بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 28 ديسمبر 2022

الصلاة بين السنة والقرآن.. (10/1)

 

(قل إنّ صلاتي ونُسكي ومحياي ومماتي لله ربّ العالمين)

- الأنعام: 162 -

تمهيـــد

إلى وقت قريب لم تكن الصلاة الحركية مطروحة للنقاش، وكانت غالبية الأمة تُقيمُها بالتواتر تطبيقا لشريعة الفقهاء باعتبارها تدخل في باب "المعلوم من الدين بالضرورة"، في تجاهل تام لما ورد بشأنها في شريعة السماء، سواء ما له علاقة بمفهومها أو بأوقاتها أو بطريقة أدائها أو بعدد ركعاتها.. غير أنه في السنوات الأخيرة ظهرت حركة نقد نشطة للتراث، استندت في تحليلاتها إلى معطيات التاريخ وما ورد في الذكر الحكيم من حقائق، والتي تدحض جملة وتفصيلا ما جاء في كتب الفقهاء من افتراءات على الله ورسوله بشأنها.../...

ولعل أهم الأسئلة التي تطرح بالمناسبة هي:

- إذا كان الله تعالى قد فصّل كل الشعائر المفروضة على المؤمنين في القرآن الكريم، فلماذا لم يفعل ذلك بالنسبة للصلاة؟

- وإذا كان الله تعالى قد جعل الكفّارة وسيلة لستر الذنوب ومحوها وتعويض شرعي يقوم مقام التوبة على كل من لم يقم بفريضة شرّعها تعالى لعباده بدون عذر.. فلماذا لم يجعل لتارك الصلاة كفارة بالنسبة لمن له عذر وعقوبة للمهمل المتعمد كما هو الحال بالنسبة لمن تعمّد الإفطار في رمضان مثلا، ما دام الفقهاء ومنذ عهد بني أمية وإلى يوم الناس هذا يُؤكّدون أن الصلاة ركن من أركان الإسلام الخمسة لا يقوم الدين من دونها؟ 

والمفارقة العجيبة، أنه وباسم "المعلوم من الدين بالضرورة"، شرّع الفقهاء عديد الأحكام التي لم ينزل الله بها من سلطان، كقتل تارك الصلاة مثله مثل المُرتدّ، ونفس الأمر يمكن أن يقال عن عقوبة الزّنى التي شرّع الله لها في القرآن الكريم عقوبة الجلد في حال ثبوت الفعل، فيما شرّع لها الفقهاء في سنّتهم الرّجم حتى الموت على سنة اليهود، وقس على ذلك عديد الأحكام التي يعتبرها المسلمون من الدين وهي ليست كذلك، وهو ما سنأتي على تفصيله في سياق هذا المبحث.

- وإذا كان الله تعالى قد أمر عباده كافة باتباع دين السماء كما بيّنه لهم في كتابه، فلماذا ترك المسلمون القرآن وراء ظهورهم واتّبعوا دين الفقهاء استنادا إلى حديث منسوب للرسول عليه السلام يقول: "ما اجتمعت أمتي على ضلال"؟.. وهل اجماع فقيهين أو ثلاثة على أمر لم يقل به القرآن يمثل إجماع الأمة حقا؟.. أم هو افتراء على الله ورسوله لتشريع ما لم ينزل به من سلطان؟

- ويبقى السؤال الأهم ومفاده: هل ممارسة الأمة للصلوات الخمسة كل يوم يعتبر من الدين بالضرورة وفق زعم الفقهاء أم أنها ممارسة مبتدعة لم يفرضها الله تعالى على عباده في القرآن الكريم؟

- لأنه إذا كان الله هو من شرّع مناسك العبادة منذ زمن إبراهيم الخليل وأقامها من بعده كل الأنبياء والرسل عليهم السلام جميعا دون تبديل أو تغيير أو زيادة أو نقصان كما يفهم من قوله تعالى على لسان إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام: (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربّنا تقبّل منّا إنك أنت السميع العليم * ربّنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذرّيتنا أمّة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب) البقرة 127 – 128. وبالتالي، فلماذا تغيّرت طريقة الصلاة وتبدّلت أوقاتها وزادت عدد مرات إقامتها في اليوم منذ ظهور الفقه قرنين بعد وفاة الرسول عليه السلام وإلى يوم الناس هذا؟.. وهل كان إبراهيم وذريّته والأنبياء والرسل الذي جاءوا من بعده، عليهم السلام جميعا، يُصلّون بنفس الطريقة التي يصلي بها المسلمون اليوم، وبالتالي، يقرأون بفاتحة الكتاب وبآيات لم تكن قد نزلت بعد؟ وكيف كانوا يقيمون الصلاة بطريقة غير الطريقة التي علّمها جبريل للنبيّ محمد عليهما السلام دون غيره من الأنبياء والرسل حسب زعم الفقهاء؟.. وهو الأمر الذي يطرح أكثر من سؤال حول ما إذا كان الإسلام هو الدين الذي بعث به الرسول محمد عليه السلام ولا علاقة له بما جاء به الرسل من قبله؟

- من جهة أخرى، إذا كان الفقهاء يزعمون استنادا إلى ما يُسمّونه بالسنّة، أن النّبيّ محمد عليه السلام كان يقيم لقومه صلاة الجمعة كل أسبوع، فلماذا لم يصلنا من هذه السنّة خطبة واحدة من أصل أكثر من 510 خطبة يفترض أنها ألقيت خلال صلاة الجمعة في المدينة على مدى 10 سنوات، وتمثل ما يعادل ضعف حجم القرآن الكريم؟.. اللهم باستثناء خطبة الوداع التي ألقيت في صعيد عرفة يوم الحج الأكبر فوق هضبة صغيرة تسمى "جبل الرحمة" يبعد 22 كلم عن أم القرى، وبالتالي فلا علاقة لها بصلاة الجمعة بل بمناسبة إقامة مناسك الحج. 

هذا علما أن السنّة لم تترك كبيرة ولا صغيرة من قول أو عمل أو إقرار للرسول عليه السلام إلا ونقلته بصيغ مختلفة بعد وفاته بأكثر من 180 سنة، سواء تعلق الأمر بحياته العامة أو الخاصة، بل وذكرت لنا المرويات حتى ما كان يدور بين النبي وأزواجه في الفراش، الأمر الذي يعتبر من صميم حياته الحميمية التي لا يعلمها إلا الله تعالى دون سواه.. فكيف تكون صحيحة مثل هذه الروايات التي تتحدث عن أمور خاصة تتعلق بالحياة الحميمية للنبي والتي رويت بعد زهاء قرنين من وفاته؟ 

الجواب على ذلك قد يكون صادما لعامة المسلمين الذين يمارسون دينهم بالوراثة بدل القناعة المؤسّسة على التدبّر والفهم الصحيح للمراد من خطاب الله لعباده، ومفاده بالنسبة لموضوع البحث، أن الصلاة الحركية لو كانت فعلا مفروضة بالطريقة والعدد والأوقات المعهودة في مختلف أصقاع المعمور منذ قرون، لما أغفل الله تعالى ذكر تفاصيلها في التنزيل الحكيم كما فعل بالنسبة لبقية الفرائض لأهميتها باعتبارها أركان أساسية في العبادة لا يقوم الإيمان إلا بها، وكون الفقهاء زعموا أن القرآن وإن لم يأتي على ذكرها إلاّ أن السنّة قد بيّنتها، وبالتالي على المؤمنين التسليم بها، إلا أن ما يدحض مثل هذا القول جملة وتفصيلا هو أن السنّة نفسها، وإن كانت قد ذكرت الصلاة الحركية في بعض الأحاديث المتناثرة، غير أن المفارقة العجيبة الغريبة تكمن في عدم وجود حديث واحد صحيح ومتصل السند منسوب للنبي الكريم عليه السلام - وفق أصول علم الحديث وقواعد التدقيق في السند والمتن - يفصّل عدد ركعات الصلوات الخمس، ما يؤكد أن ما وصلنا من تواتر بشأن عدد ركعات الصلوات الخمس لم يكن مصدره النبي عليه السلام ولا الصحابة المقربين، بل شهادات شاذّة لأناس مجهولين لم يكونوا يُصلّون ولا يعرف لهم دين، اعتمد عليها الفقهاء للقول بوجوب الصلوات المفروضة وطريقة أدائها كما سيأتي معنا بيان ذلك فيما بعد. 

والحقيقة أن قول الفقهاء بأن السنة هي وحي مكمّل للقرآن، لم يكن سوى تبرير مكشوف للتلاعب بالدين، مُستغلّين في ذلك جهل الناس وابتعادهم عن كتاب الله، الأمر الذي فتح لتجّار الدّين المجال واسعا لينسبوا إلى الله من خلال الافتراء على نبيّه  ما لم ينزل به من سلطان، وهي حيلة خبيثة وقديمة استعملها حاخامات اليهود ورهبان النصارى، الأمر الذي يُعدّ من الكبائر نعود بالله من أن نُصدّقها فنكون من الجاهلين، وقد نبّهنا تعالى لخطورة مثل هذا الجُرم العظيم الذي عقابه الويل يوم القيامة لقوله: (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون) البقرة: 79. 

أما من الناحية العملية، خصوصا ما له علاقة بالدال والمدلول كما يقول اللّغويون، أو المعنى والمصداق كما يقول المناطقة، وما دامت النتائج بمقدماتها كما يقول ابن رشد، والأعمال بغاياتها كما يستنبط من خطاب الله لعباده، وبالتالي، فإذا كانت الصلاة تنهى فعلا عن الفحشاء والمنكر، فإن إقامتها وفق مختلف السياقات التي وردت فيها في الذكر الحكيم، تعني إقامة الدين، أي إقامة أحكام وأخلاق القرآن الكريم لبناء مجتمع صالح يعيش الناس فيه على هدى من الله وصراط مستقيم، ينعمون بالعدل والرخاء، ويتعاملون بالحسنى في علاقتهم البينية ومع الآخر المختلف عنهم. لأنه إذا كان الدين قد جاء لإصلاح حياة الناس لا لتدميرها بزعم الفوز بحياة الآخرة، وهو ما يؤكده اليوم، للأسف، واقع المسلمين نتيجة ما وصلوا إليه من انحطاط وضعف وتفكك وجهل وانحلال وتخلف، فهي بالنهاية معضلات تمثل المصداق العملي لفهمهم وتطبيقهم الخاطئ للإسلام الذي يعني الاستقامة والإصلاح، الأمر الذي يطرح أكثر من سؤال حول مصطلحات قرآنية كثيرة لم نفهمها بالعمق المطلوب، ومنها الصلاة على وجه الخصوص.   

ونظرا لشرعية السؤال وأهمية الجواب، ارتأيت أن أتناول الموضوع بالبحث للوصول إلى القناعة الذاتية، وذلك انطلاقا من المُسلّمات الأساسية التالية: 

- المسلّمة الأولى: أن الله تعالى أمر عباده في عديد الآيات باتباع ما أنزل إليهم من وحي بدل اتباع أولياء من دونه أغواهم الشيطان ليضلّوا عباد الله، لقوله تعالى: (اتّبعوا ما أنزل إليكم من ربّكم ولا تتّبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذّكّرون) الأعراف: 3، وقوله في إشارة إلى القرآن الكريم: (وإنّ هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتّبعوا السُّبل فتفرّق بينكم عن سبيله ذلكم وصّاكم به لعلّكم تتّقون) الأنعام: 153. وقوله: (وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتّقوا لعلّكم تُرحمون) الأنعام: 155، فجعل الرحمة مشروطة بالتقوى وبيّن أن التّقوى لا تتحقّق إلا باتباع كتاب الله والاعتصام به بدل اتباع المذاهب التي فرّقت المسلمين. وحذر كل من كذّب بآيات الله وأعرض عنها بقوله: (فمن أظلم ممّن كذّب بآيات الله وصدف عنها سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب بما كانوا يصدفون) الأنعام: 157. وبالتالي، فكل من أعرض عن آيات الله واتبع أحاديث غيره من البشر يكون قد حقّق عليه إبليس ظنّه فأغواه وأضلّه عن سواء السبيل، لقوله تعالى: (ولقد صدّق عليهم إبليس ظنّه فاتّبعوه إلا فريقا من المؤمنين) سبأ: 20، وهم قلّة للأسف سمّاهم الفقهاء بـ "القرآنيين" كما لو كانوا فئة ضالة اختارت اتباع كلام الله بدل كلام الفقهاء المخالف له .

- المُسلّمة الثانية: أن القرآن كتاب الله الذي جاء تبيانا لكل شيء، ولم يفرط في شيء، وفيه تفصيل كل شيء، وهو الذي قال عنه تعالى أنه نور وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين بدليل قوله: (ونزّلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين) النحل: 89. وقوله: (ألر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير) هود: 1. وقوله: (تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون) الجاثية: 6. وقوله: (ولقد جئناهم بكتاب فصلناها على علم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون) الأعراف: 52. وقوله: (وكل شيء فصلناه تفصيلا) الإسراء: 12.  الأمر الذي يؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن من يدّعي أن القرآن لم يفصّل كل شيء وأنه بحاجة لسنة تكمّله إنما يفتري على الله الكذب ويسعى لتضليل الأمة. وهو الأمر الذي يستنكره الله تعالى بقوله: (أفغير الله ابتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزّل من ربّك بالحقّ فلا تكوننّ من الممترين) الأنعام: 114. وبالتالي، فمن يترك القرآن وراء ظهره ويبحث عن كيفية إقامة طقوس وشعائر العبادة من سنة الفقهاء، يكون من الممترين، أي من المجادلين المشككين في كلام الله لحساب كلام فقهاء القشور وشيوخ الفتنة والجهل.. وقديما وفق ما ورد في التراث، كان كلّما قيل لأحد الأتباع المُضللين: "قال الله تعالى" إلا وأجاب دون تفكير: "لكن شيخي قال"، فيعتبر أن ما قاله شيخه هو عين الحق وليس ما قاله الله، وإذا لم يكن هذا هو عين الجهل وقمّة الضلال فلا جهل ولا ضلال في هذه الدنيا. خصوصا والله تعالى يقطع الشك باليقين فيقول في محكم التنزيل: (وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين) يونس: 37.

- المُسلّمة الثالثة: أن من يُشرع للناس أحكام ومناسك دينهم هو الله تعالى لا الفقهاء، وحذّر كل من يفتري على الله الكذب ليضل الناس بغير علم من الذين يزعمون أنهم يدعون الناس إلى دين الإسلام القويم، لقوله تعالى: (ومن أظلم ممّن افترى على الله الكذب وهو يدعي إلى الإسلام والله لا يهدي القوم الظالمين) الصّف: 7. وقوله أيضا: (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا اولئك يعرضون على ربهم ويقول الاشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم الا لعنة الله على الظالمين) هود: 18. بل حتى الرسول عليه السلام لم يكن يزعم شيئا من عنده في شؤون الدين، وكان كلّما استفتاه قومه في أمر استعصى عليهم إلا وكان ينتظر نزول الوحي ليُبلّغهم حكم الله فيه، وقد وردت عديد الآيات التي تفيد ذلك كقوله تعالى: (- يستفتونك في... قل... - ويسألونك عن... قل...). 

وبالتالي، يستحيل أن تلغي السنّة حكما قرآنيا أنزله الله في كتابه بزعم الناسخ والمنسوخ كما ذهب إلى ذلك فقهاء الرسوم، لقوله تعالى: (يا أيها الرسول بلّغ ما انزل اليك من ربك وان لم تفعل فما بلّغت رسالته والله يعصمك من الناس ان الله لا يهدي القوم الكافرين) المائدة: 67، ذلك أن النسخ المذكور في القرآن له علاقة بشريعة ما قبل محمد عليه السلام وليس بأحكام القرآن الكريم وفق ما يفهم من سياق الخطاب لقوله تعالى: (ما يودّ الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزّل عليكم من خير من ربّكم والله يختصّ برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم * ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير) البقرة: 105 – 106. وواضح أن النسخ هنا يتعلق ببعض ما شرّعه الله تعالى لأهل الكتاب سابقا ثم غيّر حكمه في القرآن بسبب تبدّل الظروف من جهة، وما طرأ على الكتب السماوية السابقة من تزوير وتحريف وتحوير وتغيير من جهة أخرى. أما ما ورد في القرآن الكريم فلا يُبدّل ولا يغيّر لأن الحقائق بطبيعتها لا تتغيّر، ومن المنكر القول "إن السّنّة تنسخ القرآن" كما ذهب إلى ذلك بعض شيوخ الجهل والصلال والله تعالى يقول:(ما يُبدّل لديّ القول وما أنا بظلاّم للعبيد) ق: 29. وإذا كان المعنى الخاص لهذه الآية يحيل على ما سبق وأن قدّمه تعالى للكفار من وعيد، فإن المعنى العام يحيل على مطلق ثبات قوله تعالى وعدم تغييره لأنه سبحانه منزّه عن العبث وقوله الحق الذي نزل بالحق، خصوصا إذا علمنا بالمنطق أن القول بالناسخ والمنسوخ يفيد وجود العبث لعلة النقص والتناقض، والله منزه عن ذلك سبحانه وتعالى عمّا يصف الجاهلون علوّا كبيرا.

- المسلّمة الرّابعة: أن المُشرّع الوحيد لأحكام الدين هو الله تعالى لا الرسول الذي يقتصر دوره على تبليغ رسالة السماء وفق ما يعطيه مصطلح "الرسول" من مفهوم لقوله تعالى: (يا أيها الرسول بلّغ ما أُنزل إليك من ربّك وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين) المائدة: 67. وقوله: (وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلا * ولولا أن ثبّتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا) الإسراء: 73 – 74. فالله تعالى أوعد الرسول في الآية الكريمة أشد الوعيد إن مال إلى المشركين وركن إليهم بعد أن كادوا يزلّونه ليصرفوه عما أوحى الله إليه ويتخذوه خليلا، ومعلوم أن الخلة لا تصحّ بين العبد والعبد بل فقط بين العبد وربّه كما هو واضح من مفهوم الخلة في حال إبراهيم الخليل عليه السلام. وإذا كان هذا هو الحال مع الرسول المصطفى عليه السلام، فكيف يكون الحال مع الفقهاء الذين تطاولوا على الله فحوّروا كلامه وأعطوه معاني لا علاقة لها بالمراد من خطابه لعباده، ووضعوا للناس مذاهب تفرّقهم، وشرّعوا لهم أحكاما ما أنزل الله بها من سلطان باسم سنّة ابتدعوها ونسبوها للرسول فحوّلوا الإسلام السمح الجميل إلى نسخة مشوهة إلى أقصى الحدود عن الدين القويم الذي ارتضاه الله لعباده. ومعلوم أن من يتطاول على شرع الله الذي هو من مجال اختصاصه تعالى دون سواه يعدّ من المشركين الظالمين لأنه يشارك الله في التشريع لعباده بدليل قوله تعالى: (أم لهم شركاء شرّعوا لهم من الدّين ما لم يأذن به الله ولولا كلمة الفصل لقُضي بينهم وإنّ الظّالمين لهم عذاب أليم) الشورة: 21. 

والمعنى واضح لا يحتاج لكثير تفسير، ومؤدّاه  بالمختصر المفيد أن كل من تطاول على دين الله وشرّع للناس ما لم ينزل به الله من سلطان في التنزيل الحكيم يُعدّ مشركا ظالما لنفسه وللعباد بما زعم من بدع باسم سنّة كاذبة زائفة، فحرّم ما أحلّ الله وأحلّ ما حرّم، وفرض على الناس ما لم يفرضه عليهم الله رحمة بهم. وقد قطع الله تعالى الشك باليقين حين قال: (ولا يشرك في حكمه أحدا) الكهف: 26، وقال أيضا: (إن الحكم إلا لله أمر ألاّ تعبدوا إلاّ إيّاه ذلك الدين القيّم ولكن أكثر الناس لا يعلمون) يوسف: 40. وبالتالي، فواضح من خلال الآيتين السالفتين الذكر أن التشريع والتدبير والتصرّف في الملك والملكوت لا يكون إلا لله وحده، وقد أمر عباده ألاّ يعبدوا سواه، وهذا هو الدين القيّم، من اتّبعه يكون على هدى وصراط مستقيم، ومن خالفه يكون على ضلال مبين، غارق في الشرك من حيث يدري أو لا يدري، والمعضلة كما أوضحها تعالى، تكمن في أن كثير من الناس لا يعلمون، فكون الغالبية من الأمة تتبع الفقهاء باسم سنة مُبتدعة بسبب جهلهم، لا يعني ذلك أنهم على هدى من ربهم لقول الفقهاء على لسان الرسول عليه السلام "ما اجتمعت أمتي على ضلال"، بشهادة القرآن نفسه الذي ينفي مثل هذا القول ويؤكد عكسه تماما لقوله تعالى: (وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين) يوسف: 103 لأن الإيمان لا يكون صحيحا إلا إذا وافق العمل ما شرّعه الله تعالى لعباده لا ما شرّعه لهم الفقهاء، بما يعني ذلك من تصديق بالعقل وتسليم بالقلب وترجمة الكلام بالعمل الصالح الذي ينفع الناس.

- المُسلّمة الخامسة: أن الدين لا يورّث من أعمال الناس على سنّة الآباء والأجداد لقوله تعالى (وإذا قيل لهم اتبعوا ما انزل الله قالوا بل نتبع ما الفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون) البقرة: 170. كما أن الدين القويم لا يُؤخذ ممّا شرّع الفقهاء وزعموا أنه من عند الله وهو ليس من عنده لقوله تعالى: (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت ايديهم وويل لهم مما يكسبون) البقرة: 79. وهذا هو حال من يزعم أن السنة تنسخ القرآن فيكتب أحاديث وينسبها للنبي ليستبدل سنة الله بسنة خلقه. وواضح أن الويل المذكور في الآية الكريمة هو اسم لنهر في قعر الجحيم سيُلقى فيه كل من يتطاول على الله بالكذب ويزعم أن ما جاء به هو وحي من عند الله. وقد نهى الله عباده عن اتباع سنن الأمم السابقة بقوله: (تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عمّا كانوا يفعلون) البقرة 134، وتكرر النهي بنفس الصيغة والمعنى في الآية 141 من نفس السورة. وجاء التحذير والاستنكار في قوله تعالى: (وإذا قيل لهم اتّبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتّبع ما ألفينا عليه آبائنا أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون) البقرة: 170. ووردت أيضا بنفس المعنى مع اختلاف بسيط في المبنى في الآية 104 من سورة المائدة لقوله تعالى: (وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون). وجاءت أيضا في الآية 21 من سورة لقمان لقوله: (وإذا قيل لهم اتّبعوا ما أنزل الله قالوا نتّبع ما وجدنا عليه آباءنا أو لو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير). وهذا هو عين الضلال حين يتجاهل الإنسان ما أنزل الله على رسوله من وحي القرآن ويتّبع سنّة الآباء حتى لو كانوا لا يعقلون ولا يهتدون وكان الشيطان يدعوهم إلى العذاب، كما هو حال الكثير من الجُهّال الذين يتركون القرآن وراء ظهورهم ويتبعون السلف الذي لم يكن كله صالحا إلا من رحم الله. وواضح أن ذكر الرسول في الآية ما قبل الأخيرة يحيل على مفهوم الرسالة، أي القرآن، لا السنة كما فهم ذلك خطأ عديد المفسرين.

- المُسلّمة السادسة: أن الله أمر نبيّه بأن يتمسّك بالقرآن وأن يوصي قومه بذلك، لأن الجميع سيُسألُ يوم القيامة عمّا عمل به من التنزيل لا عمّا جاء في كتب الفقهاء وأصبح تشريعا مفروضا على الناس برغم مخالفته لشرع الله في مواضع كثيرة، وهو ما سيدفع الرسول عليه السلام ليقول لربه في شهادة مزلزلة ضد قومه حين سيسأله عن حال أمته وكيف انحرفت عن دين السماء واتبعت دين الفقهاء: (وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا) الفرقان: 30، وطبيعي أن يتبرّأ الرسول ممّن خالف كتاب الله ما دامت كل نفس بما كسبت رهينة، وبالتالي لا يُسأل أحد عن ذنوب غيره لأن مسؤولية التكليف فردية وفق مقتضيات العدل الإلهي لقوله تعالى: (فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تُسألون) الزخرف: 44. فالقرآن الكريم هو عين الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه لقوله تعالى (وبالحق أنزلناه وبالحق نزل وما أرسلناك إلا مُبشرا ونذيرا) الإسراء: 105. وقوله (وما كان هذا القرآن أن يُفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين) يونس: 37. وبالتالي فمن يكفر بآيات الله لا يكون مؤمنا صادقا وصالحا حتى لو آمن بالله وملائكته ورسله واليوم الآخر، بل يكون من المشركين بدليل قوله تعالى: (وما يؤمن أكثرهم إلا وهم مشركون) يوسف: 106.

- المسلّمة السابعة: لا عذر لأحد بجهله لآيات الله، ما دام أول أمر إلهي نزل في أول آية من أول سورة هو "اقرأ"، والذي يعني حرفيا "تعلّم" على يد المعلّم الأكبر في مدرسة القرآن، بدليل أن الله تعالى هو الذي علّم الإنسان بالقلم ما لم يعلم، والآيات التي تُؤكد ذلك أكثر من أن يسعها المقام، بل حتى التوراة بالعبرية كانت تعني حرفيّا "التعليم والتوجيه" خصوصا فيما له علاقة بالشريعة، كما أن معنى الإنجيل من حيث الاصطلاح كان يعني قديما "أصل العلم والحكمة" ما دام الكتابان المنزلان مأخوذان من أم الكتاب مثلهما مثل القرآن الكريم. وخلاصة القول أن المطلوب من الإنسان هو ولوج مدرسة الله التي هي القرآن الكريم ليتعلم على يده حقيقة دينه دون وسيط ما دام الإسلام لا يقبل وساطة من أي نوع بين العبد وربّه. ومعلوم أيضا أن "القرآن" لا يعني القراءة كما زعم الفقهاء، بل يعني في لغة العرب القديمة "الجمع"، أي جمع الشيء في مكان واحد كقٌرء الماء في وعاء بلغة العرب القديمة، وهو ما يفيد أن القرآن إمام جامع لكل ما جاء في الرسالات السماوية السابقة من تعاليم، وذلك  ليتعلم الإنسان على يد المعلّم الأكبر الذي هو الله ما لا يعلم من كنوز المعاني كل حسب حاجته واجتهاده ومستواه، ويكون هذا التعليم عن طريق البيان بالوحي لقوله تعالى: (لا تحرك به لسانك لتعجل به * إن علينا جمعه وقرآنه * فإذا قرأناه فاتبع قرآنه * ثم إن علينا بيانه) القيامة: من 16 إلى 19. وقوله أيضا: (فتعالى الله الملك الحق ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يُقضى اليك وحيه وقل رب زدني علما) طه: 114. والآيتان الكريمتان تُؤكدان بوضوح أن الذي يوحي معاني آياته لعباده هو الله تعالى دون سواه، لأن الوحي لم ينقع بين الأرض والسماء بانقطاع الرسل والرسالات ما دام الله حي دائم قائم في ملكه يدبّر الأمر بالحق، فيوحي للنمل والنحل والشجر والحجر والبشر في كل وقت وحين إلى أن تُبدّل السماوات غير السماوات والأرض، بدليل ما ورد في القرآن الكريم من آيات بيّنات في هذا الشأن.

واستنادا إلى ما سلف، يحق لنا التساؤل إن كان ما يدّعيه الفقهاء من "إجماع الأمة" و"المعلوم من الدين بالضرورة" يعتبر دليلا على الحق والهداية والصراط المستقيم؟ أم هو دليل على الجهل والباطل والضلال والخسران المبين وفق ما يؤكده واقع المسلمين اليوم ما دامت النتائج بمقدماتها؟ 

إن ما نكتشفه من تعارض واختلاف من مقارنة ما يزعمه الفقهاء مع ما أنزله الله تعالى من حق، يؤكد بما لا يدع مجالا للشك، أن الأمة - إلا من رحم الله – وبسبب تركها للقرآن الكريم قد استبدلت دين السماء بدين الفقهاء، فحادت عن الهدى وسقطت في غياهب الظلام ومجاهل الضلال. 

يقول تعالى: (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلّوك عن سبيل الله) الأنعام: 116. وهذا دليل واضح من الحق سبحانه يهدم قاعدة الإجماع من أساسها ويؤكد أن اتباع الأكثرية لا يعني بمنطق القرآن أنهم على حق وأنهم مهتدون، لأن من شرّع الدين جعل الهداية في القناعة بما أنزل الله لا في اتباع ما تقوله الجماعة.

يتبـــع...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق