بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 1 فبراير 2022

ماهيـــة الدمـــاغ

 

(وما يذَّكَّرُ إلاّ أولو الألباب)

 البقرة: 268

نماذج علم الأعصاب الحديثة تعتر الدماغ هو المركز الفعلي والحقيقي للعقل، وتتعامل معه على أنه كمبيوتر بيولوجي، بالرغم من أنه يختلف اختلافًا كبيرًا في الآلية عن الكمبيوتر الإلكتروني، ولكنه مشابه له إلى حد ما في الوظيفة، بمعنى أنه يكتسب المعلومات من العالم المحيط ويخزنها ويعالجها بعدة طرق بين البسيطة والمعقدة. لكن الجديد في الأمر هو ما أحدثته اكتشافات علماء بيولوجيا الدماغ الأخيرة من ثورة معرفية غير مسبوقة كشفت عن السر الحقيقي وراء أصل المادة كما يراها الدماغ.../...

يقول البروفيسور سيرغي سافلييف المتخصص في هذا المجال بمعهد بحوث بيولوجيا الأعصاب بموسكو، أنه وقبل المسيح عليه السلام بـ ٣٠٠٠ سنة، وفق ما تم اكتشافه من كتابات على أوراق البردي، كان الفراعنة يهتمون بدراسة الدماغ ويسجلون أقسامه ويصفون السحايا ويقيسون بنيته ويدرسون أسس التفاعل بين أجزائه. وخلال قرون طويلة بعد ذلك، اهتم العلماء بالبحث في كيفية تشكل الدماغ البشري وتطوره وآليات عمله وكيف يتخذ هذه القرارات أو تلك ولماذا يقوم الإنسان بهذا الخيار أو ذاك والدور الذي يلعبه الدماغ في كل ذلك؟

ووفق آخر ما تم التوصل إليه في هذا المجال، فإن الدماغ يتكون من قطاعات مسؤولة عن غرائزنا وأخرى تمنحنا القدرة على التقييد الذاتي أو الاجتماعي. أي أن هناك منظومتين: المنظومة الحوفية التي تتضمن كل أجزاء الدماغ حيث موطن الغرائز الفطرية والشعور والذاكرة ومناطق التحكم اللاإرادي الخارجة عن سلطة الإنسان من جهة، ومنظومة شبه مستقلة بمثابة شبكة للتفاعلات الاجتماعية والمعارف الذاتية والخبرات الفردية. هذه المنظومة الثانية تكمن في غشاء الدماغ الأمامي على مستوى الجبهة تحديدا وتتحكم في الغرائز الكامنة في المنظومة الحوفية بالإشارات الكهرومغناطيسية. وقد خلصت البحوث المخبرية إلى أن القرارات التي تتخذ على مستوى القشرة الدماغية الأمامية تعمل غالبا بشكل متعارض مع موطن الغرائز في المنظومة الحوفية، وهي التي تساعد الشخص على التمييز بين الخير والشر والصواب والخطأ والحق والباطل واتخاذ هذا القرار أو ذاك.

وبالنتيجة، يؤكد فريق علماء بيولوجيا الأعصاب الروسي، أن دماغنا يتشكل فطريا، ونحن لا نستطيع التأثير على الطريقة التي بني بها، وهو ما يؤكده تعالى بقوله (فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون) الروم: ٣٠. (لاحظ التماثل في الآية بين "الوجه" بالتعبير المجازي و "الفطرة" التي تعني الغرائز الطبيعية لما سيأتي شرحه لاحقا).

وقد مر تطور الدماغ عبر مراحل طويلة قدرت بملايين السنين (٢٠ مليون سنة) قبل أن تظهر لدى الإنسان آليات مستقلة للاصطفاء الدماغي، حيث كان لا بد من ظهور عوامل عديدة في آن واحد: - أولا: ظهور خصائص فردية في السلوك مرتبطة بتكوين بعض من أجزاء الدماغ وحجمها – ثانيا: إظهار الفردية في السلوك لدى بعض الناس كان من المفروض أن يكون مهما للغاية للبقاء على قيد الحياة. وقد حدث هذا على ما يبدو مع نهاية ما يسمى بـ "عصر الجنة"، أي إبان ظهور النسخة الأولى لما أصبح يعرف علميا بـ "الهومو سابينس" أو "الإنسان العاقل"، أي آدم الذي اصطفاه الله من بين البشر البدائيين المتوحشين وجعله يخلفهم في الأرض، وهنا بدأ التحول نحو تنازع البقاء اجتماعيا، بحيث تحولت حياة الإنسان من فردية كما كان الحال لدى الإنسان البدائي قبل آدم (الأنا)، إلى حياة اجتماعية منظمة تطورت من أسرة صغيرة إلى عائلة فقبائل وعشائر وشعوب مختلفة كما هو عليه الحال اليوم (نحن). وتعتبر الغرائز هي الأساس الذي مهد لهذا التنظيم، لأنه بظهور القشرة الدماغية الأمامية لدى الإنسان العاقل، تحول إلى كائن اجتماعي ينازع من أجل البقاء لتوفير الطعام ضمانا للعيش، والجنس للحفاظ على النوع بالتكاثر، والأمن لضمان سلامة المجموعة واستمرارها، ما يعني أن غشاء الدماغ الأمامي هو المسؤول عن توجيه الغرائز الكامنة في الدماغ والتحكم فيها.

وبالتالي، فإن النزاعات السياسية والعرقية والدينية التي نراها اليوم خير دليل على التطور المستمر للدماغ فيما أصبح يعرف علميا بـ "الاصطفاء الصناعي"، بحيث يبرز بشكل جلي لدى الناس الذين يتميزون بقشرة دماغية أمامية متطورة تلائم الحياة في بنية اجتماعية معينة، فيبرزون بين الآخرين. أما الذين لا يتوافقون مع هذه البنية الاجتماعية المعينة فتتم إبادتهم، لأن هدف هذه الظاهرة التي عرفتها البشرية خلال مختلف مراحل تطورها هو "الاصطفاء الصناعي" الذي يكون هدفه النهائي بناء مجتمع خال من النزاعات والسلوكيات الإجرامية ويتميز بالتسامح العرقي والديني.

لكن المشكلة تطرح على مستوى من تختاره المجموعة لقيادتها وكيف تختاره، لأنه في غياب آلية الاختيار الجماعي العقلاني نشأت النزعة الشمولية الإيديولوجية والدينية والسياسية لبناء المجتمع وفق تصور خاص لا مجال فيه لحرية الفكر وآليات تجنب الخلاف من خلال تنظيم الاختلاف، وبسبب ذلك برزت ظاهرة عدم قبول الناس إلا وفق انتماءاتهم العرقية أو الدينية، ما فتح الباب على مصراعيه لحروب الإبادة التي عرفتها الإنسانية باسم الدين حينا والإيديولوجيا أحيانا، حدث هذا منذ القدم ولا يزال يحدث اليوم برغم تطور المجتمعات وتبني الدول لشعارات من قبيل حقوق الإنسان وحوار الحضارات. هذه الظاهرة بحد ذاتها توضح أن الإنسان لا يزال يعيش بدايات التطور الأولى ولمّا ينضج بعد ليصبح في مستوى "الإنسان الكامل".

وبقراءة خطية للتاريخ الديني المسيحي والإسلامي على سبيل المثال، نكتشف أنه في العصور الوسطى حدثت إبادات بحق كل من رفضوا دفع الإتاوات للكنيسة فاتهموا بالهرطقة، ونفس الشيء حصل زمن الخلافة المسماة بـ "الراشدة" في حق من رفضوا دفع الزكاة فيما أصبح يعرف بـ "حروب الردة". ويمكن القول إن التطهير الديني الذي عرفته أوروبا في عصر الظلام هو ذاته الذي عرفه العام الإسلامي زمن الفتوحات وحكم الإمبراطوريات الأسرية من الأموية إلى العثمانية، مع فارق لافت، يكمن في أن التطهير الديني الذي قامت به الكنيسة والإقطاع في أوروبا كان أشد ضراوة ووحشية من الذي قام به تحالف الإقطاع والفقهاء في العالم الإسلامي. وبالنتيجة، أدى هذا التاريخ الأسود إلى تحول المجتمعات الأوروبية اليوم إلى مجتمعات عقلانية وعلمانية من دون أن يعني ذلك الكفر بالدين الذي تحول إلى مسألة شخصية بين العبد وربه، فيما لا يزال العالم الإسلامي يتوق لإعادة إحياء نظام الخلافة الدينية برغم كل ما حصل، وبرغم أن هذا النظام لا علاقة له بالدين من قريب أو بعيد كما أوضحنا بتفصيل في موضوع "الدين و الدولة" المنشور على هذا الموقع، وأكدته تجارب اليوم من خلال ظاهرة الجماعات الإسلامية المتطرفة كالقاعدة وداعش وأخواتهما باختلاف الأسماء والمسميات، والتي شوّهت الإسلام وسمعة المسلمين في العالمين.

ونجاح هذه الجماعات المتطرفة في استقطاب الأتباع يعود وفق علم بيولوجيا الأعصاب إلى اللعب على الغرائز الفطرية لتوفير طاقة الدماغ إلى أقصى الحدود، أي تعطيل منظومة القشرة الدماغية عن العمل بحيث لا تعود تتحكم في اختيارات الإنسان العقلانية. وذلك من خلال وعد المنتسبين بالسعادة الأبدية في الجنة وما ينتظرهم فيها من طيب عيش. أي العزف على الوثر الحساس للشباب، والمتمثل في إشباع الغرائز بالوعود الوهمية من طعام (الحصول في الجنة على ما لذ وطاب دون جهد وعناء)، وجنس بلا حدود ولا قيود (70 حورية لكل شهيد)، والعيش في أمن وسلام دون خوف أبد الآبدين.. وهذه هي الغرائز التي حكمت تطور التجربة البشرية منذ أول الخليقة وإلى أن يرث الله الأرض وما عليها. وبالتالي، فمثل هذه الوعود التي تلقى قبولا لدى المحرومين والمظلومين من الشباب عموما، تولد لديهم شعورا بالرغبة في الانتقام، والاعتقاد الخاطئ بأن استشهادهم ضد الكفار والمنافقين حتى من بني جلدتهم، سيضمن لهم الانتقال السريع ودون حساب للعيش في النعيم الدائم المقيم بلا شقاء أو معاناة نتيجة ما يفرزه الدماغ من مادة "الأندورفين" التي تعطي للإنسان شعورا بالسعادة والارتياح، وهي مادة مخدرة طبيعية يفرزها الدماغ لدى الإنسان عند ممارسته لطقوس دينية معينة يشعر بعدها بالرضا والطمأنينة والارتياح.

ولعل أهم ما وصل إليه هذا العلم من نتائج، تكمن في أنه أصبح بمقدور علماء بيولوجيا الدماغ دراسة شخصية الإنسان بشكل دقيق ووضع توصيف "بروفايل" علمي لها يحدد طبيعتها وخصائصها وميولاتها وقدراتها. ومن شأن مثل هذا النوع من الدراسات، إن سُمح بها، أن تساعد المجتمعات على اختيار حكامها وممثليها، بل وبإمكانها أن تضع لوائح لكبار الأدمغة والعباقرة والأذكياء في المجتمع حسب الاختصاصات، الأمر الذي سيساعدها على انتقاء أفضل القيادات وأحسن العقول المنتجة القادرة على حل معضلاتها المستعصية.

لكن المشكلة تكمن في أن الماسكين بالسلطة ومن ورائهم بيوتات المال ومجمعات الصناعات العسكرية ومجتمعات المخابرات والشركات العابرة للقارات اليوم، لن تسمح بمثل هذه الدراسات، لأنا ستظهر عدم نجاعة الأنظمة المسماة بالديمقراطية في الغرب التي لعبت على غرائز الناس ووعدتهم بالرفاهية فحوّلتهم من حيث لا يشعرون إلى زبائن لمنتجاتها الاستهلاكية باللعب على غرائزهم الفطرية. كما أن من يتحكمون في الشعوب العربية والإسلامية من قادة، وبسبب تمسكهم باستغلال الدين في السياسة، يرفضون مثل هذه الدراسات التي من شأن نتائجها أن تكشف للناس ضعفهم وغبائهم وعدم مسؤوليتهم، وبالتالي، سيحرمون من السلطة والمال، وسيمنعون من توريثهما لأبنائهم.

ويبدو وفق الخلاصة التي وصل إليها فريق العلماء الروس في هذا المجال، أن لا حل للعالم اليوم ومستقبلا إلا باعتماد هذا النوع من الدراسات التي تصب نتائجها في مصلحة المجتمعات بالضرورة. من هنا نفهم سبب إصرار تحالف الإقطاع والفقهاء في العالم العربي والإسلامي على إشاعة الجهل واحتكار إنتاج المعنى في المجال الديني. ويسجل التاريخ الإسلامي أنه وبسبب هذا الوضع الذي تم فيه استغلال الدين في السياسة، برزت النزعة الفكرية لدى ثلة من العلماء المسلمين، فقرروا الانطلاق مما يمكن أن يصل إليه العقل من خلاصات بعيدا عن منظومة المفاهيم التي أنتجها التراث، فازدهرت العلوم بكل أنواعها وبرزت الحضارة الإسلامية حينها في أبهى صورها، خصوصا زمن الأندلس، لكن هذا العصر الذهبي لم يستمر طويلا، إذ سرعان ما عادت هيمنة النزعة الإيديولوجية الدينية السنية المغلقة، فهزم العقل وانتصر النقل وعادت المجتمعات الإسلامية للعيش مرة أخرى زمن الجاهلية.

هذا لا يعني أن الأمر له علاقة بالدين الذي هو بريء مما يتهمونه به براءة الذئب من دم يوسف، بل باستغلال الدين في السياسة من قبل الإقطاع وفقهاء السلاطين من جهة، وابتعاد الناس عن القرآن واتباعهم لدين ملوكهم كما يقول ابن خلدون. وبالتالي، فالنزاعات والصراعات والحروب الدموية التي عرفها العالم الإسلامي طوال تاريخه لم تكن بسبب الدين بقدر ما لها علاقة بسوء فهم العامة للدين والدنيا معا، الأمر الذي ساعد على استغلالهم وتحويلهم إلى حطب لحروب الإقطاع العبثية.

اليوم تتكشف حقائق غاية في الأهمية، فبمقارنة النتائج التي توصل إليها علم بيولوجيا الدماغ مع المعطيات القرآنية نستطيع الوقوف على الحقيقة المدهشة التالية:

إن علم بيولوجيا الأعصاب أكد ما سبق للقرآن وأن أوضحه من حقائق تتمثل في أن معصية آدم لربه كانت النقطة الفاصلة بين مرحلة البشر الحيواني الذي عاش قبل آدم من جهة، ومرحلة الإنسان الجديد الذي أصبح بمقدوره أن يختار بين الطاعة والعصيان من جهة ثانية، وتعتبر هذه الواقعة بداية ظهور الخصائص الفردية في السلوك وفق ما تجمع عليه الرسالات السماوية الثلاث. بمعنى أن ظاهرة عصيان آدم لربه كانت بداية تفعيل الإنسان للحدس في دماغه وظهور ازدواجية السلوك، بين الانقياد الغريزي الفطري الذي تتحكم فيه المنظومة الحوفية الحيوانية المشكلة لمكونات الدماغ، والغشاء الدماغي الأمامي الذي ظهر لأول مرة مع آدم من خلال حادثة العصيان، والتي أفرزت هذه الازدواجية لأول مرة في الدماغ بين ما "أريد" التي تعبر عن الغرائز، وما "يجب" التي تكبح السلوك وتوجهه، لتبدأ بعد ذلك مسيرة الإنسان مع ثنائية الخير والشر والنور والظلام أو الإله والشيطان داخل وعي الإنسان.

وتكمن أهمية هذا الاكتشاف العلمي الكبير في أنه يؤكد وجود ارتباط بين نتائج البحوث المخبرية التي أجريت على الدماغ وفلسفة السلوك الدينية. وهذا يعني علميا وعمليا أن الصراع بين الخير والشر يجري في الدماغ بالتحديد بغض النظر عن عقيدة صاحبه.

وبالمحصلة، أصبح من الممكن علميا قياس السلوك السلبي أو الإيجابي للإنسان برد الأول إلى عمل المنظومة الحوفية التي هي مستودع الغرائز الحيوانية بامتياز، والثاني إلى عمل الغشاء الدماغي الأمامي الذي يعمل كميزان لقياس الأمور وكبح السلوك واتخاذ القرارات المناسبة. وهذا هو ما يجعل الفرق قائما بين الحيوان والإنسان. ويلاحظ في هذا الصدد أيضا، أن الأطفال يتصرفون وفق ما تمليه عليهم منظومتهم الحوفية (أي وفق الغرائز البدائية)، في حين أن الأمور تتغير بتقدمهم في العمر ومرورهم لمرحلة الشباب حيث تبدأ النزعة الثورة لتغيير الواقع القائم واستبداله بواقع أفضل منه من منطلق الأوهام الطوباوية. وكلما تقدم الإنسان في العمر كلما أصبح محافظا ورصينا وعقلانيا أكثر فأكثر. هذه أمور نعرفها بالبداهة من واقع تجاربنا اليومية قبل أن يكون لدينا تفسير علمي لها.

ويفسر العلماء سلوك الإنسان على أساس عاملين: الأول: حنين الإنسان للعيش في النعيم الذي افتقده بخروجه من الجنة. والثاني: إصراره على التعايش مع الواقع برغم مرارته أملا في تغييره نحو الأفضل.

فمثلا، عندما يفكر الإنسان في المال يتبادر إلى ذهنه خياران: - الأول: أن يحصل عليه بالطريقة السهلة (الطريقة الإجرامية) عبر السرقة ليعيش حياة مريحة يحقق فيها كل ما يطمح إليه من سعادة دون اهتمام للعواقب. والثاني: أن يحصل عليه بالطريقة (الأخلاقية) الصعبة من خلال العمل الذي فيه تعب ومعاناة، ويتطلب من الإنسان استهلاك ما قدره ٢٥ في المائة من الطاقة، وهي طاقة هائلة مقارنة بحجم الدماغ الذي لا يشكل سوى ١ / ٥٠ من حجم الجسم. وهذا يعني، أن المنظومة الحوفية (الغرائز) توجه الإنسان نحو الشر، في حين أن الغشاء الدماغي الأمامي يوجه الإنسان نحو الخير والكسب المشروع برغم الطاقة المطلوب استهلاكها في سبيل ذلك. وهناك العديد من الدراسات التي أجريت على مجموعات بشرية مختلفة أكدت أن سلوك المجرم محكوم بانقياده إلى المجموعة الحوفية "أريد"، وسلوك الإنسان السويّ محكوم بالغشاء الدماغي المتطور الذي يملي عليه السلوك في إطار "الواجب" أي المشروع من وجهة نظر دينية وأخلاقية.

والمفارقة تكمن في أن نتائج هذه البحوث تؤكد أن المنظومة الحوفية كما الغشاء الدماغي الأمامي يعملان بشكل فطري تماما، وأن ميول بعض الناس الغريزية أو ميول البعض الآخر الرصينة لها علاقة بتطور وقوة نشاط القشرة الدماغية. وبهذا المعنى، فتصرفات الإنسان الرصينة محكومة بمدى نجاح الإنسان في تهذيب هذه القشرة بالمعارف والتجارب المكتسبة في إطار المنظومة الاجتماعية التي يعيش فيها فيتأثر بها ويؤثر فيها. وهنا يأتي عامل الثقافة الدينية الذي يلعب دورا محوريا في تغذية هذه القشرة بالقيم والأخلاق التي تمد الإنسان بالقوة القادرة على كبح جماح المنظومة الحوفية الغريزية. وهذه القشرة الدماغية تحديدا هي التي تتحكم بقناعات الإنسان ومواقفه وتصرفاته، وهي نفسها التي تدفع الفلاسفة ليكتبوا سخافات عن الميتافيزيقا وحرية الإرادة والاختيار.

وفي هذا الإطار يمكن فهم كل ما أنتجه الغرب من أفلام تركز في مجملها على دور البطل الخارق (السوبر مان أو رامبو) الذي يقاوم الشر من أجل أن يسود الخير.. هذه تفاهات أكد علم الإجرام من خلال دراسة عديد الحالات أن المجرم لا يكون مجرما باختياره بل بالفطرة، بسبب أن قشرته الدماغية الأمامية لم تتطور بالعلم والمعرفة والتجربة الإيجابية نتيجة البيئة والظروف الاجتماعية غير المساعدة التي عاش فيها، وبهذا المعنى يعتبر المجتمع (الأسرة والدولة) مسؤولا عما يفعله أبنائه ما دام هو المسؤول عن تربيتهم وتكوينهم وضمان العيش الكريم لهم.

وبالمحصلة، تم اليوم الجواب بشكل حاسم، على السؤال الذي كان يقول: - لماذا يبرز الإنسان بخلاف غيره من الثدييات بشكل خلاق ومميز؟ والجواب يكمن في تطور غشاء الدماغ الأمامي وما حمله هذا الغشاء منذ نهاية عصر الجنة من معلومات أولية زرعت فيه بالفطرة، ويتعلق الأمر هنا بالأسماء التي وهبها الله له لميّزه بالمعرفة عن بقية المخلوقات بما في ذلك الملائكة.

هذه الخلاصة البالغة الأهمية وضعت حدا لنظرية داروين عن أصل الأنواع والتطور باعتبارها نظرية علمية صحيحة، بمعنى أنها لم تسقط النظرية بالكامل، لكنها حوّلتها إلى نظرية نسبية لجهة اشتراك وتماثل الإنسان والحيوان في النواحي البيولوجية البنيوية، أي الجانب الآلي، لكن اكتشافات علم بيولوجية الأعصاب الأخيرة أكدت وجود تنافر مطلق بين الإنسان والحيوان من الناحية الواقعية. ومعنى ذلك وفق ما يشير إليه رئيس البوسنة علي عزت بيجوفيتش في مؤلفه القيم (الإسلام بين الشرق والغرب – ص: 83)، أن التماثل الذي تحدث عنه داروين "لا نجده قائما بين الإنسان والحيوان، فالحيوان كائن بريء بالطبيعة، من دون خطايا، وهو محايد من الناحية الأخلاقية كأنه شيء من الأشياء. أما الإنسان، فليس كذلك أبدا. فمنذ اللحظة التي تأنّس فيها الحيوان (أي تحول البشر البدائي إلى إنسان عاقل) في المقدمة السماوية الدرامية (عالم الذر)، أو من اللحظة المشهودة المعروفة بـ "نهاية عصر الجنة"، لا يستطيع الإنسان أن يختار أن يكون حيوانا بريئا. لقد أطلق سراحه دون أن يكون له الخيار في العودة دون تجربة دنيوية قاسية. ولذلك، فمنذ تلك اللحظة المشهودة لم يعد ممكنا للإنسان أن يختار بين أن يكون حيوانا أو إنسانا، إنما اختياره الوحيد أن يكون إنسانا أو لا إنسانا". وبهذا المعنى لم تعد حياة الإنسان بسيطة بل أصبحت جد معقدة، بعد أن تحول إلى إنسان مشوش، ولا سبيل له للخروج من هذه الدوامة إلا بسلوك طريق واحد لخوض غمار المجاهدة الأخلاقية وما فيها من مآسي ومعضلات وإحباطات ونقمة وقسوة وخبث الطوية، لقوله تعالى: (ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها) الشمس: 7 – 8. وهذه أمور لا يعرف الحيوان شيئا عنها، وهذا هو معنى ولادة الإنسان ما بعد عصر الجنة ليبدأ عهدا جديدا من الصراع القاسي مع النفس في سلم الرّقي والسّمو إلى أن يبلغ درجة "الإنسان الكامل"، وفي هذا ليس له من خيار سوى أن يرتقي ما دام لا يستطيع أن يكون حيوانا بريئا لانتفاء التماثل بينه وبين الحيوان. أي أنه محكوم عليه أن يكون إنسانا أو لا إنسان كما قال علي عزت بيجوفيتش. فقضية الخلق بالنسبة له، هي في الحقيقة، قضية الحرية الإنسانية، فإذا قبلنا أن الإنسان لا حرية له، وأن جميع أفعاله محددة سابقا، إما بقوى جوّانية أو برّانية، ففي هذه الحالة لا تكون الألوهة ضرورية لتفسير الكون وفهمه. ولكن إذا سلمنا بحرية الإنسان المقيدة في حدود معينة ومسؤوليته عن أفعاله، فإننا بذلك نعترف بوجود الله إما ضمنا وإما صراحة، فالله وحده هو القادر على أن يخلق مخلوقا حرا يتصرف وفق مشيئة الله تنفيذا لمخططه، فالحرية لا يمكن أن توجد إلا بفعل الخلق في إطار مخطط الخالق.

وهذا يعني وفق كارل جاسبرز: أنه "عندما يكون الإنسان واعيا بحريته، فإنه في الوقت نفسه يصبح مقتنعا بوجود الله. فالله والحرية لا ينفصلان (...) فإذا كان الوعي بالحرية ينطوي على وعي بالله، فيتبع ذلك أنه يوجد علاقة بين إنكار الحرية وإنكار الله". والسؤال هو: إذا كان الله والحرية لا ينفصلان، فكيف يمكن أن يستقل الإنسان بحرية أفعاله عن إرادة الله ومشيئته؟ .. وهي الحقيقة التي تفطن لها الفيلسوف جون بول سارتر فقال قولته الشهيرة: "الإنسان محكوم عليه أن يكون حرا "، هذه حقيقة مفروغ منها، لكن يبقى السؤال: أين تبدأ وأين تنتهي حريته في ملك الله؟ .. الصوفية يقولون: "لا حرية لإنسان إلا في كنف الله".

وهنا يأتي الدين ليلقي الضوء على ما عجز العلم عن اكتشافه. يقول تعالى: (وعلّم آدم الأسماء كلها) البقرة: ٣١. وقوله: (علم الإنسان ما لم يعلم) العلق: ٥، وغيرها كثير مما تحيل العلم إلى الله الذي علم الإنسان كل ما يعلم وهو قليل على كل حال مقارنة بعلم الله العظيم (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) الإسراء: ٨٥، وبفضل هذا القليل من العلم وصل الإنسان إلى ما هو عليه اليوم ولا يزال يصبو إلى ما هو أكثر وأفضل.

لكن ما يلفت النظر في الآية ٣١ من سورة البقرة، من وجهة نظر قرآنية، هو أن اللغة لم تتطور من إشارات ورسوم فحروف وكلمات كما هو السائد من الفهم، لأن الاكتشافات المتعلقة بالحفريات على الصخور وفي الكهوف القديمة وفق علم الأركيولوجيا، كانت على شكل رسوم تعود للإنسان البدائي الذي لم يكن يعرف الحروف قبل عصر التدوين، وقد ظهرت الحروف لأول مرة مع ظهور آدم الذي أنبأ الملائكة بأسماء المسميات التي عرضها الله عليهم. ومن العجيب أن القرآن يبدأ عديد الآيات بأحرف هجائية لا يعرف أحد معناها حتى الآن، ويعتقد أنها كانت أصل اللغة التي تكلم بها آدم، أي العربية، وأنها أحرف من نور على أساسها تشكلت اللغة الأم وأم كل اللغات، أي العربية. بدليل أن اللغة العربية هي أغنى اللغات في العالم ولها 16 ألف جذر، في حين أن اللغة العبرية تعتبر الثانية ولها 2.500 جذر فقط، وهي لغة فقيرة ومحدودة وعديد كلماتها من أصل عربي. كما أن عمرها لا يتجاوز 4.000 سنة، في حين أن عمر اللغة العربية يناهز 8.000 سنة أي منذ ظهور الإنسان العاقل (آدم)، وهي اللغة الأقدم المعروفة حتى الآن، وعديد الأدلة العلمية المكتشفة ترجح أنها كانت اللغة التي اختارها الله لتكون وعاء لكل اللغات البشرية التي تفرعت عنها. بدليل أن عديد المفردات اللاتينية وغيرها مشتقة من اللغة العربية، والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى أو يسعها المقام. بل حتى اللغة الهيروغليفية زمن الفراعنة تضمنت عديد الكلمات من أصل عربي فصيح، ومنها "حنيف" مثلا التي تعود لنبي الله إدريس الذي هو ثالث أبناء آدم عليهما السلام ولد بعد حادثة مقتل هابيل. واسمه يعني "هبة الله" أو "البديل" عن الابن المقتول.  وكان من الموحدين الذي جاء بأقدم معتقد سمي بالعقيدة الصابئة التي تعتبر الرسالة السماوية الأولى، وبذلك صنف إدريس بأنه أول رسول بعثه الله لقومه بالحكمة ورفعه الله مقاما عليّا لقوله تعالى: (واذكر في الكتاب إدريس إنه كان صديقا نبيا * ورفعناه مقاما عليّا) مريم: ٥٦ – ٥٧. ويذكر التراث أنه أول من خط بالقلم ورسم لقومه قواعد تمدين المدن، وأول من خاط الثياب التي استعملها الناس بدلا من الجلد الذي كان يلبس من قبل. وبعد الطوفان جاء جيل جديد من ذرية نوح ومنهم إبراهيم الخليل عليه السلام ليبدأ دور جديد من وارثي عهد النبوة والرسالة والإمامة من أبناء إسحاق وإسماعيل عليهما السلام.

وخلاصة القول، أنه إذا كان ما كشفه العلم وما أكده القرآن قبل ذلك من حقائق يتطابقان من حيث النتائج، فإن ليس للإنسان من إرادة ولا حرية اختيار إلا ضمن مساحة ضيقة لا تسمح له بالتصرف من خارجها، أي في كنف الله، وبالتالي، يستحيل أن يتجاوز تصرفه علم الله وإرادته ومشيئته، ما دام كل ما يأتيه هو بأمر الله تعالى لا بأمره، فإذا اختار الهدى هداه الله وأخذ بناصيته إلى صراط مستقيم، وإذا اختار الكفر أضله الله وأخذ بناصيته إلى الهلاك. هذا أقصى ما يمكن للإنسان فعله.

وهنا نأتي لقمة الإعجاز في القرآن، حيث ذكر تعالى الناصية في آيتين في معرض حديثه عن الإنسان بقوله: (كلا لئن لم ينته لنسفعا بالناصية * ناصية كاذبة خاطئة) العلق: ١٥ – ١٦. والناصية وفق معجم المعاني هي "مُقدّم الرأس" والناصية هي رأس الشارع، وامتلاك الناصية هو القدرة على البلاغة ومسك العنان وزمام الأمر، وامتلاك ناصية الأمر هي أخذ السلطة، وعقد ناصيته تعني أنه تهيأ للشر. وليس صدفة أن يعبر القرآن عن الناصية بالمعنى الذي يفيد أنها مستودع القرار. لذلك نهى تعالى أبو جهل عن تحريضه ضد الرسول صلى الله عليه وسلم وقال إن ناصيته ناصية كاذبة في مقالها وخاطئة في أفعالها وتصرفاتها، وأنه حتى لو استحضر أهل ناديه من المشركين الذين يستنصرونه فسيدعو تعالى ملائكة العذاب ليأخذوه من ناصيته إلى النار.

وبذلك يكون القرآن قد حدد الناصية التي هي تعبير مجازي عن الغشاء الدماغي الأمامي تحت الجبهة مباشرة وفق ما اكتشفه علم الأعصاب اليوم، باعتبار الناصية هي المسؤولة عن القرارات التي يتخذها الإنسان والأفعال التي يقوم بها. لاحظ أن الإنسان حين يخطئ بشكل عفوي يضرب بيده بطريقة غرائزية جبهته من دون أن يدري أنها فعلا المنطقة المسؤولة عن الخطأ الذي ارتكبه. ولاحظ أيضا أن من فوائد السجود الذي تبث علميا أنه يتيح للعابد التخلص من الشحنة الكهرومغناطيسية السلبية التي تتجمع في ناصيته، فيفرغها على الأرض ويتخلص منها ومن ثم يشعر بالارتياح والطمأنينة.. فسبحان الله العلي العظيم.

وهذا يعني بالنتيجة، أن الإنسان لا يستطيع التحكم في شيء خيرا كان أم شرا من خارج المنظومة الحوفية الغرائزية التي تشكل دماغه، وهذا هو الحد الأقصى المتاح له في مجال الاختيار، وليس غريبا والحال هذه أن يكون أول أمر نزل من أول آية في أول سورة من الوحي هو أمر "اقرأ"، لأن بالقراءة والعلم والمعرفة يُغذي الإنسان ناصيته (شبكة الدماغ الأمامية) بما تحتاجه من أدوات تساعده على التحكم في منظومته الحوفية الحيوانية التي تمثل النفس الأمارة بالسوء، لتتحول رويدا رويدا إلى نفس عاقلة لوامة تراجع صاحبها في كل وقت وحين ليصحح أخطائه، إلى أن تتطهر وتنتهي إلى مرتبة النفس الكاملة الطاهرة الزكية الراضية المرضية، فيقول لها تعالى: الآن ادخلوا في عبادي وادخلي جنتي.

ومعنى المعنى وفق الصوفية، أن تجربة الإنسان الأرضية، هي عبارة عن سفر نحو المجهول في عباب بحر بلا شاطئ، فوق مركب تحرك شراعه أنفاس المهاجر بلا بوصلة، وليس له من سبيل للاهتداء إلى مرفئ الأمان، إلا إذا عرف كيف يهتدي بالآيات، وكيف يقرأ مواقع النجوم، لقوله تعالى: (وعلامات وبالنجم هم يهتدون) النحل: ١٦. أما حرّيته، فتنحصر في المسافة التي يتحرك فيها فوق مركبه الصغير.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق