بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 15 أبريل 2019

الوجود بين الوحدة والثنائية (4/3)



معرفة النفس أساس معرفة الله

      إن قضية "الوحدة" و "الأحدية" و "التوحيد"، تعتبر من أهم القضايا التي أثارت جدلا واسعا بين مختلف المذاهب والطوائف والمدارس والاتجاهات الفكرية الإسلامية عبر التاريخ، باعتبارها موضوعا شائكا يكتسي الكثير من الأهمية والحساسية، بل والخطورة في أحيان كثيرة، لارتباطها بمفهوم أحادية الله تعالى وعلاقتها بالوجود. ولعل خير من كتب في هذا الموضوع بإفاضة، فاستوفاه حقه من الشرح والتحليل، هو الشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي نفسه من خلال مجموعة من الأعمال، أهمها ما جاء في "رسالة الأحدية" أو "الرسالة الوجودية" كما يسميها دارسوا فكره.../...
        يرتكز الشيخ الأكبر في توضيح مقاربته الدقيقة لموضوع الأحدية، انطلاقا من حديث شريف يقول: "من عرف نفسه فقد عرف ربه".  فكلما ازداد الإنسان معرفة بنفسه زادت معرفته بربه، فالحق سبحانه وتعالى مبدأ الكل ومعاده، إليه يرجع الأمر كله، وإلى الله عاقبة الأمور.  فلا بد أن يكون الكل فيه قبل كونه، ولا بد أن يكون في الكل هو.  فعلمه بذاته مستلزم لعلمه بجميع الأشياء، إذ جميع الأشياء فيها كانت مندرجة كاندراج الشجرة في النواة وفق التعبير الصوفي.  وكما أن علم الحق بذاته مرآة لذاته ظاهرة فيه متعين به، كذلك، فعلم الإنسان الكامل بنفسه مرآه لذاته، التي هي ظاهرة فيه متميزة به.

      يؤكد الشيخ الأكبر في رسالته على أنه لا وجود لشيء غير الأحدية... فعلاقة بالله سبحانه وتعالي، يقول ما مفاده: أنه لا يوجد شيء قبله ولا بعده، ولا فوقه أو تحته، ولا بالقرب منه أو بعيدا عنه، وكل ذلك من غير كيف أو لماذا، وفي غياب تام للحالية وتعاقب اللحظات، ومن دون زمان ومكان.  لأنه تعالى كما هو، الواحد دون حاجة لوحدة، المفرد دون حاجة لإفراد.

      هذا الكلام، يدعونا إلى ترك الحواس وقدرات العقل جانبا للحظة من الزمن، واستدعاء الخيال الخلاق بدل ذلك، ليجنح بنا بكل ما أوتي من طاقات لا متناهية، نحو عوالم الستر الثاوية وراء حجب الغيب وبرازخ الوجود، حتى نتمكن من استيعاب ما يريد إيصاله لنا ابن عربي من معاني... لأن الموضوع بالنهاية، يتعلق بمعرفة الله تعالى، وهي معرفة كما هو معلوم، يستحيل إدراكها بالحواس: (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار)، وأنه من المحال كذلك، معرفته بأدوات العقل وآليات المنطق، بشهادة أكبر فلاسفة العقلانية والمنطق، المعتزلي أحمد بن رشد القرطبي، الذي قال: "العلوم الإلهية بطبيعتها أبعد من غيرها من العلوم عن متناول العقول". (تهافت التهافت – ص:127). ومرد ذلك، أن العقول من طبعها تحديد الأشياء قبل التعرف عليها، في حين أن ما نحن بصدد محاولة إدراكه يستعصي على كل تحديد. كما أن محدودية اللغة البشرية من جهة أخري، لا تساعد على التعبير عما يمكن أن يتصوره الخيال الخلاق في هذا الباب. لذلك نجد أن الله سبحانه وتعالى، هو أكثر من استعمل الأمثال في القرآن الكريم، لتبسيط وتقريب المعاني التي أراد إيصالها للأذهان: (إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين) البقرة آية 26.  ذلك أن لغة الله ليست هي لغة الإنسان، وأن لغة القرآن نفسها ما هي إلا ترجمة ظاهرية للغة الرموز والإشارات الإلهية الباطنية المعقدة واللامتناهية. 

      مناسبة هذا الكلام، هو التمهيد المعرفي لفهم إشكالية الوجود بين الوحدة والثنائية وعلاقة كل منهما بحقيقة الخلق والخالق. ذلك أننا في خضم الحديث عن الله والإنسان، والله والعالم، نغفل استحضار عناصر أساسية من شأنها مساعدتنا على الاقتراب من فهم الحقيقة من مختلف أوجهها، اللدنية والوجودية.  ونقصد بذلك معرفتنا بالله الذي يتموقع خارج عالم الصور ودائرة الزمن.  أي محاولة تكوين رؤية عن كائن لا يدرك بالحواس ولا يمكن تحديده بآليات العقل والمنطق كما تدرك بقية المخلوقات العينية من بشر وحيوان ونبات ومادة. 

      فإذا كان الله الذي لا يعرف كنهه سواه، يستعمل الأمثال من عالم الصور لتقريب المعنى المراد إيصاله للمخاطب، فلعلمه سبحانه أن هذا المخلوق لا يستطيع فهم الأشياء من خارج إطار عالم المدركات العينية والحسية. ولهذا السبب بالذات نجد أصحاب الظاهر الذين يعارضون نظرية وحدة الوجود، يؤسسون انتقاداتهم من منطلق مقارنة الإنسان والله من ناحية الذات، متجاهلين حقيقة أن الذات الإنسانية من حيث أنها مادة، هي التي تشكل الصورة التي من خلالها يتجلي الإنسان كموضوع (نفس) فيُدرك في عالم المحسوسات. وأن الوضع يختلف تماما بعد الموت، حيث تغادر النفس الجسد الفاني الذي يتحلل ويتحول إلى شيء آخر، أي موت فولادة إلى ما لا نهاية لقوله تعالى: (يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي) ... ما يجعل المادة المكونة له لا تفنى أبدا. وفي مرحلة التحول، ينتهي الحديث عن الإنسان كموجود مادي، لكن نفسه تلتحق بالخلود للعيش في عوالم نورانية حيث موطنها الأصلي الذي يعجز العقل عن تصور طبيعته، باستثناء بعض المظاهر المجازية التي حدثنا الله عنها في القرآن، من خلال استعمال أمثلة عامة تتضمن بعض الصور المعهودة من هذا العالم الذي نعيش فيه، وذلك من باب تقريب المعنى للأذهان، أما الحقيقة، فقد وصفها تعالى بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على بال بشر.

      إن الذي يعتقد أن الله هو كائن من روح وجسد يعيش داخل هذا العالم أو خارجه ويختلف عنه، فهو لا يعرف الله ولا يعرف العالم...

      يقول الصوفية في شأن معرفة الله: "إن بين ذات الحق وذات الإنسان الكامل، وعلم الحق ومعرفة الإنسان الكامل نوع من المضاهاة، وأن كل ما في ذات الله مجمل فهو مجمل ايضا في ذات الإنسان الكامل، وكل ما في ذات الله مفصل فهو في ذات الإنسان الكامل مفصل.  وكذلك هو الأمر بين القلم وروح الإنسان الكامل، وبين اللوح المحفوظ وقلب الإنسان الكامل، وبين الكرسي ونفس الإنسان الكامل.. وكل واحد منها مرآة لما يضاهيه ... ذلك أن علم الحق بذاته مستلزم بعلمه لجميع الأشياء، وأنه يعلم جميع الأشياء من علمه بذاته، لأنه هو جميع الأشياء إجمالا وتفصيلا.. وبهذا المعنى فمن عرف نفسه فقد عرف ربه وعرف جميع الأشياء... يقول الإمام على بن أبي طالب كرم الله وجهه في هذا الصدد:

داؤك فيك وما تشعر                    دواؤك فيك وما تبصر 
وأنت الكتاب المبين               الذي بأحرفه يظهر المضمر 
وتزعم أنك جرم صغير               وفيك انطوى العالم الأكبر

(والغريب أن هناك من ينسب هذه الأبيات لمحيي الدين ابن عربي فيما تجمع المراجع الشيعية على أنها للأمام عليّ عليه السلام قولا واحدا).

يقول ابن عربي في شرحه لهذه الأبيات، فلا حاجة لك من خارج يخبر عنك بما يسطر.. أما تسمع كيف يقول الحق سبحانه وتعالى: (اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا)؟ فمن قرأ هذا الكتاب فقد علم ما كان وما هو كائن وما سيكون، فإن لم تقرأ تمامه فاقرأ ما تيسر منه. ألا ترى كيف يقول سبحانه: (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق)، وكيف يقول تعالى: (وفي أنفسكم أفلا تبصرون)؟ ... فارجع لذاتك واعتبر فإن لك فيها ما يغنيك، حتى إذا طهرت النفس من المساوئ واتصفت بالكمالات، فلا ينبغي للعارف أن يكتفي بذلك بل لا يزال يبحث عن سر قوله صلى الله عليه وسلم: (من عرف نفسه فقد عرف ربه)، فإن هناك سرا خفيا.. ولا يزال يبحث عن ذلك مستحضرا قرب الله عز وجل منه حتى يجده أقرب إليه من نفسه وأقرب إليه من حبل الوريد.

وإلى نفس المعنى ذهب الشيخ العربي الدرقاوي في جوابه على سؤال أحد تلامذته كان يريد معرفة الله فقال له: "اطرح كتابك واحفر في أرض نفسك حتى يخرج لك الينبوع، وإلا فاذهب عني... وليس الشأن أن تترك نفسك وتعاديها، إنما الشأن أن تصحبها وتسايسها لكي تخبرك عما احتوت عليه".
       ولعل أحسن مثال يمكن من خلاله حل معضلة معرفة الله والإنسان والعالم عن طريق الخيال الخلاق الذي هو البرزخ بين عالم الشهادة وعالم الغيب، وتقريب فكرة "أحادية الكائن" من خلال فكرة معرفة الآخر عبر أثره، هو ما طرح من منظور الفلسفة الغربية من خلال النموذج التالي:

ü          سؤال قديم: ما الله؟
ü         جواب جديد: لمعرفة الله عليك أولا معرفة الموسيقار الكبير موزار.
ü         كيف؟
-       المناسبة: سماع سيمفونية رائعة للموسيقار العالمي "موزار".  
-       المكان: أوبرا راقية بهندستها المعمارية الجميلة، وزخارفها الفنية المتناسقة وألوانها الهادئة الأخاذة، و أثاثها الراقي، وديكور مسرحها الرائع، و إنارتها الباهرة والقاعة المكتظة بالجمهور الراقي صاحب الذوق الرفيع..
-       العاملون: تقنيون و فنيون ومتخصصون..
-       العازفون جوقة من كبار الموسيقيين المحترفين .. كل ماسك آلته بيده ينتظر إشارة المايسترو...
-       الفضاء: في الجو عطر جميل وأضواء وألوان وصمت...
-       يرفع المايسترو عصاه..  لحظات سكون.. ثم يحركها إلى أسفل..  ينطلق العزف.. تبدأ لحظة الخلق، تنتشر الموسيقي فتشق أثير الفضاء.. تتسلق عبر حبال الكون إلى أقصى مدايات الوجود ثم تعود لتطرق الآذان وتنفذ إلى أعماق الأعماق.. تهز الأحاسيس.. تتفاعل معها الجوارح.. تطرب القلوب.. يجمح الخيال محلقا في عوالم لم تولد بعد.. لا شيء يسمع غير الصمت وموسيقي موزار وما تولده من أحاسيس جميلة وخيالات مدهشة تغذي العقل بقوت الخيال وتغمر الروح بنشوة الجمال..  كل اهتمام الجمهور مركز على إيقاعات رائعة "موزار"... 
-       الحال:  ينتهي الحفل.. يخرج الجمهور و هو يتحدث عن عظمة "موزار".. عن إبداعه الجميل و عن روعة سنفونيته التي كتبت بلغة لا يفهمها العقل، لكن يتفاعل معها الذوق فتنعش النفس وتطرب الروح...
-       المحصلة: في الختام، لا أحد من الجمهور يستطيع ترجمة ما كان يقوله موزار باللغة البشرية، ولا أحد من العازفين سبق له أن تعرف أصلا على موزار  أو رآه في حياته... وكل ما لدينا في حقيقة الأمر هو أثره الذي يمثل سره..

ü         يطرح السؤال القديم مرة أخرى من جديد: من هو "موزار"؟

ü         يأتي الجواب هذه المرة حاسما قاطعا نهائيا من القلب فيقول: إن موزار بعد تجربة السماع هو غير موزار قبل التجربة. فما تغير في الحقيقة ليس موزار، إنما معرفته... لقد زال الجهل به واستبدل بمعرفته.. وبذلك، فإذا سألتني عن موزار فسأقول لك بكل يقين: موزار هو المسرح والديكور، هو فرقة العازفين والآلات الموسيقية، هو الأضواء والعطر والإحساس بالجمال، هو الصمت والموسيقي، هو التصفيق وهمسات التقدير، هو صدى الصوت وتموجاته في الأكوان وفي الآذان، هو الجمهور وابتساماته وتعبيرات الدهشة والسرور المرسومة على محياه، هو مظاهر الإعجاب وأحاسيس الارتياح... هو الأشكال والحركات والصمت والأصوات.. هو الذوق وأشياء أخري لا ندركها مثل السعادة والإحساس بالتحليق في فضاء لا متناهي من الحرية والجمال ... موزار هو كل هذا كفنان، لكن موزار الإنسان.. لا يشبه شيئا مما ذكر على الإطلاق...  بهذا المعني، يكون البحث عن معرفة موزار شبيه إلى حد ما بمحاولة اكتشاف سر الوجود في تعدد الموجودات".

-       فهل عرفت أخير من هو "موزار"؟  لا أعتقد.. لأنك لا تعرف حدود إبداعه كفنان.. فلماذا بالله، تسألني عن الله؟  أنا لا أعرف عنه، سوى ما قاله هو عن نفسه: (ليس كمثله شيء)، ونفس الشيء يمكن أن يقال عن الإنسان الذي لا يشبهه إنسان...

      أما شيخنا الأكبر، فله في هذا الباب تعريف، أو لنقل مجموعة قواعد تعريف غامضة ومعقدة لما هو الله تعالى... يقول ابن عربي في تحديد بعض معالم الحق في رسالته الوجودية: 

هو لا يتكون من اسم ولا من مُسمى، لأنه هو الاسم والمسمي، فلا يوجد اسم غيره ولا وجود لمسمى سواه، ولهذا يقال إنه هو الاسم وهو المسمى.

هو الأول من دون قبل.. هو الآخر من غير بعد.. هو الظاهر من دون حضور، هو الخفي من دون غياب.. لأنه لا وجود لقبل أو بعد، ولا لحضور أو غياب.. هناك فقط هو ولا شيء سواه..

     ويتماها هذا النوع من التعريف بشكل كبير مع المذهب "الأيوني" الذي يقول بالاعتقاد بالشمول، بمعنى أن جميع أوجه الطبيعة مظاهر للألوهة، وأن الوجود كله من عرشه إلى فرشه ليس في حقيقته سوى الله. ولذلك نجد من المعارضين من يتهم الصوفية بالاعتماد على بعض الأفكار الفلسفية الدخيلة على الإسلام لتأصيل طريقتهم وتعليل مسلكهم كما يدعون، وهو محض هراء لا أساس له، وقد سبق وأن عالجناه عند تناولنا للعوامل الخارجية المؤثرة في التصوف الإسلامي من قبل. 

      غير أن ابن عربي، وتلافيا لسوء الفهم الذي قد يحصل من قبل من لا يفرق بين مختلف مستويات التعبير الصوفي، ينصح بضرورة فهم هذه الحقيقة وإن بدت غريبة، وذلك لتلافي السقوط في الاعتقاد بالتجسيد والحلول الذي يعتقد به العامة لمحدودية فهمهم وإدراكهم.  فالله كما يخبرنا ابن عربي، "لا يوجد في أي شيء"، مما ينفي عنه الحلول سبحانه، وبالمقابل "لا يوجد فيه أي شيء" وهو ما ينفي القول بإمكانية الاتحاد به تحت يافطة "وحدة الوجود" من ناحية الذات المتوهمة على الأقل. وعليه، فإنه من الضروري معرفته، لكن ليس من أجل الزيادة في العلم، أو إشباع الذكاء، أو ترف الخيال، أو طمأنينة الحواس، ولا لأجل بلورة رؤيا داخلية أو خارجية عن الله من طريق الفهم العقلي والاستدلال المنطقي كما سبقت الإشارة. وهو ما يطرح إشكالية مستعصية على الحل، باعتبار أن ما يسعي العقل لإدراكه هو كائن يتموقع خارج حدود الإدراك. ونحن بالمناسبة، نتساءل: كيف يمكن لمنتقدي العرفان الصوفي مقاربة ومعالجة موضوع بهذه الصعوبة والتعقيد اعتمادا على منهج النقل أو أدوات العقل؟ ...

ذلك أنه وخلافا لما يقول به المجسمة من أهل الظاهر حول إمكانية رؤية الله، باعتمادهم على ما يوحي به ظاهر النص من معاني مجازية، يؤكد ابن عربي ألا أحد غيره على الإطلاق يمكن أن يراه، لا في الدنيا ولا في الآخرة استنادا الي قوله تعالى: (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار)، وهو ما قال به المعتزلة أيضا حين نفوا إمكانية رؤية الله يوم القيامة لأنه سبحانه تمدّح نفسه بنفي الرؤية عنه استنادا إلى نفس الآية، وبالتالي، فلا أحد سوى الله يمكن أن يعرف الله.. هو وحده يرى نفسه بنفسه، وهو وحده يعرف نفسه بنفسه.. وحجابه الخفي هو سر وحدانيته.. بل وحقيقة كيانه.. يستر أحاديته بشكل لا تفسير له، لأنه (ليس كمثله شيء) كما يقول عن نفسه، ولا يوجد في هذا العالم شيء يمكن القياس عليه لمعرفته تعالى أو فهم كنه ذاته سبحانه. 

يقول ابن عربي، في رسالة الأحدية ما مفاده: لا أحد رآه (أي الله) من قبل أو اليوم، ولا يمكن أن يراه أحد مستقبلا أبدا... لا يقترب منه نبي أو رسول ولا ملاك أو إنسان كامل.. لأن نبيه هو هو، ورسوله هو هو، وكلماته هي هو... انه هو الذي بعث نفسه مع نفسه بنفسه من نفسه وإلى نفسه، من دون وسيط أو علة من خارجه..  لا يوجد أي فرق في الزمان أو المكان أو الطبيعة بين من بعث بالرسالة والرسالة والموجهة إليه الرسالة. وجوده متضمن فقط في نصوص الرسالة، ومع ذلك، لا يوجد في الحقيقة إلا "هو"، ولا يمكن أن يتوقف عن الوجود بسبب أنه لم يأتي أبدا إلى وجود لأنه ببساطة هو عين الوجود. ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "من عرف نفسه عرف ربه". وقال كذلك: " أنا أعرف ربي لربي". لقد أرادك الرسول الكريم أن تعرف بذلك أنك أنت لست أنت، إنما هو، وهو ليس أنت بل (هو)، لأنه لا يوجد فيك كما أنك لا توجد فيه، وأنه لا يخرج منك وأنت لا تخرج منه.  وهذه المعاني التي يسوقها ابن عربي هنا، تتعارض مع القول بوحدة الوجود بمفهوم الاتحاد والحلول كما اتهمه بذلك خصومه... لأن كل كلماتها تشير إلى ثنائية الله والإنسان من دون إلغاء أحد لحساب الآخر أو ذوبان أحد في الآخر. وهنا مكمن التعقيد من حيث الظاهر، لكن هذه الثنائية المتوهمة تلغي في الباطن نفسها بنفسها كلما أوغل العاشق هياما في الله، فيزول وجوده الوهمي لحساب وجود الله الحقيقي وهنا تبرز قمة الأحدية التي نتحدث عنها.

 والحقيقة أن ما أرادك ابن عربي أن تعرفه هنا، هو أنك أنت لست أنت، وأنك لا تتمتع بهذه المواصفة أو تلك.. لأنك في الحقيقة لم توجد من قبل ولا توجد الآن ولن توجد أبدا، لا لنفسك ولا له هو، لا فيه ولا معه. أنت لا تستطيع الكف عن أن تكون لأنك غير كائن أصلا.  "أنت" هو "هو"، و "هو" هو "هو" وليس أنت لأنك غير موجود، أنت بدون تبعية أو سببية. فإذا نجحت في إدراك هذه الصفة لـ "لا شيء" في وجودك، فأنت إذن تعرف الله، ومن دون ذلك، فأنت لا تستطيع معرفته.

      فابن عربي وان كان يقول بالثنائية بين الله والإنسان، والله والعالم من حيث الظاهر، رغم اتهام خصومه له بالقول بوحدة الوجود دون تمييز بين الذات والصفات، إلا أنه يرفض "النيرفانا" باعتبارها فناء في الله، وله رأي واضح يناقض قول القائلين بالفناء وفناء الفناء، والمعتقدين بالاتحاد في الله كغاية قصوى في مبدأ وحدة الوجود بمفهومها الفلسفي.  حيث يؤكد في رسالته، بأن أغلبية المبتدئين يقولون إن العرفان أو معرفة الله، تأتي بعد فناء الوجود وفناء هذا الفناء (فناء الفناء). غير أن هذا الرأي المتجذر لدى بعض الصوفية المتطرفة الذين يصورون الإنسان مثل فراشة تحوم حول نور الشمعة لينتهي بها المطاف بالاحتراق والفناء في النور، يعد تصورا فاسدا، بل انه جزء من خطأ شائع وفق فهم الشيخ الأكبر. لأن العرفان كما يقول، لا يوجب فناء الوجود وفناء الفناء: ببساطة لأن الأشياء ليس لها وجود أصلا لتكون قابلة للفناء ما دام لا وجود في الوجود إلا لله الواجب الوجود بحكم أنه وحده الحي الدائم.  وبالتالي، فالذي لا يوجد لا يمكنه أن يترك الوجود. والقول بأن شيء ما لم يعد موجودا يوازي التأكيد بأن هذا الشيء كان من قبل موجودا، لكنك إذا كنت تعرف نفسك، بمعني أنك إذا استطعت إدراك أنك لا توجد، وبالتالي لا يمكنك الفناء أبدا، فأنت تعرف الله، ومن غير ذلك لا يمكنك معرفته.

      ويضيف موضحا هذه الفكرة الثورية بالقول: إن إحالة الفناء وفناء الفناء إلى العرفان، يعد مذهب شرك.. لأنك إذا أحلت العرفان إلى الفناء وفناء الفناء، فأنت تدعي أن شيئا مغايرا لله يمكن أن يكون موجودا معه. وهذا يعني صراحة إنكار أحادية الله سبحانه، الشيء الذي يعتبر شركا فاضحا.  لقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم "من عرف نفسه عرف ربه"، وبالتالي، فإن تأكد وجود شيء مغاير، لا يوجب الحديث عن فنائه، لأنه لا يمكن الحديث عن فناء شيء موجب للتأكيد.  وهذا المعنى الذي يُسوقه ابن عربي يُؤكده العلم كذلك، فالفيزيائي يقر اليوم بأن المادة التي بين أيدينا يمكن أن تذوب إلى ما لا نهاية، لكنها لا تفني أبدا لتلتحق بالعدم، بل فقط تتحول من شيء إلى شيء آخر إلى ما لا نهاية، لأنها لا تتمتع بوجود مستقل، وأكبر مثال على ذلك الماء الذي يتحول من غاز إلى سائل إلى مادة جامدة ثم يعود في كل مرة إلى دورته الدائمة المتجددة من دون أن يفنى في العدم.

      فهل بعد هذا النوع من التعريف لمبدأ الفناء الذي يعتقد أنه تسرب إلى الفكر الصوفي المتطرف من الفلسفة الهندوكية تحت اسم (النيرفانا)، نستطيع القول: أن ابن عربي انضم ولو بشكل ضمني، إلى قافلة من يعتقدون بفساد مذهب البسطامي والحلاج.. ويعتبرونه مذهب شرك وإلحاد؟  - من الصعب الجزم بذلك في إطار الفهم العام لمبدأ ابن عربي القائل بوحدة الأضداد في عالم التسبيح الذي هو عالم الملك والشهادة، والقائل كذلك بالجبر بمفهومه الغليظ، لأن الأفعال جميعها من خلق الله تعالي (والله خلقكم وما تعملون)، وتخضع لمشيئته سبحانه (وما تشاءون إلا أن يشاء الله)، بغض النظر عن طبيعتها المكتسبة من قبل البشر والمصنفة في خانة الخير أو الشر والصواب أو الخطأ كما أوضحنا من قبل في باب "حرية الإرادة بين الجبر والاختيار"، لأن الوجود كله خير في أصله، والشر فيه عرض زائل بالمغفرة والرحمة، كالدنس الذي يلصق بالثوب الأبيض، فيزول بالماء والثلج والبرد، وفق  مضمون دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم. 

      يقول الشيخ الأكبر، وجودك هو بالنتيجة "لا شيء"، و "لا شيء" لا يضاف إلى أي شيء زمني كان أو غير زمني.  قال الرسول صلى الله عليه وسلم: " أنت لا توجد الآن، ولم تكن موجودا قبل خلق الكون". وكلمة "الآن" لا تفيد ظرف زمان، بل تعني المدى المطلق السرمدي اللامتناهي، أي الخلود بشكل دائري من دون بداية ولا نهاية، والله هو الخلود بدون بداية ولا نهاية، قبل وجود العالم المحدث عن النفس الإلهي وبعد هلاكه وتحوله من خلال كلمات تجلت على شكل صور أعيان الموجودات كما كانت أزلا في علمه الأول من دون حدوث، وكما سيكون الأمر ساعة البعث أيضا.

      هذه الأوجه الثلاثة للخلود هي: "هو"، فالله هو سر وجود هذه الأوجه جميعها، دون أن يدع لأجل ذلك من أن يكون مطلقا. لأنه إذا لم يكن هكذا فلن يكون لوحدته وجود ولن يبقي بالتالي من دون رفقة. لكنه من الضرورة العقلية والدينية ألا تكون له رفقة، لأن الرفقة إذا وجدت، لن تكون موجودة سوى لنفسها وليس لوجود الله، وإلا ستكون ربا وإلها ثانيا وهو أمر مستحيل. فالله سبحانه ليس له شريك ولا رفقة، لا بالمثل ولا بالشبه. ويؤكد هذا المعنى جواب الإمام علي (ر) عن سؤال اليهودي الذي مفاده: أن هناك شيئا لا يعلمه الله، وشيئا ليس لله، وشيئا ليس من الله، فقال الإمام عليه السلام: لا يعلم الله شريكا له، وليس لله صاحبة ولا ولد، وليس من الله ظلم للعباد، فبهت اليهودي من جواب الإمام وعرف أنه الحق. وعرّف الإمام الغزالي طبيعة الظلم باعتباره تطاول على ملك الغير، والله تعالى يتصرف في ملكه كيف يشاء ويفعل بخلقه ما يريد، لأنه المالك المتصرف في ملكه دون شريك على الإطلاق، فلا يعقل ظلم ممن يتصرف في ملكه.

      إن الذي يري شيئا مع الله أو في الله أو من خارج الله غير الله، معتبرا إياه شيئا مستقلا عنه، إنما يُحوّل ذالك الشيء الذي يراه إلى رفقة مع لله، مستقلة عنه. كما أن من يدعي بأن شيئا ما يمكن أن يوجد مع الله من خارجه - كالمادة التي صنع منها الكون والمخلوقات – ولا يهم إن كان هذا الشيء موجود لنفسه أو لله، أو أن هذا الشيء قادر على أن يفني وجوده - فان من يدعي ذلك من الناس، يكون بعيدا جدا عن أن يصل إلى أبسط إدراك لمعرفة نفسه، ويمضي عمره يدور في دائرة مفرغة لا معنى لها. كل هذا يعتبر شركا لا علاقة له بالتوحيد بمفهومه الديني الصرف.. هذا الإنسان يعد مشركا ولا يعرف شيئا عن الله ولا عن نفسه. هكذا قالها ابن عربي صراحة من دون لف أو دوران، وهو ما لا يستقيم مع مفهوم التوحيد عند أهل الظاهر الذين يعتقدون بأن للعالم والمخلوقات وجود مستقل عن وجود الله، لكنهم يعجزون عن تفسير مصدر هذا الوجود وكيف وجد ومن أين وجد؟ وهنا تكمن المعضلة.

      فإذا سأل أحدهم عن الوسيلة التي يمكن للإنسان من خلالها الوصول إلى معرفة نفسه ومن ثم معرفة الله، فالجواب يكون وفق ابن عربي كالتالي: إن الطريق الوحيد المؤدي إلى هاتين المعرفتين تمت الإشارة إليهما من قبل الرسول (صلى الله عليه وسلم بالكلمات التالية: (كان الله ولا شيء معه، وهو الآن كما كان لا يزال). وإذا قال أحدهم: "أنا أرى وجودي ونفسي مختلفان عن الله، ولا أرى أن الله يشكل نفسي.  فالجواب هو: إن الرسول صلى الله عليه وسلم يعني بكلمة " النفس" الهوية الذاتية وليس العنصر الجسدي لوجودك المحدث الخاص والذي يسمي أحيانا "النفس الأنانية" أو "النفس الأمارة بالسوء" أو "النفس اللوامة"... وقد قال الرسول الكريم أيضا: (اللهم أرني الأشياء كما هي لا كما تبدو للعيان). ويعني بكلمة "الأشياء" كل ما ليس هو، أي ما سوى الله سبحانه. وبهذا، أراد الرسول صلى الله عليه وسلم القول: "اجعلني أعرف ما ليس أنت، لأعلم بالنهاية، الحقيقة حول الأشياء، إن كانت هي أنت أم أنها مختلفة عنك. وهل أن الأشياء ليست لها بداية ونهاية، أم أنها خلقت ومآلها الفناء؟". هكذا، سمح الله تعالى لرسوله الكريم برؤية كل ما ليس هو، بما في ذلك كنه الإنسان الذي ليس له أي وجود. بهذا التعريف، يريد ابن عربي القول، أن الرسول صلى الله عليه وسلم علم بأن الأشياء من خارج ذات الله، تمثل رؤية الله من خارج ظروف الزمان والمكان، ومن خارج شروط كل صفة، وبالتالي، لا وجود لشيء مع الله أو من خارجه بالمطلق، وكل ما هو موجود هو الله وحده دون سواه، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم (والذي نفسي بيده، لو أنكم دلّيتم أحدكم بحبل إلى الأرض السابعة لهبط على الله عز وجل) ثم قال (هو الأول والآخر والظاهر والباطن).

      وإذا كان هذا النوع من المعرفة كما يبينه ابن عربي يتناغم مع المذهب الاسكندراني في شقه القائل بأن النفس تحاول أثناء حياتها أن تتصل لحظات بالملأ الأعلى كما هو شأن الروح التي تتوق للعودة إلى باريها تجسيدا لنداء آدم بعد طرده من الجنة ودعائه للعودة إليها عبر رحلة المعاناة الأرضية مع العشق والشوق والتوق، فإنها (أي النفس) إذا قامت بمنهاج معين من الرياضة الروحية تستطيع أن تتطهر لتعود إلى أصلها الأول الذي صدرت عنه كنفس واحدة لقوله تعالى (ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة) لقمان: 28. وبالتالي، فليس معنى ذلك أن هذا النوع من الفكر الأكبري يعد دخيلا على التصوف الاسلامي كما يقول منتقدو الصوفية. لأن ابن عربي يستمد عرفانه من الإشراق الرباني والنور المحمدي كما يقول، بالإضافة إلى أنه يُؤصّل طريقته ويُعلّل أفكاره انطلاقا من القرآن والأحاديث النبوية الشريفة. أو بمعني آخر، من الحكمة القرآنية والفلسفة النبوية والمعرفة الاشراقية، مما يضفي على كتاباته رداء أخضرا إسلاميا خالصا من الأصالة الدينية. وكونه يلتقي في بعض أطروحاته مع بعض المقولات الفلسفية الإنسانية لا يعني أنه استمد قواعد منهجه منها، لأنه كصوفي كبير مشهود له بالتجرد، يؤمن كما الغزالي وغيره، بأن التصوف عمل لا علم، وأن المعرفة اللدنية لا تأتي إلا من طريق النور الرباني الذي يقذفه الله تعالى في قلب عبده، وليس عن طريق القراءة والتحليل والاستنتاج والتأويل الاستنباطي أو الاستقرائي...
يقول أفلاطون صاحب المذهب الاسكندراني: "يجب على النفس أن تتحرر من شهوات الحياة وأن تدمن التأمل في الله، عندئذ تدخل في حالة من الذهول ويتم لها الاتصال بالعلة الأولى، فتخسر حينئذ وجودها الجزئي وشعورها الشخصي، وتتبدل بهما شعورا بالسعادة والاطمئنان لأنها تكون قد أصبحت مع الله شيئا واحدا".  

      وابن عربي يسلم بأن كلمة "شيء" يمكن أن توصف بها "النفس" كذلك، كما أي شيء آخر من غير تحديد.  فوجود النفس والأشياء تندرج في إطار المفهوم العام الذي تتسم به كلمة "شيء"، ولذلك قيل: "من عرف نفسه عرف ربه". ومعنى المعنى وفق ما ورد برسالة الأحدية من توضيح: "أن ذاك الذي تظنه مختلفا عن الله ليس سوى الله نفسه، لكنك لا تعرف ذلك. أنت تراه لكنك لا تعرف أنك تراه، وفي اللحظة التي ينجلي فيها هذا الغموض أمام أعينك، فستعلم أنك لست مختلفا عن الله، ستعرف ما هي غايتك، وأنك لست بحاجة لأن تفنى، وستفهم بأنك دائما كنت، وأنك أبدا ستكون، ولن تترك مطلقا وجودك.  ستدرك أن كل صفات الله هي صفاتك، وستري من دون أدنى شك أو ارتياب، أن ظاهرك هو ظاهره، وأن باطنك هو باطنه. سترى بأن مزاياك هي مزاياه وأن طبيعتك الحميمية هي طبيعته.  وهذا من دون أن تتحول إليه أو أن يتحول هو إليك، ومن دون أن تتحد به أو يحل هو فيك، ومن دون نقصان أو زيادة البتة" ... لكن، وبرغم ما يمكن أن يوحي به مثل هذا التوضيح من صعوبة لإدراك الحد الفاصل بين ثنائية الوجود التي يقول بها ابن عربي ووحدة الوجود التي يتهمه بها خصومه، إلا أن المتصوفة عامة ومنهم الشيخ الأكبر، اتخذوا من بيتين شعريين لأبي نواس مبدأ عرفانيا يوضح بشكل جلي الفارق المعرفي الدقيق بين الظاهر والباطن في بنية الذات والموضوع، يقول أبو نواس:

رق الزجاج وراقت الخمر              فتشاكلا فتشابه الأمر
                      فكأنما خمر ولا قدح                     وكأنما قدح ولا خمر

بمعنى، أن هناك خمر وهناك زجاج، فالخمر لا يمكن أن يتحول إلى زجاج والعكس صحيح نظرا لاختلاف طبيعة كل مادة على حدة، وهذه هي الثنائية، لكن الوحدة الموهومة تأتي بسبب صفاء الخمر وشفافية الزجاج فيعتقد الناظر أن الذات واحدة من دون أن يدرك البرزخ (الحاجز) الذي يفصل بينهما (شفافية الزجاج).  فصفاء الزجاج في اللغة الصوفية يرمز الي "الحقيقة"، والخمر في اللغة الصوفية يعني المحبة، ورقة الزجاج، وشكل الكأس، يمثلان قلب العارف الذي حلت فيه المحبة الحقيقة في صفائها، لذلك قال الحلاج "ما في الجبة إلا الله". (هكذا تكلم ابن عربي – د. نصر حامد أبو زيد – ص: 65/67).

      ويستطرد ابن عربي موضحا هذا الإشكال المعرفي في رسالته الوجودية بالقول: "لقد قيل في بداية هذه الرسالة، أن الأحدية والفردية هما الحجابان الوحيدان اللذان يحجبان الله، ولهذا، فانه يسمح للواصل الذي بلغ الحقيقة أن يقول ما قاله الحلاج.  فهذا الواصل لم يصل إلى ما وصل إليه من درجة رفيعة قبل أن يدرك أن صفاته هي صفات الله، وأن كيانه الحميمي هو كيان الله الحميمي من دون أي تغير للصفات أو تحول للكائن الحميمي من ناحية الذات، وبدون أي دخول في الله أو خروج منه. والواصل لا يمكنه الفناء في الله، لأن كنهه لا وجود له أصلا ليفنى". هذا الكلام معناه أن لا وجود لشيء مختلف عن الله يمكنك أن تدعوه معه، أي أن أي شيء مختلف عنه ليس له وجود أصلا. لهذا السبب بالذات، كل ما قد يبدو مختلفا عنه ظاهريا سيزول بالضرورة بعد أن يرفع الجهل وتحصل المعرفة بحقيقته، ليبقي فقط وجه الله تعالي دون سواه، وهذا هو معني قوله تعالي: (ولا تدع مع الله إلها آخر لا إله إلا هو كل شيء هالك إلا وجهه) القصص: 88. وقوله أيضا: (إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن تتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى) النجم: 23.

      ولتقريب فكرته إلى الأذهان، يسوق ابن عربي المثال التالي: "رجل يجهل شيئا ثم يتعلمه بعد ذلك، وبهذا، فليس وجوده من ينتهي بل جهله. لأن وجوده يستمر ما دام لم يُستبدل بوجود غيره. كما أن وجود العارف لم يأتي لينضاف إلى وجود الجاهل، ما دام لم يحدث أي خلط بين وجود فردي لعالم وآخر جاهل. بل فقط تم إلغاء الجهل. فلا تفكر إذن بوضع نهاية لوجودك، لأنك بذلك ستكون سببا لفنائك وتتحول بالتالي إلى حجاب يستر الله.  وحيث أن هذا الحجاب هو مختلف عن الله فلا يمكن لشيء مختلف عنه أن يوجد على الإطلاق". أو بمعني آخر، لا شيء دائم سوى وجه الله. وهذا هو الفرق الدقيق بين الذات والموضوع، بين الله والإنسان، بين الله والعالم، وهذه هي الثنائية التي تفسر العلاقة بين الله والأشياء من دون أن تجعل لها وجودا مستقلا عنه فتسقط في الشرك (إلغاء وحدانية الله)، أو أن تلغي الأشياء لفائدة وجود الله فتسقط في التجسيد، كما يدعي أصحاب القول بوحدة الوجود بمفهومها الفلسفي المجرد: (إلغاء العالم لفائدة وجود الله)، خاصة أصحاب نظرية فناء الإنسان والعالم في الله.  

      قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا الدهر لأنه الله). بهذه الكلمات، أراد الرسول أن يقول بأن وجود الدهر هو من وجود الله تعالى، وليس شيئا مستقلا عنه. وقال الرسول أيضا: (يقول الله: يا عبدي: لقد كنت مريضا ولم تزرني... لقد كنت جائعا ولم تطعمني... لقد طلبت منك صدقة فمنعتها عني...).  لقد أراد الله سبحانه بهذا أن يقول بأنه "هو" من كان مريضا، وإذا أمكن أن يكون "هو" المريض والجائع والمحتاج، فكذلك أنت وكل من في الوجود يمكن أن يكون "هو". فعندما يكتشف لغز الخلية الأم (الخلية الجنينية) وتفك شفرات طلاسمها المعقدة، يمكن رؤية سر الخلق كله، داخلي وخارجي.  حينها ستعلم أن الله لم يخلق فقط كل شيء، بل ستري أنه في العالم المرئي كما في اللامرئي، لا يوجد شيء غيره، لأنه لا يوجد في أي من العالمين نقطة وجود مستقلة.  ستري أنه "هو" ليس فقط اسمه، بل "هو" الاسم وما يُسمّى، وكذلك "هو" وجودهما معا.  سترى بأنه لم يخلق الأشياء كلها دفعة واحدة، بل أطوارا يوم بيوم وكل الأيام، لقوله تعالى (وقد خلقكم أطوارا) نوح: 14 وقوله: (كل يوم هو في شأن) الرحمن: 29 أي كل يوم في خلق جديد من نفسه، بنفسه، لنفسه، ومع نفسه... ولم يقل إنه كل يوم يخلق شيئا جديدا من خارج نفسه، معه أو من غيره لغيره.. ويحصل هذا بسبب امتداد واختفاء وجوده وصفاته ما وراء شرط الإدراك، لأنه كما يقول ابن عربي:

هو الأول والآخر، الظاهر والباطن.
هو الظاهر في وحدته، والباطن في فردانيته.
هو الأول بذاته.
هو الآخر بدوام بقائه.
هو وجود الأول والآخر، الظاهر والباطن.
هو اسمه وما يُسمّى.

      وبما أن وجوده واجب بالضرورة، بلا شرط شيء، وبالتالي يكون منطقي ومحتوم، فكذلك يُعدّ من المنطقي والمحتوم عدم التسليم بوجود شيء غيره أو مغاير له. فما نتصوره مخالف له، ليس في الحقيقة سوى وجود مزدوج لنفس الشيء بصفات مختلفة، لأن وجوده "هو" يعني عدم وجود شيء آخر يمكن أن يشبهه أو يماثله أو يكون مختلفا عنه. لا يوجد شيء مختلف عن الله لأنه سبحانه في غنى عن أن يوجد شيء مختلف عنه، ولأن ذاك الذي قد يبدو لنا مختلفا عنه، ليس في الحقيقة سوي "هو" من دون أي اختلاف داخلي أو خارجي. وهذا هو الذي يُبيّن مرة أخري تعدد صفاته إلى ما لا نهاية، ويُقرّب إلى الأذهان مفهوم الثنائية الذي هو مناقض تماما لمبدأ وحدة الوجود القائل بإلغاء العالم لصالح الله، لأن العالم ليس مستقلا أو مختلفا أصلا عن الله، من حيث أنه لا يعدو أن يكون مجالا للظواهر والمظاهر التي تبرز تعدد صفاته وفق رؤيته الخاصة للأشياء كما كانت في علمه الأول منذ الأزل. وبالتالي، فلا يمكن الحديث عن وجود شيء مع الله أو من خارجه تعالي، أو عن إمكانية إلغاء أو فناء هذا الشيء المزعوم الوجود. 

      إن من يوصف هكذا، يمتلك ما لا يُحصى من الصفات.  ومن يموت بالمعنى الحرفي للكلمة، يغادر الوجود ويفترق عن كل صفاته المحمودة منها والمذمومة. ونفس الشيء يمكن أن يقال عن الموت بالمعنى المجازي. لكن الله سبحانه وتعالى حي لا يموت، وهو موجود في كل الظروف، لأن طبيعة الله الحميمية لا توجد إلا في طبيعته الحميمية، وصفات الله المتعددة لا توجد إلا في صفاته المطلقة الكلية. لهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (اعرف نفسك قبل أن تموت). بمعنى: اعرف صفاتك وحدود مفاعيلها الحقيقية التي وهبك إياها الله لتستعملها فيما يشاء ويتوافق مع إرادته ومشيئته ما أمكن في هذه الحياة الدنيا، قبل أن تفرقك عنها الموت وأنت تجهل سر وظيفتها الوجودية. ولهذا السبب كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (شيّبتني هود وأخواتها) من خشيته ألا يوافق عمله إرادة الله ومشيئته. ولهذا السبب كذلك قال الله تعالى لعباده: (واتقوا الله ما استطعتم). لأن لا أحد يستطيع أن يضمن نتيجة أفعاله أو أن يدرك حكمة الله الفاعلة في العالم وفي الخلق، ولنا في قصة موسى والخضر عليهما السلام في سورة الكهف المثال الحي على ذلك. 

      عندما تعرف ماهية ذاتك الحقيقية، ستتخلص من صراع ثنائيتك، وستعرف حينها أنك لست مختلف عن الله. لكن ما دمت تعتقد بأن لك وجود مستقل عنه، فلن تحصل على الفناء، وهذه هي معرفة حقيقة الذات، لأنك ستكون بالتالي ربا وإلها مختلفا عنه، ونستغفر الله أن يكون هناك رب وإله مختلف عنه سبحانه وتعالي.

      إن فائدة معرفة الذات تكمن في أن يحصل لديك اليقين المطلق بأن وجودك لا هو بحقيقة ولا هو بشيء، أي أنه وجود بشرط لا شيء، بمعني أن وجودك ليس جزءا من الله كما ادعى النصارى عندما قالوا إن المسيح عيسى ابن الله سبحانه وتعالى (وجعلوا له من عباده جزءا إن الإنسان لكفور مبين) الزخرف: 15.  كما أن وجودك ليس بجزئي من خارج الله، مقيد بحدود الزمان والمكان والمادة، ينتهي بانتفائهما، بل أنك غير كائن أصلا، ولم تكن يوما، ولن تكون أبدا. حين حصولك على هذه القناعة ستفهم بوضوح المعادلة التي تقول: (لا إله إلا الله)، بمعني أن لا وجود لإله مختلف عنه، أي لا وجود "لوجود" مختلف عن واجب الوجود، بل ليس هناك أصلا شيء "مختلف" يمكن أن يكون مختلفا عنه، وأنه ليس هناك إله إذا كان هذا ليس هو الإله.

      وإذا اعترض أحدهم بالقول "إنك ألغيت ربوبيته"، فالجواب حسب ابن عربي، هو أنني لم ألغي ربوبيته، لأنه لا يتخلي عن أن يكون معبودا مميزا، ولا أن يكون عابدا بامتياز. هو لا يتخلي عن أن يكون خالقا ولا أن يكون مخلوقا، لأنه كل يوم في خلق جديد.  كما أن صفاته كخالق وإله معبود ليست مشروطة بشيء مخلوق من خارجه أو معبود سواه، لأنه قبل خلق الأشياء كانت له الصفات، وهو الآن لا يزال يحتفظ بها كما كان. وهذا هو ما أراد قوله الرسول صلى الله عليه وسلم في جوابه عن سؤال "كيف كان الله قبل خلق العالم وكيف هو الآن؟" فقال: (كان ولا شيء معه وهو الآن كما كان لا يزال)، وما تغير في الحقيقة هو أن الله الغني عن العالمين أصبح ربا عندما خلق الخلق، لأنه لا يعقل أن يكون ربا من دون مربوب، وهذا هو الفرق من حيث المفهوم بين الألوهية والربوبية.

     غير أن الفرق المشار إليه في المفهوم للتمييز بين الظاهر والباطن لا يعني وجود فرق في وحدته بين الخلق وما قبل الخلق. فصفته كظاهر يترتب عنها خلق الأشياء، وصفته كباطن يترتب عنها ما قبل الخلق. وفي المطلق والحقيقة، ظاهره كباطنه وباطنه كظاهره. وأوله وآخره كما آخره وأوله. هو الكثير في وحدته، الواحد في كثرته، وهو كل يوم في شأن، لا يوجد معه شيء مختلف عنه، لأنه الآن كما كان لا يزال.. لأن "المختلف" عنه لا يوجد أصلا، وهذا هو معني " كما كان لا يزال" منذ الأزل وإلى أبد الآبدين...

      يجب عليك أن تعرف أن ما تسميه "وجودك"، ليس في الحقيقة "وجودك" ولا "عدم وجودك". عليك أن تعرف أنك لست "موجودا"، وأنك لست "لا شيء"، وأنك لست مختلف عن أن تكون "موجودا"، وأنك لست مختلف عن "لا شيء".  فوجودك وعدمك يكونان وجوده المطلق، ذالك "الوجود" الذي لا يجب بل ولا يمكن مناقشة كنهه وطبيعته.

      وإذا سأل أحدهم: كيف يتم الاتحاد أو الحلول؟  فالجواب هو: "عندما يكون شيء ما واحدا ووحيدا، فلا يمكنه أن يتحد إلا مع نفسه ولا أن يحل إلا في ذاته.  لأنه في الحقيقة لا وجود لاتحاد أو حلول أو انفصال، كما لا يوجد تباعد ولا تقارب. يمكن الحديث عن اتحاد بين اثنين أو أكثر، لكن ليس عندما يتعلق الأمر بشيء واحد ووحيد هو الله لقوله تعالى (قل هو الله أحد). لأن فكرة الاتحاد كما الحلول، تحمل في طياتها بالضرورة وجود شيئين مستقلين على الأقل، مشابهين أو مختلفين. لكن الله سبحانه وتعالى فوق كل تشبيه، منافسة، تباين أو تعارض. فالذي يسمى عادة "اتحاد"، "قرب" أو "بعد"، ليس كذلك بالمعني الحقيقي للكلمة. هناك وحدة من غير اتحاد، قرب من غير اقتراب وبعد من غير أية فكرة تفيد المسافة". 

      وإذا سأل أحدهم: ما هو الدمج من غير اندماج، والقرب من غير اقتراب أو الابتعاد من غير بعد؟ فالجواب هو: "أريد أن أقول بأنه في الحالة التي تسميها 'قرب'، أنت لست مختلفا عنه، لكنك لا تعرف نفسك، لا تعرف بأنك لست أنت. عندما تصل إلى الله، أي عندما تعرف نفسك – بدون أدبيات حول مسألة المعرفة – فستعرف أنك لست أنت، وأنك لن تعرف بعد ذلك إن كنت 'هو' أم لا. عندما تحصل لك المعرفة، ستعرف أنك عرفت الله لنفسه وليس لنفسك، لأنك لست 'هو' ما دمت لا تتمتع بوجود مستقل عنه".

      لدينا مثال يقول ابن عربي: "نفترض أنك لا تعرف أن اسمك الحقيقي هو 'محمود'، وبالتالي، يجب أن يناديك الناس 'محمود'.  لأن الاسم الحقيقي ومن يحمله هما في الواقع متطابقان. تظن أن اسمك هو 'محمد'، لكن بعد زمن من التعايش مع هذا الخطأ، انتهيت بمعرفة أنك 'محمود' ولم تكن أبدا 'محمد'. لكن وجودك استمر كما هو من دون أن يتأثر بكون اسم 'محمد' قد تم إلغائه من معرفتك فخرج بالتالي من حياتك. فما وقع في الحقيقة، هو أنك عرفت أن اسمك هو 'محمود' وبأنك لم تكن أبدا 'محمد'. لكنك لم تترك أن تكون 'محمد' بسبب فنائك، لأن ترك الوجود عبر الفناء يفترض تأكيد وجود آخر لك سابق لوجودك الأخير. وهذا يعني أن الذي يؤكد أن هناك 'وجود' من خارج الله، فهو يجعل لله شريكا من دون أن يدري، سبحانه وتعالى عما يصفون".  في هذا المثال الذي يضربه لنا ابن عربي، لم يفقد "محمود" شيئا بالمرة، لأن "محمد" لم يتنفس أبدا في محمود، ولم يدخل فيه مطلقا كما أنه لم يخرج منه أبدا.  ونفس الشيء يجري مع "محمود" بالنسبة لـ "محمد".  لكن عندما اكتشف "محمود" أنه هو "محمود" وليس "محمد" فقد عرف نفسه، أي أنه عرف كنه ذاته وليس كنه ذات "محمد" الذي لا وجود له. فهذا الأخير لم يوجد بالمطلق، وإذا كانت هذه هي الحقيقة، فكيف يمكنه أن يخبر عن شيء لا وجود له إلا في جهله؟

 ويسترسل ابن عربي في توضيح فكرته بالقول: "الذي يعرف" و "ما يعرف" متطابقان، ونفس الشيء يحصل مع "الذي يصل" و "ما يصل إليه"، "الذي يري" و "ما يري".  "الذي يعرف" تكون تلك صفته و "ما يعرف" هي مادته أو "طبيعته الحميمية". "الذي يصل" تكون تلك صفته و "ما يصل إليه" هي مادته. لأن الصفة ومن يمتلكها متطابقان. وهذا هو تفسير معادلة: (من عرف نفسه فقد عرف ربه). ومن يدرك معاني هذا التشابه يفهم أنه لا وجود لاتحاد، اندماج، حلول أو افتراق. ويفهم كذلك، أن "من يعرف" هو "هو" وأن "ما يعرف" هو "هو".  أن الذي "يري" هو "هو" و "ما يري" هو "هو". أن "الذي يصل" هو "هو" و "ما يصل إليه" هو "هو" كذلك. لا شيء مختلف عنه يمكن أن يتصل به أو يصل إليه، ولا شيء مختلف عنه يمكن أن ينفصل عنه. وكل من يستطيع أن يفهم هذا بشكل تام وكلي، سيكون في مأمن من السقوط في حبال الشرك الغليظ" (نعوذ بالله وإياكم منه).

      إن الكثير من المبتدئين الذي يعتقدون أنهم يعرفون أنفسهم وربهم، يتخيلون أنه بإمكانهم بفضل هذه المعرفة المزعومة الإفلات من عقد الوجود، ويقولون بأن "الطريق" لا يمكن رؤيتها وسلوكها إلا بواسطة "فناء الوجود" و "فناء الفناء" نفسه.  والحقيقة أنهم يبتدعون أشياء لا حقيقة لها، لأنهم لم يفهموا قول الرسول صلى الله عليه وسلم في معرفة النفس كسبيل لمعرفة الله.  ذلك أنهم أرادوا تلافي الشرك الناجم عن التناقض، فتكلموا عن "فناء الوجود" و "فناء الفناء" وكذلك عن "الهدم" و "الإتلاف". لكن هذه المصطلحات وتفسيراتها ببساطة، تسقط كلها في الشرك الخالص، لأن كل من يفكر أنه يوجد شيء مختلف عن الله، وأن هذا الشيء يمكن أن يفني فيما بعد، أو كل من يتكلم عن "فناء الفناء"، إنما يسقط في الشرك لاعتقاده بوجود شيء مختلف عن الله.

      وإذا قال أحدهم: "إنك تزعم أن معرفة النفس هي العرفان، أي معرفة الله سبحانه، في حين أن الإنسان هو مختلف عن الله، فكيف يمكن لمن هو مختلف عن الله أن يعرفه؟ ... والجواب هو أن وجود هذا الإنسان ليس بوجوده ولا وجود غيره، بل هو وجود الله، من دون اندماج وجودين في وجود واحد، ومن دون أن يدخل وجوده في الله أو يخرج منه، أو يعيش معه أو يحل وجود الله فيسكن فيه، لأن الله يرى وجوده كما هو: واحد أحد، فرد صمد.

      لا شيء يمكنه أن يكون اليوم من دون أن يكون موجودا من قبل، ولا شيء يمكنه أن يترك الوجود من خلال التدمير أو الفناء أو فناء الفناء. لأن فناء شيء يعني أنه كان موجودا في السابق. وادعاء أن شيئا ما يمكن أن يوجد من نفسه يعادل الاعتقاد بأن هذا الشيء خلق نفسه بنفسه ولا يدين بوجوده إلى الله تعالى، وهو ما يعد سخيفا في سمع ونظر المؤمنين.

      يجب أن تلاحظ بأن المعرفة التي يمتلكها من يعرف نفسه، هي المعرفة التي يمتلكها الله حول نفسه، لأن نفسه سبحانه ليست مختلفة عنه. فالرسول صلى الله عليه وسلم أراد أن يشير إلى أن "النفس" هي ذات الوجود. فالكلمات هي نفس الله (بنصب النون والفاء)، والخلق كله من نفس واحدة (خلقناكم من نفس واحدة) النساء: 1. وكل من يصل إلى هذا المستوى من معرفة النفس في داخله كما في خارجه، يكتشف أنه ليس مختلف عن وجود الله تعالى، عن كلمات الله، وأن فعله هو فعل الله، وأن نيته لمعرفة نفسه هي غاية معرفة الله تعالى.

      فأنت تضمر هذه النية، لأنك ترى أفعاله، لكن نظراتك تبحث عن رجل مختلف عن الله، بسبب أنك ترى نفسك مختلفا عنه. وهذا يعود إلى أنك لا تمتلك معرفة نفسك. لكن، إذا كان "المؤمن مرآة للمؤمن"، إذن فسيكون هذا الرجل هو نفسه بسبب عنصره أو عينه، أي بسبب نظرته. فعنصره أو عينه هو عنصر أو عين الله، نظرته هي نظرة الله من دون أي تحديد. هذا الرجل ليس "هو" وفق رؤيتك، علمك، رأيك، خيالك، وهمك أو حلمك، بل وفق علمه ورؤيته. فإذا قال: "أنا الحق" كما نطق بذلك الحلاج، فاسمع لنفسك باهتمام لأنه ليس الحلاج من نطق، بل الحق نفسه هو الذي ينطق بلسان الحلاج هذه الكلمات، وهذا ما لم يفهمه فقهاء الظاهر من موقف الحلاج الذي دخل في حال من الوجد شعر معه أن لا وجود له وأن من ينطق بلسانه هو الله وليس هو.  واضح أنك لم تصل بعد إلى نفس مستوي الصحوة الروحية التي وصلها الحلاج، وإلا لكنت فهمت كلماته وقلت ما يقوله "هو" ورأيت ما يراه "هو" أي الله.

      وخلاصة القول: أن وجود الأشياء هو من وجود الله، من غير أن يكون للأشياء وجود خاص بها أو مستقل عن الله كما يؤكد ابن عربي أكثر من مرة. فلا تدع دقة الألفاظ وغموض الكلمات تخدعك بشكل تتصور معه أن الله سبحانه قد خُلق (برفع الخاء وكسر اللام).

لقد قال أحد الصوفية الواصل: "الصوفي كائن خالد"، ولقد تكلم بهذا الشكل بعد أن كشفت له كل الأسرار وتبددت لديه كل الشكوك والأوهام المتفرقة. فهذا النوع من التفكير العميق لا يمكن أن يحصل سوى مع ذاك الذي تحولت نفسه إلى مساحة أوسع من مساحة العالمين. وبالنسبة لذاك الذي لم تصل بعد نفسه لمثل هذه العظمة، يعد مثل هذا التفكير غير لائق.  لأنه في الحقيقة، أكبر من تفكير العالمين المحسوس واللا محسوس مجتمعين.

      إن "الذي يرى" و "ما يرى"، "الذي يهب الوجود" و "الذي يوجد"، "الذي يعلم" و "ما يعلم"، "الذي يخلق" و" ما يخلق"، "الذي يدرك" و "ما يدرك"، جميعهم نفس الشيء. انه "هو" الذي يرى وجوده من خلال وجوده، فيعرفه من أجله، ويمتلكه لأجله، من دون أي تحديد من خارج شروط الإدراك العادية، والرؤية أو المعرفة. وما دام وجوده غير مشروط، فان نظرته لنفسه، وذكائه لنفسه، وعلمه بنفسه، ليسوا مشروطين بشيء كذلك، ولهذا قيل إن الله موجود بلا شرط شيء على الإطلاق بخلاف أسم الرب المشروط بوجود المربوب. 

      وفي رده على المتوهمة من أهل الظاهر، يقول ابن عربي في ختام رسالته: إذا سأل أحدهم (ويقصد فقهاء الرسوم): "كيف تنظر إذن لكل ما هو مشمئز ونجس أو مثير؟ ... فمثلا، إذا كنت تري قذارة أو جيفة، كيف لك أن تقول إنها الله؟". الجواب في هذه الحالة هو: أن الله سبحانه متعالي طاهر ولا يمكن أن يكون هذه الأشياء وفق ظاهر ما يتوهم القائلين بها. نحن نخاطب من لا يري الجيفة جيفة أو الزبالة زبالة. نحن نخاطب المبصرين وليس العميان. الذي لا يعرف نفسه يكون أعمى منذ الميلاد، وحتى ينتهي عماه الطبيعي أو المكتسب، لن يستطيع أن يفهم ما نريد قوله. حديثنا هو مع الله..  فقط مع الله وليس مع عميان البصر والبصيرة. والذي وصل الي المستوي الروحي الضروري للفهم، يعرف جيدا أن لا شيء موجود من خارج الله.  محادثتنا هي مع من يبحث بنية ثابتة صادقة عن معرفة نفسه لمعرفة الله، والذي يحفظ في قلبه طراوة الأسلوب الذي يحركه السؤال والرغبة من أجل الوصول إلى معرفة الله. خطابنا لا يتوجه إلى أولئك الذين ليست لهم نية حسنة ولا غاية صادقة. وبمعني آخر، أن من يقولون مثل هذا القول السطحي التافه، لم يفهموا السر من وراء قوله تعالى: (يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي) يونس: 31.
وفي هذا الصدد فقد أثبت العلم أن الجثة العفنة التي تبدو مقززة من حيث الظاهر هي في حقيقتها عالم من الكائنات الدقيقة النشطة التي تعمل بجد ونظام بديع مدهش غاية في الروعة والجمال عندما تشاهد تحت المجهر، فتختلف حقيقتها الباطنة عما يراه الإنسان في الظاهر.

      أما إذا اعترض أحدهم بالقول: "لقد قال الله سبحانه وتعالى: (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار)، وأنت تقول العكس، فأين هي الحقيقة؟ فالجواب يكون كالتالي: كل ما قلناه يتطابق تماما مع الكلمة الإلهية: الكلمات لا يمكن أن تدركه، أي أن لا أحد، ولا كلمات أي أحد يمكنها أن تدركه.  وإذا قلت إن فيما يوجد هناك أحد مختلف عنه، فيجب أن توافق إذن على أن هذا "الأحد" المختلف عنه يمكن أن يدركه.  لكن في هذه الكلمات العربية التي قالها الله: "لا تدركه الأبصار"، ينبه سبحانه المؤمن إلى أنه لا يوجد شيء مختلف عنه يمكن أن يراه من زاوية وجوده المتوهم. أريد أن أقول: أن أي أحد مختلف عنه لا يمكنه أن يدركه، لأن من يدركه هو فقط هو، أي الله، هو وليس أحدا سواه. فقط هو يدرك ويفهم حقيقة "طبيعته الحميمية"، لا غيره. وبذلك، يستحيل أن تدركه الأبصار من خارج وجوده. أما بالنسبة للذي يقول إن الأبصار لا تدركه لأنها مخلوقة، والمخلوق لا يمكنه إدراك اللامخلوق أو الخالد، فنحن نقول إن الذي يقول هذا القول لا يعرف نفسه بعد، لأنه لا يوجد شيء بالمطلق، لا أبصار ولا أي شيء آخر يمكن أن يوجد من خارج الله، وعليه، فهو وحده سبحانه، يفهم وجوده الخاص من غير أن يوجد هذا الفهم بشكل من الأشكال. وبمعنى آخر، إن الله لا يوجد ما وراء الطبيعة كما كانت تقول الميتافيزيقا قديما، بل هو الطبيعة نفسها بكل ما حوت من ظاهر وباطن. وبهذا فقد عرفت ربي لربي من غير غموض ولا شك.

      وإذا سأل أحدهم: "أنت تأكد وجود الله وتنفي وجود أي شيء آخر غير الله: فما هي إذن الأشياء التي نراها؟ "الجواب هو: هذه الأحاديث موجهة إلى أولئك الذين لا يرون شيئا غير الله. أما بالنسبة للذين يرون أشياء مع الله أو من خارجه، فليس لدينا شيء معهم، لا سؤال ولا جواب، لأن الحقيقة هي أنهم حتى ولو اعتقدوا شيئا آخر، فلا يرون سوى الله في كل ما يبصرون لكنهم لا يشعرون.

      وينهي ابن عربي رسالته بما مفاده: أن الذي لا يعرف نفسه لا يمكنه أن يعرف الله، فكل إناء يصدح بما فيه. لقد توسعنا كثيرا في هذا الموضوع، والذهاب إلى أبعد مما ذهبنا إليه سيكون غير مفيد، لأن من لم يبصر فلن يبصر بعد هذا برغم كل جهدنا. لن يفهم ولن يستطيع إدراك الحقيقة. ومن يستطيع الإبصار، يرى، يفهم ويصل إلى الحقيقة. وبالنسبة للذي وصل من دون أن يعرف ذلك، فتكفي إشارة صغيرة لكي يجد نوره الطريق الصحيح، فيسلكه بكل طاقة حتى نهايته، بفضل نور من الله.

      وبذلك يكون ابن عربي قد نجح في فك بعض أسرار معرفة الله تعالى، انطلاقا من معرفة الانسان لنفسه، باعتباره العالم الصغير الذي يحوي العالم الأكبر، أو بالتعبير الذي يرمز الي لعبة المرايا: (أنت مقلوبه وهو قلبك)، وهذا هو معنى أنك ظاهره وهو باطنك.. لأن الله كان ظاهرا قبل الخلق، فلما خلق الخلق أصبح باطنا من دون غياب.. وهذا يعني أنه موجود معنا أينما كنا، بل أقرب إلينا من حبل الوريد.

يتبـــع ...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق