بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 12 ديسمبر 2022

الزمن بين المفهوم القرآني والمفهوم العلمي؟.. (3/3)

 

(وما أمر الساعة إلاّ كلمح البصر أو هو أقرب

- النحل: 77 -

المثال الثالث: تدبير الكون

نفس ما قيل عن اليوم الفيزيائي في المثال الأول المتعلق بقوم عاد في الجزء الأول، وما قيل عن المثال الثاني المتعلق بخلق السماوات والأرض في الجزء الثاني من هذا المبحث، يمكن أن يقال أيضا بالنسبة للمثال الثالث الذي تتحدث فيه بعض الآيات عن التدبير الإلاهي للخلق بالحق بين السماء والأرض نزولا وصعودا من جهة، وعن عملية عروج الملائكة والروح صعودا دون العودة إلى الأرض من جهة ثانية، ومثال ذلك قوله تعالى:

- الآية الأولى: (يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدّون) السجدة: 5.

- الآية الثانية: (تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة) المعارج: 4.../...

فالآية الأولى تتحدث عن تدبير أمر الخلق وفق ما يعطيه السياق من معنى، لذكره تعالى خلق السماوات والأرض في ستة أيام واستوائه على العرش، وتذكير الناس بأنه هو عالم الغيب الذي أحسن كل شيء خلقه حيث بدأ خلق الإنسان من طين وما تبع ذلك من تطور سلالة البشر (انظر سورة السجدة الآيات من 4 إلى 9). وأنه بعد الخلق اتخذ التدابير اللازمة لإدارة أمورهم بمشيئته ووفق رؤيته للحق (السجدة: 5)، سواء على مستوى التخطيط أو البرمجة أو التقويم أو إجراءات وترتيبات وسنن وقوانين التنفيذ وفق ما يُفيد معنى التدبير لغة واصطلاحا، وكلّف الملائكة بتبليغ الأمر والمشاركة في تنفيذه، وهي المسألة التي تتطلب من الملائكة الانتقال بين السماء والأرض نزولا وصعودا في يوم فيزيائي مقداره ألف سنة بحساب أهل الأرض، تقطعه الملائكة في رمشة عين بسرعة خارقة تفوق سرعة الضوء بكثير، ويشار بالمناسبة إلى أن البشرية لم تكتشف بعد سرعة تفوق سرعة الضوء ما يؤكد أنها لا تزال في مجال العلوم في الصفحة الأولى لقوله تعالى: (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) الإسراء 85.

والمثير للاهتمام أن الآية الكريمة التي نحن بصددها تتحدث عن تدبير الأمر بين السماء الأولى والأرض في يوم كان مقداره ألف سنة مما نعدّ بمفهوم الزمن الأرضي، ما يعني حكما أن تدبير الأمر بين السماوات الستة الأخرى يتم بنفس الطريقة لكن لا نعلم إن كانت المدة الزمنية هي نفسها التي أفصح عنها تعالى بالنسبة للتدبير بين السماء الأولى والأرض التي نخوض تجربتنا الدنيوية عليها، أي ألف سنة وفق حساب زمننا الدنيوي، لقوله تعالى: (الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهنّ يتنزّل الأمر بينهنّ لتعلموا أن الله على كلّ شيء قدير وأنّ الله قد أحاط بكلّ شيء علما) الطلاق: 12. وواضح أن تنزّل الأمر بينهن يعني تخصيص كل سماء بأمرها تحمله الملائكة لسكّانها نزولا وصعودا وفق الحساب الزمني لسكّان كل أرض في السماء التي تقع فيها والذي يختلف من سماء إلى أخرى، ولا علاقة له بحساب زمننا الأرضي كما أكدت ذلك نظرية النسبية العامة، لذلك ذكر الله تعالى عدد السنين التي يقطعها الأمر نزولا وصعودا بين السماء والأرض في الآية رقم: 5 من سورة السجدة فأخبر أنه يقدر بألف سنة بحساب سكان الأرض الدنيا، في حين أنه لم يذكر عدد السنين التي يقطعها الأمر نزولا وصعودا بحساب السماوات والأراضي الأخرى واكتفى بالإشارة إلى نفس عملية التدبير التي تفيد إحاطة علمه بكل شيء لقوله تعالى: (الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهنّ يتنزّل الأمر بينهنّ لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما) الطلاق: 12. 

وقولنا الملائكة لأنها هي في الحقيقة من تُنفّذ إرادة الله ومشيئته، فيما المخلوقات هي مجرد أدوات بما في ذلك الإنسان، الأمر الذي يطرح إشكالية المعنى بين التوحيد والشرع، أو بتعبير آخر، بين الجبر وحرية الاختيار لقوله تعالى: (لا يسأل عمّا يفعل وهم يسألون) الأنبياء: 23. وهي الإشكالية التي تناولها أبو حامد الغزالي في مؤلّفه "الإحياء" حيث قال في شرحها: "فإن قلت: فكيف الجمع بين التوحيد والشرع؟  ومعنى التوحيد أن لا فاعل إلا الله تعالى، ومعنى الشرع إثبات الأفعال للعباد، فإن كان العبد فاعلاً فكيف يكون الله تعالى فاعلا؟ وإن كان الله تعالى فاعلا فكيف يكون العبد فاعلا؟ ولأجل توافق ذلك وتطابقه نسب الله تعالى الأفعال في القرآن مرة إلى الملائكة ومرة إلى العباد، ونسبها بعينها مرة أخرى إلى نفسه! فقال تعالى في الموت: (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ) السجدة:11، ثم قال عز وجل: (اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا) الزمر:42. وقال تعالى: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ) الواقعة:63، أضاف الحرث إلينا، ثم قال تعالى: (أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا..) عبس:25-28، فأضافه إلى نفسه. وقال عز وجل: (فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا) مريم:17، فنسب النفخ لجبريل الذي وصفه بروح الله، وفي آية أخرى يقول (فإذا نفخت فيه من روحي) فنسب النفخ إليه. وقال تعالى: (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ) التوبة:14، فأضاف القتل إليهم والتعذيب إلى نفسه! والتعذيبُ هو عين القتل! بل صرح وقال تعالى: (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ) الأنفال:17، وقال تعالى: (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى) الأنفال:17، وهو جمع بين النفي والِإثبات ظاهراً، ولكن معناه: وما رميت، بالمعنى الذي يكون الرب به رامياً، إذ رميت، بالمعنى الذي يكون العبد به رامياً؛ إذ هما معنيان مختلفان. وقال الله تعالى: (الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) العلق:4-5، ثم قال: (الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ) الرحمن: 2، وقال: (عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) الرحمن:1-4. وقال: (إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ) القيامة:19، فأكد أن من سيبيّن معنى القرآن لمن يتقرب إلى الله بتدبره هو الله نفسه. وقال: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ * أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ) الواقعة:58- 59، وهذا يعني أن حتى المنيّ الذي يقذفه الإنسان خلال عملية الجماع من خلق الله (إحياء علوم الدين 4/221). 

وعودة لمدلول الآية 5 من سورة السجدة، فالله هنا يتحدث عن نزول الملائكة إلى الأرض وعروجها إلى السماء الأولى ما دام قد أشار في مؤخر الآية إلى مفردة "ممّا تعدّون" أي بحساب أهل الأرض، لأنه تعالى سبق وأن كتب في اللوح المحفوظ خُطّته ورؤيته لجميع ما سيقع في الأرض من حادثات وأفعال بتفاصيلها ومقاديرها وأنزلها إلى السماء الأولى لتنفذ لقوله تعالى: (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها الا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة الا يعلمها ولا حبة في ظلمات الارض ولا رطب ولا يابس الا في كتاب مبين) الأنعام: 59، وذلك استنادا إلى المسافة المقدرة لرحلة الملائكة هبوطا وصعودا بين السماء الأولى والأرض، واعتبارا لحادثة إنزال وتنزيل القرآن أيضا، فبعد أن أخذ الروح الأمين تعاليم القرآن الكريم من اللّوح المحفوظ في البيت المعمور الذي مقرّه السماء السابعة، وأنزله دفعة واحدة إلى بيت العزّة في السماء الأولى ليلة القدر لقوله تعالى: (إنا أنزلناه في ليلة القدر) القدر: 1، وقوله (إنا أنزلناه في ليلة مباركة) الدخان: 3. ومن ثم تنزّل به الروح الأمين على قلب الرسول بلغته مُنجّما على مدى 23 سنة. وهذا هو الفرق بين الإنزال الذي تم في ليلة واحدة، والتنزيل الذي تمّ مُنجّما خلال أكثر من عقدين من الزمن. 

وسمّي حدث التدبير كما ورد في الآية 5 من سورة السجدة باليوم الفيزيائي، لأن أمر الله يتجدد حكما بالنسبة لكل مخلوقاته، ليس في السماء الأولى والأرض فحسب، بل وفي السماوات والأراضي السبع أيضا كما سبقت الإشارة، وذلك بمفهوم الزمن القدساني لا الكوني، لذلك قال تعالى عن نفسه (يسأله من في السماوات والأرض كلّ يوم هو في شأن) الرحمن: 29، والعجيب أن هذه الآية الكريمة تفصح عن وجود مخلوقات ليست في الأرض أو السماء الأولى فحسب، بل وفي السماوات السبع كما هو واضح من منطوق النص، تسأله حاجتها فيُدبّر أمرها وكل شأن من شؤون حياتها كبيرا كان أم صغيرا، لأنه تعالى لا تخفى عليه خافية بدليل قوله تعالى: (وما تكون في شان وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل الا كنا عليكم شهودا اذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الارض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر الا في كتاب مبين) يونس: 61. 

وإذا كان الأمر هو كما أوضحه تعالى في الآية الكريمة السالفة الذكر، فكيف يمكن التسليم عقلا ومنطقا لمن يوهمون الناس بأنهم سيكونون عرضة لسؤال نكير ومنكر في القبر؟ هذا افتراء على الله وتكذيب بآياته وتقليل من شأنه وعلمه، وهو سبحانه وتعالى الذي لا تخفى عنه خافية وقيّد لكل إنسان ملكان عن اليمين وعن الشمال يكتبون كل ما يضمره في نفسه أو يقوله بلسانه لقوله تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) ق: 16 – 17 – 18. وبعد هذا هل يحتاج الله تعالى لمنكر ونكير يسألان من يدفن في القبر عن ربه ودينه وكتابه ورسوله وما إلى ذلك من التّرّهات التي اختلقها فقهاء الرسوم لإيهام الناس بعذاب القبر؟ وهو الأمر الذي يعتبر افتراء على الله وتشكيك في عدله وهو الذي لا يمكن أن يعذب عبدا من عباده إلا بعد محاسبته يوم القيامة باستثناء فئتان من البشر: 

- الأولى: من افترى على الله كذبا أو ادعى تلقي الوحي أو زعم القدرة على الإتيان بمثله لقوله تعالى: (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا او قال اوحي الي ولم يوح اليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما انزل الله ولو ترى اذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا ايديهم اخرجوا انفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون)،  

- الثانية: الذين كفروا عموما لقوله تعالى: (ولو ترى اذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وادبارهم وذوقوا عذاب الحريق) الأنفال: 50.

والآيتان يتحدثان عن العذاب أثناء الاحتضار قبل خروج الروح ولا علاقة لهما بعذاب القبر كما فسّر ذلك خطأ عديد فقهاء الرسوم بما في ذلك مفتي سورة الراحل الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي.

وعودة للآية 61 من سورة يونس المذكورة أعلاه، فقد وردت عبارة (كل يوم هو في شأن) للدلالة على التميّز والتجديد والاختلاف، بمعنى أنه تعالى كل يوم هو في شأن غير الشأن السابق واللاّحق، بحيث لا يتكرر خلق من خلقه ولا فعل من أفعاله مرّتين، ولا يماثل شأن من شئونه شأنا آخر من جميع الجهات، وإنما يفعل على غير مثال سابق وهذا هو معنى الإبداع لقوله تعالى: (بديع السماوات والأرض) البقرة: 117. أي أنه كل يوم في خلق جديد، ولنا فيما نراه من عجائب الخلق والمخلوقات في الطبيعة المثال الواضح على ذلك، بحيث قد تتكرر الأشياء بالشبه لكن لا تتكرر أبدا بالذات.

وعلى هذا الأساس، فإذا كان الأمر بين السماء الأولى والأرض يتطلب تدبيره يوم فيزيائي واحد بالنسبة الملائكة، وألف سنة بالنسبة للبشر كما أوضحت الآية 5 من سورة السجدة، فإن اليوم بالنسبة للأمر في السماوات الأخرى لا يعلم مداه بالنسبة لأهل تلك السماوات إلا الله تعالى بسبب اختلاف التقدير النسبي بين الزمان الأرضي والزمان الكوني في السماوات العلى أو الأكوان الموازية الأخرى كما أوضحت ذلك نظرية النسبيّة العامة، ذلك أن كل سماء تشكل كونا مستقلا تسبح فيه النجوم والكواكب والأجرام وفق زمن نسبي مختلف عن الزمن في السماوات الأخرى. وما نعرفه من القرآن هو أنه بالنسبة للأمر الذي يهمّ مخلوقات العالم الأرضي، تقطع الملائكة لتنفيذه خمس مائة سنة هبوطا من السماء الأولى إلى الأرض، وخمس مائة سنة عروجها إليها، لكن رحلتهم هذه نزولا وصعودا لا تتجاوز يوم واحد بالحساب الفيزيائي المتعلق بالحدث المقدر وقوعه بين السماء والأرض. ولا يمكن القول إنه يوم بالنسبة لله، لأن الله لا يحده مكان ولا يسري عليه زمان بل هو يوم بالنسبة للملائكة تحديدا، من هنا وجب التفريق من حيث المعنى بين الزمن الذي يسرى على المخلوقات بشرا كانوا أم ملائكة ولا يسرى على الله سبحانه وتعالى.  

أما الآية الثانية، وبخلاف الأولى، فإنها تتحدث عن عروج الملائكة والروح إلى الملكوت الأعلى دون نزول خلال مسافة زمنية أكبر بخمسين مرة من الأولى، والأمر هنا يتعلّق بصعود نهائي إلى السماء دون عودة إلى الأرض بخلاف حال الملائكة المكلفين بتنفيذ الأمر المذكور في الآية 5 من سورة السجدة. ويفهم من هذا الحدث الفيزيائي العظيم وفق ما يعطيه السياق، نهاية التجربة الأرضية وعودة الجميع إلى الله، لقوله تعالى: (تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة) المعارج: 4، أي تصعد الملائكة والأرواح جميعها إلى الله بعد نهاية التجربة الأرضية تباعا في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، وهو مقدار يوم الدنيا حيث كلما انتهت تجربة إلا وعاد صاحبها مرفوقا بملائكته الحفظة الموكولين به إلى ربّه لقوله تعالى: (وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحدكم الموت توّفته رسلنا وهم لا يفرّطون) الأنعام: 61، ما يعني أن الذين يموتون تعرج أرواحهم إلى الملكوت الأعلى برفقة الملائكة التي وكّلت بهم لقوله تعالى: (قل يتوفّاكم ملك الموت الذي وكّل بكم ثم إلى ربّكم ترجعون) السجدة: 11، وقوله أيضا: (له مُعقبّات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله) الرعد: 11، أي ملائكة يتعاقبون على الإنسان بالليل والنهار يحفظونه بأمر الله، وحين تنتهي مهمتهم ويموت الإنسان يعرجون مع روحه إلى مستقرها الأبدي في عالم البرزخ. وبالتالي، فالعروج هنا يهمّ الملائكة والأرواح معا، وهي للإشارة كلها (الملائكة والأرواح) كائنات نورانية لا ضلال لها، وهو الحدث الذي يستمر طيلة الحياة الدنيا بالحساب الأرضي، أي خمسين ألف سنة كما ذكر الله في الآية، فيما يكون بحساب الحدث الفيزيائي من مُبتداه إلى منتهاه مجرد يوم فقط مُعبّر عنه بيوم الحياة الدنيا كما سيشهد على ذلك من سيبعثهم الله يوم القيامة لقوله تعالى: (قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين * قالوا لبثنا يوم أو بعض يوم فاسأل العادّين) المؤمنون: 112 – 113. 

ويستفاد بالاستنتاج المنطقي من مدلول وسياق الآية 4 من سورة المعارج، أن يوم الحياة الدنيا من أول الخليقة وإلى يوم القيامة هو خمسين ألف سنة، وبالتالي، نحن هنا أمام فرضيتان:

- الأولى تقول: إذا كان اليوم الذي يتحدث عنه تعالى هو الذي بدأ بخلق آدم أب البشر الأول المتوحش، فإن المدة الزمنية التي مضت حتى الآن هي 50 ألف سنة، وبالتالي يكون اليوم بالمعنى الفيزيائي قد انتهى والساعة لمّا تقم بعد، وهذا مستحيل بالتحليل الموضوعي والمنطقي.

- أما إذا كان اليوم الذي تتحدث عنه الآية  الكريمة يبدأ من عصر ما بعد الجنة، أي من ظهور آدم الأخلاقي المكلّف الذي اصطفاه الله ووهبه حرية الاختيار فعصا ربّه فطرد من الجنة وجعله تعالى خليفة في الأرض لمن سبقه من بشر بدائي مُتوّحش قالت عنه الملائكة أنهم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء بحكم ملاحظتها لتصرفاتهم خلال مراحل الرقي والتطور التي استمرّت آلاف السنوات (لأن الملائكة لا تعلم الغيب حتى تقول لربها ما قالته بشأن فساد البشر وسفكهم للدماء عندما قرر تعالى أن يجعل في الأرض خليفة)، وبالتالي، فإن آدم الأخلاقي الذي ظهر في عصر ما بعد الجنّة قد عاش في الأرض قبل حوالي أكثر قليلا من عشرة ألف سنة وبه بدأ العصر الزراعي، لأن آدم الإنسان الأخلاقي هو أول من مارس الزراعة على الأرض، وبالتالي، فما تبقى ليوم القيامة هو أقل قليلا من أربعين ألف سنة بالاستنتاج المنطقي، وهذا الحساب التقريبي لا يدل على زمن القيامة بل على زمن تقريبي لقيام الساعة إيذانا ببداية يوم القيامة، ما دامت الساعة من علم الله لقوله في أكثر من آية: (يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها إلى وقتها إلا هو) الأعراف: 187. ويوم القيامة قد يبدو للكافرين بعيدا، لكنه في حساب الله قريب وقريب جدا لقوله تعالى: (فاصبر صبرا جميلا * إنهم يرونه بعيدا * ونراه قريبا) المعارج: من 5 إلى 7. وقوله في الساعة التي تعتبر بمثابة مرحلة انتقالية بين يوم الدنيا ويوم القيامة: (وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب إن الله على كل شيء قدير) النحل: 77، وقوله: (إن الساعة آتية أكاد أخفيها) طه: 15... وغيرها كثير. 

ويشير تعالى في مطلع سورة المعارج السالفة الذكر إلى الظواهر الخارقة التي ستسبق البعث يوم القيامة والتي تعتبر من حيث الطبيعة والتوقيت علامات الساعة الحقيقية. من هنا يتّضح الفرق القائم بين يوم القيامة الذي هو يوم الحساب والجزاء والعقاب، والساعة التي تعني الحدث العظيم الذي تدل عليه سورة الدخان وسورة الواقعة وسورة الزلزلة وغيرها، أي المرحلة الانتقالية بين اليوم الأرضي واليوم الأخروي والتي لا يعلم إلا الله كم سيدوم هذا الحدث الفيزيائي، لأن الله لا يخلق الأشياء بعصا سحرية بل بقوانين فيزيائية دقيقة سمّاها تعالى "سنن" أي قوانين ثابتة قال عنها تعالى أنها لا تتبدّل ولا تتغيّر. 

والحقيقة أن هذا الاستنتاج المنطقي الذي يقبله العقل ويرتاح له القلب لأنه يتوافق مع ما ورد في الذكر الحكيم من حقائق، يُغيّر جذريا من بعض المفاهيم التراثية المتعلقة بتفسير القرآن الكريم من جهة، والمفاهيم العلمية المتعلقة بنهاية العالم من جهة ثانية، ويفتح بقوّة على سؤالين بديهيين، الأول ديني والثاني دنيوي:

- السؤال الديني يقول: إذا كان يوم الناس في الحياة الدنيا وفق المفهوم القرآني هو 50 ألف سنة بمقدار الزمن الأرضي، فمتى تقوم الساعة وما هي أشراطها؟

للجواب على هذا السؤال سوف ننطلق ممّا أفرزته الخريطة الجينية للأصل الوراثي لكافة أعراق البشر سنة 2004 (خريطة الجينوم البشري)، حيث قدّر العلماء مرور 50 ألف عام على بدأ التاريخ البشري، أي منذ ظهور الفصيلة الأولى من البشر البدائي المتوحش في العصر الحجري أو عصر ما قبل الجنة، لأن عصر الجنة بدأ بالزراعة مع اصطفاء الله لآدم الإنسان العاقل والأخلاقي كما سبقت الإشارة.

البشر البدائي المتوحش

 هذا فيما اكتشفت الحفريات شظايا لما أسماه العلماء بـ "البشر المنتصب" في جزيرة جاوة الإندونيسية، وهي فصيلة قليلة يعتقد أن البشر البدائي المتوحش انحدر منها. وذكرت مجلة "نيتشر" العلمية المتخصصة أن أول البشر المنتصب عاش في الحقبة قبل 108 ألف و117 ألف سنة، وهو التحديد الذي خضع لنحو 52 تحليل علمي استغرق ليكتمل زهاء 13 سنة.  

البشر المنتصب الأول

وهو ما يؤكد أن 50 ألف سنة المذكورة في القرآن تبدأ من عصر إنسان ما بعد الجنة، أي من زمن آدم المُكلّف والمخاطب بالوحي الذي وجد قبل أكثر قليلا من 10 ألف سنة، وليس منذ "البشر المنتصب الأول" الذي عاش على الأرض قبل أكثر من 100 ألف سنة أو "البشر البدائي المتوحش" الذي تناسل من "البشر المنتصب الأول" بعد أن اكتمل تشكيله حيث عاش على الأرض في جماعات قبل 50 ألف سنة. 

ووفق "مكتب السكان العالمي الأمريكي"، فإن عدد البشر المولودين منذ 50 ألف عام (تاريخ الإنسان البدائي الأول) حتى تاريخ الدراسة (2004) يقدّر بنحو 108.2 مليار نسمة، مع الأخذ بالحسبان عوامل عديدة تُؤثّر إيجابا وسلبا في الإنجاب ممّا يجعل هذا الرقم أقرب إلى الواقع من الناحية العلمية وفق القواعد المعمول بها في علم الإحصاء. وقد تناولت الدراسة عصر ما قبل الزراعة وعصر الزراعة وعصر الصناعة. وحسب النتائج المتحصّل عليها، فقد شملت الدراسة مرحلة ما قبل الزراعة التي دامت 10.000 عام، وفترة الزراعة التي استمرت أيضا 10.000 عام، وعصر الصناعة الذي بدأ منذ 1.000 عام، وهذه الفترة الأخير هي التي شهدت أكبر نسبة نمو سكاني عبر التاريخ، حيث ارتفع فيها البشر من 500 مليون نسمة عاشت في عصر الزراعة إلى ما يناهز 8 مليار نسمة اليوم بسبب الانفجار السكاني الناجم عن التقدم الذي عرفته البشرية في كافة المجالات منذ الثورة الصناعية إلى اليوم.

ومن النتائج العلمية المثبتة بفضل نتائج دراسة الجينوم البشري وعديد الاكتشافات الأركيولوجية في أصقاع الأرض المختلفة، أن هناك أجناسا كثيرة ظهرت وعاشت في فترة ما قبل العصر الزراعي، وكانت تعرف بـ “البشر البدائي“ Neandertal قبل أن تنقرض ويحل محلها "الإنسان العاقل" Neo Sapiens الذي ظهر لأول مرة في العصر الزراعي مع آدم باعتباره أول من مارس زراعة الأرض كما سبق القول، ليبدأ ما أصبح يعرف بعهد التبشير الديني زمن الرسل والرسالات والذي استمرّ لفترة 4.800 عام فقط موزّعة كالتالي: بين آدم ونوح: 1000 عام – وبين نوح وإبراهيم: 1000 عام – وبين إبراهيم وموسى: 700 عام – وبين موسى وعيسى: 1.500 عام – وبين عيسى ومحمد: 600 عام. وهؤلاء عليهم السلام جميعا هم من سمّاهم الله تعالى بالرسل أولي العزم لما تحمّلوا من أدى من أقوامهم وصبروا على ما أصابهم.


الانفجار السكاني

من جهة أخرى، فوفق نتائج إحصائيات السكان التي قامت بها الأمم المتحدة ومواقع متخصصة مختلفة كـ (World Atlas) الكندي، يتبيّن أن أمة محمد عليه السلام بلغ تعدادها عام 2015 ما يقرب من 1.8 مليار مسلم، أي ما يناهز ربع سكان العالم (24.1 %)، وهم من أعراق وأجناس وطوائف ومذاهب مختلفة. 

ممّا سلف يُستنتج أن الساعة لم تحن بعد، خصوصا وأن عُمر الإنسان المُكلّف على الأرض منذ عصر ما بعد الجنة يقدر اليوم بأكثر قليلا من 10 ألف سنة فقط، وبالتالي فإذا كان عُمرُ اليوم بمفهوم الحدث الفيزيائي الدنيوي هو 50 ألف سنة كما يستفاد من الآية 4 من سورة المعارج، فما تبقى لقيام الساعة هو أقل قليلا من 40 ألف سنة بحساب الزمن الأرضي. وهو وقت كافي ليظهر الله دينه الحق على الدين كله رغما عن المتربصين الذين يريدون أن يطفئوا نور الله والله متم لنوره ولو كره الكافرون وفق ما يؤكد تعالى في قرآنه.  

ومعلوم أن لقيام الساعة أشراطها، ونقصد بها تلك التي وردت في القرآن الكريم لا تلك التي روج لها الفقهاء باسم سنة ابتدعوها ما أنزل الله بها من سلطان، وهو الموضوع الذي سنتناوله في مبحث آخر منفصل انطلاقا من القرآن بعون الله تعالى.

أما السؤال الدنيوي فيقول: ما الذي سيحدث للبشرية خلال الأربعين ألف سنة القادمة؟ 

للجواب على هذا السؤال، يجب الأخذ بمعطيين اساسين، الأول ديني والثاني علمي:

- المعطى الديني الأول نجده في الآية القرآنية الكريمة التي تقول: (ألم ترى أن الله سخّر لكم ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة، ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير) لقمان: 19.

والتسخير لغة هو وضع الشيء في خدمة الإنسان، لأجل رقيّه وسعادته وكماله بما أصبغ عليه من نعم ظاهرة وباطنة. واستغلال ذلك بالوجه الصحيح لا يكون إلا من خلال ثلاثة مصادر رئيسة: - العلم الذي يقوم على الحجة العقلية. - الهدى الذي يكون مصدره الفيض بالوحي والإلهام. - الكتاب المنير المُنزّل على الرسول الأعظم عليه السلام في إشارة إلى القرآن الذي جمع الحقائق التي سبق ذكرها في الصحف والكتب والرسالات السابقة فاكتمل به الدين. ولا وجود لطريق ثالث يساعد الإنسان على فهم الكون ومعرفته واستغلاله فيما سخره الله له.

ولأن الله تعالى يتحدث هنا عن السماوات السبع ومثلهن من الأراضي لقوله تعالى: (الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهنّ) الطّلاق: 12. فالأمر يتعلق بمليارات النجوم وملايين الكواكب والأقمار التي تزخر بها كل سماء في الكون الفسيح، ويكفي التذكير أن درب التبانة في السماء الأولى يحتوي ما بين 200 و400 مليار نجم وثلاثة مائة مليون كوكب صالح للحياة وفق نتائج المهمة الفضائية الأوروبية "جايا" (Gaia). والتي أكدت بشكل تقديري نفس النتائج التي توصلت إليها وكالة "ناسا" (NASA) التي تمت بواسطة المسبار "كبلر" حيث استمرت من سنة 2009 إلى سنة 2018. وهناك نجوم وكواكب وأقمار في مجرات أخرى بالسماوات العلى لا يعلم عددها إلا الله قد تكون فيها كواكب مأهولة لقوله تعالى: (ومن آياته خلق السّماوات والأرض وما بثّ فيهما من دابّة وهو على جمعهم إذا يشاء قدير) الشورى: 29. والحديث هنا عن "البث" الذي يعني نشر وزرع وتفريق المخلوقات التي تدبّ في الأرض وفي السماوات، ما يؤكد بما ما يدع مجالا للشك وجود مخلوقات لا نعلمها في كواكب وأكوان أخرى من الكوسموس، وأن الله على جمعها بالبشر إذا يشاء قدير كما قال. وبالتالي، فمثل هذا الجمع لا يكون إلا بإرادة الله وقدرته وتطور العلم، وأخذ الإنسان بالأسباب.

ما سبق ذكره يقودنا حكما للمعطى الثاني الذي هو معطى علمي ومفاده، إن الإنسان ومنذ عصر ما بعد الجنّة، قبل عشرة ألف سنة أو يزيد قليلا، قد وصل إلى ما وصل إليه من تقدم مُبهر في مختلف المجالات، وأن وثيرة التقدم ازدادت سرعة بشكل أصبح معه من المستحيل اللحاق بكافة جوانب العلوم، خصوصا ما وصل إليه الإنسان في القرنين الماضين من تقدم حضاري استنادا إلى مقارنات بين الأهمية النسبية للقدرات الزراعية مقابل القدرات التجارية أو التصنيعية، والامتدادات القارّيّة لقوّتها، وتعقيد نظام تقسيم العمل لتسريع وثيرته والرفع من مردوديته، والقدرة الاستيعابية للمناطق الحضرية الجديدة، كما وتشتمل العناصر الثانوية في المجالات التقييمية الرئيسية على نظام نقل متطور وكتابة وقياس موحد وعملة نقدية وأنظمة قانونية واسعة ومتنوعّة، بالإضافة إلى ما حصل من تقدّم في مجال الفن والهندسة المعمارية والرياضيات والفهم العلمي والتعدين والهياكل السياسية والمفاهيم الدينية الجديدة المواكبة للتقدم العلمي في مواجهة المفاهيم التراثية الجامدة القديمة التي اعتمدتها الأنظمة القروسطيّة الرسمية.

ومعلوم أنه بموازاة ذلك، فإن السباق العلمي والتكنولوجي بشكل خاص، يسير كل مرة بوثيرة أسرع من سابقاتها، ما سيجعل البشرية تدخل عهدا جديدا يفتح على اكتشافات علمية وتكنولوجية مُبهرة، الأمر الذي قد يساعد الإنسان على اكتشاف الحياة في كواكب أخرى، واستغلال الموارد بشكل أكثر فائدة ونفعا للبشرية، فيتحقق بذلك التسخير الإلهي للكون لفائدة الإنسان الأخلاقي، لقول الله تعالى للملائكة التي شكّكت في تصرّفات البشر البدائي (Neandertal) الطائشة على الأرض: (إني أعلم ما لا تعلمون) البقرة: 30. ذلك أن الملائكة لا تعلم الغيب، ولم يكن لها أن تعرف كيف سيكون عليه حال الدنيا مع الإنسان الأخلاقي الجديد (Homo Sapiens) فكان تساؤلها بالتالي مبنيّا على ما كانت تلحظه من تصرّفات الإنسان البدائي القديم ما دام يستحيل عليها الاطلاع على الغيب الذي هو مجال لا يعلم خباياه إلا الله تعالى دون سواه. 

وفي الختام نستطيع القول أن لا أحد يعلم متى تقوم الساعة لأنها من علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله لقوله تعالى: (يسألونك عن الساعة أيّان مرساها قل إنّما علمها عند ربّي لا يجلّيها لوقتها إلاّ هو) الأعراف: 187، لكن بالمعطيات التي سبق وأن تحدّثنا عنها أعلاه، نستطيع معرفة متى يكون يوم القيامة بشكل تقديري بحساب الزمن الأرضي، فيما نجهل التوقيت الدقيق بحساب الزمن القدساني لأنه من مجال عالم الغيب. 

والله أعلم.   


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق