بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 13 أبريل 2019

الوجود بين الوحدة والثنائية (4/1)



تمهيـــد..
يعكف العلماء اليوم وفق ما تتناقله عديد المواقع العلمية الغربية والعربية، على إيجاد نظرية واحدة تفسر جميع الظواهر الكونية، وتجمع بين النظرية النسبية التي وضعها آينشتاين، والتي فسر بها الظواهر المتعلقة بسلوكية الأجسام الكبيرة الحجم كالكواكب والنجوم والمجرات، ونظرية الكم التي تفسر الظواهر المتعلقة بالأجسام متناهية الصغر كالذرة ومكوناتها والفوتون وما إلى ذلك... والذي دفعهم إلى هذا السعي، هو وجود ظواهر سلوكية مشتركة بين هذين النوعين من الأجسام المختلفة، وتطبيقها المشترك لبعض القوانين الفيزيائية. والأساس الذي بنوا عليه سعيهم هذا، هو قول اينشتاين في أواخر أيامه: "ما دام الخالق واحد وهو الله فيجب أن تكون القوانين الحاكمة لمسيرة هذا الكون واحدة، أو تقع ضمن دستور وهيكلية قانونيه واحدة"... / ...

وتذكر بعض الأخبار في هذا الصدد، أن جمع الظواهر كلها تقع تحت نظرية واحدة تفسرها، ما يستوجب التخلي عن المفهوم الحالي السائد لدينا عن طبيعة تركيب المادة التي تشكل هذا الكون بجميع موجوداته، والقائلة: "إن المادة مكونة من ذرات، والذرات من إلكترونات، وبروتونات، ونيوترونات، وما إلى ذلك من جسيمات.." والتوحيد المطلوب، يوجب الافتراض بأن المكون لهذه المادة هي مجرد حلقات من الطاقة، وهي المسؤولة عن أحاسيسنا التي تدفعنا، أو دفعتنا لنتخيل بأنها جسيمات لها كتلة وحجم.. سيما وأن النظرية النسبية قالت بأن الحجم والكتلة، ما هي إلا مقادير نسبية تعتمد على المكان الذي قدرت فيه، لأن الكون جميعه في حالة حركة مستمرة ولا نهائية... وعليه، لا تكون تلك المقادير ثابتة لعدم ثبات المكان، وأن الثابت الوحيد هو سرعة الضوء، والتي حين يبلغها الجسيم في حركته تنتفي عنه الخصائص التي تخص الأجسام والجسيمات، لأنه يتحول عندها إلى طاقة. لذلك فان المادة تتحول إلى طاقة والطاقة تتحول من شكل إلى شكل آخر.. وهكذا إلى ما لا نهاية... لكنها لا تفنى أبدا، أي أنها لا تخرج من الوجود إلى العدم فلا تعود موجودة. أما نظرية الكم فقالت إن تقدير مكان وجود الجسيم المتناهي الصغر وخصائصه الأخرى يعتمد على الكم من الطاقة التي يمتلكها.

وتضيف الأخبار العلمية، أن العلماء قريبين من التوصل إلى هذه النظرية كاملة، ولا يقف أمامهم إلا مسألة الأبعاد، فبعد أن قالت النسبية بأن الأبعاد في الكون هي أربعة وليست ثلاثــة كما كان يعتقد من قبل (أي الطول والعرض والارتفاع)، فأضافت إليها بعد الزمن الذي يجرى فيه قياس تلك الأبعاد، جاء عالم يمني خلص إلى أن البعد الرابع الناقص في نظرية اينشتاين هو السرعة وليس الزمن كما كان يعتقد، باعتبار أن السرعة (أي الحركة) هي التي تولد الزمن. غير أن العلماء الفيزيائيين العاملين على النظرية الجديدة اكتشفوا أبعادا أخرى دلت على وجودها الحسابات الرياضية الهائلة الخاصة بهذه النظرية، ووصل عددها لحد الآن الخمسين بعدا. وقد يكتشف منها المزيد، ويرغبون بتسميتها: "نظرية كل شيء".

والسؤال الذي يطرح مع هذه الاكتشافات العلمية الحديثة هو: - هل "نظرية كل شيء"  صوفية المبدأ حقا أم لها جذور ضاربة في القدم؟

يقول الدكتور خضير عباس في إحدى مشاركاته المثيرة على موقع الشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي تعليقا على آخر الأخبار المتداولة عن مسار النظرية العلمية الجديدة التي يشتغل عليها العلماء اليوم تحت مسمى "نظرية كل شيء" ( thing The theory of every): "إن نظرية كل شيء صوفية المبدأ، والذي يهمني في هذا هو أن هذه النظرية في حال اكتمالها والبرهنة على صدقها علميا وعمليا، سيشكل دليلا آخر على صدق المنهج الصوفي. لأنها ستثبت لي ولغيري ما قاله الصوفية من أمثال الشيخ ابن عربي والحلاج والسهروردي وابن سبعين عن وحدة الوجود.. وان الموجود حقا وصدقا هو الله سبحانه وتعالى، وأن ما يوصف بالوجود عداه فهو محض تجليات (أبعاد) لأسمائه الحسنى جل وعلا. وبالتالي سأفقد الحجة التي تبرر لي عدم تقيدي بهذا المنهج لأنه سيثبت علميا وعمليا، أن ما قاله فقهاء الرسوم عن نظرية وحدة الوجود ليس مجرد خيال صوفي يصف الله بما لا يليق، لأن الحقائق العلمية لا يمكن دحضها بالادعاءات الفارغة".

لكن في زمان آخر، أشار د. عبد الكريم الخطيب في كتابه (الله ذاتا وموضوعا – ص:334) نقلا عن المؤلف أ.س. رابوبرت - فيما أورده في كتابه (مبادئ الفلسفة – ص: 166 – ترجمة أحمد أمين) ما مفاده، أنه على هرم في هيكل "ايزيس" بجهة "صا الحجر" من أعمال مصر القديمة، عثر على نقش قديم يقول:

" أنا كل شيء كان.. وكل شيء كائن.. وكل شيء سيكون... ومحال على من يفنى أن يزيل النقاب الذي تنقب به من لا يفنى".

والحقيقة أنه لا يعرف من كتب هذه العبارة بالضبط، لكن ما تحويه من معنى ديني وعلمي أدهش العلماء، وفتح الباب واسعا لأبعاد جديدة من النقاش العميق والجاد، ذلك أنه، إن صحت نتائج الاختبارات التي تجري اليوم في الغرب لتثبيت هذه النظرية، فمن شأن ذلك أن يقلب كل المفاهيم المعرفية التي لدينا حول الوجود، سواء منها العلمية، أو الفلسفية، أو الدينية.

     -  فما حقيقة "نظرية كل شيء" العلمية؟ ... وما علاقتها بنظرية "وحدة الوجود" في الفكر الصوفي؟ ...

تعريف مصطلح "وحدة الوجود"

      ما نقصده من تعريف المصطلح بالنسبة لنظرية "وحدة الوجود" التي أثارت الكثير من اللغط والسخط من قبل فقهاء الرسوم وأتباعهم المقلدين، خاصة منهم المنضوين تحت لواء السلفية المتطرفة، هو البحث عن المعني الإبستمولوجي (الأصلي) لكلمة "الوحدة" وكلمة "الوجود"، كل على حدة، ومن ثم محاولة فهم المعنى العام والخاص الذي يعطيه التركيب بضم الكلمتين معا. كما أننا سنحاول من خلال هذا البحث، التفريق بين المعنى الحرفي القاموسي للمصطلح، والمعنى المجازي أو "ظل المعنى" الذي توحي به مقولات منتقدي هذه النظرية. لأن مثل هذه المقاربة، من شأنها أن تدلنا على العقلية المتكلسة التي يشتغل بها أمثال هذا النوع من الباحثين التقليديين، الذين يدعون الغيرة على الدين، وينصبون أنفسهم حراسا على عقيدة المؤمنين، أكثر مما تدلنا على المفهوم الذي تطرحه النظرية نفسها في أصل معناها، ما دام أن المنهج الذي تستعمله هذه الفئة في نقد النظرية، لا يرتكز على أساس علمي أو منطقي يعتد به، ولا أصل ديني (بالمفهوم القرآني) يستند إليه، بل ينطلقون من قناعات إيديولوجية قديمة، ومواقف تكفيرية متطرفة لا يقبل بها الدين نفسه، في محاولة يائسة لإسقاط معاني سطحية متجاوزة تنتمي إلى عصور غابرة، على مصطلح مستحدث ومركب من كلمة دينية وأخري فلسفية.     
        
      -   الوحدة: لغة تعني الانفراد، والوحدانية شرعاً تعني انفراد الله سبحانه وتعالى في كل شيء وبكل شيء، أي عدم وجود نظير له لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أسمائه ولا في أفعاله (ليس كمثله شيء). وهذا هو مدلول عبارة (لا إله إلا الله).

      -   الوجود: لغة هو خلاف العدم، وفي الفلسفة، تعتبر "الوجودية" مذهبا فكريا يقول بأن الإنسان الذي وجد أولا وجودا ميتافيزيقيا، يخلق نفسه ويتخير نفسه بعمله. وبعد تحول اهتمام الفلسفة من البحث في "الوجود" الذي لا يدرك بالعقل، إلى الاهتمام بمجالات "المعرفة" الإنسانية بألوانها المختلفة، عاد مفهوم الوجود ليفرض نفسه من جديد مع التطور الذي عرفته الفلسفة منذ القرن السابع عشر وما بعد.. فأصبح معنى الوجود يربط بالاختلاف والتكرار والصيرورة، الشيء الذي حوله إلى إبداع وخلقً وبناء للمفاهيم الجديدة، مفاهيم تفجر قوة اللغة وقوة الفكر وقوة الحياة. ويشكل هذا الرجوع لمفهوم الوجود دفعًا للفلسفة وللتفكير الفلسفي، مثلما أنه يمثل ربطًا لحاضر الفلسفة بماضيها الأنطولوجي، الشيء الذي يعيد لمفهوم الوجود حضورًا متميزًا.

أما شرعا، فلم يرد في القرآن الكريم مصطلح "الوجود" بالتحديد، في حين ترددت كلمة "وجد" بأوجهها المختلفة في كثير من الآيات، وهي في مجملها تفيد معني: أصابه وأدركه وظفر به وعثر عليه، أو بمعني العلم، فتكون من أفعال القلوب، كقولك: "وجدت كلامك صادقا".

      -   التركيب: بإضافة كلمة "وحدة" إلى مفردة "وجود" نحصل على: "وحدة الوجود"، التي هي عبارة عن تركيب كيميائي معقد لمصطلح "ديني" وآخر "فلسفي"، للدلالة على أن الوجود واحد، هو الله الواحد الأحد، الفرد الصمد، والصمد تشير إلى ماهية فريدة، وحيدة وبسيطة لا يشبهها شيء على الإطلاق.. وبالتالي، فلا يمكن أن يكون هناك وجود أو موجود غيره سبحانه، معه أو من خارجه بدليل قوله: (كل شيء هالك إلا وجهه). أما بقية المحسوسات، فلا يمكن وصفها بالوجود لانتفاء ديمومتها بسبب عرضتها للزوال مهما استغرقته من عمر زمني نسبي.  وبهذا التعريف، يصبح كل من يدعي وجود شيء آخر غير الله، مستقل عنه، معه أو من خارجه، يعتبر مشركا وفق تعريف محيي الدين ابن عربي لحقيقة الشرك بمعناه الغليظ.  

  نشأة نظرية "وحدة الوجود"

      لا يعرف لنظرية "وحدة الوجود" نشأة محددة، بالمفهوم الديني أو الفلسفي المركب (وحدة + وجود) الذي نعرفه اليوم، ولا كيف تطورت من نظرية فلسفية بسيطة، تهتم بالوجود بأبعاده الحسية والعقلية، لتنتهي إلى حالة عرفان وجدانية، دينية لدنية، لا تدرك إلا بالذوق عبر التجربة الروحية الفردانية. ولعل مرد ذلك، يعود إلى التقية التي كان ينتهجها الصوفية الأوائل، باستعمالهم لغة الإشارة بدل العبارة، مخافة البوح بالحقيقة، كي لا يتهمون بالكفر والهرطقة من قبل فقهاء الشريعة القائمين حراسا على العقيدة، فيلقون بالتالي نفس مصير الحلاج الذي اشتد به الوجد فخرج معلنا في الناس: "أنا الحق"، و: "سبحاني ما أعظم شأني"، وقوله الشهير كذلك: "ما في الجبة إلا الله".. وأمثاله كثير، ممن تجرؤوا على إفشاء سر الأسرار أو اللغز الخفي. هذا فيما تحفّظ آخرون عن مثل هذا البوح الصريح كفريد الدين العطار الذي قال بلغة الرمز والإشارة بدل صريح العبارة: "سأقولُ لكم ما لم يُقَلْ: ها أنا ذا أشي بسرِّ الأسرار الخفية: اعلمْ، أخي، أن النقش هو النقَّاش". ولا يعتبر مثل هذا البوح بالأمر الجديد، فقديما أكد العرب مثل هذا المعني المجازي من خلال قولهم: "السير يدل على المسير والأثر يدل على البعير"، لكن الجديد في قول العطار أنه يقصد به الإشارة إلى الله تعالى.

      ويروي أن الحلاج وصل به الحال حدا لم يستطع معه الصبر على الكتمان، فأنشد يقول:

نظرت إلى ربي بعين قلبي        فقلت من أنت؟ قال: أنا أنت

ومرد مثل هذه الأقوال، شعور الصوفي عند دخوله في الحال، أنه يفقد أناته وكيانه ووجوده فلا يبقى إلا الله، ومن ثم فما ينطق به لا يكون صادرا عنه بل عن الله بلسان عبده الذي أفنى نفسه في وجوده فلم يعد يرى من موجود في هذا الوجود إلا الله الواجب الوجود من دون شرط شيئ على الإطلاق، وهذا ما لا يستطيع فهمه من لم يذق حلاوة تجربة الفناء في الله كما يقول الصوفية وينصحون أقرانهم بعدم البوح بما يخالجهم من شعور للعامة.

      ومهما يكن من أمر، فهناك من يقول إن وحدة الوجود في نشأتها الأولى، كانت حدساً يومض في القلب، وشعورا رافق الإنسان منذ فجر التاريخ. ألم يقل فرعون لقومه: " أنا ربكم الأعلى؟ ". وفي الإحياء للغزالي: أن ما من إنسان في الوجود إلا وفيه شيء مما قاله فرعون. وقديما، عرف الزهد الهندي نفس هذا الشعور، حيث جاء في الأثر: "أما عند التحقيق فجميع الأشياء إلهية؛ لأن 'بشن' جعل نفسه أرضاً ليستقر الحيوان عليها، وجعله ماء ليغذيهم، وجعله ناراً وريحاً لينميهم وينشئهم، وجعله قلباً لكل واحد منهم"… وتطورت هذه الفكرة في "براهمان" الأزلي الأبدي الذي "يمكن أن يكون صغيراً كحبة الأرز أو كالصورة التي ترتسم في إنسان العين، ولكنه هو نفسه الذي يغمر العالم، وهو أعظم من الزمان، والهواء، والسماء"...

      وعلى هذا المنوال، يستعمل الصوفية مثال الحبة التي تخرج منها الشجرة والفروع والأغصان والأوراق والأزهار والفاكهة وحب الرمان متشابه وغير متشابه.. للدلالة على الوحدة التي تعطي الكثرة، والكثرة التي تفيد الوحدة.  وفي نفس السياق كذلك، ورد في الأثر حكاية جميلة،  حدثت مع الإمام الشافعي رحمه الله.  ففي أحد الأيام، سأله أناس عن دليل وجود الله، فقال لهم: دليل وجوده يكمن في ورقة التوت. استغرب القوم الجواب، فطالبوه بتوضيح الأمر، فقال الإمام: "ألا تعلمون بأن دودة القز إذا أكلت ورقة التوت تنتج حريرا ناعما، والنحلة عسلا لذيذا، والضبي مسكا طيبا؟ قالوا بلي. قال. فمن وحد الطعم و عدد المخارج؟  قالوا: الآن فهمنا أنه الله سبحانه".

      أما أول من تكلم صراحة عن هذا الموضوع الحساس والمعقد في الإسلام، فهم الصوفية من أمثال عمر السهروردي، وابن سبعين، وابن الفارض، والتلمساني، ومحيي الدين ابن عربي...  ونظرا لما كانت تبعثه مثل هذه الأقوال من دهشة واستغراب لدى سامعيها في الماضي، فقد اتهم القائلين بها بالكفر والإلحاد والهرطقة، وطبق حد القتل في بعض ممن قالوا مثل قولهم.

      وفكرة "وحدة الوجود" كما يقول منتقديها، قديمة جداً، إذ أن جذورها تعود الي الهندوكية والبوذية والفلسفة اليونانية كما يزعمون من دون حجة من نص أو دليل من منطق، باستثناء بعض أوجه التشابه العام، مما جعلهم يجزمون بأن فكرة وحدة الوجود انتقلت إلى بعض الغلاة من متصوفة المسلمين من خارج النص، ثم انتشرت بعد ذلك في الغرب الأوروبي على يد برونو ا النصراني الايطالي، وسبينوزا اليهودي الهولندي، بعد أن أخذوها من المتصوفة المسلمين عن طريق كتابات "ميمونيد" اليهودي الأندلسي، وهي القضية التي سبق وأن عالجناها بإسهاب في باب "العوامل الخارجية الدخيلة على التصوف الإسلامي" لمن أراد العودة إليها.
                                                 
موقف فقهاء الرسوم من نظرية "وحدة الوجود"

      يقول الإمام ابن تيمية في رده على أقوال ابن عربي في مذهب وحدة الوجود: "يقولون: إن الوجود واحد، كما يقول ابن عربي – صاحب الفتوحات – وابن سبعين وابن الفارض والتلمساني وأمثالهم – عليهم من الله ما يستحقونه – فإنهم لا يجعلون للخالق سبحانه وجوداً مبايناً لوجود المخلوق. وهو جامع كل شر في العالم، ومبدأ ضلالهم من حيث لم يثبتوا للخالق وجوداً مبايناً لوجود المخلوق وهم يأخذون من كلام الفلاسفة شيئاً، ومن القول الفاسد من كلام المتصوفة والمتكلمين شيئاً ومن كلام القرامطة والباطنية شيئاً فيطوفون على أبواب المذاهب ويفوزون بأخسِّ المطالب، ويثنون على ما يذكر من كلام التصوف المخلوط بالفلسفة" (جامع الرسائل 1 – ص: 167).
                                                        
      ويقول منتقذوا ابن عربي من أتباع الإمام ابن تيمية المتأخرين، أن مذهب وحدة الوجود يقوم على إنكار عالم الظاهر، ولا يعترف بالوجود الحقيقي إلا لله دون سواه. فالخلق وفق هذا المفهوم عندهم، هو ظل للوجود الحق الذي هو الله.. فلا موجود إلا هو سبحانه.  ويتهمون ابن عربي، بأنه تجرأ وألغي الفرق بين ما هو خالق وما هو مخلوق من حيث الوجود، ولم يجعل لكل منهما وجود خاص به مستقل عن الآخر. ويؤسسون ادعائهم على مقولة للشيخ الأكبر التي نصها: " سبحان من أظهر الأشياء وهو عينها".  وبناء على هذا القول وغيره فليس ثمة خلق ولا وجود من عدم، بل مجرد فيض وتجلي.  وما دام الأمر كذلك، فلا مجال للحديث عن علة أو غاية، لأن العالم حسب هذا التصور، يسير وفق ضرورة مطلقة، ويخضع لحتمية مقدرة وجبرية صارمة.  ومن ثم، فلا يمكن الحديث في هذا العالم عن خير وشر، ولا عن حرية وإرادة، ولا عن حساب ومسؤولية، ولا عن ثواب وعقاب، ولا هم يحزنون.. لأن الجميع سيكون في نعيم مقيم، وما الفرق بين الجنة والنار إلا من حيث المرتبة لا الطبيعة...

      كما أنهم يتهمون ابن عربي بتحريف القرآن ليوافق مذهبه، ومعتقده، بقوله إن أصل "العذاب" من "العذوبة" والتلذذ بالألم كحال من به جرب يجد اللذة في الحك.. وان "الريح" التي دمرت عاد هي من "الراحة"، لأنها أراحتهم من أجسامهم المظلمة.  وإذا كان قد ترتب على قول ابن عربي بوحدة الوجود قوله بالجبر ونفى الحساب والثواب والعقاب، وفق ما يزعمون، وهو ما لم يقل به ابن عربي بالمطلق. فإنه ترتب على مذهبه أيضاً قوله بوحدة الأديان، وهذا صحيح. فقد أكد ابن عربي على أن من يعبد الله ومن يعبد الأحجار والأصنام كلهم سواء لأنهم في الحقيقة ما عبدوا إلا الله إذ ليس ثمة فرق بين خالق ومخلوق، ويستدلون على ذلك بمجموعة أبيات أهمها:

·      قول ابن عربي في قصيدة "ترجمان الأشواق":

لقد صار قلبي قابلاً كل صورة         فمرعى لغزلان ودير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طائف             وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أني توجهت          ركائبه فالحب ديني وإيماني

·      وقول ابن الفارض الملقب بسلطان العاشقين في تائيته:

لها صلاتي بالمقام أقيمها                           وأشهد أنها لي صلَّت
 كلانا مصل عابد ساجد إلى                    حقيقة الجمع في كل سجدة
وما كان لي صلى سواي فلم تكن     صلاتي لغيري في أداء كل ركعة
 ومازالت إياها وإياي لم تزل               ولا فرق بل ذاتي لذاتي أحبت
·      وقول ابن سبعين:
"رب مالك، وعبد هالك، وأنتم ذلك الله فقط، والكثرة وهم".

·      وقول التلمساني الذي يعتبره ابن تيمية أعظمهم كفرا وأحذقهم زندقة:

                  البحر لا شك عندي في توحده                   وإن تعدد بالأمواج والزبد
                  فلا يغرنك ما شاهدت من صور     فالواحد الرب ساري العين في العدد

      وعلى هذا الأساس، يصرح فقهاء الظاهر من أهل السنة والجماعة ببطلان نظرية "وحدة الوجود" جملة وتفصيلا، باعتبارها هرطقة وكفر. ولدعم وجهة نظرهم هذه، يسوقون مجموعة من المقولات التي يدعون أنها تمثل الحجة الشرعية من وجهة النظر الدينية على بطلان هذه العقيدة، بالإضافة إلى أنها تمثل البرهان المنطقي الذي يبين فساد النظرية التي بنيت عليها من الناحية العقلية.

      فالإسلام من وجهة نظرهم، يؤكد بأن "الله جل شأنه خالق الوجود منزَّه عن الاتحاد بمخلوقاته أو الحلول فيها. والكون شيء غير خالقه، ومن ثم فإن هذا المذهب – وفق ما يخلصون إليه - يخالف الإسلام في إنكار وجود الله، والخروج على حدوده، ويخالفه في تأليه المخلوقات وجعل الخالق والمخلوق شيئاً واحداً، ويخالفه في إلغاء المسؤولية الفردية، والتكاليف الشرعية، والانسياق وراء الشهوات البهيمية، ويخالفه في إنكار المسؤولية والبعث والحساب".  

      وعموما، يمكن فهم مأخذ القوم على المتصوفة من خلال تهكمهم على من يعتمد الخيال كوسيط لمعرفة الحقيقة، فيقولون مثلا: "أن يجنح الخيال بالشخص فيظن الشمس سراباً، أو القمر غباراً تجمع في أفق السماء، فقد يعذر في جنوحه وتخيله، أما أن يصل الجنوح والخيال بالشخص فيلغي الفرق بين الخالق والمخلوق، فيرى الكل واحداً، ويعتقد أن هذا الكون من عرشه إلى فرشه ما هو إلا صورة الخالق سبحانه.  حتى ربما مر أحدهم على الجثة فيشير إليها على أنها الرب والإله".

      ويستدلون على ذلك كذلك، بما ذكره الإمام الرازي في تفسيره الذي قال فيه أنه: "شاهد بعض المزورين ممن كان بعيداً عن الدين، يأمر أتباعه وأصحابه بأن يسجدوا له، وكان يقول لهم: أنتم عبيدي، فكان يلقي إليهم من حديث الحلول والاتحاد أشياء، ولو خلا ببعض الحمقى من أتباعه، فربما ادعى الإلهية".

      ولا يقتصر فقهاء الظاهر على سرد مثل هذه الحالات المتطرفة التي تسيء إلى من يستغلها ظاهريا لمهاجمة الصوفية، من دون أن يكلفوا أنفسهم عناء فهم الظاهرة فهما صحيحا، مع ضرورة التفريق بين الشاذ والقاعدة من الناحية الموضوعية، لتلافي السقوط في التعميم  والاسائة إلى الطريقة الصوفية التي تعتبر إحدى المسالك الراقية لبلوغ درجة الإحسان، وتكفير من يعتبرهم الله نفسه أولياء مقربين، عابدين، مخلصين، صادقين وعاشقين... فيكون بالتالي كل تعميم خدمة لمنهج التضليل، الذي يعتمد أسلوب قذف الخصم  بالهذيان والعته واتهامه بالضلالة والانحراف. ويستشهدون في ذلك بمن ادعى الألوهية بقوله: "أنه الله"، في إشارة الي الحلاج الذي قال "أنا الحق" من دون ذكر اسمه، أو قوله: "ما في الجبة إلا الله"، مؤكدا أنه يستحيل أن يوجد في هذا الكون وجود لموجود سوى الله الواجب الوجود، وهذا هو جوهر معنى شهادة "لا إله إلا الله" وفق الصوفية.  
      كما لا يفوتهم بمناسبة ومن دونها أن ينتقدوا من صححوا دين النصارى والمشركين، ومآخذتهم على عدم إنكارهم عليهم سوى ادعائهم أن الألوهية مقتصرة على عيسي أو الأصنام، مستدلين على ذلك بقول الحلاج مثلا:

عقد الخلائق في الإله عقائداً               وأنا اعتقدت جميع ما اعتقدوه

      فبالنسبة للصوفية كما يزعمون، لا فرق بين سماويها وغير سماويها، إذ الكل يعبدون الإله الواحد المتجلي في صورهم، وصور جميع المعبودات، ويكون غاية مقصود العابد منهم أن يصل إلى مرحلة يدرك هذه الوحدة المطلقة، ويشهد ألا موجود إلا لله، وهي درجة من الهذيان والهلوسة – كما يؤكدون - سببها مغالاته في العبادة، وتحريمه على نفسه ما أباحه الله له من المأكل والمشرب، حيث يقتصر على ما يقيمه صلبه، وهو ما يؤدي إلى تأثره عقليا ونفسياً، فيتخيل له هذه الخيالات، ويشطح تلك الشطحات.. 

      هكذا تكلم حراس العقيدة، فتحولوا بذلك إلى خبراء في التغذية وأطباء نفسانيين متخصصين في تشخيص أحوال الصوفية الجسدية والنفسية والعقلية على حد سواء.

      وبالرغم من أن نظرية "وحدة الوجود" في تعقيداتها المعرفية سواء منها الدينية أو الفلسفية لا علاقة لها بالاتحاد والحلول، إلا أن التكفيريين و تجار الفتاوى  يصرون على أن بعض الصوفية، مثلهم كمثل النصارى يعتقدون بحلول اللاهوت في الناسوت أو الإله في الجسد الإنساني كما حصل مع عيسي عليه السلام. قال الشيخ "سعد الدين التفتازاني" في (شرح المقاصد): " ومنهم – أي القائلين بالحلول وفق تقييمه - بعض المتصوفة القائلين بأن السالك إذا أمعن في السلوك، وخاض لجة الوصول، فربما يحل الله فيه كنار في الجمر، بحيث لا يتمايز، أو يتحد به، فلا إثنينية ولا تغاير، وصح أن يقول هو أنا، وأنا هو".

      والشيخ التفتازاني إذ يفضح مثل هذا الاعتقاد المنحرف من وجهة نظره، لا يذكر مثالا واحدا لصوفي مسلم يعتقد بالحلول بالمفهوم الكنسي، ولا يشرح لنا ما هو الاتحاد وكيف يمكن أن يتم بين مخلوق لا وجود له مع الله الواجب الوجود؟ .. كما لا يستشهد بنص صوفي يؤيد ما ذهب إليه من باب الموضوعية العلمية.  وكونه يورد في آخر الفقرة أعلاه عبارة: "وصح أن يقول هو أنا، وأنا هو"، فمثل هذه الإشارة تجعلنا نستنتج أن المقصود بالعبارة هو الحلاج الذي قال:

 نظرت إلى ربي بعين قلبي  ***   فقلت من أنت؟ قال: أنا أنت

أو قول ابن عربي في رسالته الوجودية: "أنت لست أنت من حيث هو أنت". ونستخلص بالتالي أن قول الشيخ التفتازاني بأن الصوفية الذين يقصدهم بكلامه، يعتقدون بالحلول مثلهم كمثل النصارى، هو قول خاطئ، لا يستند إلى حجة من عقل أو دليل من نص. كما أنه استنتاج أسس على احتمال افتراضي لقوله: "ربما يحل الله..." وليس مؤسسا على تأكيد قائم على دليل واضح من نص.  فمثل هذا الحكم الجزافي اللامسئول، الصادر عن فقيه في الدين - يفترض فيه الحرص والتقوى – فإنه إن دل على شيء، إنما يدل على جهل الشيخ بحقيقة مذهب القوم الذي لا يُسلّم مع وجود الله بأي وجود آخر مغاير. ويدل كذلك على تضارب في القول، فمن جهة يتهم الصوفية بعدم التفريق بين وجود الله ووجود الخلق، ومن جهة أخري يكفروهم بدعوي قولهم بالحلول والاتحاد، وهو تناقض واضح في الطرح والمعالجة.

لأنه إذا كان الحلول بالمعني العام هو سريان شيء موجود في شيء موجود آخر، فكيف يمكن الجزم إذن بأن وحدة الوجود تقوم على الاعتقاد بالحلول؟ وهي النظرية التي لا يقوم لها مقام إلا على أساس أن لا موجود في الوجود إلا الله تعالي دون سواه، وبالتالي، كان على الشيخ أن يفسر لنا من وجهة نظره العقلية: - من يمكنه أن يحل في من؟ لأن الاعتقاد بوجود شيء آخر مستقل (مع) أو (من) خارج الله يمكن لله أن يحل فيه أو أن يتحد هو بالله يعتبر عين الشرك  كما يؤكد ابن عربي في رسالته المشار إليها أعلاه، وهذا ما لا يستطيع أن يستوعبه عقل مغلق مقلد.

      وخلاصة القول فيما يتعلق بالحلول أو (الحلولية)، فانه كثيرا ما إلتبست مذاهبُ الصوفية الباطنية على فقهاء الرسوم وبعض الباحثين الغربيين، سواء منهم المستشرقين أو بعض العرب المغتربين. غير أن الحلولية لا تصادَف في الواقع إلا في حالة عدد من الفلاسفة الأوروبيين وبعض الشرقيين ممَّن تأثروا بالفكر الغربي في القرن التاسع عشر. فالحلولية قد نشأت عن النزعة الفكرية عينها التي تفتَّقت، أولاً، عن المذهب الطبيعي، ومن بعدُ، عن المذهب المادي الحديث. يقول سيد حسين نصر: "أما ما أغفله النقَّاد ممَّن يتَّهمون الصوفيين بـ "الحلولية" فهو الفرق بين التوحيد الذاتي بين الوجود الظاهر ومبدئه الوجودي وبين عينيَّتهما واستمرارهما الجوهري. وهذا المفهوم الأخير مُحال عقلاً، ويتناقض مع كل ما قاله محيي الدين بن عربي والصوفية الآخرون في خصوص الذات الإلهية. فالحلولية، كما يتبين، لا تتصور العلاقةَ بين المبدأ الإلهي والعالم إلا من منظور الاستمرارية الجوهرية أو الوجودية – وهذا غلط ينبذه كلُّ مذهب باطني نقلي بما لا لبس فيه ولا إبهام (نقلا عن ديمتري أفييرينوس في تعليقه على الرسالة الوجودية لابن عربي).

      وابن عربي في نفس الرسالة التي استشهد بها الباحث ديمتري، يؤكد أنه لو كانت ثمة استمرارية تجوِّز المقارنةَ بين الحق والخلق، بين الله والكون المتجلِّي، على نحو ما يُقارَن بين الغصن وجذع الشجرة الذي يتفرع عنها، لكانت هذه الاستمرارية، أو لنقل، هذه "الذاتية" المشتركة بين الحدَّين، إما متعيِّنة بمبدأ أعلى لا تتميَّز عنه، وإما متعالية هي نفسها عن هذين الحدَّين اللذين تشد واحدَهما إلى الآخر وتكتنفهما جميعًا بمعنى ما، وبالتالي، لما كان الحق إذ ذاك هو الحق. لذا يصح، إلى حدٍّ ما، القولُ بأن الحق هو عينه هذه الاستمرارية أو هذه الأحدية، على ألا تُتصوَّر باعتبارها "خارجه"، وذلك لأن الحق لا ضد له، ولا ند له، ولا ينتسب إلى أين...  وهو ليس بعَرَض فيحتاج إلى حامل يقوم وجودُه عليه، ولا بجوهر فيشارك الجواهر في حقيقة الجوهرية.  وهو منزَّه عن كلِّ شيء متجلٍّ، لكنْ دون إمكان وجود شيء "سواه" "معه" أو من "خارجه".

      هذا المنظور الذي يقدمه لنا ابن عربي في رسالة الوجودية، يمكِّننا من فهم أن مذهب التوحيد عند الصوفية، لا صلة البتة بينه وبين أي مذهب "وحداني" فلسفي بالمعنى المعاصر كما يحاول أن يزعم بعضُ منتقدي الصوفية. فكما يقول سيد حسين نصر في كتابه (ثلاث حكماء مسلمين - ترجمة صلاح الصاوي ومراجعة وتنقيح ماجد فخري، بيروت، 1986): "إن اصطلاح (الوحدانية الوجودية) ليس تعريفًا مناسبًا - بوحدة الوجود - أيضًا، لأن (الوحدانية)... تفترض نظامًا فلسفيًّا فكريًّا يقابل مثلاً الثنوية، ولفظة (وجودية) تخلط بين الاستمرار الذاتي بين الأشياء ومبدئها وبين الاستمرار الجوهري، أو بين النظرة الأفقية والنظرة العمودية. وإن رأي هؤلاء النقاد لما يزيد من دهشتنا، على اعتبار أن منهجية مذهب الصوفيَّين المذكورَين إنما تقوم على إبراز الأضداد الأنطولوجية القصوى وعلى النظر في الأحدية لا بالاختزال المنطقي العقلاني للعالم، بل بالجمع كَشْفًا بين الأضداد والنظائر في الخبرة الصوفية المباشرة". ويتابع: "(الأحدية) مركز الدائرة التي يوجد الكل فيها والذي يقف العقلُ أمامه حائرًا. فهي تشتمل على اجتماع (الأضداد) الذي لا يمكن أن يُرَدَّ إلى مقولات العقل البشري أو إلى وحدانيةٍ تنعدم معها الفوارقُ الوجودية ويُغفَل الوضعُ المتعالي الذي يحتله المركزُ بالنسبة إلى كلِّ المتناقضات التي تنحل جميعًا فيه". وهو ما يعني أن الأشياء لا تعرف إلا بضدها، وأن المتناقضات الظاهرة في هذا العالم المادي، تنمحي وتزول في عالم الروح.

      يقول الشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي في هذا الشأن: "لو علمتَه لم يكن هو، ولو جهلكَ لم تكن أنت. فبعلمه أوجدك، وبعجزك عبدتَه. فهو هو لِهُوَ، لا لك، وأنت أنتَ لأنتَ ولَهُ. فأنت مرتبط به، ما هو مرتبط بك. الدائرة، مطلقةً، مرتبطة بالنقطة؛ النقطة، مطلقةً، ليست مرتبطة بالدائرة؛ نقطة الدائرة مرتبطة بالدائرة. كذلك الذات، مطلقةً، ليست مرتبطة بك. ألوهية الذات مرتبطة بالمألوه (أنت)، كنقطة الدائرة (في ارتباطها بالدائرة)". وهذا هو معنى قول البسطامي: "أنا النقطة التي تحت الباء"، ذلك أن النقطة هي مبتدأ الدائرة ومركزها الذي تدور حوله كرها وقهرا الأشياء كلها، كما أن النقطة هي بداية كل حرف وكلة ورقم ومعادلة، أو لنقل إنها منطلق كل رسم في هذا الوجود ومنتهاه.

      وحول سوء الفهم الكبير القائم بين حراس العقيدة والمتصوفة عموما وعلى رأسهم ابن عربي، استشهد هنري كوربان بموقف الفقيه القاضي ابن حجر الحيتمي، الذي عاش في القرن السادس عشر، والذي يعتبر من المدافعين الأشداء عن ابن عربي.  حيث كان يقرُّ ببعض ما يأخذه منتقدوه عليه، باعتبار أن كتاباته، على حدِّ قوله: " لدقة معانيها، ولطائف إشاراتها، وإبهام مبناها، هي للعوام سمٌّ ناقع" (الفتاوى الحديثة – ص: 296 – القاهرة 1970)، إذ إن الاهتمام المشروع بالذود عن إيمان الجهَّال – وفق تعبيره - يقود بعض فقهاء الشريعة إلى أن تأخذهم العزَّة بالإثم - على ما يخلص إليه - لكنه يبقى من الصحيح أن ابن عربي ليس ممَّن يصح أن تتداوله سائرُ العقول وفق ما يري.
      وطبيعي والحال هذه، أن يصنف التكفيريون في خانة العلماء، كل من وقف من هذه البدعة الخطيرة – وفق اعتقادهم - موقفا حازماً وموافقا لرأيهم.  ولإعطاء بعض المصداقية لادعائهم هذا، يذكرون على سبيل المثال من يعتبرونه كأحد العلماء الصوفية الكبار وهو "الجنيد" – وهذا الصوفي المشرقي (العراقي)، يعتبر وجها مقبولا لدى السنة الأشعرية - والذي حينما سئل عن التوحيد قال: "التوحيد إفراد المحدث عن القدم"، ويعتبرون قوله هذا، ردا مفحما على من مزج بينهما، وجعل الخالق (القديم) والمخلوق (المحدث) شيأ واحداً. غير أن الجنيد بقوله هذا، لم يذهب إلى نكران "وحدة الوجود" كما اعتقد من استدلوا تعسفا بقوله، فهو يؤمن كما غيره من الصوفية بأن لا وجود في هذا الوجود إلا لله الواجب الوجود، فيقول مثلا: " المعرفة وُجودُ جهلك عند قيام علمه. قيل له: زدنا. قال: هو العارف وهو المعروف". ويفسر "أبو بكر الكلاباذي" هذا الكلام فيقول: "معناه: أنك جاهل به من حيث أنت، وإنما عرفته من حيث هو" (التعرف لمذهب أهل التصوف، باب: 22 - ص:66). فضمير المخاطب (أنت) يرمز به إلى (الفرق)، ومعناه: إنك جاهل به (أي بالحق) من حيث تعتقد أنك (أنت) ولست (هو)، وإنما عرفته من حيث أنك (هو). فعندما تدرك أنك لست أنت وإنما (هو) فحينها ستعرف الله. وبهذا لا يخالف الجنيد عقيدة الصوفية في باب "المعرفة والوجود". وتجدر الإشارة هنا، إلى أن الجنيد في جوابه على السائل، استعمل نفس الشرط الثلاثي الذي يقوم عليه مذهب أبو يزيد البسطامي وفق معادلة بسيطة تلخص بعمق ووعي الوجود من خلال أشكال ثلاثة: الأنانية (صورة الأنا)، والأنت (صورة الإثنية)، والهو (صورة الهوية). فمن خلال هذا الترتيب لوعي الوجود، يذوب / يفني / أو لنقل بتعبير الغزالي، "يتوحد" الإنساني في الإلهي، ويتبادلان في فعل متعال من المحبة والعشق. و"التوحد" من الوحدة التي هي بخلاف "الاتحاد" الذي يستعمله هنري كوربان في شرحه لنظرية "الشرط الثلاثي للوجود" عند أبو يزيد البسطامي (تاريخ الفلسفة – ص:290).

وكمثال على هذه الوحدة الحقيقية والفرق بينها وبين الكثرة المتوهمة، يفسرها البعض بالرقم 999 الذي يمثل الكثرة، لكن بإضافته إلى الواحد المكون لهذه الأرقام كلها والتي لا يمكن أن تكون أرقاما بدونه تصبح النتيجة 1000، أي أنك بالمحصلة تحصل على رقم صحيح هو الواحد والباقي أصفار لا وجود لأناتها الذاتية لتكون مستقلة عن الرقم الصحيح المعبر عنه بالواحد (1) لأن وجودها مشروط بوجوده. وهذا هو معنى "الواحد الكثير والكثير الواحد" عند الصوفية وعلم الرياضيات الذي يعتبر من العلوم القطعية الصحيحة. وهذا يعني أن كل الأرقام المنضوية تحت الرقم 999 لا تعتبر مستقلة عن الرقم واحد ما دامت تصنف باعتبارها مجرد تجليات له ولا وجود لها مستقل عنه لأنه جوهرها وسر وجودها، وهو ما يفهم من المعنى الباطني لقوله تعالى: (ما يكون من نجوى ثلاثة إلا وهو رابعهم ولا خمسة إلا وهو سادسهم ولا أدنى ولا أكثر من ذلك إلا هو معهم أين ما كانوا) المجادلة: 7.

      وقال الجنيد أيضاً: " حقيقة التوكل: أن يكون لله تعالى كما لم يكن، فيكون الله له كما لم يزل" (التعرف – باب 44 - ص: 101). أي أن يكون المتوكل كما لم يكن موجودا فيكون الله كما كان دائما ولا يزال، هو الموجود والفاعل الوحيد دون سواه.

      وبنفس المعنى أورد الغزالي قولا لسهل بن عبد الله التّستري مفاده: " يا مسكين.. كان ولم تكن، ويكون ولا تكون. فلما كنت اليوم صرت تقول: أنا وأنا.. كن الآن كما لم تكن، فإنه اليوم كما كان" (إحياء علوم الدين 4/222). وهذا القول ليس بجديد، بل هو نفس قول الجنيد ويدور حول نفس معني حديث الرسول صلى الله عليه وسلم حين سئل عن الله أين كان قبل الخلق وأين هو بعده فقال: (كان ولا شيء معه... وهو الآن كما كان لا يزال).

أقوال بعض كبار الصوفية في "وحدة الوجود"

      ولمزيد من التوضيح، نورد بعضا من أقوال كبار الصوفية في المسألة، فنبدأ باستقراء آراء شيخ الإسلام الإمام الغزالي في معالجته لمسالة وحدة الوجود وقضية المشاهدة، وهي نفس الأقوال التي يستدل بها أعداء الصوفية في نقد هذه النظرية العرفانية، للتدليل على أنها كفر فاضح بحجج واهية لا قيمة علمية لها ولا تستحق منا الذكر، ومجملها متضمنة في دراسة مفصلة من 637 صفحة أعدها "ذ. محمود عبد الرؤوف القاسم"، تحت عنوان "الكشف عن حقيقة الصوفية لأول مرة في التاريخ".

      يقول الإمام أبو حامد الغزالي: "... فمن عرف الحق رآه في كل شيء، إذ كل شيء فهو منه وإليه وبه وله، فهو الكل على التحقيق، ومن لا يراه في كل ما يراه فكأنه ما عرفه، ومن عرفه عرف أن كل شيء ما خلا الله باطل، وأن كل شيء هالك إلا وجهه، لا أنه سيبطل في ثاني الحال، بل هو الآن باطل" (إحياء علوم الدين 1/254).

      ويقول كذلك في نزعة الربوبية عند الإنسان: "...نعلم أن للقلب ميلاً إلى صفات بهيمية.. وإلى صفات سبعية.. وإلى صفات شيطانية.. وإلى صفات ربوبية.. فهو لما فيه من الأمر الرباني يحب الربوبية بالطبع؟! ومعنى الربوبية التوحد بالكمال، والتفرد بالوجود على سبيل الاستقلال؛ فصار الكمال من صفات الإلهية، فصار محبوباً بالطبع للإنسان. والكمال بالتفرد بالوجود، فإن المشاركة في الوجود نقص لا محالة؛ فكمال الشمس في أنها موجودة وحدها، فلو كان معها شمس أخرى لكان ذلك نقصاً في حقها إذ لم تكن منفردة بكمال معنى الشمسية. والمنفرد بالوجود هو الله تعالى إذ ليس معه موجود سواه، فإن ما سواه أثر من آثار قدرته لا قوام له بذاته، بل هو قائم به...وكما أن إشراق نور الشمس في أقطار الآفاق ليس نقصاناً في الشمس بل هو من جملة كمالها، وإنما نقصان الشمس بوجود شمس أخرى... فكذلك وجود كل ما في العالم يرجع إلى إشراق أنوار القدرة... فإذاً معنى الربوبية التفرد بالوجود، وهو الكمال... ولذلك قال بعض مشايخ الصوفية: (ما من إنسان إلا وفي باطنه ما صرح به فرعون من قوله: (أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى) النازعات:24 -، ولكنه ليس يجد له مجالاً...". (إحياء علوم الدين 3/243).

      ويقول في نسبة الأفعال إلى الله تعالى: " ...ومن ارتفع الحجاب بينه وبين الله تجلّى صورة الملك والملكوت في قلبه، فيرى جنةً عرض بعضها السماوات والأرض، أما جملتها فأكثر سعة من السماوات والأرض؛ لأن السماوات والأرض عبارة عن عالم الملك والشهادة.. وأما عالم الملكوت، وهي الأسرار الغائبة عن مشاهدة الأبصار، المخصوصة بإدراك البصائر، فلا نهاية له. نعم، الذي يلوح للقلب منه مقدار متناهٍ.. وجملة عالم الملك والملكوت إذا أخذ دفعة واحدة تسمى (الحضرة الربوبية)؛ لأن الحضرة الربوبية محيطة بكل الموجودات، إذ ليس في الوجود شيء سوى الله تعالى وأفعاله؟ ومملكتُه وعبيدُه من أفعاله (إحياء علوم الدين 3/13).

      وحول مراتب المشاهدة يقول: "...والثالثة: أن يشاهد ذلك بطريق الكشف بواسطة نور الحق، وهو مقام المقربين، وذلك بأن يرى أشياء كثيرة، ولكن يراها على كثرتها صادرة عن الواحد القهار. والرابعة: ألا يرى في الوجود إلا واحداً، وهي مشاهدة الصديقين، وتسمِّيه الصوفية (الفناء في التوحيد) ... والثالث: موحد، بمعنى أنه لم يشاهد إلا فاعلًا واحداً إذا انكشف له الحق كما هو عليه، ولا يرى فاعلًا بالحقيقة إلا واحداً وقد انكشفت له الحقيقة كما هي عليه، لا أنه كلَّف قلبه أن يعقد على مفهوم لفظ الحقيقة، فإن تلك رتبة العوام والمتكلمين.. والرابع: موحد بمعنى أنه لم يحضر في شهوده غير الواحد، فلا يرى الكل من حيث إنه كثير، بل من حيث إنه واحد. وهذه هي الغاية القصوى في التوحيد (إحياء علوم الدين 4/212).

      ويسترسل الغزالي في شرح مسألة المشاهدة وعلاقة الواحد بالكثرة فيقول: "... فإن قلت: كيف يتصوّر ألا يشاهد إلا واحداً، وهو يشاهد السماء والأرض، وسائر الأجسام المحسوسة، وهي كثيرة؟ فكيف يكون الكثير واحداً؟ فاعلم أن هذه غاية علوم المكاشفات.. وهو أن الشيء قد يكون كثيراً بنوع مشاهدةٍ واعتبار، ويكون واحداً بنوع آخر من المشاهدة والاعتبار، وهذا كما أن الانسان كثير إن التفتّ إلى روحه وجسده وأطرافه وعروقه وعظامه وأحشائه، وهو باعتبارٍ آخر ومشاهدةٍ أخرى واحدٌ، إذ نقول: إنه إنسان واحد.. والفرق بينهما أنه في حالة الاستغراق والاستهتار به مستغرقٌ بواحد ليس فيه تفريق، وكأنه في عين (الجمع)؛ والملتفتُ إلى الكثرة في (تفرقة) فكذلك كل ما في الوجود من الخالق والمخلوق له اعتبارات ومشاهدات كثيرة مختلفة، فهو باعتبار واحدٍ من الاعتبارات واحدٌ، وباعتبارات أخر سواه كثيرٌ... وهذه المشاهدة التي لا يظهر فيها إلا الواحد الحق، تارة تدوم، وتارة تطرأ كالبرق الخاطف، وهو الأكثر، والدوام نادر عزيز". (إحياء علوم الدين 4/213)

      وحول "حقيقة الحقائق" أو "وحدة الوجود"، يقول الغزالي: "... من هنا ترقّى العارفون من حضيض المجاز إلى يفاع الحقيقة، واستكملوا معراجهم، فرأوا بالمشاهدة العيانية أن ليس في الوجود إلا الله تعالى، وأن (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) القصص:88 - لا أنه يصير هالكاً في وقت من الأوقات، بل هو هالك أزلاً وأبداً، لا يُتصور إلا كذلك... فإذن لا موجود إلا الله تعالى ووجهه، فإذن كل شيء هالك إلا وجهه أزلاً وأبداً... ولم يفهموا من معنى قوله: (الله أكبر) أنه أكبر من غيره، حاشا لله، إذ ليس في الوجود معه غيره حتى يكون أكبر منه، بل ليس لغيره رتبة المعية، بل رتبة التبعية". (مشكاة الأنوار – ص: 55).

      ويختم بالإقرار بالنسبة للتوحيد: "... إشارة العارفون بعد العروج إلى سماء الحقيقة، اتفقوا على أنهم لم يروا في الوجود إلا الواحد الحق". (مشكاة الأنوار – ص: 57). وهذا هو معني التوحيد عند الغزالي وهو تعريف يتساوق بشكل كبير مع مفهوم ابن عربي الذي وان كان يربط الوحدة بالثنائية لجهة المراتب الوظيفية من باب تقريب المعني للعقول مراعاة لاختلاف مستويات الفهم من جهة، فإنه من جهة أخرى يشبّه ويخالف في نفس الوقت من دون أن يختلف كما سنرى بمناسبة الحديث عن رسالته في الأحدية لاحقا. 

      وتجدر الإشارة، إلى أن الغزالي هو الصوفي الوحيد الذي لا يستعمل أسلوب الإشارة والرمز في التعبير عن أفكاره، بل يمتاز عن غيره من الصوفية الكبار بأسلوب سهل، سلس، واضح ومتماسك، لا يحتاج إلى كبير عناء لفهم ما يطرحه من مسائل.  ولذلك اكتفينا بسرد بعض من مقولاته في سياق الموضوع الذي يهمنا هنا، دون الخوض في تفسيرها، بخلاف ما يقتضيه الأمر في حالة ابن عربي مثلا.

       وعودة إلى ابن عربي، فان الشيخ الأكبر قد أنكر مقولة الجنيد في التوحيد بإفراد الحدوث عن القديم، لاعتقاده الراسخ بأن الله لا يوصف بـ: "القدم"، لأنه سبحانه وتعالي ليست له بداية حتى يقال عنه "قديم"، وهو متحرر من منطق الزمان والمكان، يتصرف من خارج شرطيهما وفي نفس الوقت يهيمن عليهما. كما أنه (كل يوم في خلق جديد) من نفسه بنفسه مع نفسه ولنفسه...  وأنه (كل يوم هو في شأن) و "اليوم" هنا يكون بمفهوم الزمن العمودي أو الأمد اللامتناهي، أي "الآن" من غير ماضي ولا مستقبل ولا تعاقب للحظات. كل ذلك، من دون " كيف؟"  أو "لماذا؟" كما يقول الشيخ الأكبر في تعليقه على علاقة الله بالخلق والزمن الكوني الأفقي (التاريخي). ولعل هذا المنطق هو الذي دفع ابن القيم الجوزية – تلميذ ابن تيمية - إلى التعليق على موقف ابن عربي بالقول: " وصاحب "الفصوص" (يقصد كتاب فصوص الحكم للشيخ الأكبر)، وهو من شيوخ المتصوفة (والصحيح القول الصوفي الواصل لأن المتصوف هو المبتدئ)، أنكر هذا (أي إفراد المحدث عن القديم)، الذي قال به 'الجنيد'، وقال (أي ابن عربي)، في مخاطبته الخيالية الشيطانية للجنيد، اذ يقول له: يا جنيد: هل يميز بين المحدث والقديم، إلا من يكون غيرهما؟ " (أي غير المخلوق وغير الخالق). فيرد ابن القيم على هذا الاعتراض الذي يعترض به ابن عربي على الجنيد، فيقول: " يقال لهذا الملحد (يقصد ابن عربي): ليس من شرط المميز بين الشيئين – بالعمل أو القول – أن يكون ثالثا غيرهما... فان كل واحد من الناس يميز بين نفسه وغيره، وليس هو ثالثا... فالعبد يعرف أنه عبد، ويميز بينه وبين خالقه، والخالق جل وعلا يميز بين نفسه وبين مخلوقاته، ويعلم أنه ربهم، وأنهم عباده، كما نطق بذلك القرآن الكريم في غير موضع..." (التفسير القيم – ص 52).  وواضح من رد ابن القيم، أنه لم يستوعب الموضوع في عمقه وجوهره، وحاول ملامسته من خلال المستوي الوظيفي السطحي للغة، للتمييز بين الله وعباده، لكن مثل هذا التفسير لا يبين لنا من أين خلق الله عباده، وهل هم ذوات صنعها من مادة مستقلة عنه ومن خارجه؟ .. لأن مثل هذا الاعتقاد هو الشرك بعينه، في حين يقتضي التوحيد الاعتقاد بأن كل ما في الوجود هو عين ذاته.
      صحيح أن الإنسان بحكم طبيعة مهمته، إنما ينوب عن الله وفق الأمر التكويني والأمر التكليفي معا، اللذان ينيطان به مسؤولية التكليف، والقيام كرها لا طوعا بما تقتضيه إرادته ومشيئته: (وما تشاءون إلا أن يشاء الله)،  من دون أن يكون للإنسان الخيار في ذلك بعد أن شهد على نفسه بالعبودية لله في عالم الذر، وقبل طوعا حمل الأمانة وخوض تجربة الشوق والتوق والمعاناة الأرضية، بحكم أنه (أي الإنسان) بكيانه الجامع (ذات وروح ونفس وعقل)، لا يتمتع بوجود مستقل عن الله تعالى يجعله في موقع القبول أو الرفض من منطلق الحياة، والعلم، والقدرة، واستقلال الإرادة، ما دام الله هو مصدر الحياة، والعلم علمه، والقدرة قدرته، والإرادة إرادته، كما أن الأفعال هو خالقها بالمحصلة، كما يقول ابن عربي ويؤكد ذلك الغزالي وغيرهم من الصوفية استنادا إلى قوله تعالى: (والله خلقكم وما تعملون) الصافات: 96.  وهي حقائق معرفية ووجودية تبطل من ناحية الاستدلال المنطقي اتهام فقهاء الرسوم للصوفية بأنهم يقولون باتحاد الإنسان مع الله أو العكس، أي حلول الله في الإنسان، وذلك لانتفاء وجود أي موجود مع الله أو من خارجه سبحانه وتعالى يمكنه أن يتحد مع الله أو أن يحل الله فيه.  

      والحقيقة أن عقيدة التوحيد بمعناها الظاهري العام، التي تتمحور أساسا حول قضية إثبات وحدانية الله وعدم الشرك به من قبل عامة المؤمنين، تأخذ بعدا شديد التعقيد لدى الخاصة وخاصة الخاصة من الصوفية العارفين.. فبالنسبة لهذه الفئة من الموحدين المنشغلين بالباطن كما يقول الباحث ديمتري أفييرينوس، يعتبر التوحيد بالنسبة لهم، بمثابة الباب الذي ينفتح مباشرة على الحقيقة الذاتية:  "فكلما أمعن عقلُ المتصوف، على هَدْي من بصيرته، في سَبْرِ ظاهر البساطة العقلانية للوحدانية الإلهية، تبيَّن له أن هذه البساطة أعمق غورًا وأشد تعقيدًا – إلى أن يبلغ به الأمرُ حدًّا يتعذر بعده التوفيقُ بين مختلف أوجُه التوحيد بالمنطق الإدراكي أو بالعقل الخطابي، إذ إن تفكُّره في هذه الأوجُه بالغٌ لا محالة بمَلَكة التفكير حدودَ استيعابها القصوى، وبذلك يتاح للعقل أن يختبر حالَ جَمْع يتعدى كلَّ تصور شكلاني.  وبعبارة أخرى، فإن من شأن الكشف، فيما يتعدى التصور وحده أن يرقى إلى الوحدانية التي تشكل المفهومُ المركزي الذي يتخلَّل مذهبَ الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي كلَّه، تحت مسمي وحدة الوجود"...

      ونظرا لحساسية مصطلح "وحدة الوجود" الذي أثار ويثير الكثير من الجدل، حول ما إذا كان يقصد به بالتحديد، تعريف عقيدة توحيدية لا يوجد بمقتضاها في الوجود إلا الواحد الأحد وحده دون سواه.  بيد أن الإجابة بالإيجاب عن هذه المسألة كما يري الباحث المذكور أعلاه، لا تشير إلى نقلة حاسمة في الإلهيات الإسلامية، لأن ابن عربي، لم يفعل في الواقع، غير الدفع بمذهب المتكلِّمين الأشاعرة إلى أقصى مداه، إذ إن إصرار الأشعري على قدرة الله الكلِّية وهيمنته على الكون، ينطوي منطقيًّا، على حقيقة بسيطة مفادها أن الله هو خالق الأفعال، وبالتالي، يعتبر الفاعل الأوحد في هذا العالم وصانع التاريخ. وعليه، فابن عربي لا يجانب المنطق حين يقول، قياسًا على ما استخلصه الأشاعرة في موضوع القدرة الإلهية الكلية والهيمنة الشاملة، بأن الله هو الموجود الأوحد، ولا وجود لموجود آخر معه أو من خارجه، لأن عكس هذه الحقيقة، من شأنه أن يفتح الباب أمام التساؤل المشروع حول مصدر وطبيعة وحقيقة هذا الموجود الذي يفترض أهل الظاهر أنه غير الله الواجب الوجود.

      لهذا، واعتبارا لتعدد مستويات الخطاب والقدرة على الفهم، فقد ينجح أهل الظاهر في التأثير على عقول العامة من الناس، عن طريق اللعب بظاهر الكلمات لما توحيه من معاني متضاربة متوهمة من خارج السياق، لا علاقة لها بحقيقة الحق والخلق. ذلك أن الذي يتموقع فوق سطح دائرة الوجود لا يمكنه أن يري ما يوجد بداخل الدائرة من موجود، فأحرى أن يدرك ما يدور وراء العالم (عالم الغيب). بمعني، أنه لا يستطيع أن يحكم على الأشياء الخارجة عن حيز المحسوسات، ولا يمكنه كذلك، أن يفهم الأشياء الخارجة عن نطاق التحديد العقلي الذي يعتمد الملاحظة والقياس في تعريف الموجودات...  خاصة إذا علمنا أنه لا معنى لـ "قديم" في علم الله قياسا بزمان غير موجود أصلا في فضاء الخلود، ولا معني لـ "محدث" في حق الله العليم، من منطلق مدلول "الخلق" الذي يختلف عن مدلول "الحدوث" ويسبقه إلى ما قبل الوجود المادي في المدي السرمدي اللامتناهي بدليل قوله تعالي: (هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم). فلا أول معه أو قبله، ولا آخر معه أو بعده، ولا ظاهر في الوجود إلا لتجلياته، ولا باطن إلا لحقيقته، فهو بكل شيء عليم لأنه محيط بالوجود كله من حيث أنه عين ذاته، وهذا هو معني كلمة التوحيد: لا إله إلا الله الحي القيوم.

      وبهذا المعني، يكون خلق الشيء لا يعني الحدوث بالضرورة بالمفهوم العلمي، بل التحول، أي تحول الطاقة إلى مادة والمادة إلى طاقة، وهكذا إلى ما لا نهاية... لأن الله سبحانه وتعالى وفق ما يذكره الصوفية، وقبل أن يقرر عرض المخلوقات في الوجود المادي، كانت هذه المخلوقات موجودة من قبل على شكل "أعيان ثابتة"، أي مخلوقة بشكل بديع في علمه الأول.. تماما كالمهندس الذي يرسم على الورق بنيانا، فيبدع في رسمه من حيث أنه فكرة لا نظير لها في العالم، وبعد ذلك تأتي مرحلة الخلق (البناء) التي تجسد إقامة المشروع عمليا من المادة، فيصنعه على الصورة التي هو عليها في الرسم. والله قد وضح لنا هذه المراحل في القرآن الكريم من خلال استعماله لعبارة "خلق" السماوات والأرض و"بديع" السماوات والأرض ثم أخيرا قال لنا أن السماء والأرض كانتا رتقا " ففتقهما"، أي أخرجهما من الظلمة إلى النور بهدف الظهور.  وهي مرحلة الوجود المادي المحدث لعالم كان دائما وأبدا فكرة باطنة ورسما كامنا في علم الله (الخالق البديع البارئ المصور)... كما أخبرنا سبحانه، أنه خلق الإنسان (آدم) بيده وعلى صورته، بمعني أن آدم لا يشبه الله تعالى في صورة ذاته كما يعتقد المجسمة وبعض أهل الظاهر، بل أنه مخلوق على الصورة التي كانت منذ الأزل في علم الله العلي العظيم، ولهذا قال الصوفية أن الإنسان "أول" من حيث علم الله،  كما أنه "آخر"، بمعني آخر ما أوجد من المخلوقات بعد العناصر والنباتات والحيوانات، كما أن مصيره الخلود بعد تجربة الشوق الأرضية... وكل هذا لا يدرك إلا إذا فهم الإنسان معنى "الآن" التي قالها الرسول صلى الله عليه وسلم في حديثه عن الله (كان الله ولا شيء معه... وهو الآن كما كان لا يزال)، وعرف أن الله لا يحدد بحيز المكان والزمان، بمعني "القدم" أو "الحدوث"، وهما أمران أسالا الكثير من المداد بين الغزالي و ابن رشد من خلال "تهافت الفلاسفة" و "تهافت التهافت"، وانتهي الأمر بابن رشد الي استنفاذ كل أسلحته العقلية والمنطقية، من دون أن ينجح في حسم مسألة القدم والحدوث بين الحياة والعلم والإرادة والقدرة على الفعل..

أقوال بعض منتقدي نظرية "وحدة الوجود"

يقول الباحث الاسلامي ذ. سعيد فودة في مستهل دراسة له تحت عنوان " مِـنَــحُ الوَدُودِ في بيـــَـانِ مَـذْهــَبِ وحْدَةِ الوُجــُـودِ" ما مفاده: " إن فكرة توحيد الله تعالى هي الفكرة الأبعد والأكثر قبولا عند الجنس البشري، وتوحيد الإله، لا يعني من قريب ولا من بعيد، المعنى الذي يريده القائلون بوحدة الوجود، فالإيمان بوحدة الله تعالى أساسه هو الاعتقاد بأنه لا واجب للوجود إلا هو عز وجلَّ، وأنه هو الفاعل المختار، لا مؤثر في الوجود إلا هو، وأنه لا اشتراك بينه وبين المخلوقات في حقيقة الذات ولا في حقيقة الصفات، وإن كان الاشتراك في الإطلاق اللغوي حاصلا بين الخالق والمخلوق في بعض الألفاظ، كاسم العالِم، يطلق على الإنسان وعلى الله تعالى، واسم السميع والبصير، وغيرها، فالاشتراك واقع فقط في اللفظ، ولا اشتراك في المعنى. وأما الاشتراك في الأحكام والاعتبارات والنسب فلا محذور منه، كما هو معلوم، وبناء عليه تجوز القسمة إلى الواجب والممكن، والقديم والحادث".

      وإذا كان مثل هذا القول الإنشائي يمثل خلاصة اجتهاد فقهاء الظاهر أو " أهل الحق " كما يحلو للباحث أن يسميهم، في إحالة رمزية لكل من لا يوافقهم هذا الرأي على الضلال، فانه لا يسعنا إلا أن ننحاز إلى جانب الحق ونقول مع القائل بأن الإيمان بوحدة الله تعالى أساسه الاعتقاد بأنه لا واجب للوجود إلا هو عز وجل، وأنه بذلك لا وجود لوجود ولا لموجود من خارجه، وهذه هي حقيقة الوجود التي يقول بها الصوفية كذلك، ويتفق معهم عليها أهل الرسوم وفق هذا المعنى الظاهري على الأقل.  كما نؤمن أنه لا اشتراك بين الله وخلقه في حقيقة الذات، لأننا ابتداء لا نعلم شيئا عن ذاته سبحانه، هل هي طاقة تتحول إلى مادة وفق وما وصل إليه العلماء في شأن "نظرية كل شيء"؟، فكيف لنا إذن مقارنة الشبه بين ما نجهله وبين صور أعيان مخلوقاته؟ وحسبنا في هذا المقام قوله سبحانه: (ليس كمثله شيء)، لنقطع مع الصوفية بالقول إن لا شيء مثل الله تعالى. أما فيما يخص قضية الصفات، فيختلف فيها الصوفية عن أهل الظاهر جملة وتفصيلا.

وعن أساس الاعتقاد بوحدة الوجود، يقول سعيد فودة في نفس المصدر السابق: "وأساس هذا المذهب هو الاعتقاد بأنه لا وجود إلا لله تعالى، وأن المخلوقات لا وجود لها، وإنما ينسب إليها الوجود على سبيل المجاز، وأما في الحقيقة فلا وجود لها مطلقا. وهذا هو المقصود من القول بوحدة الوجود، فلا موجود مطلقا إلا الله تعالى، أو لا وجود مطلقا إلا لله تعالى، وما يظهر لنا من ذوات موجودة، فإنه لا وجود لها غير عين وجود الله تعالى، فهي قائمة بعين وجوده عز اسمه، ومذهب وحدة الوجود يستلزم أن إثبات الوجود مطلقا لغير الله تعالى إنما هو نوع من أنواع الشرك، والتوحيد عندهم، إنما هو نفي الوجود عن كل ما سوى الله، واعتقاد أن كل "السوى" هو عين الله سبحانه.. فتكثر الوجود منفي عندهم، ويتبقى وحدة الوجود".

والحقيقة، أننا كلما حاولنا مقاربة مقولات أهل الظاهر لفهم وجهة نظرهم في هذه المسألة المعقدة، إلا واصطدمنا بمنطق غريب، يعتمد الهروب بأسلوب الاختزال والتهجم والتجريح، ناهيك عن اتهام الخصوم بالهرطقة والزندقة والتكفير، وهو أسلوب يعبر عن محدودية المعرفة لدى أصحابه وافتقادهم للمنهجية العلمية والحجة المنطقية في تفنيدهم لكل ما يخالف فهمهم. فوحدة الوجود عندهم معناها "الاتحاد والحلول" بالرغم من أن هذا التعريف لا يستند لدليل من نص ولا يقوم على حجة من عقل، كما أن نظرية "التطور والارتقاء" تعني في أدبياتهم أن أصل الإنسان كان قردا، بالرغم من أن داروين لم يقل بذلك بالمطلق وأعاد أصل النشأة إلى الخلية الأولي، وهو ما يؤكده القرآن من خلال قوله تعالى: (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء) النساء: 1.. وقس على ذلك بقية المواضيع والمفاهيم الحساسة التي يختلط فيها الدين بالعلم والدين بالفلسفة. 
    
      ومن بعض أقوال المنتقدين لنظرية وحدة الوجود التي يعتمدونها كحجة ضد المتصوفة، نورد على سبيل المثال لا الحصر ما يلي: 

-  قول الشعراني في "طبقات الصوفية": " ولعمري إن عباد الأوثان لم يجرؤوا على أن يجعلوا آلهتهم عين الله، بل قالوا: (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) الزمر:3. فكيف يظن بأولياء الله أن يدعوا الاتحاد بالحق – سبحانه - هذا محال في حقهم رضوان الله عليهم".

-  وقول الإمام فخر الدين الرازي في كتاب "المحصل في أصول الدين": "مسألة الباري تعالى لا يتحد بغيره، لأنه حال الاتحاد إن بقيا موجودين فهما اثنان لا واحد، وإن صارا معدومين فلم يتحدا بل حدث ثالث، وإن عُدم أحدهما وبقي الآخر فلم يتحد لأن المعدوم لا يتحد بالموجود". لو كان الرازي عالج مفهوم خليل الله وما تعنيه الخلة في المفهوم القرآني لتراجع عن قوله هذا لأن الخلة لا تجوز إلا مع الله تعالى كما قال الرسول صلى الله علية وسلم، ولو كانت تجوز بين البشر لاتخذ أبو بكر رضي الله عنه خليلا.

-  وقول صاحب معيار المريدين: " والدليل على بطلان اتحاد العبد مع الله تعالى أن الاتحاد بين مربوبين محال، فإن رجلين مثلاً لا يصير أحدهما عين الآخر لتباينهما في ذاتيهما، كما هو معلوم، فالتباين بين العبد والرب - سبحانه وتعالى – أعظم، فإذن أصل الاتحاد باطل، محال مردود شرعاً وعقلاً وعرفاً، بإجماع الأنبياء والأولياء ومشايخ الصوفية، وسائر العلماء والمسلمين. وليس هذا مذهب الصوفية، وإنما قاله طائفة غلاة، لقلة علمهم، وسوء حظهم من الله تعالى، فشابهوا بهذا قول النصارى الذين قالوا في عيسى عليه السلام 'اتحد ناسوته بلاهوته'، وأما من حفظه الله تعالى بالعناية فإنهم لم يعتقدوا اتحاداً ولا حلولاً ".

      وبعد سردهم لمقولاتهم تلك، يخلصون إلى اعتبار عقيدة الحلول و وحدة الوجود شيئا واحدا بمثابة ما يمثله الجزء بالنسبة للكل، معتبرين برغم اختلاف العقيدتين، أن بطلان الأولى يترتب عليه فساد الثانية، فيقولون: "ولا شك أن القول ببطلان عقيدة الحلول والاتحاد، هو إبطال لعقيدة وحدة الوجود، فإن إبطال الجزء إبطال للكل بلا شك، فإذا انتفى أن يكون بعض الخلق إلهاً فبطلان ألوهية الكل من باب أولى، وذلك أن العلماء يفرقون بين هاتين العقيدتين، عقيدة الحلول والاتحاد، والتي تميز بين الخالق والمخلوق، غير أنها تدعي أن الخالق يتحد بالمخلوق، ويحل فيه في مرحلة ما كقول النصارى في عيسى  عليه السلام، وبين عقيدة وحدة الوجود التي لا تؤمن بهذه الثنائية، بل تضللها، وتدعي أن الكون كله ما هو إلا مظاهر وتجليات للخالق سبحانه، وأنه لا موجود في الوجود سوى واجب الوجود".

       ويمثل مثل هذا القول منتهي الخلط والسطحية، بل والجهل المركب بالمفاهيم والمعتقدات سواء كان ذلك من وجهة النظر الدينية أو العقلية، لانغماسه في العموميات وهروبه من مواجهة البديهيات بالتحليل الموضوعي المجرد لاستحالة اتحاد أو حلول ما هو موجود فيما ليس بموجود، ناهيك عن الخلط الذي يقيمه مثل هذا التبرير بين الذات والموضوع والصفات.

      أما عن أسباب ظهور هذه "البدعة" - كما يصفونها - فيقولون: "والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، ما هي المبررات التي تجوّز لعاقل أن يقول بهذا القول، أو أن يعتقد هذه العقيدة؟ والجواب عندهم، أن هذا القول تشكل من أسباب متداخلة يأتي في مقدمتها الجهل بأصول دين الإسلام، وما جاء به القرآن، وهو جهل دفع بأصحابه إلى التعلق بأهداب معتقدات شرقية ضالة كسعي البوذيين للاتحاد بالإله، كطريق وحيد وممكن للتخلص من آلام الحياة ودورة التناسخ، أو معتقدات غربية كقول النصارى بحلول الله في جسد المسيح عليه السلام، وكذلك قول بعض الفلاسفة بتأليه الطبيعة، وأخيراً وليس آخراً قول المعتزلة والجهمية بأن الله في كل مكان بذاته. هذه الأسباب وغيرها هي التي أدت إلى القول بوحدة الوجود أو حلول الله في خلقه واتحاده بهم".

      هكذا إذن، وبجرة قلم، يتحول عمالقة في التصوف والعرفان اللدني الاشراقيي من أمثال البسطامي والحلاج وابن عربي والغزالي وابن الرومي وغيرهم من كواكب هذه الأمة بما فيهم علماء كبار في الدين من المعتزلة كالزمخشري والقاضي عبد الجبار وابن رشد وغيرهم كثير، إلى جهلة بأصول دين الإسلام وما جاء به القرآن الكريم (؟؟؟) ...

يتبـــع ...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق