بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 14 أبريل 2019

الوجود بين الوحدة والثنائية (4/2)



مفهوم وحدة الوجود عند ابن عربي
       بالنسبة لمفهوم "وحدة الوجود" الذي أثار كل هذا الجدل الفكري و اللغط الكلامي، نجد أن العديد من الدراسات التي تناولت أعمال محيي الدين ابن عربي، اعتبرت أن الشيخ الأكبر هو مؤسس هذا المذهب في الإسلام. هذا بالرغم من أن ابن عربي نفسه لم يسبق له أن استعمل هذا التعبير الفلسفي بمعناه الأنطولوجي في بلورته لمفهوم "التوحيد" الذي يعد محور التعليم الأساسي في الدعوة الإسلامية. ومصدر سوء الفهم هذا، يعود بالأساس إلي صعوبة قراءة أفكار الشيخ بسبب محدودية اللغة وعجزها عن وصف طبيعة ازدواجية علاقة الوحدة والثنائية المعقدة والدقيقة القائمة بين  الله والعالم و الله والإنسان كما يراها ابن عربي من جهة، وعدم التفريق بين كتابات الشيخ الأكبر وبين شروح تلامذته وأتباعه التي لم توفق في رفع الغموض والالتباس عن هذه القضية المحورية من جهة أخري.../...
       ويعتبر الباحث وليام شطيك (William C. Chittick) أستاذ الدراسات المقارنة بجامعة نيويورك في دراسته لعقيدة "وحدة الكائن" عند الشيخ الأكبر، أن تلميذ ابن عربي صدر الدين قناوي (673/1274)، هو أول من حاول التوفيق بين التعبير الفكري الصوفي والفلسفة المشائية، حيث كان موضوع "الوجود" آنذاك يمثل مركز اهتمام الفلاسفة بامتياز قبل أن يتحول اهتمامهم من الوجود (أو ما وراء الطبيعة) إلى مجالات المعرفة.

هكذا إذن، أصبح تعبير "وحدة الوجود" المشكل من كلمة "وحدة" التي تعود إلى نفس مصدر "التوحيد" أو "الأحدية" في الإسلام، و كلمة "الوجود" التي تحدد الاهتمام المركزي للفكر الفلسفي منذ نشأته إلى زمن ديكارت، عبارة عن تركيب ميكانيكي لمفاهيم تراثية دينية وفلسفية في آن معا. ويضيف الباحث المذكور أعلاه، أن كلمة "الوجود" التي لا توجد في القرآن، لم تحضى باهتمام يذكر من قبل ابن عربي باستثناء بعض الإشارات البسيطة والعابرة في سياق النص، وهو ما دأب عليه الصوفية عامة، الشيء الذي جعل أفكارهم وكتاباتهم مفارقة بشكل ملحوظ لأفكار وكتابات الفلاسفة والمشتغلين بالكلام. ومرد ذلك يعود بدون شك إلى اشتغال الفلاسفة وأهل الكلام بأدوات العقل وآليات المنطق في البحث عن المعنى، في حين أن الصوفية يعتبرون أن الحس والعقل معا، عاجزين عن إدراك الحقائق اللدنية التي لا تعرف إلا من خلال الكشف الإلهي والفهم الباطني للنص المقدس من قرآن كريم وحديث نبوي شريف. فلا غرابة والحال هذه أن لا يستعمل ابن عربي كلمة "وجود" الفلسفية في معالجته لمسألة "الوحدة" الدينية كما عبر عنها بإسهاب ودقة من خلال رسالة له بعنوان: "رسالة الأحدية" أو كما يحلو للبعض تسميتها بـ "الرسالة الوجودية".

      والواقع أن تاريخ مصطلح "وحدة الوجود" أو "وحدة الكائن" وفق التعبير الاستشراقي، لم يُبحث بعمق إلا مؤخرا، حيث أظهرت قراءة أولية لنصوص ابن عربي وتلامذته وبعض أتباعه قام بها الباحث المشار إليه أعلاه، أن تلميذ الشيخ الأكبر صدر الدين قناوي، استعمل مصطلح "وحدة الوجود" فقط مرتين في كل كتاباته، في حين أن  سيد الدين فرخاني (695/1296) تلميذ قناوي، استعمله بكثرة في تعليقين مؤثرين له حول "التقية" للشاعر المسلم أحمد ابن فارس. لكن، لا قناوي ولا فرخاني استعملا "وحدة الوجود" بالمفهوم الفلسفي الذي اكتسبه هذا المصطلح في القرون التالية. فبالنسبة لهما، لم يكن المصطلح يضمر في طياته أفقا شاملا يفسر طبيعة الأشياء وعلاقاتها المتداخلة، بل بالعكس، كان يحيل على معني موضوعي يعتبر "الوجود" حقيقة مفردة. وفي نفس الوقت، قامت بعض الوجوه المتأثرة بمدرسة ابن عربي من أمثال ابن صابين (659/1270) في الوسط العربي، وعزيز الدين نسفي (700/1300) في فارس، باستعمال المصطلح للإشارة إلي عالم العلماء والصوفية. وفيما بعد، برز الفقيه الحنبلي ابن تيمية (728/1328) الذي اشتهر بشطحاته  التكفيرية الشرسة ضد كل المدارس الفكرية الإسلامية المخالفة لمنهجه المغلق، فهاجم ابن عربي بشدة معتبرا إياه من الذين يقولون بمذهب الاتحاد والحلول.  وبالنسبة لفقيه ظاهري متطرف كابن تيمية، يحمل المصطلح في أبعاده شبهات وصفها بالشرك حينا وبالكفر أحيانا. وليس سراً أن ابن تيمية استفاد من تواجده بدمشق في نفس وقت تواجد ابن عربي بها، فبني جزءا كبيرا من شهرته بفضل تهجمه على أفكار الشيخ الأكبر، فسارت الركبان بفتاويه، وأدهش العامة بانغلاقه وثباته على تطرفه، وشدته على خصومه، وكان لا يتردد في مهاجمة مخالفيه، ويصرح بأن "القول ما قلناه ومن قال خلافه يستثاب فإن تاب وإلا يقتل"...  هكذا يعتقد ابن تيمية أنه وحده يمتلك الحقيقة المطلقة، أما غيره، فعلى ضلال ويستحق القتل في شرع الله كما يفهمه هو من وجهة نظره الضيقة.‏ 

غير أن دمشق المنفتحة على كل التيارات الفكرية آنذاك، لم تقبل من ابن تيمية هذا النوع من التطرف في احتكار الحقيقة، فطُرد منها إلى نجد حيث تلقاه أهل الجزيرة بالقبول والإتباع، ومن فكره تبلور السلفي المتطرف والفكر الوهابي الذي تطور على يد محمد عبد الوهاب الذي تحالف مع آل سعود بمساعدة المخابرات البريطانية، فأنشئوا الدولة السعودية كما هو معلوم تاريخيا، (وهي أسرة لا علاقة لها بأهل الحجاز من عرب قريش الشرفاء الذين ينحدر منهم الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم). ومهما يكن، فهذا الفكر الاقصائي المتشدد هو الذي تحول إلى وقود للتطرف في العصر الحديث، ففرخ ما يعرف بالإرهاب الاسلاموي المحلي والإقليمي والدولي، الذي شوه صورة الإسلام وأساء لتاريخ المسلمين وعقيدتهم السمحاء في كل أرجاء العالم، ناهيك عن ايقاضه لنيران الفتن الدائرة في أكثر من منطقة عربية وإسلامية بين السنة والشيعة، خدمة لأهداف "صهيو-امبريالية" واضحة، على حساب وحدة الأمة وهويتها الجامعة ومناعتها والمحافظة على خيراتها وحماية كرامة أهلها ومستقبل أبنائها. وهذا للأسف، هو الواقع الذي تبرزه الجدلية الاجتماعية في البلاد العربية والإسلامية المتخلفة اليوم، من خلال تغول الحركات الأصولية المتطرفة، وطغيان الإيديولوجيا على حساب الدين، وانحصار الثقافة ودور النخب، وفشل سياسات الدولة القطرية العربية التي فقدت المعنى والبوصلة والشرعية الدينية والسياسية معا.

والملاحظ كما يقول د. محمد أركون في هذا الصدد: "أن المجتمع المتقدم المستنير، يكون تدينه متسامحا، منفتحا، والمجتمع الفقير المتخلف يكون تدينه متشددا، ضيقا" (الفكر الأصولي واستحالة التأصيل – ص: 54 – ترجمة وتعليق: هاشم صالح- دار الساقي- طبعة 1999). وهذه الملاحظة الجوهرية لم تأتي من فراغ، بل تمثل الخلاصة المشتركة بين كل الدراسات الاجتماعية الحديثة التي تناولت موضوع التطرف في البلاد العربية والإسلامية السنية تحديدا.

      ويقال أن ابن تيمية تراجع عن أحكامه الجزافية ضد ابن عربي بعدما أعلن هذا الأخير صراحة أن عقيدته لا تختلف عن عقيدة أهل السنة الأشعرية وأنه يؤمن بضرورة الالتزام بالشريعة كبقية المسلمين في عصره، مع إصراره على الاحتفاظ لنفسه بحقائق باطنية ليست في متناول إدراك العامة، ونبّه إلى ضرورة مراعاة مستويات فهم النص المقدس في أبعاده الأربعة: ظاهر وباطن وحد ومطلع،  كما في الأثر عن الرسول صلى الله عليه وسلم وفق ما رواه الإمام عليّ كرم الله وجهه، وإن كان ابن عربي لا يحيل صراحة هذا النوع من التقسيم في مستويات الفهم إلى الرسول أو الإمام عليّ، أو إلي أئمة الشيعة الذين أخذوا به من بعده، بل يكتفي بالإشارة إلي أنه أخذه عن شيخه. ويُرجّح أن يكون للأمر علاقة بالتقية لحساسية الوضع بين السنة والشيعة في حينه، لكن مثل هذا القول يبقي ضعيفا نظرا إلى أن الحديث هو في الأصل للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ونصه: (عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لكلّ آية ظهر وبطن، ولكلّ حرف حدّ، ولكلّ حدّ مطلع).

- وأخرج الديلمي من حديث عبد الرحمن بن عوف مرفوعاً: "القرآن تحت العرش له ظهرٌ وبطن يحاجّ العباد) وقال كذلك: (إنّ لكلّ آية ظهراً وبطناً، ولكلّ حرف حدّاً ومطلعا).

- كما أخرج الطبراني وأبو يعلى والبزّار وغيرهم عن ابن مسعود موقوفاً قوله: "إنّ هذا القرآن ليس منه حرف إلاّ وله حدّ، ولكلّ حدٍّ مطلع".

      أوردنا بعضا من هذه الأحاديث لدحض أقوال بعد فقهاء الظاهر الذين يعتبرون أن كل من يقول بأن للقرآن باطن يعد كافرا. ومثل هؤلاء التكفيريون لا يستحقون منا ذكر أسمائهم، ونكتفي فيما يلي ببعض أساتذتهم الكبار الذين تراجعوا عن موقفهم المبدئي المتعنت.

      فمن أقوال ابن تيمية المتأخرة التي تمثل تراجعا واضحا في موقفه المتشدد من الصوفية قوله في الفتاوى: " والصواب أنهم (أي الصوفية) مجتهدون في طاعة الله، كما اجتهد غيرهم في طاعة الله. ففيهم السابق المقرب بحسب اجتهاده، وفيهم المقتصد الذي هو من أهل اليمين. وفي كل من الصنفين من قد يجتهد فيخطئ. وفيهم من يذنب فيتوب أو لا يتوب " (فتاوي ابن تيمية – جزء 11 – ص: 18) وقال كذلك: "وإنهم في ذلك بمنزلة الفقهاء في الرأي". (فتاوي ابن تيمية – جزء 10 – ص: 370). هذا مع العلم أنه لا علاقة لحقائق العرفان الاشراقيي الباطني بالعقل والرأي والصواب والخطأ كما يعتقد ابن تيمية، من حيث أن علمهم يأتي من قذف نور الحقيقة الربانية في قلب العبد، لأن الحقائق الصوفية لا علاقة لها بآليات الاجتهاد والرأي.  

      وقال عنهم تلميذ ابن تيمية، الإمام ابن القيم الجوزية الذي اشتهر في البداية بمناصرته العداء للصوفية وتكفيرهم، وإنكاره لأن يكون التصوف وليد شرعي إسلامي، لكنه عدل عن ذلك فيما بعد وقال: "وأما السابقون المقربون فنستغفر الله الذي لا إله إلا هو أولا من وصف حالتهم وعدم الاتصاف بها. بل ما شممنا لها رائحة. ولكن محبة القوم (أي الصوفية والكلمة مصطلح) تحمل على تعرف منزلتهم والعلم بها. وإن كانت النفوس متخلفة منقطعة عن اللحاق بهم ففي معرفة حال القوم فوائد عديدة (...) ومنها أن هذا العلم هو من أشرف علوم العباد، وليس بعد علم التوحيد أشرف منه، وهو لا يناسب إلا النفوس الشريفة " (طريق الهجرتين – ص: 260/261).

      لكن وبرغم إعلان ابن عربي رسميا عن عقيدته السنية الأشعرية، وتراجع الإمام ابن تيمية عن فتاويه التكفيرية ضده، وتراجع تلميذه الأبرز ابن القيم الجوزية عن مواقفه المتشددة تجاهه، إلا أنه وخلال عقود قليلة بعد ذلك، كتب فقهاء كثر من تلامذة ابن تيمية، يدينون فكر ابن عربي، وظهرت سلسلة متعاقبة من الكتب في تكفيره،  وقال ابن حجر العسقلاني: " إذا لم يكن كتاب الفصوص – فصوص الحكم - لابن عربي كفراً فلا كفر في هذه الدنيا".‏ وتعاقب فقهاء كبار على وصمه بأقسى النعوت، ونص على تكفيره أئمة أعلام في زمانهم، منهم الإمام الحافظ الذهبي والإمام الحافظ تقي الدين السبكي والسراج البلقيني.  وقال عنه الحافظ زين الدين العراقي: "كلامه كلام ضلال وشرك واتحاد وإلحاد". وقال عنه العز بن عبد السلام وهو ممّن ينسب إلى الصوفية: " شيخ سوء يقول بقدم العالم، لا يحل حلالاً ولا يحرم حراماً".  وبأشد من ذلك تحدث ابن كثير وابن حجر الهيثمي والإمام نور الدين البكري.. أما الإمام ابن قدامة المقدسي صاحب (المغني) فقد كتب عن ابن عربي بيتين من الشعر جاء فيهما:‏ 

هذا الذي بضلاله ضلت أواخر مع أوائل‏      من قال فيه غير ذا فلينأ عني فهو كافر

وقد جمع برهان الدين البقاعي هذه الأقوال في كتاب خاص سماه: "تنبيه الغبي إلى كفر ابن عربي"، وصار كثير من الفقهاء المتطرفين لا يذكرونه إلا مع الملاحدة والزنادقة وأعداء الدين". 

      وفي الجانب المقابل، انبرى عدد من علماء الشريعة للدفاع عن ابن عربي، وكتبوا عدداً من الكتب في منزلته وفضله، فكتب السيوطي كتابه: " تنبيه الغبي إلى تبرئة ابن عربي" وكتب عبد الوهاب الشعراني كتابه: "اليواقيت والجواهر في بيان عقيدة الأكابر". وكتب أيضاً كتابا تحت عنوان: "تنبيه الأغبياء إلى قطرة من بحار علوم الأولياء".‏ أما بقية المفكرين المتنورين الذين تعاقبوا بعد ذلك، فقد احتضنوا مصطلح "وحدة الوجود" باعتباره مفهوما موازيا للتوحيد في إطار دلالته الفلسفية والصوفية معا. وهكذا، فمنذئذ وإلى اليوم أصبح المصطلح يستعمل بغزارة للإشارة إلى منهج مدرسة ابن عربي بأكمله بالرغم من أن ابن عربي نفسه لم يقل به ولا علاقة له بهذا المصطلح المركب كما بيّنا أعلاه، بل تناول الوحدة في إطار الثنائية بالمفهوم الوظيفي إن صح التعبير ليوصل فكرته إلى محدودي العقول.


وحدة الوجود وإشكالية المعرفة

      لعل مرد الإشكال الذي نشأ وتطور حول مفهوم وحدة الوجود، سببه أن ابن عربي وإن لم يستعمل المصطلح  في نصوصه كما سبقت الإشارة، إلا أن أسلوبه الاشاري المعقد، وتعبيراته المرموزة الغامضة، توحي في بعدها الظاهري على الأقل، إلى المعنى الحرفي الذي يعطيه التركيب الاصطلاحي الديني والفلسفي لجهة اتحاد الإنسان بالله أو حلول الله في الإنسان كما حصل مع المسيح عليه السلام وفق اعتقاد المسيحية الكنسية، وهذا هو المدخل الذي هاجمه منه حراس العقيدة وبعض تجار فتاوي الخلاص من أهل السنة والجماعة المتشددين، وهي مسألة لا تتعلق بالكفر والإيمان، والحلال والحرام، ولا بالخطأ والصواب، بقدر ما تتعلق باللغة والمعرفة. فاللغة الصوفية هي أقرب إلى اللغة الشعرية الوجدانية،  أي أنها لا تُرسي دعائم عقائد أو قوانين ولا قواعد عقلانية. يقول أدونيس في كتابه (الصوفية والسريالية – ص: 23/24): "واللغة الشعرية الصوفية تناقض اللغة الدينية الشرعية من حيث أن هذه تقول الأشياء كما هي، بشكل كامل ونهائي، بينما اللغة الصوفية لا تقول إلا صورا منها، ذلك أن تجليات المطلق، تجليات لما لا يقال، ولما لا يوصف، ولما تعذر الإحاطة به. فما لا ينتهي لا يُعبر عنه إلا بما لا ينتهي، والكلام منته، والمتكلم منته. ستظل قدرة الكلام، إذن، إشارية، ورمزية، وسوف يظل القول الصوفي شأن القول الشعري، مجازا، ولن يكون حقيقة، كمثل القول الديني الشرعي".

       ورفعا لكل التباس أو سوء فهم، لم يفت ابن عربي التنبيه في كل مرة، إلى ضرورة مراعاة مستويات الفهم في التعامل مع النص وحقائق الوجود، والدعوة إلى ضرورة التمييز بين ثلاث مراتب للعلوم، فيقول في: (الفتوحات - المكية الجزء الأول – ص: 139):

      -    المرتبة الأولي: علم العقل: وهو ما يحصل لك ضرورة، أو عقب نظر في دليل...ولهذا يقولون في النظر: منه صحيح وفاسد.

      -   المرتبة الثانية: علم الأحوال: ولا سبيل إليها إلا بالذوق، فلا يقدر عاقل على أن يحدها، ولا يقيم على معرفتها دليلا البتة. كالعلم بحلاوة العسل، ومرارة الصبر، ولذة الجماع، والعشق والوجد والشوق، وما شَاكَلَ هذا النوع من العلوم. فهذه علوم من المحال أن يعلمها أحد إلا بأن يتصف بها ويذوقها، وشَبَهُهَا من جنسها في أهل الذوق، كمن يغلب على محل طعمه المُرّةُ الصفراء فيجد العسل مُرًّا. وليس كذلك، فإن الذي باشر محل الطَّعم إنما هو المرّة الصفراء. فالأمر بالنهاية يتعلق بالذوق السليم لا بالخطأ والصواب، ولا يجوز إنكار الذوق على من ذاق. 

      -  المرتبة الثالثة: علم الأسرار: وهو العلم الذي فوق طور العقل. وهو نفث روح القدس في الروع، يختص به النبي والولي... فهذا الصنف الثالث الذي هو علم الأسرار، العالم به يعلم العلوم كلها، ويستغرقها. وليس صاحب تلك العلوم (الأخرى) كذلك، فلا علم أشرف من هذا العلم المحيط، الحاوي على جميع المعلومات.

      وهذا الصنف الأخير من المعرفة، أي "علم الأسرار" كما يقول الدكتور نصر حامد أبو زيد في (فلسفة التأويل – دراسة في تأويل القرآن عند محيي الدين ابن عربي – ص:31)، يطرح معضلة أكبر من أن تتسع لها اللغة العادية الاصطلاحية: "ولذلك لابد من استخدام لغة رمزية جديدة تتغلب على هذه المعضلة وتنفذ من إطار سجن اللغة الضيق"، لتنطلق إلى رحابة ظلال المعاني في ابعادها الشمولية لا الجزئية، لرؤية الصورة الحقيقية كما هي لا كما تبدو للعيان. 

      ويعتبر ابن عربي أن خصوصية وفردا نية السّر الإلهي، تنبع من كون الحق سبحانه: "لا يتجلى في صورة واحدة لشخصين، ولا في صورة واحدة لشخص مرتين" (الفتوحات – الجزء الثاني عشر – ص: 327)، ومن ثمة فالوجود كله مبني على التعدد والفرق والاختلاف، فليس ثمة "محاكاة"، أي ليس هناك شيئا يردد أو يحاكي أو يكرر شيئا آخر: "بل كل موجود (هو) متميز عن غيره…" (الفتوحات – الجزء الثالث – ص: 347).  فما في الوجود شيء له مثل، والحق في تجلياته تعدد واختلاف وفرق، وهذا يستدعي أن تكون اللغة رمزية إشارية "بغير حرف من الهجاء"، فالحق سبحانه يُفضي بالسر لابن عربي فيخاطبه بلغة خصوصية رمزية، يقول ابن عربي في هذا الصدد: "فما خاطبك الحق إلا منك، ولا خاطبك إلا بك... ولقد أنطقني الحق سبحانه في ذلك بما أنا ذاكره من الأبيات إن شاء الله، ناداني الحق من سمائي بغير حرف من الهجاء". (الفتوحات .../262). ويُعَرّفُ ابن عربي الرمز في الصيغة الشعرية التالية:

ألا إن الرمـوز دليل صدق              على المـعنى المغيب في الفـــؤاد
وان العالمين له رمـــوز                        وألغــاز ليدعــى بالعبــــاد
ولولا اللغز كان القول كـفرا                وأدى العالمين إلــى العنـــــاد

      ويقول ذ. توفيق رشد في شرح هذه الأبيات في مقال له عن ابن عربي ومسألة المعرفة: " فلغة علم الأسرار هي لغة إشارية رمزية مُلَغَّزَة، لا تفصح عن نفسها لأي قارئ كان، إنها تبحث عن قارئها الخاص، تراوده عن نفسه، ولغة علم الأسرار كائن أُنثوي لا يفصح عن فتنته إلا عبر مغامرة المراودة، مغامرة هتك حُجُب القوانين ومعانقة فضاء الأسرار، ذلك أن الوجود كله نص - لا تزال الكتابة فيه دائمة أبدا لا تنتهي -، كتابة لا تحدها حدود، فالوجود - مصحف كبير - يتلوه علينا الله سبحانه". وهو نفس المعنى الذي أوضحه ابن عربي في الفتوحات من خلال قوله: "لما أردنا أن نفتح معرفة الوجود وابتداءَ العالَم، الذي هو عندنا - المصحف الكبير - الذي تلاه الحق علينا تلاوة حال، كما أن القرآن تلاوة قول؛ فالعالم حروف مخطوطة مرقومة في - رق الوجود المنشور - ولا تزال الكتابة فيه دائمة أبدا لا تنتهي" (الفتوحات – الجزء الثاني – ص: 133).  فالوجود إذن هو نص، متجدد ناطق، "فما عندنا في الوجود صامت أصلا" كما يقول ابن عربي في (الفتوحات: 2/324). ولأن الوجود كلمات صادرة عن أمر "كن"، فالحروف بالتالي حُبلى بالمعاني.. أما التبدل والتحول والاختلاف، فسماتٌ أساسيةٌ للوجود باعتباره نص يُعطي نفسه للقراءة، هذا النص المتجدد اللامنتهي، هو عين الحق، فلقد: "وقع التبديل في العالم لما هو الحق عليه في الصور... إن عين تبدّل العالم هو عين التحوّل الإلهي في الصور" (الفتوحات: 3/457)،  فالوجود باعتباره لغة مرموزة، في تبدل مُسْتَمرّ، والعلم به ليس جامدا وثابتا ومستقرا، وإنما هو منفتح على تبدل التجليات:  "فالله لا يزال خلاقا إلى غير نهاية فينا، فالعلوم إلى غير نهاية، وليس غرض القوم (الصوفية) من العلم إلا ما يتعلق بالله كشفا ودلالة، وكلمات الله لا تنفد وهي أعيان موجوداته، فلا يزال طالب العلم عطشانا أبدا لا ري له...". (الفتوحات: 2/552).  وهذا القول يتساوق بشكل كامل مع قوله تعالي: (قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا) الكهف آية: 109. وقوله أيضا: (ولو إن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفذت كلمات الله إن الله عزيز حكيم) لقمان: 27.

      ومهما يكن من أمر، فلا أحد يستطيع الجزم بأن ابن عربي في إشاراته المستفيضة لمفهوم "وحدة الكائن" أو "الأحدية" وفق تعبيره، كان يؤسس للمعني الحرفي الذي أصبح يعرف به مصطلح "وحدة الوجود" فيما بعد، لأنه كان دائم التأكيد على أن للحقيقة أوجه متعددة، تختلف باختلاف مستويات الفهم. وعند الإشارة إلى الوجود بمفهومه الصوفي المكتمل، كان يتحدث عن "الوحدة في الكثرة" مستعملا مصطلح "الواحد الكثير".

مصطلح "الوجود" في كتابات ابن عربي

      يلاحظ في إطار نفس القراءة الأولية لنصوص ابن عربي، أن هذا الأخير كان يستعمل مصطلح "الوجود" بمعان متعددة تختلف باختلاف السياق، فيقول مثلا: إن "الوجود" هو حقيقة مفردة يمكن إدراكها من خلال العديد من مستويات الفهم، ككلمة "النور" مثلا، التي تعتبر المرادف الأقرب لكلمة "الوجود" في القرآن الكريم وتحمل في ذاتها  أكثر من معني في نفس الوقت، باعتبارها اسم من أسماء الله تعالى (كما ورد في الآية 35 من سورة النور)، ولم تأتي مطلقا بمثابة صفة من صفاته، مما يجعل بعض الصوفية يشيرون إليه كما لو تعلق الأمر باسم الله الأعظم.  وفي مستوي أعلى، يعتبر "الوجود" حقيقة مطلقة لا متناهية لله تعالي، "الواجب الوجود" بالضرورة لا بشرط شيء والذي لا يمكن أن يكون له وجود مستقل معه أو من خارجه.  وفي مستوى أدني، يكون "الوجود" هو العنصر الأولي أو البدائي لكل ما "سوي الله"، وفق التعبير الذي يحدد به العامة تعريف الكون أو "العالم".  فابن عربي لا يحاول تحديد تعريف معيّن للوجود ذاته بمعناه الشامل والمكتمل، لأن "الوجود" وفق مفهوم الشيخ الأكبر غير خاضع للتصور ولا للتعريف، فكل ما لا يمكن تصوره يستحيل إدراكه وبالتالي تعريفه. لكنه يطرح مجموعة من المتناظرات التي يمكن من خلالها فهم طبيعة الوجود.  فمثلا "النور" يعتبر في حد ذاته حقيقة مفردة وغير مرئية، لكن من خلاله يمكننا رؤية كل الألوان والأشكال والأشياء... وبنفس الطريقة، يعتبر "الوجود" حقيقة مفردة من خلالها تأتي كل "الأشياء" من العدم إلي "الوجود" فنلاحظها بعد أن تبدو ظاهرة في الوجود، بالرغم من أن حقيقة الوجود نفسها تظل غير مرئية وخارج مداركنا الحسية والعقلية.
      وإذا كان الشيخ الأكبر قد ضم بين دفتي فتوحاته المكية طلاسم المعرفة الوجودية المستعصية على فهم العامة، فان الشيخ المجاهد عبد القادر الجزائري، المتأثر بفكره، قد بذل جهدا كبيرا في تفكيك بعض من رموز هذه المعرفة اللدنية التي ضمنها بالإضافة إلى تجربته الروحية في كتابه الشهير: "الموقف"، وذلك بأسلوب سهل وعبارات واضحة. ففي الشق المتعلق بمسألة الوجود، حاول الشيخ الجزائري معالجة القضايا الوجودية الأساسية في الفكر الأكبري من خلال ثلاثة مستويات صنفها كمحاور رئيسية، دققها ولخصها ذ. حسن مظفر الرزو - مدير المكتب الاستشاري العلمي بكلية الحدباء – جامعة: الموصل - العراق، في مشاركة له بمنتدى محيي الدين ابن عربي كالتالي:
      -  المحور الأول: الخالق

      لا وجود مطلق، سوى الوجود الحق في الحال، والاستقبال (الموقف: 46 - 98).  وكل ما سوى الله تعالى فهو مستور بستر العدم، وإن ظهر للمحجوبين موجودا (الموقف: 4 - 35).  أما إذا ارتفع الحجاب بين الخالق والمخلوق نتيجة لرفع آثار الجهل، فلا يقع العيان إلا على فقد الأعيان.  أي إذا حصلت المعاينة الحقيقية، فلا تقع إلا على فقد الأعيان، بعدما كان يتوهم أنها أعيان ثابتة، مغايرة للوجود الحق. فليس إلا الوجود الحق الظاهر بالمظاهر، التي هي خيال ووهم. - ومثل هذا القول، يحثنا على استحضار قواعد لعبة الظلال والمرايا في الكتابة الصوفية.
      فأسماؤه تعالى تطلب ظهورها بظهور آثارها، وهو مقتضى الكثرة. والكون دائماً بين مقتضى الأسماء، وهو ظهور الكثرة. وظهور الكثرة، هو ظهور الذات في الحقيقة، حيث أنها إعدام ونسب، لا قيام لها بدون الذات العلية (الموقف: 62 – 124). ولا يصدر من الحق تعالى شيء إلا ولذلك الشيء اسم إلهي، اقتضى صدور ذلك الشيء، كائناً ما كان (الموقف: 11 - 44).  والتجليات كلها تنزلاته من سماء الأحدية الصرفة إلى أرض الكثرة. والحق تعالى متجلّ من الأزل إلى الأبد، لا يزيد تجلّيه ولا ينقص، ولا يتغيّر. والاختلاف، والتعدد، والحدوث المنسوب إلى التجلّي، إنما هو للمتجلّى له، بحسب القوابل والاسـتعدادات. ففي كل آن يـحصـل للمستعد تجلّ بحسب استــعداده وقابليته للتلقي (الموقف: 81 - 156).

      -  المحور الثاني: المخلوقات

      ذوات المخلوقات عبارة عن ظهور الوجود الحق متلبساً بأحكام استعدادات المخلوقات، أي أعيانها الثابتة في العلم والعدم، أزلاً وأبداً.  وهي نسب الوجود الحق، واعتبارات وإضافات، ولا عين لها في الوجود الحق (الموقف: 64 - 130). وعلى هذا الأساس فإن البشر جميعاً، ومختلف المخلوقات، والأسباب والوسائط، مظاهره وتعيّناته، ونسبه، واعتباراته، لأنها آثار تجليات أسمائه وصفاته على القوابل الكونية بمختلف مراتبها الوجودية. وليست الصور المحسوسة المشهودة، كائنة ما كانت، روحانية، أو مثالية، أو جسمانية، إلا أسماء الحق تعالى، وهي معان اجتمعت، فحصلت منها هيئة متجلية على شكل صور ومعان محسوسة (الموقف: 82 - 157).  ولكي تتضح المعاني، ويزول اللبس عن فهم هذه المسألة، يمكننا القول بأن صورة كل شيء، كائناً ما كان، هي ما به ظهور الشيء وتعيّنه من غيبه النسبي. فالأجسام صورة الأرواح، والأرواح صورة الأعيان الثابتة، والأعيان الثابتة صورة الأسماء الإلهية، والأسماء الإلهية صورة الذات العليّة، حيث الغيب المطلق. فلولا الأسماء التي هي كالصور للذات الغيب المطلق، ما ظهرت الذات ولا عرفت، ولولا الأعيان الثابتة، التي هي صور ومظاهر الأسماء الإلهية، ما ظهرت الأسماء ولا تعيّنت.  ولولا الأرواح التي هي صور الأعيان الثابتة ما عرفت الأعيان الثابتة. ولولا الأجسام التي هي صور الأرواح، ما عرفت الأرواح، ولا ظهر لها أثر وجودي في عالم الشهادة (الموقف: 51 – 106 - 107). 
 
      عند هذه النقطة الإشكالية، تبرز أمامنا مسألة الإمكان الذي هو حقيقة كل ممكن (سواء كان بشراً أو أي مخلوق آخر من المخلوقات). ومدار المسألة على حقيقة كون الإمكان أمر معقول، لا عين قائمة له. فهو برزخ بين الوجود المطلق للذات العليّة، والعدم المطلق الذي تنصبغ به ذوات جميع مخلوقاته. والبرزخ لا يكون إلا معقولاً، فلو كان محسوساً ما كان برزخاً..  إذ أن حقيقة البرزخ أنه أمر معقول يحجب بين شيئين، فلا يكون عين واحد منهما، ولا خارجاً عنهما بل فقط يتوسطهما فيحيل دون اندماجهما (الموقف: 46 - 99).

أما العلاقة التي تحكم بين الخالق والعبد فتستند إلى الاسم الإلهي الذي يسلك سلوك الواسطة بين الله وبين مخلوقاته بجميع مستويات الوجود التي يقيمون فيها. فلا يعبد المخلوق الحق إلا من خلال التجليات التي ترد عليه من سر ذلك الاسم الشريف. ولا يوجد عبد يقدر على عبادة الحق بصورة مطلقة، لأنه لا يوجد من يعرف جميع تجليات أسمائه تعالى (الموقف: 3 - 33). هذا الكلام هو توضيح لواضح سبق وأن أكده الشيخ الأكبر بقوله إن "الأحادية تلغيك"، ومفاد ذلك، أنك لا تستطيع التوجه إلى الله بكل أسمائه وصفاته، ما دام العبد يتوجه إليه فقط بإحدى الأسماء أو الصفات التي يكون بحاجة إليها، فالمريض يتوجه إلى وجه الله الشافي، والفقير إلى وجه الله الرزاق، والضعيف إلى وجه الله القوي، والمظلوم إلى وجه الله العادل ... وهكذا إلى آخر الأسماء والصفات حسب الحاجة والحال.

      -  المحور الثالث: العارف:

      تحتل مرتبة المعرفة مكانة متميزة لدى أهل الحقيقة. فالعلم يقتضي إحاطة وتحديداً، أما المعرفة فتقتضي مجاهدة وتصفية النفس من الكدورات، لكي تظفر بالتجليات الأسمائية والصفاتية.

ومعرفته تعالى لا نهاية لها، وقد قال أحد العارفـين: السـير إلى الله له نهاية (الموقف: 14 - 48)، والسير في الله بلا نهاية.  والعارف خليفة الله، والخليفة لا بد أن يكون ظاهراً بصورة مستخلفه، التي تتجلى في أسمائه وصفاته.  وكلما نقص العارف شيئاً من الصفات العلية، أفقده نقصه جزءاً من خلافته (الموقف: 17 - 56).  أما العارف الكامل فهو الذي تظـهر فيه صورة الحــق عـلى الكـمال (الموقف: 17 - 56) لأنه مرآة الحق "وإنك لعلى خلق عظيم" كما يقول تعالى في وصف نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.

والعارف تغزوه الحيرة شأنه شأن بقية أهل الشريعة، بيد أن الحيرة الحاصلة للعارفين غير الحيرة التي تحصل لغيرهم.  فحيرة العارف تنشأ عن اختلاف التجليات، وتلوينها، وسرعتها، وتنوّعها. وهي حيرة علم لم تترسخ معرفته، لا حيرة ضلال أو جهل يفتقر إلى علم يزيل آثاره (الموقف: 14 - 50). والعارف على يقين بأن رؤية الله تعالى تلزمها الحجب، إما كثيرة، وإما قليلة، وإما لطيفة، وإما كثيفة. فلا رؤية بلا حجاب على الدوام... ولذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "ربي زدني فيك حيرة"، لما يلقاه بها من متعة المعرفة ولذة الذوق الناجم عن كشف الحقائق اللدنية من قبل الحق تعالى.


     وبعد هذا الشرح المبسط الذي قدمه لنا الشيخ المجاهد عبد القادر الجزائري في "الموقف"، فإننا إذا قلنا أن ابن عربي كان يعتقد في مبدأ "وحدة الوجود" وفق المفهوم القائل بأن "الوجود" هو حقيقة مفردة وبالتالي لا يمكن أن يكون هناك وجود ثاني من خارج هذا الوجود، فإن حكمنا على ابن عربي سيكون صائبا، لأنه هو نفسه في "رسالة الأحدية" يؤكد صراحة أن كل من يعتقد بإمكانية وجود "شيء آخر" من خارج "الوجود المفرد" هو مشرك لأنه يفترض وجود "وجود آخر" مستقل، (مع) أو (من) خارج الله سبحانه، مما يتناقض بالمطلق مع شهادة (لا اله إلا الله). ويتساوق ابن عربي بهذا المعني مع مدلول إشارة الحلاج: "ما في الجبة إلا الله"، أي لا موجود في الوجود إلا الله تعالى دون سواه. وهذا هو التعريف الحقيقي الشامل والعميق لمفهوم "التوحيد" الإسلامي.

      لكن المشكلة مع ابن عربي هي استحالة قراءة فكره الكوني الشامل قراءة نقدية ومن ثم إصدار أحكام عقلية أو قيمية عليه. فالشيخ الأكبر من جهة، لم يقدم لنا عقيدة أو مذهبا فكريا يمكن أن ندرجه في تاريخ الأنساق والمذاهب. ومن جهة أخري، تعتبر لغته رمزية بامتياز، وكل شيء فيها هو ذاته وفي نفس الوقت شيء آخر. وكما يقول ذ. توفيق رشد في مقاله المشار إليه سابقا: "إن الكتابة عند ابن عربي هي سَفَرٌ في اتجاه الأسرار، فهو يعلن من خلالها تأويلا لحياته وتجاربه الفردية، منفلتا بذلك من الأزواج الميتافيزيقية، من الثنائيات، فوحدة الوجود ليست عقيدة، وليست مذهبا، إنما هي إستراتيجية لا تُنتج حقيقة، يقينا، طمأنينة، بل تنتج تيها وحيرة، و(الكَاملُ مَنْ عَظُمَتْ حَيْرَتُهُ) كما يقول ابن عربي نفسه في (الفتوحات: 1/256). وإذا كانت نظرية وحدة الوجود، تبدأ من معرفة الحق، فإن هذه المعرفة لا يمكن إلا أن تكون ذاتية فردية، غير خاضعة لمنهج عقلي، ولا لطقوس مؤسسية أو قواعد مذهبية، وهي بالتالي خارجة عن القيود العقائدية المذهبية والطائفية.  وبذلك يكون على كل فرد أن يُبْحر وحدهُ دون اتجاه أو هدف، فبحر المعرفة لا قعر له ولا ساحل. وبهذا المعنى يقول ابن عربي في تعريفه للحق سبحانه: «وقال الحق بَحْرٌ قَعْرُه الأزَلُ وساحلُهُ الأَبَدُ فَارْكَبْ سَفينَةَ ذاتك ولا تَرْفَعْ شراعاً فإن الغَرَضَ طَلَبُ السَّاحل ولا ساحلَ فَاتْرُك الموْجَ يُسَيرُك فإني أَخَافُ عَلَيْكَ من الشّراع"... ثم أضاف: "لَيْسَ العَجَبُ من هذا البَحْر، وإنما العَجَبُ من الرّيح التي تُمَوّجُهُ أَلاَ وإنّ الريح أَنْفاسُكَ فَكُلُّ سَفينة لا يَكُونُ ريحُها منْها فَهي فَقيرةٌ فَعَلَيْكَ بوَحْي الماء...» (كتاب الشاهد - رسائل ابن عربي - ص: 20).

      لا نهائية الحق، هي لا نهائية المعرفة به، ذلك أن الحق سبحانه يُخبر باستمرار عن نفسه، فالنبوة لم تنقطع، ولن تنقطع إلى يوم القيامة، فالنبي محمد صلى الله عليه وسلم ليس بهذا المعنى خاتم النبيين، إنما هو خاتم الرسل المشرعين، لأن التشريع انقطع معه، أما النبوة بمعنى الوحي فهي: "سارية إلى يوم القيامة في الخلق، وإن كان التشريع قد انقطع فالتشريع جزء من أجزاء النبوة: فإنه يستحيل أن ينقطع خبر الله وإخباره من العالم، إذ لو انقطع لم يبق للعالم غداء يتغذى به في بقاء وجوده" (الفتوحات:2/357). ودليل ذلك أن الله هو الحي الدائم القيوم على شؤون العالم كما يقول عن نفسه في آية الكرسي الشهيرة، وبموجب ذلك يوحي لمن يشاء من عباده ومخلوقاته في كل وقت وحين لتكون إرادته ومشيئته وفق رؤيته للحق والخلق.

      وحول تأليف كتاب الفتوحات المكية يقول ابن عربي: " الفتوحات «إملاء إلهي»: استمرارية كلام الله سبحانه: " والله ما كتبت منه حرفا إلا عن إملاء إلهي وإلقاء رباني أو نفث روحاني في روع كياني، هذا جملة الأمر، مع كوننا لسنا برسل مشرعين ولا أنبياء مكلفين فإن رسالة التشريع ونبوة التكليف قد انقطعت عند رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، فلا رسول بعده ولا نبي يشرع ولا يكلف" (الفتوحات: 3/456).

      لكن من باب الموضوعية، علينا أن نعترف أننا مهما حاولنا، لن نستطيع الحكم علي رجل رباني ملهم، ذو فكر كوني في حجم محيي الدين ابن عربي، كما أن قراءتنا لأفكاره هذه، لا علاقة لها بالخلفيات الدينية المذهبية والكلامية التي شكلت أرضية الصراع في الفكر الإسلامي من أجل تحقيق أهداف إيديولوجية وسياسية بحثه، لأن منطلقاتنا الفكرية اليوم تستمد مشروعيتها من سؤال المعرفة بعد أن تحولت مركزية الاهتمامات بما فيها الفلسفية إلي هذه الغاية السامية.  فالفلسفة لم تعد تهتم بالوجود كما في السابق، وأصبح قلق الفهم وهم المعرفة هو محركها الجوهري. وتراكم المعارف بأنواعها المختلفة في عالم مفتوح على كل الأفكار والتصورات والمعتقدات، يحتم علينا إعادة قراءة تراثنا بآليات ومنهجيات جديدة تمكننا من فهمه بطريقة مغايرة، تتجاوز المحلية لترتقي إلى مستوي العالمية، أي مستوى رسالة الإسلام التي اختزلناها بجهلنا وتعصبنا في حدود العشيرة والقبيلة والطائفة والمذهب والملة والدولة والقومية، فلم نعد قادرين على تعريف ماهية الإسلام أو فهمه فهما صحيحا يرتاح له العقل ويطمئن له القلب من المنظور الإنساني الكوني. 

يتبـــع ...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق