بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 31 يناير 2022

ماهيـــة المـــادة

 
(هو الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا)

يستفاد من الآية 2 من سورة الملك أعلاه، أن الله تعالى خلق الموت قبل الحياة، وهذا يعني أن الحياة انبتقت من مادة مّيتة كانت الحياة احتمالا باطنا فيها، وما يؤكد هذه الحقيقة الدينية والعلمية معا قوله تعالى: (يخرج الحي من الميّت ويخرج الميّت من الحي ويحيي الأرض بعد موتها) الروم: 19. والسؤال الذي يطرح بالمناسبة هو: هل المادة هي أصل الحياة؟ وإذا كانت كذلك فما طبيعتها ومصدرها؟ وهل هي محدثة أم أزليّة؟ .../...
لعله من المفيد التعرّف علميّا على طبيعة المادة التي خلق منها الله تعالى الكون والإنسان، ما دام الجدل لا يزال مفتوحا بين المؤمنين  الذين يعتقدون أن الكون محدث ليس بقديم، له بداية ونهاية، وأنه مخلوق من قبل الله من جهة،  والملحدين الذي يعتبرون أن المادة موجود أزلي، وأن الكون ليس مخلوقا من قبل الله، بل تكوّن نتيجة صدفة.

كما أن هناك اعتقاد سائد لدى فقهاء القشور وفق ما هو مدوّن في التراث، بأن وجود المادة هو وجود من خارج الله خلق منها الكون والإنسان، وهو اعتقاد شرك بالمفهوم الغليظ كما يقول محيي الدين ابن عربي، لأنه يفترض وجود شيئ مع الله أو من خارجه، الأمر الذي يطرح سؤال من أوجده؟ وما مصدره؟.

والحقيقة أنه وإلى غاية القرن العشرين، كان الاعتقاد السائد لدى الفلاسفة أن الكون كان موجودا في كل الأزمان، وأنه أزلي ولا نهائي لعدم وجود لحظة لبدايته ولا تعرف نهايته، وهي النظرية التي استمد أساسها الفيلسوف "إيمانويل كانت" من الفلسفة الإغريقية القديمة، ودافع عنها من بعده الفلاسفة الماديون من أمثال "كارل ماركس" و "هيجل" و"فريدريك أنجلز" الذين يعتبون المادة أصل كل خلق، وهي نظرية تبدو صحيحة من حيث الظاهر، لكن الباطن يدحض هذا القول جملة وتفصيلا. 

لقد كانت فكرة أزلية الكون اللامتناهي تتلاءم تماما مع عقيدة الإلحاد، بعكس فكرة أن للكون بداية تقتضي أنه مخلوق، وحركة تدلّ على وجود نظام بديع يضبطه، ما يتطلب الإقرار بوجود خالق ومدبر له هو الله. لذلك كان من المريح جداً أن يتم الترويج لمقولة أن "الكون موجود سرمدي" حتى من دون وجود قاعدة علمية ولو ضعيفة تدعم هذه المقولة.

حتى العالم الفزيائي البريطاني ستيفن هوكينغ كان يعتقد بأن الكون ليس مخلوقا وأنه موجود أزلي ولا نهائي، إلى أن اكتشف نظرياته الشهيرة التي غيرت مجرى العلوم وأثرت في قناعاته بشكل ملموس، ونقصد بذلك نظرية "الانفجار العظيم" ونظرية "الثقوب السوداء" ونظرية "التاريخ الموجز للزمن". 

ذلك، أنه مع بروز نظرية "الانفجار العظيم" تغيّرت كل المُسلّمات القديمة، وفقد الماديون والملحدون حججهم الوهمية، فسقطت نظرية مادية الكون وأوّليته ولا نهائيته، ووجدوا أنفسهم أمام معضلة استحالة تكذيب ما أثبته العلم بالمشاهدة والتجربة، وأصبح نموذج الانفجار العظيم هو الوحيد القادر على تعليل وجود الكون وتمدده. ما يعني أن الكون ليس أزلي ولا نهائي كما كان يُعتقد، وأن المادة لم تكن موجودة ولا هي سرمدية، بل تكونت نتيجة انفجار غاز الهيدروجين وتحوّله إلى هيليوم، ومن ذلك وُجدت المادة التي تشكل منها الكون في لحظة معينة حيث بدأ بالتمدد، وهو ما يؤكده تعالى بقوله: (والفجر * وليالي عشر * والشفع والوثر) الفجر: 1 – 2 - 3. 

فالفجر هو لحظة بزوغ النور الأول بعد الانفجار العظيم الذي تشكل منه الكون حيث ساد الظلام لعشر ليلي وفق حساب الله العلي العظام، والتشكل هنا هو غير الخلق، بل دوران الكواكب والأجرام حول نفسها إلى أن خمدت حرارتها وتلاشى الظلام الناجم عن الدخان الكثيف الذي كانت تصدره بفعل اشتعالها، وهو ما يؤكده قوله تعالى: (ثم استوى إلى السماء وهي دخال فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين) فصلت: 11.

أما الشفع والوثر فيعرفان علميّا بالرمز (H2O)، في إشارة إلى درّة الهيدروجين التي كانت في أصل الانفجار (الوثر)، ودرّتا الأكسيجين (الشفع) الذي سرّع عملية الاحتراق ليتحوّل الهيدروجين بعد الانفجار إلى غاز الهيليوم كما هو مثبت علميا.

وقد استنتج علماء الرياضيات مما حدث معادلة بسيطة تقوم على الرقمين (1 و 0).. فالواحد يرمز إلى الكائن الأعلى الذي هو الله، وصفر يرمز إلى "العدم" بالتعبير الفلسفي والعلمي، أو "اللا شيء" بالتعبير القرآني. ومن هذين الرقمين (الواحد والصفر) تطورت لغة الكومبيوتر وحصلت ثورة معلوماتية غير مسبوقة في تاريخ البشرية غيّرت من مفاهيم الناس وأثرت بشكل كبير في ثقافاتهم وسلوكهم أيضا.

أما دينيا، فالواحد يرمز إلى مبدأ وحدة الخلق، وهو ما يعبر عنه الصوفية بالواحد الكثير والكثير الواحد، لاستحالة وجود رقم لا يضاف إليه الواحد. فالرقم 9999 مثلا، عبارة عن أعداد مضاف إليها الواحد في كل مرة، وإذا أضيف إلى هذا العدد رقم واحد مرة أخرى فسيصبح 10000، أي واحد ولا شيء معه، والعدم أو (اللا شيء) كما هو معلوم، يعني اللاوجود بالنسبة لنا فيما هو موجود بالنسبة لله، منه يخلق ما يشاء بأمر "كن فيكون". يقول تعالى في هذا الشأن: (ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا) المجادلة: 7. ويقول أيضا في شأن وجود الإنسان (هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا) الإنسان: 1. و"اللا شيء" بالمفهوم القرآني يعني "العدم" بالمفهوم الفلسفي كما أسلفنا، أو "الهباء" بالمفهوم الصوفي حيث السكون السرمدي.

وللرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم حديث جميل وبليغ يوضّح الصورة بشكل جليّ، ذلك أنه حين سأله أصحابه: "كيف كان ربنا قبل الخلق؟" قال مستعملا المصطلح القرآني: "كان ولا شيء معه".  وجوابا عن سؤال: "أين كان؟" قال مستعملا ولأول مرة مصطلحا جديدا اعتمده الصوفية بعده ومفاده: "كان في هباء ليس فوقه هواء وليس تحته هواء". وحين سئل: "كيف هو الآن" قال: "هو الآن كما كان لا يزال". ما يعني أن الله تعالى قبل الخلق كان ظاهرا لنفسه في هباء لا يوجد فوقه هواء ولا تحته هواء بسبب انعدام حركة النجوم والكواكب والأجرام قبل الخلق وانتفاء الزمن الكوني الذي يتوّلد من الحركة. وما تغيّر في الحقيقة هو أن الله قبل الخلق كان ظاهرا لنفسه، وبعد الخلق أصبح محجوبا، لكنه كما كان لا يزال، ولا شيء تغيّر في الوجود ما دام الله هو وحده الواجب الوجود من دون شرط شيء على الإطلاق والكثرة وهم.

لكن، ولفهم حديث الرسول صلى الله عليه وسلم بالعمق المطلوب يتوجب علينا فهم طبيعة المادة من المنظور العلمي الحديث.

فبعد اكتشاف نظرية "الانفجار العظيم"، وضع العالم الفيزياء الفلكي الأمريكي "هيوج روس" نظريته الافتراضية التي تقول بوجود خالق للكون، وأن هذا الخالق هو فوق كل الأبعاد الفيزيائية. يقول "روس" في هذا الصدد: " بالتعريف، الزمن هو البعد الذي تحدث فيه ظواهر السبب والتأثير، وأنه بدون زمن لا يوجد سبب وتأثير، وإذا كانت بداية الكون كما تقول نظرية الفضاء والزمن، عندئذ يكون سبب الكون هو كينونة عملت في بعد زمني مستقل تماماً ويسبق وجود هذا البعد الزمني للكون. وهذا يخبرنا بوجود خالق متعال وخلف نطاق الخبرة والمعرفة، يعمل من خلف الحدود البعيدة للكون، كما يخبرنا أن الله ليس هو الكون ذاته ولا هو محتوى ضمن الكون". هذا التعريف يقودنا للاستنتاج أن الإنسان الكامل ليس على صورة الله كما يزعم بعض الباطنية. وأن الله ليس الطبيعة كما يقول الفيلسوف فولتير.

هذه النظرية الجديدة أكدت أيضا بطلان نظرية "وحدة الوجود" التي قال بها بعض الفلاسفة وبعض المتطرفين من الصوفية كابن سبعين وابن الفارض والتلمساني الذين تأثروا بالفلسفة الأفلاطونية المحدثة وفلسفة الرواقيين، والقائلة بأن الوجود كله من عرشه إلى فرشه هو الله، فيما الله هو الأول والآخر والظاهر والباطن، والواجب الوجود بشرط لا شيء على الاطلاق كما سبق القول. أمّا الكون والمخلوقات فلها بداية ونهاية في الزمان والمكان وليست جزءا من الله ولا علاقة لها بذاته، بل هي مجرد رؤية وتجلي للحق في الخلق، أوجدها من العدم وفق ما تؤكد ذلك معادلة (1 – 0) التي غيّرت تاريخ العلوم ووجه العالم إلى الأبد. 

وعلى ضوء العديد من الأبحاث والحسابات الفيزيائية المعقدة التي أقيمت على هامش نظرية الانفجار العظيم، تأكد العلماء اليوم بخطأ النموذج الكوانتي الذي يزعم أن "العالم خُلق بالصدفة من دون خالق"، لأن جسيمات المادة لا يمكن أن توجد من لا شيء، ذلك أن ما حدث ولا يزال يحدث باستمرار، هو أن "هناك طاقة مختفية تصبح فجأة مادة، وكلما اختفت فجأة تلك الطاقة تعود طاقة ثانية فتتحول إلى مادة، وهكذا...". ما يعني أن الطاقة هي المولدة للمادة، وبالتالي، لا يوجد شرط "للوجود بالصدفة" كما هو مطلوب وفق النموذج المادي الكوانتي. ومعلوم أن الطاقة هي وليدة النور، إذ لا تأتي من عدم لأنها تمثل أصل الخلق، أي الرقم 1. ومعلوم أن اسم الله الأعظم هو النور لقوله تعالى في الآية 35 من سورة النور (الله نور السماوات والأرض)، وهي من الآيات المحكمات قولا واحدا.

هذا الخلق الدائم المستمر والمتجدد يؤكده تعالى بقوله، أنه (كل يوم في شأن)، و (كل يوم في خلق جديد)، من نفسه بنفسه ومع نفسه ولنفسه. لأنه تعالى وكما سمى نفسه هو النور بعينه ومصدر كل الأنوار باختلاف درجاتها وقوّاتها، ولا يوجد في الوجود شيء يشبه النور على الإطلاق كما يقول تعالى في محكم التنزيل: (ليس كمثله شيء) الشورى: 11. والنور معنا أينما كنا كما يقول تعالى (وهو معكم أينما كنتم) الحديد: 4. والنور هو الطاقة التي يتحكم بها الله فينا لقوله تعالى (ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) ق: 16... وغيرها كثير من الآيات التي تؤكد أن النور هو ذات الله. ومعلوم أن النور جوهر بسيط غير مُركّب (صمد) أي موجات ضوئية لا مادية، لا يمكن لمخلوق انكار وجوده، فبه نرى الأشياء من دون أن نستطيع رؤية النور نفسه، وهو ما يؤكده تعالى بقوله: (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير) الأنعام: 103.

وبالتالي، فبالنسبة للجسد المادي، أو "القالب" الذي يسميه القرآن "المستودع" لقوله تعالى: (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين) هود: 6. والمستقر هو الموطن الأرضي المقدر لها العيش فيه.. يؤكد العلماء اليوم حقيقة بديهية لا لبس فيها، ومفادها، أن كل المعلومات التي توجد في العالم الخارجي الذي يحيط بنا تصلنا عن طريق الحواس الخمس، إذ بفضلها نتعرًف على الأشكال والأجسام والمظاهر والألوان والروائح والأشياء.

وقد أوضحت البحوث العلمية المتقدمة سرّا هامّا حول طبيعة المادة مُؤداه، أن الإنسان عبارة عن خيال، وأن الكون عبارة عن ظل، وكل ما يبدو لنا ليس في الحقيقة كما نراه، بل لا يعدو عن كونه مجرد سراب.

ذلك، أن الرؤية هي عبارة عن حُزمة من الضوء (فوتون) كما سبق القول، تنتقل على شكل موجات تتركّز في العين عن طريق التيارات الكهربائية التي تصل إلى الدماغ فيُركّبها في الذاكرة على شكل صور يتعرف عليها الإنسان فتصبح مرجعا لقياس ما يشبهها. وبهذا المعنى، فالرؤية هي التأثيرات التي خلقتها الإشارات الكهربائية في الدماغ. هذا علما أن الدماغ يكمن في الجمجمة التي هي عبارة عن وعاء دامس يعمه الظلام، والنور وحده هو الذي ينفذ إليه فيُشغّله، تماما كما تفعل الكهرباء بالنسبة لذاكرة الكومبيوتر المخزنة في القرص الصلب.

نفس الشيء يقال عن بقية الحواس التي تدرك الأشياء عن طريق الإشارات الكهربائية أيضا، سواء تعلق الأمر بالبصر أو السمع أو اللمس أو الشم، وبذلك، لا يدرك الإنسان إلا نسخا خارجية عن الأشياء التي يلحظها دون أن تكون موجودة كحقيقة في الدماغ.

وبهذا المعنى، فالمادة ليست في حقيقة الأمر إلا تأويلات للإشارات الكهربائية كما يفهمها الدماغ. فمثلا عند مشاهدة الإنسان لعصفور، يتحول هذا المخلوق إلى إشارات تنفذ إلى الدماغ فتُكوّن نسخة منه على شكل صورة فوتوغرافية ثابتة ومتحركة Statique et Dynamique. ونفس الشيء يقال بالنسبة للسمع، لأنه إذا انقطع الكلام أو صوت الموسيقى مثلا انعدم السمع. وقس على ذلك رؤية النجوم التي تشاهد داخل مركز الرؤية في دماغ الإنسان وليس في السماء كما يبدو الأمر من حيث الظاهر، ودليل ذلك أن هناك نجوم انفجرت وانقرضت منذ ملايين السنين لكننا لا نزال نراها في السماء لأن ضوؤها لم يصل إلينا إلا حديثا. وعلى هذا الأساس فالأجسام كلها عبارة عن صور يرسمها الدماغ، والعالم لا يوجد إلا بالنسبة لمن يشاهده، والأشياء التي لا نراها لا وجود لها بالنسبة للدماغ. وهذا يعني أن ما نعيشه في الحقيقة هو عالم الحواس في المخ بفضل ملكة الخيال التي وهبنا الله إياها. وبالتالي، فنحن نُصدّق بوجود الأشياء لأننا نراها بحواسنا ونترجمها إلى صور وأفكار نُخزّنها كحقائق في ذاكرتنا، ومن الخطأ الاعتقاد بوجودها خارج الدماغ، وهنا الغرابة وقمة العجب.

فعلى سبيل المثال عندما نبعث ما هو مُخزّن في الحاسوب (الكومبيوتر) إلى الدماغ، سيرى الدماغ على الشاشة ما في ذاكرة الحاسوب بالرغم من أن صور الحاسوب ليست حقيقية بل مجرد صور مُبرمجة.

والدليل على أن كل ما نرى ونسمع ونلمس ونشم لا حقيقة له، هو ما نعيشه في الأحلام، حيث نعتقد ونحن نيام أن كل ما نعيشه حقيقة، وعندما نستيقظ لا نجد مقابلا له على أرض الواقع باستثناء ما علق في الدماغ من صور. ونفس الشيء يقال بالنسبة لليقظة، لذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم (الناس نيام فإذا ماتوا استفاقوا)، وأدركوا حينها أنهم كانوا يعيشون في الحياة الدنيا حلما عابرا، وأن بصرهم بعد الموت أصبح حديد كما يقول تعالى بالنسبة للكافرين المكذبين بالبعث، لأنه بعد الموت سوف يرون الأشياء عين اليقين على حقيقتها، لا كما كانت تبدو لهم في الحياة الدنيا لقوله تعالى: (لقد كنت في غفلة عن هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد) ق: 22. 

هذا الكلام يعني أن الحكم المسبٌق الذي تكوّن لدينا في الدماغ بفعل ما ترسّب فيه من معلومات هو الذي يجعلنا نعتقد أن الحياة الدنيا حقيقية، غير أنه عند الموت وانكشاف عالم الغيب، ندرك أن الحقيقة شيء آخر، وأن ما كنا نراه في الدار الأولى هو مجرد وهم وسراب.

والسؤال هو: - إذا كان الدماغ البشري عبارة عن مدركات تسببها الحواس، فمن هو الموجود العاقل المفكر إذن؟

الجواب هو: الروح.. ذلك أن الحقيقة لا تدرك إلا بالروح ولا وجود للمادة بالمطلق. المادة عبارة عن وهم من نسج الخيال، أي أن الخيال هو السر وراء المادة. وكل الحقائق الموضوعية توجد في عالم الحس والخيال، والروح هي المحرك الأساس للمادة في طفراتها المُتحوّلة. لذلك يقول العلماء "إن الحياة عبارة عن سلسلة من التفاعلات الكيميائية"، فما يكون صلبا يتحول إلى غبار أو سائل، والغبار أو السائل يتحول إلى رماد أو بخار، ثم يعود إلى الحياة في دورة جديدة، دون أن يعني ذلك أن المادة تفنى، بمعنى أنها تخرج من الوجود إلى العدم. فالمادة عندما توضع في يد الكيميائي تتحول إلى ما لا نهاية لكنها لا تفنى أبدا. 

إذا فهمنا هذا علمنا أن عالم المادة هي الحواس المعطاة لأرواحنا وليس للمادة وجود مستقل عن الروح. لأن هناك قدرة أخرى خارقة هي التي خلقت لدينا الإدراك الوهمي بوجود المادة. تماما كصور التلفزيون عند البث، إذا انقطع البث لم يعد للمادة (الصور) من وجود حقيقي. وكذلك الحياة والموت. أي أن الموت هو عبارة عن انقطاع بث صور العالم الخارجي للدماغ، وإدراك الميت أنه لم يكن لتلك الصور من وجود حقيقي أثناء مرحلة الحياة، وهذا هو معنى الآية 22 من سورة ق التي استشهدنا بها أعلاه، وهو ما تؤكده أيضا الآية 99 من سورة الحجر التي خاطب بها الله تعالى المؤمنين بالقول: (واعبد ربك حتى يأتيك اليقين)، أي حتى ترى الحقيقة عارية ليس بينك وبينها حجاب بعد الموت، فتدرك أن ما كنت تراه في الحياة الدنيا هو مجرد زبد كزبد موج البحر سرعان ما تتلاشى فقاعاته وتندثر عندما تصطدم بحبات رمل الشاطئ.

من هنا نفهم بوضوح أن الله تعالى هو الذي خلق الحياة والموت، وهو الواجد الوحيد لكل شيء، وكل ما نراه من أجسام هي عبارة عن خيال، أو صور (Photocopies) للأعيان الثابتة عند الله، أي (الأصول التي اخذت منها الصور) حسب اللغة الصوفية، فلا وجود لمادة مع الله أو من خارجه كما قال بذلك فقهاء القشور قديما، هناك الذات العلية فقط لا غير، لأن الله هو عين الوجود، ولا وجود لموجود مع أو من خارج واجب الوجود، وهذا هو المعنى الحقيقي للتوحيد، والكثرة وهم، ومن يعتقد غير ذلك يسقط في الشرك بمفهومه الغليظ وفق ما خلص إليه الشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي في العديد من مقولاته.

الله أقرب إلينا من حبل الوريد، وهو كل يوم في شأن، وكل يوم في خلق جديد كما يقول عن نفسه، وعندما يقطع عنا سر الحياة (الروح التي هي عبارة عن طاقة كهربائية مصدرها النور) نموت، تماما كما تقطع محطة التلفاز البث عن الجمهور فينتهي العرض، أو تقطع شركة الاتصالات خط الأنترنيت الذي يمكننا من الاتصال مع بعض عن بعد ورؤية المواقع وعرض الفيديوهات في الفضاء السيبراني. لذلك قال تعالى، (لكل أمة أجل) الأعراف: 34 وقال أيضا (لكل أجل كتاب) الرعد: 38. والأجل الذي تحدث عنه القرآن هو البعد الزمني الرابع الذي قالت به النظرية النسبية الخاصة لأينشتين، لأنه عندما ينقضي الأجل بمفهوم الزمن الدنيوي النسبي المحكوم بدوران الأرض حول نفسها وحول الشمس، تبدأ مرحلة جديدة لمصير النفس في عالم الملكوت الأعلى، حيث ينتفي البعد الزمني الأرضي ليحل محله البعد الزمني القدساني في المدى اللامتناهي المسمى في القرآن بالخلود حينا والأبدية أحيانا، مع ما بين المصطلحين من اختلاف في المعنى سنأتي على شرحه عند الحديث عن البعث.

وهذا هو معنى سؤاله تعالى للكافرين يوم البعث: (قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين * قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسأل العادّين * قال إن لّبثتم إلا قليلا لو أنكم تعلمون) المؤمنون: 111 – 113 – 114. هنا اختلف حسابهم بين التقويم الدنيوي والتقويم الأخروي، بعد أن وجدوا أنفسهم في بعد زمني آخر مختلف كلّيا عن البعد الزمني الدنيا، بسبب أن الزمن فيه لا يقاس بالسنين الأرضية كما عاهدوها، فأدركوا أن مكوثهم قبل ذلك لم يدم سوى يوم أو بعض يوم، فصحّح لهم الله تعالى هذا الاعتقاد بقوله: (إن لبثتم إلا قليلا لو أنكم تعلمون) نفس الآية. والقليل هنا يعني ساعة أو أقل منها، وتتضمن زمن الحياة في الدنيا مضاف إليه زمن الموت في انتظار البعث، لقوله تعالى في الآية 55 من سورة الروم: (ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة). وقوله أيضا في الآية 35 من سورة الأحقاق: (كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار). وهذا هو الفرق بين الزمن الأرضي والزمن القدساني الذي لا يدرك الإنسان مداه إلا بعد البعث. وتعتبر هذه الآيات دليل قاطع على عدم وجود عذاب القبر، لأنه لو كان كذلك لأدركه الكافرون المكذبون بالدين، ولشعروا بمداه ووطأته، ما دام ساعة من العذاب تشعر الإنسان وكأنها دهرا. وما يُؤكد هذه الحقيقة قول الكافرين يوم البعث: (قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا) يس: 52. والمرقد هو مكان النوم العميق الهادئ حيث يشعر الإنسان بالراحة والاطمئنان. فعن أي عذاب قبر يتحدث المدّعون الذين يُعرضون عن آيات الله البيّنات ويفترون عليه الكذب وهم يعلمون. خصوصا وأن الله العادل، حاشاه تعالى أن يُعذب عبدا قبل محاسبته يوم الدين كما هو مبيّن في التنزيل.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق