بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 17 نوفمبر 2022

الزمن بين المفهوم القرآني والمفهوم العلمي؟.. (3/2)

(وما أمر الساعة إلاّ كلمح البصر أو هو أقرب) 

- النحل: 77 -

الخلق وفق نظرية "الرتق والفتق" القرآنية

من وجهة نظر دينية، وعلى عكس ما كان يعتقد في الغرب المسيحي إلى وقت قريب (بداية القرن العشرين) من أن الكون ليس له بداية ولا نهاية، وأنه لم ينشأ من عدم وفق ما روج لذلك الماديون منذ عصر النهضة استنادا إلى الفلسفة الإغريقية، أكد القرآن الكريم منذ أزيد من 1.400 سنة أن الكون مخلوق، وأن له بداية ونهاية، وأنه محدود، وإن كان الإنسان لا يستطيع إدراك حدوده بالإمكانات العلمية والتكنولوجية المتوفرة حاليا، وأن جميع الكواكب والنجوم والأجرام السماوية في حركة دائبة تجري لمستقر لها وفق أجل مسمى لا يعلمه إلا الله لقوله تعالى: (والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم) يس: 38، حيث سينفجر الكون مرّة ثانية ليتحوّل إلى دخان وغبار فيندثر في سديم الهباء، ثم سيخلق الله منه كونا آخر بقوانين جديدة تناسب حياة الخلود لقوله تعالى: (يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهّار) إبراهيم: 48.../...

والحقيقة أنه لا خلاف بين الدين والعلم عند الحديث حول مسألة نشأة الكون نتيجة الانفجار العظيم إلا فيما له علاقة بالمصطلح من حيث دقّة المعنى، فالقرآن يؤكد من جهته هذه الحقيقة العلمية بقوله: (أو لم ير الذين كفروا أنّ السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما) الأنبياء: 30. والرتق والفتق معنيان متقابلان، ومعنى الرتق الضم والالتحام، ومعنى الفتق الفصل بين المتصلين وهو ضد الرتق.

وبالتالي، فإذا كانت نظرية الانفجار العظيم قد أصابت في قولها "إن مادة الكون نشأت جميعها من أصل واحد، لأن نسيج الكون  كلّه متشابه في كل شيء"، إلا أن مصطلح "الانفجار المستعمل في النظرية ليس دقيقا من وجهة نظر قرآنية، بسبب أن الانفجار لا ينتج النظام بل الفوضى والدمار، أما "الرتق" و"الفتق" اللتان استعملهما القرآن، فيتميّزان بالدقة العلمية المتناهية، لأنه إذا كان الكون - وفق تقرير العلماء - في بدايته عبارة عن مادة على شكل نسيج متراكم بعضه فوق بعض الأمر الذي عبّر عنه القرآن بمصطلح "الرتق"، فإن "الفتق" يكون هو تمزق هذا النسيج وبداية تباعد خيوطه في الكون ما دام كل ما يوجد في الكون مربوط بخيوط الطاقة الكهرومغناطيسية الشديدة والضعيفة التي تولّد الجاذبية وفق نظرية النسبية العامة لأينشتين. ودليل ذلك أيضا ما توصّل إليه علماء الكوسموس من أن "العالم المرئي ما هو إلا التنظيم غير المرئي للطاقة التي أوجدته" بحكم أن الله هو نور السماوات والأرض، وكل شيء أوجده الله خلقه من طاقة هائلة وطاقة لطيفة كامنين حكما في نوره العظيم لقوله تعالى: (الله نور السماوات والأرض): النور: 35.

لهذا يتساءل العلماء اليوم: - هل الانفجار العظيم جاء بعد أن حصل انكماش كبير لكون سابق ابتلعته الثقوب السوداء التي تعتبر مقابر النجوم والكواكب والأجرام، أم أنه وجد لأول مرّة ولم يكن هناك كون قبل الكون الحالي؟

يستحيل على العلم الجواب على هذا السؤال من دون معرفة ما في الثقوب السوداء من مخلفات باعتبارها مقبرة النجوم والكواكب والأجرام كما سبق القول، والحقيقة أننا لم نكتشف سوى 4 % فقط من أسرار الكون حتى الآن ولا تزال ما نسبته 96 % مناطق مظلمة لم يُلقى عليها العلم الضوء حتى اليوم، خصوصا ما له علاقة بالثقوب السوداء والطاقة المظلمة.

أما من وجهة نظر دينية، فإلى الآن تعتبر نظرية "الخلق من العدم" بالتعبير العلمي، أو "الخلق من لا شيء" بالتعبير الديني، هي النظرية الأكثر قبولا من قبل المفسّرين القدماء والباحثين الحداثيين على حد سواء، ما دامت نظرية الانفجار العظيم تتوافق إلى حدّ ما مع تفسير الآية 30 من سورة الأنبياء، وبذلك تكون قد تناولت أصل الوجود بما تتضمنه من دلالة ضمنيّة على الألوهية وحجة منطقيّة على وجود الخالق تنفي مبدأ الصدفة الذي قال به الماديون الملحدون. 

لكن الاشكال هنا يطرح من حيث المصطلحات، فالقرآن الكريم لم يستعمل مفردات من قبيل "العدم" و "الوجود"، لكن يلاحظ من حيث المدلول أن كلمة "عدم" يقابلها في القرآن الكريم كلمة "لا شيء". أما كلمة الوجود فيقابلها مصطلح "النور" باعتباره القوة القاهرة والقوة اللطيفة في نفس الوقت، أي القوة النووية الشديدة والقوة النووية الضعيفة اللتان تتحكمان في عملية الخلق من لا شيء من جهة، وفي القوة الجاذبية والقوة الكهرومغناطيسية المحافظة على توازن نظام الكون من جهة ثانية، وهي قوى الفيزياء الأربعة الأساسية التي فشل أينشتاين في الجمع بينها في نظرية واحدة تفسّر كل الظواهر الكبيرة والصغيرة في الكون.

أما من جهة ثانية، فمصطلح "الخلق" الذي استعمله القرآن لم يُدرس من قبل الفقهاء بالعمق المطلوب لمعرفة إن كان الخلق الذي يتحدث عنه تعالى قد جاء من عدم أم من مادة كانت موجودة في الكون لا مع الله ولا من خارجه بل مخلوقة هي أيضا من قبله، وهو ما لم يوضحه القرآن الكريم. وما يجعلنا نطرح إشكالية هذا المصطلح هو المعنى الضمني الذي تحمله عديد الآيات القرآنية كُلّما تعلق الأمر بفعل الخلق. فمثلا عندما تحدث القرآن عن خلق السماوات والأرض في ستة أيام لم يشر إلى أنه خلقهم من عدم بل قال تعالى: (أو لم ير الذين كفروا أنّ السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما) الأنبياء: 30. وهذا يعني أن السماوات والأرض كانتا موجودتان في منفردة مضغوطة بطاقة هائلة سمّاها تعالى "الرتق"، ففتقهما بتمزّق عظيم، وواضح أن الخلق هنا لم يأتي من عدم بل من شيء موجود في رتق كما يفهم من ظاهر الآية، ولم يشر القرآن الكريم إلى طبيعة وأصل هذا "الشيء" الذي كان موجودا على شكل رتق يضم في جوهره السماوات والأرض. 

وما يؤكد هذا المعنى الذي ذهبنا إليه هو أن عديد الآيات كلما تحدثت عن فعل الخلق إلا وجاء بعده مباشرة حرف جر "من" الذي يفيد الجنس، أي طبيعة المادة التي تم منها الخلق باستثناء خلق السماوات والأرض حيث لم يذكر تعالى المادة التي خلقهما منها. هذه الحقيقة القرآنية تفيد أننا أمام عملية خلق تتكرر باستمرار بين الرتق والفتق وليس أمام بداية أولى لخلق الكون، الأمر الذي يدعم فرضيّة "الانكماش الكبير" أو "الانسحاق الشديد"، وهناك بعض الآيات التي تشير إلى هذا المعنى بوجه عام لقوله تعالى: (أو لم يروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده إن ذلك على الله يسير (العنكبوت: 19)، وقوله: (الله يبدأ الخلق ثم يعيده ثم إليه ترجعون) الروم: 11، وقوله: (وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم (الروم: 27)، وهذه الآية الأخيرة دليل على ما ضربه الله كمثل أعلى يتعلق بخلق وإعادة خلق السماوات والأرض بين الرتق والفتق، وهناك آية أخرى تحيل إلى نفس المعنى لقوله تعالى: (يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب كما بدأنا أوّل خلق نعيده وعدا علينا إنا كنّا فاعلين) الأنبياء: 104، فالخلق وإعادة الخلق هنا جاء مقترنا بالسماء بدليل أن الله خلق السماوات أولا ثم الأراضي السبعة تاليا قبل خلق الأقوات والدواب ثم البشر، وكلها مخلوقات أصلها من عناصر الأرض الأربعة (التراب – الماء – الحرارة – البرودة).

وقد أكد العلم أن كل ما يوجد في الكون من عناصر كيميائية موجود في جسم الإنسان، بل أكثر من ذلك، فقد نجح العلماء مؤخرا في اكتشاف أن شبكة الدماغ العصبية لدى الإنسان تشبه إلى حد كبير شبكة المجرات الكبيرة المتشعبة في الكون وفق ما نشره الباحثون في مجلة "فرونتيرز إن فيزيكس" أو "حدود الفيزياء" في 16 نوفمبر 2020. وقد بلغ التشابه درجة دفعت بالعلماء الباحثين للقول: "إن الكون ما هو إلا دماغ عملاق" بسبب التشابه المدهش بين الشبكة العصبية للإنسان والشبكة الكونية. لكن المثير للاستغراب هو اكتشاف التشابه بين الخيوط والعقد التي تربط بين الخلايا في الدماغ وتلك التي تربط بين المجرات في الكون، والاختلاف هو فقط في الطول والقصر وفي الجاذبية بين القوية والضعيفة، وهو ما يؤكد صحة نظرية "الرتق والفتق" لارتباط الكواكب والنجوم والمجرات بخيوط الجاذبية الناظمة الغير المرئية، وهو وما يؤكده قوله تعالى: (وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين) الأنبياء: 16 ونفس الآية وردت بنفس الصيغة في سورة الدخان: 38.

الكون دماغ عملاق

وبخلاف خلق السماوات والأرض يشير القرآن إلى قضية خلق الإنسان بعد أن لم يكن شيئا مذكورا لقوله تعالى: (هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا) الإنسان" 1. والاستفهام الوارد في الآية هو للتقرير ما يفيد الثبوت، والحديث هنا هو عن جنس الإنسان، لكن ذكر "الحين" من الدهر يفيد وجود الاسترخاء في الزمن، وبالتالي وجود المكان الذي هو الأرض قبل وجود الإنسان الذي خُلق أطوارا لقوله تعالى: (وقد خلقكم أطوارا) نوح: 14. وبالتالي فالقضاء بأمر "كن" لا يعني أن الله يخلق المخلوقات بعصا سحريّة في لمح البصر بل وفق سنن التطوّر، كما لا يعني ذلك أن الإنسان خلق من عدم لأن "لا شيء" الواردة في الآية تشير إلى "الذكر" أي أنه لم يكن معروفا ليكون مذكورا، وبالتالي فالإنسان لم يخلق من عدم بل من مادة الأرض عبر مراحل لقوله تعالى: (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء) النساء: 1. والمقصود بالنفس الواحدة: الخلية الأولى التي انقسمت في الماء إلى جنسين (ذكر وأنثى) قبل أن تتكاثر بفعل التزاوج، ولأن الحديث هنا عن النفس فإن الجسد أو المستودع بلغة القرآن خلقه الله من طين لتسكن فيه النفس خلال تجربتها الأرضية إلى أجل مسمّى، والآيات التي تؤكد ذلك أكثر من أن يسعها المقام. مع الإشارة إلى أن الله خلق الملائكة والجن قبل البشر، وأوضح تعالى أنه خلق الملائكة من نور والجن من نار، لذلك لا ظل لهم يدلّ عليهم، وبالتالي، هم يستطيعون رؤيتنا فيما نحن لا نستطيع رؤيتهم بسبب أجسامهم النورانية لقوله تعالى: (يا بني آدم لا يفتننّكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنّة ينزع عنهما لباسهما ليرهما سوآتهما إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم إنّا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون) الأعراف: 27. 

والحقيقة أن معضلة بداية الخلق من عدم سبق وأن طرحت في عهد الرسول أيضا، فقد سُئل عليه السلام حول هذه المسألة بصيغة غير مباشرة حين قال له بعض الرحّال اليمنيين: "أين كان الله قبل الخلق؟" (في إشارة إلى خلق السماوات والأرض) فأجاب: "كان في عماء ليس فوقه هواء وليس تحته هواء". وعدم وجود الهواء يعني انتفاء الحركة وبالتالي عدم وجود المكان، أي أن الإشارة هنا للنقطة التي كانت فيها السماوات والأرض موجودة في رتق مضغوط، ولا علاقة لهذه اللحظة بالعدم. وهو ما يعني أن كوننا الحالي قد ولد من كون آخر انكمش بفعل الانصهار فتحوّل إلى رتق بعد فتق، لأنه من الناحية المنطقية لا يعقل ألاّ يكون هناك وجود قبل هذا الوجود، ذلك أنه عندما سُئل الرسول عليه السلام: "أين هو الله الآن؟" أجاب: "هو الآن كيف كان لا يزال"، ما يعني أن الله سبحانه لا يتأثر بخلق نتيجة انفجار بعد انكماش أو العكس، لأنه لا يحده مكان ولا يسري عليه زمان، وبالتالي فالله خارج معادلة "الزمكان"، كما أنه تعالى أزلي من دون بداية وأبدي بلا نهاية وإن كنا نعتقد بأن لكوننا الحالي بداية لا نعلمها ونهاية لا ندري متى تكون ساعتها، لكننا نجهل بالتأكيد إن كان كوننا الحالي هو أول كون خلقه الله وسيكون بالتالي آخر كون لن يخلق بعده كونا آخر.

وللإشارة، فإن الاعتقاد بعدم وجود كون سابق لكوننا ليس وليد الفكر الإسلامي فحسب، ففي القرن الرابع الميلادي، جادل القديس اللاهوتي أغوستين حول ماهية الوجود قبل أن يخلق الله الكون، واستنتج أن العبارة التوراتية «في البداية» تعني بوضوح أن الله لم يخلق أي شيء قبل خلق الكون، وعلى هذا الأساس رأى أغوستين أن الله لم يخلق الكون في وقت معين، بل أن الوقت نفسه خُلق مع الكون.

أما المادة، فمعلوم أن أصلها من الطاقة وليس لها وجود مستقل عن وجود الله كما زعم المادّيون، وهذا ما أكّدته النظريات الفيزيائية الحديثة حول أصل المادة، فمراحل تحوّل السماوات والأرض من نسيج مضغوط إلى غبار بعد الانفجار بسبب الطاقة النوويّة الشديدة، حوّل الكون إلى دخّان تجمّع على شكل غبار كوني تشكلت منه النجوم والكواكب والأرض لقوله تعالى: (ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض إئتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين) فصلت: 11. 

وهذا بالضبط هو ما أكده مرصد "هرشل" الفضائي من أن أصل الكون كان عبارة عن غبار كوني دقيق يشبه الدخان. وبعد تشكل النجوم والكواكب والأجرام بدأ الكون في التوسّع كما هو مثبت علميّا اليوم، وهو ما أشار إليه القرآن لقوله تعالى: (والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون)، وواضح أن كلمة "موسعون" صفة تعني الاستمرارية في المدى ما يؤكد أن الكون لا يزال يتوسّع. كما أنه قد تبث علميّا اليوم أن المادة قد تشكّلت من الطاقة خلال المرحلة الرابعة من خلق الكون حيث بدأ ظهور الذرات الأولى، وهي مرحلة اندماج البروتونات والنيترونات معا مكوّنة نظيرا للهيدروجين يسمّى "الديوتيريوم" بالإضافة إلى "الهيليوم" و"الليثيوم". 

وبفعل اتحاد الهيدروجين والهيليوم في المرحلة السادسة بعد المرحلة الخامسة التي دخل فيها الكون في فترة ظلام دامس يجهل حتى اليوم ما حدث خلالها بالضبط، ظهرت النجوم فيما أصبح يعرف بـ "الفجر الكوني" حيث تلاشت كثافة الغبار فاندثر الظلام وأضاءت النجوم الكون. ويعبر القرآن عن هذه المراحل بالقول: (والفجر * وليال عشر * والشفع والوتر) الفجر: 1 – 2 – 3. وبالتالي، فالفجر يدلّ على الفجر الكوني الذي بزغ مع إضاءة النجوم للكون بعد مرحلة الظلام الدامس التي لم يستطع العلم تحديد مدتها، فيما أخبرنا القرآن أنها دامت عشر ليالي بمعنى الأحداث الفيزيائية التي حصلت خلالها قبل بزوغ الضوء أو ما يسمى بالفجر بتعبير القرآن. أما مفهوم "الشفع" و"الوثر" فيحيل على اتحاد الهيدروجين والأوكسيجين الذي نجم عنه وجود الماء (H2O) الذي هو أصل الحياة، لقوله سبحانه وتعالى: (وكان عرشه على الماء) هود: 7. أي كان أمره على الأوكسيجين (الشفع: ثنائي الذرة) والهيدروجين (الوثر: أحادي الذرة)، لأن بهما خلق كل شيء حيّ لقوله تعالى: (وجعلنا من الماء كل شيء حيّ) الأنبياء: 30. وقوله: (والله خلق كلّ دابّة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجليه ومنهم من يمشي على أربع يخلق الله ما يشاء إن الله على كل شيء قدير) النور: 45. والمعنى واضح لا يحتاج لمزيد من التوضيح ويتوافق بصورة عامة مع نظرية التطوّر والرقيّ الذي قال بها العالم داروين. 

من جهة أخرى فإن العقل الديني عموما لا يقبل أن يكون وجود الكون مقترن بوجود الله وفق ما توحي به نظرية "كل شيء" المثيرة للجدل من معنى لدى بعض الصوفية يفيد أن الكون من عرشه إلى فرشه هو الله تعالى دون سواه، ما دام أن من صفاته أنه أزلي من غير بداية وأبدي من غير نهاية، وهو القائل عن نفسه: (هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم) الحديد: 3. وبالتالي، فلا ارتباط بين وجوده ووجود الكون من عدمه، لكن أيضا لا معنى لوجوده من دون أن تكون أفعاله وصفاته، وخصوصا حياته وإرادته وقدرته ومشيئته، فاعلة في الوجود من دون بداية ولا نهاية، ما يؤكد أن الوجود لم يبدأ بالانفجار العظيم وإلاّ كان لله بداية سبحانه وتعالى عما يصفون. 

وعودة إلى نظرية الفتق والرتق القرآنية، فليس من قبيل المصادفة أن ترد الآيتان: الآية رقم: 30 المتعلقة بخلق الكون (الفتق بعد الرتق) والآية رقم: 104 المتعلقة بانكماش وفناء الكون (الرتق بعد الفتق) في نفس السورة، أي سورة الأنبياء. لقوله تعالى في الآية: 104 (يوم نطوي السّماء كطيّ السّجلّ للكتب). ولعلّ أحسن من فسّر هذه الآية هو الطّبري، لأنه بالعودة إلى زمن نزول القرآن كان يُطلق على قطعة الجلد التي يكتب عليها النّصّ اسم السّجلّ، وبعد الانتهاء من الكتابة كانت قطعة الجلد تُطوي بشكل أسطواني (دوران والتفاف)، وهذا هو المعنى المجازي الذي تعطيه الآية الكريمة، فالسماء تقابلها قطعة الجلد (السجل)، وما في السماوات والأرض من مخلوقات يقابلها النصوص المكتوبة (الكتب)، وبذلك يتم طي السماوات والأرض بما فيها ومن فيها كطي السجل للكتب بحركة مماثلة لطي الجلد بالشكل اللولبي. 

وعودة إلى مفهوم اليوم بالمعنى الفيزيائي، فإن الله سبحانه وتعالى عندما يتحدث عن خلق السماوات والأرض في ستة أيام (الأعراف: 54 - يونس: 3 - هود: 7 – الفرقان: 59 – السجدة: 4 – ق: 38 – الحديد: 4)، إنما يتحدث عن الحادثات الكبرى التي تمت في هذه الأيام الستة فيقول: (قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ * ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) فصلت: من 9 إلى 12. فهو يتحدث عن مجموعة أحداث فيزيائية تتعلق بمراحل خلق السماوات والأرض وما فيهما، ثم خلق الأرض في يومين كما تخبرنا بذلك الآية الكريمة، ثم جعل فيها رواسي (جبال)، ثم قدّر أقواتها، والكل في أربعة أيام، أي في يومين آخرين يضافان إلى اليومين اللذين خلق فيهما الأرض، فيكون المجموع أربعة أيام، وإذا أضيف إلى ذلك اليومين اللذان خلق فيهما السماوات يكون المجموع ستة أيام بالتمام والكمال، وبالتالي فلا تناقض ولا تعارض ولا زيادة ولا نقصان لقوله تعالى (فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها) فصلت: 12.

يتبـــع...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق