتبران نظامين عقائديين مختلفين تماما. ذّلك أن أصل كلمة (غنوصية: Gnosticisme) ليس ديني مسيحي بل فلسفي يوناني، ومصدره كلمة (Gnosis) التي تعني "أن يعرف". كما أن مبادئ الغنوصية تتعارض مع جوهر المسيحية الكاثوليكية. لذلك، فبينما تدعي بعض أشكال الغنوصية أنها مسيحية، إلا أنها بكل تأكيد ليست كذلك، لأن الغنوصية هي أخطر الهرطقات التي هددت الكنيسة في القرون الثلاثة الأولى للتأسيس. وتقوم الغنوصية حسب قول الكنيسة المسيحية نفسها على أساسين كاذبين، بل ومتعارضين مع ما يحملانه من مفاهيم، لجهة توضيح العلاقة بين الحقيقة والطريقة، كما هو الشأن عند الصوفية، متأثرة في ذلك بفلاسفة مثل أفلاطون وغيره:

-       الأساس الأول: تؤيد الغنوصية مبدأ ثنائية الروح والمادة. حيث يؤكد الغنوصيون أن المادة بطبيعتها شريرة، فيما تعتبر الروح صالحة. ونتيجة هذا الافتراض المسبق، يؤمن الغنوصيون بأن أي شيء يفعل في الجسد، حتى أشر الخطايا، لا معنى له لأن الحياة الحقيقية هي في العالم الروحي فقط.

-       الأساس الثاني: يدعي الغنوصيون امتلاك الحقيقة من مصدر أسمى، أو "منبع أعلى" متاح لخاصة الخاصة من المجتهدين فقط..  ولا علاقة لهذه المعرفة بما تضمنه الكتاب المقدس من حقائق ظاهرية في متناول كل البشر، بل خاصية هذه المعرفة أنها صادرة عن فيض من مستوى وجود غامض وأسمي. ولهذا السبب، يرى الغنوصيون أنفسهم على أنهم فئة مميزة عن بقية المؤمنين بناء على معرفتهم الأعمق بالله تعالي.

      وفي أمر الخلاص، يقول الغنوصيون أنه يتم من خلال اكتساب معرفة إلهية تحرر الإنسان من الوهم والجهل والظلام.. في حين يقول يسوع أن الخلاص لا يكون سوي بالإيمان به كمخلص من الخطيئة الأولى وفق الاعتقاد الكنسي الذي يعتبر الخطيئة أصيلة في الطبيعة الإنسانية، وهو اعتقاد مخالف للتعريف القرآني وبالتالي للمبدأ الصوفي الذي يقول، إن الخطيئة مجرد وسخ عارض فيما الأصل نقي صالح، وهو ما يؤكد حديث الرسول صلى الله عليه وسلم عن الذنب كوسخ عارض يطهره الله بالتوبة والغفران كما يطهر الثوب الأبيض من الدنس.

وتأكد الكنيسة المسيحية أن هناك مصدر واحد للحق وهو الكتاب المقدس، الذي يعتبر كلمة الله الحية والمعصومة من الخطأ الموحى بها: (يوحنا 17: 17؛ 2 تيموثاوس 3: 15-17؛ عبرانيين 4: 12). وهذا محض هراء، لأن ما تسميه الكنيسة بالكتاب المقدس كتب من قبل الكهنة وحرف تحريفا. وفي المقابل نجد الغنوصيون - وفق هذا القول - يستخدمون مجموعة متنوعة من الكتابات المهرطقة المعروفة باسم الأناجيل الغنوصية، وهي مجموعة من الكتابات المزيفة التي يدعون أنها "الأسفار المفقودة من الكتاب المقدس". وهناك تناقضات لا حصر لها بين "الأناجيل الغنوصية" من جهة، و "الكتاب المقدس" في نسخه الأربعة المعتمدة من قبل الكنيسة المسيحية جهة أخرى. وحتى عندما اقتبس من يسمون بالمسيحيين الغنوصيين أجزاء من الكتاب المقدس، فإنهم كتبوا الآيات وأجزاء من الآيات بشكل محرف ومحور يتوافق مع فلسفتهم، وهذا أمر يحذر منه الكتاب المقدس ويمنعه، حسب ما ورد في: (تثنية 4: 2؛ 12: 32؛ والأمثال 30: 6؛ والرؤيا 22: 18-19). 

ويعتبر شخص "يسوع" المسيح أحد النقاط التي تختلف فيها المسيحية والغنوصية بشكل كبير. اذ يؤمن الغنوصيون أن جسد يسوع لم يكن جسداً حقيقياً، ولكنه "بدا" كأنه حقيقي، وأن روحه حلت فيه في وقت المعمودية، ولكنه تركه قبل الصلب. ومثل هذه الاختلافات الجوهرية بين المسيحية الكاثوليكية والغنوصية المسيحية، لا تمس فقط قضية الألوهة وتجسد المسيح، بل تمس أيضا حقيقة الفداء ككفارة عن الخطايا كما تأكد المصادر الكنسية: (عبرانيين 2: 14-17).

وتذهب الكنيسة إلى أبعد من ذلك عندما تقول: "إن الغنوصية تقوم على نظرة غامضة، وهمية، ذاتية، وعاطفية للحق. وهذا ليس بأمر جديد على الإطلاق، بل إنه أمر قديم جداً يعود بصورة ما إلى جنة عدن، حيث شكك الشيطان آدم في الله وفي كلمته وأقنع حواء برفض كلمة الله وقبول كذبه. وهذا ما تفعله الغنوصية اليوم ضدا في كلمة الله التي هي الحق الوحيد" كما تدعي الكنيسة.

       وبالتالي، فالفرق بين الرهبنة والتصوف كما سبق القول، يكمن في المجاهدة، حيث تقوم الرهبنة في المسيحية على مجاهدة النفس والبدن معا والانقطاع عن العالم، وهي طرق ابتدعوها ما كتبها الله لهم وما أوفوها حق قدرها كما أخبرنا القرآن، في حين يرتكز التصوف الاسلامي على مجاهدة النفس بالصبر والعبادة والتقوى والإخلاص في العمل لله وحده من دون شريك، كما تنص على ذلك تعاليم القرآن والحكمة النبوية فيما يتعلق بمقام الإحسان في الإسلام. وإذا كانت الصوفية تعتبر أن كل ما في الوجود هو لله دون سواه، فان الرهبانية تعتبر أن ما لله لله وما لقيصر لقيصر، فلا يكون بالتالي لله. كما أن جوهر الرهبنة يقوم على أساس الاعتقاد بالتثليث والتحرر المطلق من كل شيء مع رفض الماديات، وهو ما يتعارض مع جوهر التصوف الذي يقوم على ثنائية "التوحيد " و"التنزيه". 

إن العنصر اللاهوتي المسيحي في جانبيه: (جانب تعذيب النفس والتبتل وترك السعي في الدنيا. وجانب الحلول، أي حلول الناسوت في اللاهوت مثل ما حصل مع عيسى عليه السلام - وفق المنظور الكنسي - فلا علاقة له بالتصوف الاسلامي الحقيقي. وكل ما قيل في هذا الباب، لا يعدو أن يكون وصف لقول بعض الغلاة الذين أساؤوا فهم مبدأ التوحيد، فاختلطت عليهم الأمور، حسب ما أشار إليه السراج الطوسي بقوله: " وقد غلطت جماعة من البغداديين في قولهم إنهم عند فنائهم عن أوصافهم دخلوا في أوصاف الحق، وقد أضافوا أنفسهم بجهلهم إلى معنى يؤدي إلى الحلول أو إلى مقالة النصارى في المسيح عليه السلام" (اللمع: 433). وواضح من قول السراج الطوسي، أنه لم يفهم بالعمق المطلوب حقيقة الصوفية هذه، وكيف أنهم تشبهوا بأوصاف الحق، كما أنه لم يفرق بالدقة المطلوبة بين معنى الوجود وقضية الاتحاد والحلول. وسنفصل القول في هذه المسألة بالذات عند الحديث عن "نظرية الوجود بين الوحدة والثنائية".

أما فيما يتعلق بزعم بعض المستشرقين، بأن الحب الإلهي في التصوف الاسلامي مأخوذ من المسيحية، فهو زعم باطل ينم عن جهل فاضح بالإسلام. فالحب الذي يتحدثون عنه في المسيحية، هو المتعلق بالأقنوم الثاني، أي بالمسيح عليه السلام الذي تقلب في الآلام بسبب واقعة القتل عن طريق الصلب المزعومة، هذا فيما يقول تعالى: (وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وان الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا إتباع الظن وما قتلوه يقينا) النساء: 157.  أما في الإسلام وعند الصوفية خصوصا، يعتبر الحب أرقى وأسمى من ذلك بكثير، بل بلغ درجة غير مسبوقة من العشق والهيام في ذات الله تعالى. وخير مثال على ذلك، حالة رابعة العدوية التي بلغ بها العشق منتهاه فقالت: " أنا لا أعبدك يا مولاي خوفا من نارك، ولا طمعا في جنتك، بل حبا فيك ".  فهل بعد هذا الحب حب؟ والأمثلة على شهداء العشق الإلهي في التاريخ الإسلامي أكثر من أن تحصى.

وفيما يتعلق بآلام المسيح عليه السلام، فلم يكن الوحيد الذي عانى بسبب فضل التكليف، بل هناك أنبياء دفعوا حياتهم ثمنا لحمل الأمانة، يقول تعالى في هذا الصدد: (لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وأرسلنا إليهم رسلا كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقا كذبوا وفريقا يقتلون) المائدة: 70. والمسيح عليه السلام بعثه الله نبيا ورسولا لبني إسرائيل خاصة وليس للعالمين كما تدعي الكنيسة زورا وبهتانا، هذا في حين بعث الله محمدا رسولا للعالمين، بدليل قوله تعالى (وما ارسلناك الا رحمة للعالمين) الأنبياء: ١٠٧. ومهما يكن من أمر، فجميع الرسل من دون استثناء، تحملوا ما قدر لهم من معاناة في تجربتهم الأرضية مع أقوامهم.

-       أو لم يتقلب محمد صلى الله عليه وسلم في الآلام مع قومه، الذين آذوه برميه بالحجارة، وزرع الأشواك في طريقه، واهانته، واتهامه بالجنون، ومحاولة قتله، وتهجيره من بيته وقريته العزيزة على قلبه؟

-       ومن يا تري من الأنبياء والرسل من لم يتقلب في الآلام والمعاناة من جراء تكذيب قومه لرسالته واضطهادهم له؟

-       أو ليست هذه هي طبيعة التجربة الدينية عموما، بالنسبة للإنسان الذي قبل طوعا حمل الأمانة، وخوض التجربة الأرضية، فاختار بذلك طريق الكمال الشاق؟

      وبقي أن نقول كلمة حول قضية الصفات، التي يعتقد بعض منتقدي الصوفية من أهل الظاهر المسلمين، أنها من مكونات الذات الإلهية على غرار ما ذهب إليه المعتزلة. وهو قول مردود عليهم جملة وتفصيلا، ولا يمكن الأخذ به لعدم ارتكازه على أساس من حجة أو منطق، لأن قضية الأوصاف أو الصفات كأدوات لها علاقة بالإرادة لا بمكونات الذات، وهي بذلك صفات تتسم بها "الألوهة" التي تعتبر بمثابة الوسيط بين الله والإنسان والله والعالم، وهي التي تفسر ثنائية الوجود بمفهوم التجلي في الزمن الدائري، بدل وحدة الوجود بمفهوم المدى اللطيف للعلم الإلهي كما يستشعره الصوفية عموما. وهذه الصفات تكون مطلقة في الألوهة مقيدة في الإنسان، كالحياة والقدرة والعلم وغيرها من الصفات الحسنى من دون استثناء... وكون الله تعالى وهب الإنسان كل هذه الصفات كما أكد ذلك في القرآن: (وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين) البقرة آية 31.  فذلك لا يعني أن الإنسان يشترك مع الله سبحانه وتعالى في تلك الصفات، بقدر ما هي عبارة عن أدوات وهبها الله لعباده بقيود وفي حدود معينة، ليتمكنوا من القيام بمناط التكليف بمشيئته (وما تشاءون إلا أن يشاء الله) الإنسان: 30. وبإذنه ومعرفته، وفي حدود أمره وإرادته، فيكون الله سبحانه هو الفاعل على الحقيقة: (والله خلقكم وما تعملون) الصافات: 96.. وإلا فلا معني للإنسان المكلف إذا لم تكن له الأدوات اللازمة للقيام بالمهام المنوطة به والتي خلق أصلا من أجلها.


ملاحظات منهجية

على ضوء ما ذكرناه من أقوال، لجهة ما أثير من لغط حول العوامل الأجنبية الدخيلة على التصوف الاسلامي، وبعد تفنيدها وتوضيح الفرق بينها وبين الحقيقة من الناحية التاريخية والموضوعية، نستطيع الجزم بأن ما يمتلكه التصوف الإسلامي من بُعد معرفي مركب ودعوة إنسانية للعشق الإلهي الخالص، جعله يُشكل أرضية مشتركة بينه وبين بقية المعتقدات والفلسفات، حتى ظن البعض أن مصدر التصوف أجنبي عن الإسلام، في حين أن المصدر الوحيد والحقيقي المشترك بينها جميعا هو وحي السماء: (وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم) يوسف: 109. هكذا جرت عادة الله في خلقه، ولم يقتصر وحي السماء على الأنبياء والرسل، بل شمل الأولياء وغيرهم من البشر والكائنات، بدليل ما أكده القرآن في عديد الآيات.

والذين ينكرون على الصوفية مجاهداتهم لمعرفة الحقيقة الباطنية من خلال قذف الله لنورها في روع أوليائه الصالحين، إنما ينكرون من حيث يدرون أو لا يدرون الحقيقة اللدنية في بعدها الإشراقي، والتي أكد تعالى حصولها في أكثر من آية وسياق، خصوصا من خلال قصة الخضر وموسى عليهما السلام.

يقول ابن رشد في شأن أمثال هؤلاء المدعين، إن من ينطلق من مقدمات خاطئة فلا بد وأن يصل إلى نتائج خاطئة.. نقول هذا لأن الإشكال الذي أثير حول العوامل الدخيلة على التصوف الإسلامي، مرده الاعتقاد الخاطئ السائد لدى العديد من فقهاء الظاهر الذين يفرقون بين الأديان، ويزعمون أن هناك ديانة يهودية وديانة نصرانية وديانة إسلامية وغيرها ... وهو اعتقاد لا يقول به القرآن نفسه الذي لا يفرق في الدين بين أحد من الرسل، ويعتبرهم جميعا مسلمين من نوح صعودا إلى محمد هبوطا مرورا بما نعلم ولا نعلم من الرسل والأمم: (ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك) النساء: ١٦٤.

ويؤكد القرآن أن الرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم لم يأتي بدين جديد كما روج لذلك بعض فقهاء الظاهر زاعمين أن الإسلام نسخ ما قبله من أديان وشرائع، هذا في حين لا يقر الله تعالى مثل هذا الاستنتاج الخاطئ، ويؤكد في أكثر من مناسبة وسياق أن محمدا صلى الله عليه وسلم ليس بدعة من الرسل (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل) آل عمران: ١٤٤، وأنه تعالى بعثه ليكمل نفس الدين بمكارم الأخلاق، وأن هذا الدين سماه الله الإسلام واختاره دينا للعالمين كافة، وأن من يبتغي غيره فلن يقبل منه، وأن لا وجود لمعبود في هذا الوجود غير الله وإن اختلفت الصور وتعددت المسميات، ما دام الجميع خاضع لعبودية لله طوعا أو كرها كما يؤكد القرآن.  

ولعل هذه الحقيقة التي تتجلى فيها الأحادية في أبهى صورها، هي التي دفعت محيي الدين ابن عربي للقول في ترجمان الأشواق:

لقد صارَ قلـبي قابلاً كلَ صُـورةٍ *** فـمرعىً لغـــــزلانٍ ودَيرٌ لرُهبـَــــانِ
وبيتٌ لأوثــانٍ وكعـــبةُ طـائـــفٍ *** وألـواحُ تـوراةٍ ومصـحفُ قــــــرآن
أديـنُ بدينِ الحــــبِ أنّى توجّـهـتْ *** ركـائـبهُ، فالحبُّ ديـني وإيـمَـــــاني

ولأن الله بالنسبة لابن عربي والصوفية عموما يجسد قمة المحبة، فالعبادة بالتالي هي شرط من شروط العشق الإلهي، والتي على أساسها يقاس الإيمان الحقيقي ومتانة الصلة بين العبد وربه، وبين العبد وبقية مخلوقاته، "فما الإيمان إلا الحب" كما يقول الإمام الصادق، و"ليس حب الناس إلا نتيجة لحب الله" كما يقول الحكيم جلال الدين الرومي.. وبالتالي، فما في الوجود إلا عابد لله، والفرق يكمن في الطريقة التي يعبد بها الإنسان ربه. ومن في قلبه غلّ لا يمكن أن يكون عابدا مخلصا لله، و"التصوف مسلك راق لا يصلح إلا لأقوام كنست بأرواحهم المزابل" كما يقول الصوفية، وسميت النفوس بالمزابل لأنها مأوى كل غل ورجس وشر وسوء، وكنسها لا يكون إلا بنور الروح الواصل إليها لتطهيرها مما تكدس بها من رجس بالمحبة (الإحياء – ج٥ / ص: ٧٧ – ٧٨).

وما يؤكد معنى الأحادية في العابدة الذي ذهب إليه ابن عربي في ملحمته، قوله تعالى في شأن المشركين: (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون) لقمان: ٢٥، ثم لو أنك سألتهم لماذا يعبدون الأصنام لقالوا لتقربنا زلفى إلى الله لقوله تعالى: (ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفة إن الله يحكم بينهم يوم القيامة فيما هم فيه يختلفون) الزمر: ٣. وبهذا المعنى، فكل من يعبدون غير الله من حيث الظاهر، إنما يتبعون الظن وما تهوى الأنفس، لقوله تعالى: (إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس) النجم: ٢٣.

وهذه الآيات كما غيرها كثير، تؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن كل مولود يولد على الفطرة التي أودع فيها الله تعالى أمر عبادته، والفرق يكمن في العلم أو الجهل بالطريقة التي شرعها لذلك، والغريب أن حتى أولئك الذين ينكرون وجود الله ويرفضون عبادته طوعا، أجبرهم تعالى على عبادته كرها من خلال سجود الظلال الذي يعتبر قمة الخضوع وأجلى مظاهر العبادة.. بدليل قوله تعالى: (ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا أو كرها وظلالهم بالغدو والآصال) الرعد: ١٥. وقوله: (أو لم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله وهم داخرون) النحل: ٤٨.

وبالتالي، فالذين يقولون بإن التصوف الإسلامي قد تأثر بعوامل خارجية لا يفهمون من كتاب الله إلا القشور، أما الذين يروجون لمقولة أن التصوف هو امتداد للكهنوت   اليهودي، فيتجاهلون أن من تأثر فعلا بهذا العامل هم فقهاء السلاطين الذين أخذوا بالإسرائيليات في التشريع ونسبوها إلى سنة الرسول صلى الله عليه وسلم لإخضاع العامة لسلطة الحاكم، عملا بحديث منسوب للنبي يقول: (خذوا عن بني إسرائيل ولا حرج)، فشرعوا عقيدة التكفير الذي هو مجال من اختصاص الله تعالى دون سواه، وسنوا أحكاما تقول بقتل المرتد، وإعدام الخارج عن طاعة ولي الأمر، ورجم الزانية، وإرغام الناس على الإسلام بالإكراه والله يقول لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إن الله غني عن العالمين... وغير ذلك كثير مما يتعارض مع نصوص القرآن الكريم، هذا علما أن الرسول صلى الله عليه وسلم بما هو رسول مبلغ عن ربه بأمانة، لا يمكنه أن يشرع لأمته ما لم يشرعه لها تعالى في كتابه، بدليل قوله: (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين) المائدة: ٦٧.

كما أن الذين يتهمون التصوف بالتأثر بالعامل المسيحي هم من اختزلوا الإسلام فيما أسموه بـ “الجماعة"، وكفّروا كل من لا ينتسب إليها، واعتبروا المجتمعات جاهلية، على سنة الكنيسة التي تعتبر أن لا خلاص إلا من داخلها، ونقصد بذلك كل من فرّق بين المسلمين وجعلهم شيعا ومذاهب كل فرح بما لديه، ناهيك عن من أساؤوا للإسلام أيما إساءة وأحدثوا فيه ما لم ينزل به الله تعالى من سلطان، وحوّلوا الله إلى كائن غريب يعشق القتل ويشيع الخوف ويتلذذ بالتعذيب، كابن تيمية ومحمد ابن عبد الوهاب الذين حولوا الإسلام إلى نسخة مشوهة إلى أقصى الحدود عن دين الله السمح الجميل، أو المودودي وسيد قطب وغيرهم من مبتدعي ما أصبح يعرف بالإسلام السياسي الذي وضع أسسه الدينية الاستعمار البريطاني لأهداف خبيثة لم تعد خافية اليوم على مسلم متنور، وكل ذلك باسم إحياء السنة والسنة منهم ومما يدعون إليه براء، لأن العلم ليس بكثرة الروايات المدسوسة، بل بخشية الله تعالى والحرص على عباده من الفتنة والتفرقة في الدين، وللرسول صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة في شأن العلماء لا يسع المقام لسردها، تحذر في مجملها من (العلماء السفهاء)، وممن أسماهم بـ (مجوس الأمة)، ويقول في شأن بعضهم: (إنما أخاف على أمتي زلة عالم وجدال منافق في القرآن)، أخرجه الطبراني من حديث أبي الدرداء، ولابن حبان نحوه من حديث عمران بن حصين.

وإذا كان التصوف هو قمة الزهد في الإسلام باعتباره من مرتبة الإحسان كما هو ثابت لدى المحققين الموضوعيين، فللرسول صلى الله عليه وسلم حديث يقول: (لا تجلسوا عند كل عالم إلا إلى عالم يدعوكم من خمس إلى خمس، من الشك إلى اليقين، ومن الرياء إلى الإخلاص، ومن الرغبة إلى الزهد، ومن الكبر إلى التواضع، ومن العداوة إلى النصيحة)، قاله جابر وأخرجه أبو نعيم في الحلية وابن الجوزي في الموضوعات. وواضح أن الحديث يتناول صفة العلماء الملتزمين بالزهد والإخلاص، الذين يدعون إلى اليقين والتواضع والنصيحة، وهي صفات لا نجدها عند مشايخ التكفير.

خصوصا وأن ابن تيمية وتلامذته وعلى رأسهم ابن القيم يعدون من أكبر أعداء الحقيقة سواء منها الفلسفية أو الدينية، لأنهم يعتبرون الفلسفة هرطقة، ويقولون إن المعرفة الدينية لا تتطور، وأن القرآن قد تم فهمه فهما نهائيا من قبل جيل الصحابة والتابعين ولم يعد هناك من مجال للاجتهاد فيه، نافين أن يكون للقرآن باطن يحتاج إلى تأويل، وأن العصمة من الزلل والضلال والانحراف تكمن في التمسك بالمعرفة التي تركها السلف "الصالح" للأجيال اللاحقة، الأمر الذي أصاب علوم الدين بالتكلس والجمود ضدا في ما نعتقد كمؤمنين من أن القرآن نص مفتوح صالح لكل زمان ومكان، وأن وجه الإعجاز لا يكمن في أسلوبه فحسب، بل وفي المعاني المتجددة التي يعطيها النص حسب الظروف وتجدد الأحوال. (منهج ابن تيمية في تفسير القرآن – صبري المتولي - ص: ٦٣ – ٦٩).

وتذكر عديد المراجع التاريخية والفقهية، أن الفقيه الظاهري ابن تيمية الذي عايش ابن عربي في الشام المنفتحة على الثقافات الإنسانية في ذلك الزمان، قد حمل في أدبياته على التصوف والصوفية إلى أن تم طرده إلى الحجاز، وحين لم يجد ما يؤصل به مقولاته حول التصوف، انتهى به الأمر إلى إصدار فتوى مثيرة تقول: "فأما المستقيمون من السالكين كجمهور مشايخ السلف مثل الفضيل بن عياض، وإبراهيم بن أدهم، وأبي سليمان الدارني، ومعروف الكرخي، والسري السقطي، والجنيد بن محمد، وغيرهم من المتقدمين... مثل الشيخ عبد القادر الكيلاني، والشيخ حماد، والشيخ أبي البيان، وغيرهم من المتأخرين...  فهم لا يسوغون للسالك ولو طار في الهواء أو مشى على الماء أن يخرج عن الأمر والنهي الشرعيين، بل عليه أن يعمل المأمور ويدع المحظور إلى أن يموت. وهذا هو الحق الذي دل عليه الكتاب والسنة وإجماع السلف، وهذا كثير من كلامهم". (الفتاوى – الجزء العاشر).

لكن وبرغم هذه الفتوى التي ترفع اللبس عن أولياء الله الصوفية، إلا أن عديد تلامذته، وبسبب جهلهم بمعادلة "الله – الإنسان – العالم"، ظلوا مصرين على تكفير القوم في كتاباتهم اللاحقة، بدعوى أنهم يدعون إلى الاتحاد والحلول في خلط واضح في المفاهيم بين "الوحدة" و"الثنائية" كما شرحها ابن عربي في مؤلفاته القيّمة.

وبالتالي، فتصحيح المفاهيم الدينية لدى الناس، وحده كفيل برفع هذا الالتباس الذي اثير حول العوامل الدخيلة على التصوف الإسلامي، خصوصا إذا عرفنا أن التصوف هو في النهاية مستوى جد متقدم من الزهد عرف زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان الإمام علي عليه السلام هو أول من وضع ما أصبح يعرف في التراث الشيعي بـ "علم القلوب" أو فلسفة القلوب"، متأثرا بما تعلمه عن النبي صلى الله عليه وسلم من أسرار، ولما ارتقى به من مقام، قال فيه صلى الله عليه وسلم: (أنا مدينة العلم وعلي بابها)، وهو الحديث الذي أجمعت الشيعة على صحته ونقله   أكثر من ١٤٣ محدثا سنيا في كتبهم، ورواه الحاكم في المستدرك والطبراني في الكبير، وأبو الشيخ والترمذي وغيرهم عن ابن عباس مرفوعا.  

ومن المسلم به لدى جميع المؤمنين، أن الله تعالى جعل القلب محل العلم والفهم والإدراك بدليل أنه أنزل القرآن على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، وقال فيمن يتعاملون مع القرآن بسطحية: (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها) محمد: ٢٤. كما أنه تعالى عندما قرر معاقبة الكافرين على جحودهم وتكذيبهم وسخريتهم من الرسول صلى الله عليه وسلم، طبع على قلوبهم فغرقوا في الضلال وتحولوا إلى أضل من الأنعام لا يسمعون ولا يعقلون ولا يفهمون، برغم أن الله تعالى أرسل لهم كتابا محكما ومفصلا، مثلهم كمثل اليهود الذين أنزل الله لهم التوراة فلم يفقهو ما فيها ولم يعملوا بها، فشبههم تعالى بالحمار الذي يحمل أسفارا، لا يفقه ما حولته من علوم ولا يدرك ما تضمنته من معرفة.

ودليل أن محل الزهد هو القلب لا العقل ما ورد في سورة الحديد آية ٢٧ بمناسبة حديثه تعالى عن الذين اتبعوا الإنجيل من قوم عيسى عليه السلام، فجعل في قلوبهم رأفة ورحمة، ورهبانية (زهد) ما كتبها الله عليهم إلا ابتغاء رضوانه، لكنهم لم يراعوها حق رعايتها.

وكون أن هناك بعض أوجه التشابه بين الزهد كما عرف في الرسالات السابقة والتصوف، فأمر طبيعي يؤكد قاعدة أن الإسلام في نسخته الأخيرة المنقحة من التحريف والتحوير والتزوير هو امتداد لذات الإسلام الذي بعث به الله تعالى رسله وأنبياءه لعباده كافة من دون استثناء حتى لا تكون للناس حجة على الله يوم القيامة (رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) النساء: ١٦٥.

وبالتالي، فلا يعقل أن يأتي كل رسول بدين جديد ومصدر الدين إله واحد، وإلا لسقط الله في العبث سبحانه وتعالى عما يصف الجاهلون علوا كبيرا، ودليل ذلك قوله تعالى: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي اوحينا اليك وما وصينا به ابراهيم وموسى وعيسى ان اقيموا الدين ولا تتفرقوا) الشورى: ١٣. وهذه دعوة واضحة صريحة للمؤمنين بإقامة نفس دين التوحيد الوحيد الذي شرعه الله لعباده كافة ونصحهم بعدم التفرقة فيه.

وإذا كانت النبوة تقوم على الاختيار وتمثل في بعدها الأساسي ظاهر الشرائع الموجهة للعامة، فان الولاية تقوم على الزهد والمجاهدة سعيا لمعرفة باطن الحقائق التي لا يصل إليها إلا الخاصة وخاصة الخاصة بالجهد والمجاهدة سعيا للقرب إلى الله تعالى ونيل رضاه.

بمعني أن النبوة هي مبادرة من الله للاتصال بالأرض بواسطة رجال يتم اصطفائهم لمهمة التذكير بربوبية الله للناس وتبليغ الشريعة التي اصطفاها لهم، في حين أن الولاية هي مبادرة من العبد للاتصال بالسماء من بوابة الشريعة لولوج عالم الحقيقة. ولذلك تعتبر الولاية هي الأصل والنبوة هي الفرع لأنها درجة من درجات الولاية الإلهية العامة أو الخاصة.  والولاية اتصال مستمر بوحي السماء لا ينقطع إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها: (وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء انه علي حكيم) الشورى: 51.

كما أنه ليس من أسماء الله تعالى النبي أو الرسول كما يقول الصوفية، مما يدل على أن قرار الله بعث الرسل هو قرار استثنائي، الهدف منه تبليغ رسالة الشرائع السماوية إلى أهل الأرض كافة في مختلف مراحل نضجهم بغية تذكيرهم بميثاقهم الأول الذي عقدوه في عالم الأرواح مع الله قبل الوجود المادي وفق ما تؤكده آية الميثاق العجيبة: (ألست بربكم؟ قالو بلى...) وعلى أساس ذلك قبلوا بحمل الأمانة، وحثهم على تحقيق العدل الذي هو أساس التوازن للعيش الكريم على الأرض بمحبة وسلام، وذلك، بمؤيدات خارقة زمن الرسل تمثلت في المعجزات التي ليست من السنن المعتادة، حتى لا يكون للناس على الله حجة كما يقول تعالى في كتابه المجيد.  وهذا هو ما يؤكد أن المبادئ الهندوسية، والحكمة البوذية، والتعاليم الزرادشتية، والقواعد الصينية، والفلسفة اليونانية، وغيرها مما نعلم ولا نعلم.. كلها تتضمن نفحات من الحكمة الإلهية السامية، والمبادئ الأخلاقية الأساسية التي تعلمها الإنسان من وحي السماء.

وهذا بالذات هو ما يعطي للدين بعده الشامل لكل البشرية، باعتباره اعتقادا فطريا وقواعد مبدئية أولية جبل الإنسان عليها، للتعارف والتعامل الايجابي والتعايش السلمي سبيلا لتحقيق السعادة في الدنيا وضمان الخلاص في الآخرة، ولذلك قال تعالى (ما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) الذاريات: ٥٦. فشملهم جميعا بأمر عبادته طوعا أو كرها، ما دام لا هروب من الله إلا إليه.
ويؤكد هذا المعنى الذي ذهبنا إليه قوله تعالى: (إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم) هود: ٥٦. والدابة لغة هي كل ما يدب في الأرض من خلق، والأخذ بالناصية كناية عن كمال السلطة ونهاية القدرة، والصراط المستقيم هو سنته الثابتة في الخلق، يدبر أمورهم بالعدل والحكمة فيحق الحق ويبطل الباطل كلما تعارض مع مشيئته ورؤيته نصرة لدينه، ليظل نوره متقدا في القلوب من خلال ما يوحي به تعالى لعباده أبد الآبدين ما بقيت السماوات والأرض وتعاقبت الأمم إلى يوم يبعثون.

ومن الأهمية بمكان، الإشارة في هذا السياق، إلى خلاصة كان قد توصل إليها المفكر والباحث الإسلامي هنري كوربان، من خلال دراسته لمسألة البحث عن "الحقيقة" في الفلسفة المسيحية مقارنة بالفلسفة الإسلامية (تاريخ الفلسفة الإسلامية – ص: 41/42)، ومفادها، أن الوعي الديني في الإسلام، لا يرتكز كما هو الحال في المسيحية على واقعة من التاريخ، ويعني بذلك كما يقول، أنها ليست واقعة تاريخية "بعدية" (بفتح الباء)، وإنما هي واقعة تاريخية "انعكاسية"، أي أنها مرتبطة بلحظة فارقة من حيث أنها وقعت خارج إطار الزمان والمكان، أي قبل التاريخ الكوني الذي نعرفه، حيث أنها تمثلت في ذلك التساؤل الإلهي الذي يطرحه تعالى على أرواح الناس جميعا، الذين سبقوا العالم الأرضي في الوجود: (ألست بربكم؟). وبجوابهم جميعا على هذا السؤال بالإيجاب (قالوا بلى)، يكونون قد أقاموا مع الله عهدا غليظا وميثاقا أبديا من الأمانة. ويشرح هنري كوربان طبيعة هذا الميثاق على الحواشي بقوله: "وذلك ما يسميه الإمام أبو حنيفة النعمان 'بميثاق عالم الذر'. فهو يفسر الآية 171 من سورة الأعراف (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين)، فيقول: إن الله أخرج بني آدم من صلب آدم على صورة الذر، وذلك قبل أن يخلقهم على هذه الصورة الحسية وأخذ منهم الميثاق، أي أن الله قابل الأرواح جميعها وأمرها بالإيمان ونهاها عن الكفر. ويخلص أبو حنيفة من ذلك إلى أن الأفعال مخلوقة لله، وان ليس للإنسان إلا الكسب. 

وهو أيضا رأي الحسن البصري كما ينقله أبو الهذيل العلاف في كتاب (الحجة) بحسب رواية الطبرسي في شرحه لهذه الآية في (مجمع البيان). كما يأخذ بهذا الرأي العلامة الطباطبائي في مؤلفه (الميزان في تفسير القرآن)، بدون أن يخلص إلى موقف أبي حنيفة في قضايا العدل، لأن الشيعة يقولون بحرية الإرادة والاختيار ولا يؤمنون بالجبر بمفهومه الغليظ الذي يقول به الأشاعرة والصوفية كما سبق معنا القول في موضوع "الإنسان بين ثنائية الجبر وحرية الاختيار".

وتجذر الإشارة في هذا السياق إلى أن الطبرسي يفهم آية الميثاق فهما معتزليا، بمعنى أن الله دل بني آدم بخلقه على توحيده، وأشهدهم على أنفسهم لما جعل في عقولهم من الأدلة الدالة على وحدانيته، وهو ما يتعارض مع مفهوم الشهادة في القرآن، والتي لا يمكن أن تكون مقبولة إلا إذا كانت حضورية تفيد معاينة الحقيقة بالمشاهدة المباشرة، وهو المعنى الذي تأخذ به القوانين الوضعية المدنية والجنائية على حد سواء، ولا تقبل شهادة بالسماع، وبالتالي، لا يمكن التسليم للمعتزلة بأن الخلق لم يشهدوا بربوبية الله لهم حضوريا في عالم الذر والأرواح النورانية قبل أن يودع الله أرواحهم في مستودعاتها التي هي الأجساد وينزلها إلى مستقراتها التي هي الأماكن التي اختارها لها ليخوض تجربتهما الدنيوية وفق الدور المحدد والأجل المقدر (ولكل أمة أجل) الأعراف: 34.

أما إخوان الصفا وخلان الوفا، فيفهمون الآية على أنها إشارة إلى أن الإنسان عالم صغير ومثل لمثول هو العالم الكبير (رسالة 12 ج 2). أو كما يقول ابن عربي: "وتحسب أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر". وثمة ذوقي شيعي (صوفي) يفسر هذه الآية بالحديث النبوي الشهير: (كل مولود يولد على الفطرة). وواضح كما يلاحظ ذلك هنري كوربان، أن هذا الفهم ليس بعيدا عن فهم الطبرسي وان اختلفت الألفاظ. ومن هنا، يخلص إلى أن مجيء الأنبياء وتناوبهم من حقبة إلى حقبة، وتعاقبهم في دور النبوة، ليس إلا للتذكير بالعهد الذي قطع مع الله في عالم الذر والأنوار الروحانية قبل الوجود المادي للإنسان في العالم، والذي جاء بمحض حريته اختياره بعد أن اعترف حضوريا بربوبية الله له، وقبل بحمل أمانة الخلافة طوعا لا كرها، هذا فيما رفضتها السماوات والأرض والجبال لخطورة شأنها، وهذه الشهادة جعلها الله في حينه شرطا للإفراج عن الإنسان من العدم إلى الوجود ليعيش حياة الخلود.

وبذلك، يمكن الجزم من باب الإيمان بعدل الله ورحمته، أنه سبحانه وتعالى كان يتجلى عن طريق الوحي المباشر والغير مباشر لجميع البشر، بأنبيائهم ورسلهم وأوليائهم وحكمائهم وفلاسفتهم، ولمن يشاء من عباده كما يؤكد في قرآنه، وذلك من خلال لغة الإشارة أو "الوميض" كما يسميه الراغب، فيفهم المتلقي المراد من رسالة السماء بحصول القناعة العقلية والاطمئنان القلبي.

يقول محمد أركون في كتابه (نزعة الأنسنة في الفكر العربي – ص: 534): "ولكن ها هو الكائن الأعظم (أي الله) يتجلى عن طريق الوحي لجميع البشر، أي من خلال لغة يفهمها حتى الجهلة البسطاء المحرومون من أنوار الحكمة، ثم ينقل الرسالة إلى البشر أناس مختارون ومصطفون (رسل وانبياء)... هذه الظاهرة تفرض نفسها على العقل البشري بصفتها صحيحة إلى درجة أنه لا يمكننا أن نتخيل وجود حضارة بشرية بدون عمل الأنبياء"، أو بعبارة أخرى، من دون وحي السماء.

وبناء على ما سلف، نخلص إلى القول: أن العهد الأول المنعقد في عالم الأرواح بين الإنسان وربه، هو صبغة الله التي فطر عليها عباده جميعا من دون استثناء بحيث جعل ربوبيته تنتقل بالوراثة في جين البشر جميعا.. ومن هنا يمكن فهم قوله تعالي (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه)، بأنه أمر تكويني جبري في أصل الخلق لا تكليفي يخضع لاختيار الإنسان. وعليه، يصبح القول بأن التصوف الإسلامي هو نتاج أفكار ومعتقدات دخيلة على الإسلام بحكم الرأي السائد لدى بعض فقهاء الرسوم في البلاد الإسلامية، والرائج في الأوساط اللاهوتية الغربية، ومفاده أن "لا فلسفة ولا تصوف في القرآن"، هو مجرد هراء لا أساس له من الصحة، وينم عن جهل عميق بالقرآن والسنة، وبتاريخ وأصل الأديان على حد سواء، وسوء فهم فظيع لرؤية الله للحق والخلق، ناهيك عن أن يكون أصحابه ملمين بحقيقة التصوف وأصوله في القرآن والسنة.

لكن ماذا عن تأثير التصوف في الفلسفة الغربية؟ ...

لا يسع المجال هنا لرصد كل أوجه التأثير هذه، خصوصا وأن أوروبا كانت تعيش عصر الظلمات المعرفية في العصر الوسيط، ولولا الفلسفة والتصوف الإسلامي لما خرجت من معضلتها وعرفت عصر التنوير انطلاقا من الترجمة التي نشطت في القرن الثاني الميلادي والتي اضطلعت بها مدرسة المترجمين في طليطلة بالأندلس تحت رعاية الأسقف 'رايموندو' قبل أن تنتقل إلى بريطانيا وفرنسا وغيرهما، وكان هدف مدرسة طليطلة من الاهتمام بالتصوف الإسلامي هو توظيف المعارف الصوفية المكتسبة لدى المسلمين لاستغلالها محجا لإثبات صحة المعتقدات المسيحية التي تعرضت إلى هزات عنيفة من قبل العديد من أتباع الكنيسة.

ويشير الباحث المغربي حفيظ هروس في أطروحته للدكتوراه حول موضوع "التصوف الإسلامي في الدراسات الإسلامية في الغرب"، أن الراهب الإسباني 'رايموندو لوليو' (١٣١٤ – ١٢٣٥م) هو أول من مثل اتصال الغرب بالأفكار الصوفية الإسلامية حسب (أنماري شيمل – الأبعاد الصوفية – ص: ١٢). وتعتبر أطروحة المستعرب الإسباني 'خوليان ريبيرا' (أصول فلسفة رايموندو لوليو) أهم ما كتب حول تأثر الغرب بالتصوف الإسلامي، وقد وصلت بعض كتابات 'رايموندو' حد التطابق مع نصوص محيي الدين ابن عربي، ما جعل الباحث 'ريبيرا' يستنتج عملية النقل الحرفي لعديد من مقولات ابن عربي إلى الثقافة المسيحية.

ويشير الباحث المغربي إلى أن عملية التأثير هذه عرفت قفزة نوعية في الدفع بالدراسات الإسلامية بعيدا عن نطاق الفكر اللاهوتي، حيث تأثر كبار الأدباء والمفكرين في العصر الرومانسي بالتصوف الإسلامي انطلاقا من أعمال علماء المشرقيات والرحالة الذين وفروا لهم المادة الخام لبحوثهم، ومنهم الشاعر الألماني الكبير 'جان جوتيه' الذي تأثر بعمق بالشاعر الصوفي المسلم الكبير حافظ الشيرازي بعد أن قام بترجمة أعماله الشعرية العلامة النمساوي 'فون هامر بورغشتال'.

وفي هذا الإطار، فإنه من المفيد الإشارة إلى دراسات الباحث الإسباني 'ميغيل آسين بلاثيوس' لأعمال ابن عربي، والتي حاول من خلالها التوفيق بين وحدة الحقيقة الدينية لدى جميع المعتقدات باعتبار أن مصدرها واحد هو وحي السماء.. من هنا قد يبرز التشابه الذي أدى إلى الخلط لدى البعض لدرجة اعتبار أن التصوف الإسلامي تأثر بعوامل خارجية، وقول البعض أن لا أصل ولا فصل للتصوف في القرآن والسنة.

وإذا كان هناك من يرى أن الباحث 'بلاثيوس' قد حاول في بداية أطروحاته حول محيي الدين ابن عربي الادعاء بأن المنظومة الفكرية والسيكولوجية لابن عربي، سواء في عمومها أو في تفصيلاتها الدقيقة والمعقدة المرتبطة بالجانب العملي الطقوسي، إنما تمتح من الرهبانية المسيحية في نسختها المشرقية، وهو الأمر الذي "حول ابن عربي إلى مسيحي بدون مسيح" كما يقول الباحث 'عليّ شودكيفيتش' في مؤلفه (الولاية والنبوة – ص: ١١). فإن أساس أطروحة 'بلاثيوس' هذه، مرده إلى تأثير مدرسة ابن مسرة الألميرية في فكر ابن عربي الباطني كما يقول، حيث يحلو لهذا الباحث بأن "يرى في تلامذة ابن مسرة متممين للغنوص المسيحي الذي قال به 'بريسلين' في القرن الرابع" كما يشير لذلك هنري كوربان في كتابه (تاريخ الفلسفة الإسلامية – ص: ٢٣٠). هذا في حين أن هناك شهادات قاطعة تؤكد أن الفكر الصوفي عند ابن مسرة هو في صلب الصوفية بإسبانيا حيث عرفت ألميرية زمن المرابطين في القرن الحادي عشر الميلادي بأنها عاصمة الفكر الصوفي بالأندلس، وأن هذا الفكر لما هو عليه من تلاؤم مع الباطنية التي عرفت في الإسلام بفعل الصراع بين "الإمامة" و "الخلافة"، يمتح من المدارس الشيعية، وخصوصا المدرسة الإسماعيلية.

وبالتالي، فإننا لا نجد المبادئ الأساسية الخمسة للغنوص المسيحي كما رصد هنري كوربان بعض من ملامحها في مدرسة ابن مسرة هي ذاتها في فكر ابن عربي للقول بتأثر التصوف الإسلامي بالغنوص المسيحي، فالرجل لم يقل مثلا بفكرة المادة الشاملة الخالدة خلود الله لأنها مناقضة لعقيدة التوحيد في الإسلام ولمفهوم الله الذي لا يوجد شيء معه أو من خارجه، ولم يقل بأن اتحاد المادة بالجسد جاء نتيجة لإثم ارتكبه الإنسان في العالم الآخر كما يقول بذلك الاعتقاد المسيحي المخالف لرؤية الله للحق والخلق.. وكون ابن عربي يقول بأن الخلاص منوط بتطهر النفس اقتداء بمواعظ الأنبياء وإرشادهم، وينحى إلى التفسير الروحي للنص المقدس، فلا يعني ذلك أنه أخذ ذلك عن الغنوص المسيحي أو الفرضية الميتافيزيقية القائلة بالجواهر الخمسة والمعروفة بـ "مبادئ الكائن" عند الفيلسوف 'امبيذقلس'، ما دامت المبادئ التي يقول بها ابن عربي نجدها في صلب التعاليم الإسلامية من قرآن وسنة.

والملاحظ أن 'بلاثيوس' نفسه قد تراجع عن هذا الزعم القائل بتأثير الغنوص المسيحي في الثقافة الإسلامية، بعد أن اكتشف الحقيقة لاحقا، وأكد بثقة وروح عالية أن العكس هو الذي حصل بالنسبة للثقافة المسيحية التي تأثرت بشكل كبير بالثقافة الإسلامية، لدرجة أن هناك من الرهبان من قد سرقوا أعمال رواد مسلمين ونسبوها إلى أنفسهم كما فعل الراهب الفرنسيسكاني 'تورميد' الذي نسب رسائل إخوان الصفا وخلان الوفا إلى نفسه، أو كما فعل الفيلسوف ديكارت حين أخذ منهج الشك عن الإمام الغزالي ونسبه إلى نفسه، وبفضل هذا المنهج تحولت الفلسفة من البحث في مجال الوجود إلى البحث في مجال المعرفة فغيّرت تاريخ البشرية.

بل أكثر من ذلك، فقد أوصلته (أي بلاثيوس) بحوثه الموضوعية اللاحقة حد القول، إن 'دانتي' أخذ ما تضمنه مؤلفه الشهير "الكوميديا الإلهية" من أعمال العلماء المسلمين، فكتب بحثا مستفيضا بعنوان "الأصول الإسلامية للكوميدية الإلهية"، وكتابا آخر نشر بعد وفاته بعنوان "قصة المعراج والكوميديا الإلهية"، فند فيه مزاعم دانتي وكشف أن كل ما ورد بمؤلف 'دانتي' هو مجرد صدى لما جاء في الأدبيات الإسلامية، لاسيما قصة الإسراء والمعراج في الفكر الإسلامي، ورسالة الغفران للمعري، ومفهوم الجنة والنار ومراتبهما المختلفة عند ابن عربي، فأعاد لهذه الأعمال وهجها، حيث اقتفى في بحثه مضمونها خطوة خطوة، فجاءت البداية واحدة، والمواقف متشابهة، وتسلسل الأحداث هو نفسه، ليتبين أن دانتي لم يقم سوى بنقل ما ورد في التراث الإسلامي بشأنها من معلومات، وهو ما عبر عنه  'بلاثيوس' بالقول: "إن الكوميديا الإلهية هي فكرة إسلامية بلغة لاتينية".

ولو أن منتقدي التصوف والمتحاملين على هذا المسلك الشريف من فقهاء الرسوم وبعض الباحثين الإسلامويين المتأثرين بنهجهم اهتموا بدراسة قصة معراج الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم بالعمق المطلوب وخاضوا تجربة الصعود على سنته، لوصلوا إلى قناعة أن واقعة المعراج تجسد المعنى الحقيقي للتصوف، وأنها كانت تجربة إسلامية خالصة بدأها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وتبعه في ذلك المتصوفة الذين أدركوا معنى هذا المسلك إلى الله وما يوفره لهم من تجربة روحية ذوقية تكشف لهم أسرار الملكوت، فترفع عن عقولهم كل شبهة، وتزيل عن نفوسهم كل ريب، فيرون الحقيقة عارية ليس بينهم وبينها حجاب.

يقول تعالى في شأن الكفار المكذبين بالحقائق الإلهية اللدنية: (ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون * لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون) الحجر: ١٤ – ١٥. والمعنى ظاهر واضح لا يحتاج إلى شرح، وهذا هو عين المعراج الذي يفتح الله تعالى به على من يشاء من عباده المقربين الذين طهروا بالمجاهدة أنفسهم فأدركوا مقام الإحسان، فشاهدوا الحقيقة عارية ليس بينهم وبينها حجاب.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق