بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 26 فبراير 2023

الصلاة بين السنة والقرآن.. (10/8)

 


(قل إنّ صلاتي ونُسكي ومحياي ومماتي لله ربّ العالمين)
- الأنعام: 162 -

معنى "إقامة الصلاة" في القرآن الكريم:

لقد سبق القول بأن كلمة "صلاة" المشتقة من الجذر "صلة" (بكسر الصاد)، تعني لغة حسب قاموس المعاني: "الدعاء"، أما اصطلاحا فتفيد حسب شريعة الفقهاء: الصلاة الحركية التي تبدأ بالتكبير وتختتم بالتسليم وتتخلّلها أقوال وأفعال.. وكلا التعريفين لا يتوافقان مع شريعة السماء التي أصبغت على المفردة نفس المعنى الذي يعطيه الجذر، وجعلت "الصلاة" نوعان: - صلاة عمودية: تُقام بين المؤمن وربه أساسها التسليم والاستسلام. - وصلاة أفقية تُقام بين الإنسان ومحيطه عمادها السّلم والسّلام، وهي جميعها معاني يتضمنها الإسلام كما هو معروف.../...

ووفق هذا التعريف، فإن طقوس الصلاة العمودية كما حّددها صاحب الدين تتمثل في القنوت والذكر والتسبيح والركوع والسجود وما يتخلل ذلك من دعاء. أما الصلاة الأفقية، فهي ليست في حقيقة الأمر سوى ترجمة لمعاني الصلاة العمودية لجهة تنزيل كلّ ما آمن به المسلم من آيات ربّه على أرض الواقع، ليشعر الإنسان بالطمأنينة والأمان، ويعيش المجتمع في سلم وسلام، فيحلّ بالتالي التناغم المطلوب بين الدين والدنيا بدل التناقض القائم بين كتاب الله وحياة المسلمين بسبب عدم فهم المغزى الحقيقي من عبارة "إقامة الصلاة" التي تعني حرفيّا: "إقامة الدين"، لتكون عبادة الإنسان من صلاة ونسك ومحيا وممات لله رب العالمين كما جاء في الإقرار الإبراهيمي الوارد في الآية 162 من سورة الأنعام.

والحقيقة أن السؤال الذي يتبادر إلى الذهن كلّما ذكرت الصلاة هو عن سرّ الخلق والغاية من العبادة.. فتجد الكثير من الناس يتساءلون: - لماذا خلقنا الله؟ ولماذا نعبده؟..

والمفارقة أن معظم الكتابات الدينيّة عن الموضوع تجيب بالشطر الثاني عن الشطر الأول من السؤال، الأمر الذي لا يفي بالغرض لجهة الإقناع. وهنا أتذكر محاضرة للدكتور مصطفى محمود رحمه الله تحدث فيها عن السرّ الحقيقي وراء عبادة الإنسان لربّه فقال ما مفاده، أن الذي يربط الجنين بأمه هو الحبل السرّي الذي يستمد منه المخلوق إكسير الحياة، فإذا انقطع بعد الولادة انفصل المولود عن والدته لكن ظل الارتباط الروحي بينهما قائما مدى الحياة، لأن المولود هو جزء من روح أمه، ومعلوم أن لا حب في هذه الدنيا يضاهي حب الأم لولدها والعكس صحيح أيضا.. لكن ماذا عن الله؟

نكتشف من تدبّر آيات الذكر الحكيم، أن الله تعالى خلق الإنسان أطوارا، وبعد أن نضج واستوى نفخ فيه من روحه، أي من نفسه الأقدس الذي هو أعز وأغلى ما في هذا الوجود ودليل على محبة الله لعبده، وبالتالي، فالروح التي يحيا بها الإنسان هي الحبل السري الذي يربطه بالله، والعبادة هي الغذاء الروحي الذي يحيي الإنسان ويجعله محبوبا من خالقه، فيغدق عليه النعم والبركات التي لا تُعدّ ولا تُحصى، وانقطاع العبد عن عبادة ربّه هو عقوق بخالقه، وتمرّد على رازقه، واستبدال للمحبة والرحمة بالسخط والغضب.. وبالمختصر المفيد فإن هذا الانفصام من جانب الإنسان العاق هو عبارة عن قطع للحبل السري الذي يربط الإنسان بربه من خلال الصلاة، سواء منها الصلاة الأفقية نظرا للرابطة المقدسة التي تجمع العبد بربه من خلال الروح، أو الصلاة العمودية، لقول الإمام علي كرّم الله وجهه: 'الناس صنفان: أخ لك في الدين أو أخ لك في الخلق" وبالتالي فحب الله يستوجب حب خلقه، وهذا هو الفرق بين المحبّة في الإسلام التي ترتبط بالله وعباده من خلال إقامة الصلاة العموديّة والأفقيّة معا كما أسلفنا، وبين المحبة في المسيحية التي ترتبط بالمسيح عيسى عليه السلام بدلا عن الله.

وعلى هذا الأساس، فـ "إقامة الدين" وفق ما يؤكد القرآن الكريم تكون من خلال الالتزام بثلاثة أصول تعتبر الأركان الأساسية للإسلام، لقوله تعالى:

- (إن الذيم آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربّهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) البقرة: 62.

وقد تكرّرت نفس الآية بنفس المعنى مع اختلاف بسيط في الصياغة في سورة المائدة: 69. وبالتالي، يفهم من الآيتين الكريمتين أن الله تعالى حدّد بوضوح أصول الدين الذي هو الإسلام كما ارتضاه للعالمين عبر الدهور والعصور في أركان ثلاثة: (الإيمان بالله - الإيمان باليوم الآخر - العمل الصالح)، وجعل العمل الصالح بمثابة تنزيل عمليّ على أرض الواقع لركني الإيمان بالله واليوم الآخر، وعلى أساس العمل الصالح كما أوضح القرآن، ينال العبد مغفرة الله ورحمته، فيسمح له بدخول الجنة من عدمه، لقوله تعالى:

- (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ إنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربّه أحدا) الكهف: 110.

وواضح أن الله تعالى قد بيّن في هذه الآية الكريمة بأسلوب بليغ الأصول الثلاثة التي يقوم عليها الإسلام، ألا وهي: - التوحيد: لقوله (إنما إلهكم إله واحد). - المعاد: لقوله (من كان يرجو لقاء ربّه). – العمل الصالح: لقوله (فليعمل عملا صالحا)، واشترط أن يكون العمل الصالح خالصا لوجه الله لا يتخلّله أي وجه من أوجه الشرك، وما أكثرها في حياة المسلمين بسبب الجهل للأسف.

وليس صحيحا ما روّج له الفقهاء من حديث مكذوب على رسول الله مفاده أن كل من قال "لا إله إلا الله" دخل الجنة حتى لو أتى بثقل الكرة الأرضية من الذنوب، وإلاّ لدخلها المنافقون أيضا والله تعالى يقول:

- (ومن الناس من يقول آمنا بالله واليوم الآخر وما هم بمؤمنين * يخادعون الله والذين آمنوا وما يخادعون إلا أنفسهم وما يشعرون * في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون) البقرة: 8 - 9 - 10. 

وليس صحيحا أيضا أن رحمة الله ستشمل الجميع كما روّج لذلك بعض الصوفية استنادا إلى جزء من آية انتزع من خارج السياق يقول: (ورحمتي وسعت كل شيء) الأعراف: 156، لأن تتمة نفس الآية تبيّن بوضوح أن الله تعالى جعل رحمته مشروطة بالإيمان الصادق والعمل الصالح لقوله: (فسأكتبها – أي رحمتي - للذين يتّقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون) نفس الآية من نفس السورة. 

وبالتالي، فلا علاقة للأصول الثلاثة المذكورة أعلاه كما فرضها تعالى على المؤمنين كافة، بالأركان الخمسة التي ابتدعها فقهاء بنو أميّة وجعلوها من صميم العقيدة المحمّديّة بهدف تفريق المؤمنين في الدين، والله تعالى يقول:

- (إن هذه أمّتكم أمّة واحدة وأنا ربّكم فاعبدون) الأنبياء: 92.

- (وإن هذه أمتكم أمّة واحدة وأنا ربّكم فاتّقون) المؤمنون: 52.

وهو ما يفيد أن جنس البشر جعله الله تعالى في البداية أمّة واحدة وأمرهم بالعبادة والتقوى قبل أن يختلف الناس لقوله تعالى:

- (وما كان الناس إلا أمّة واحدة فاختلفوا) يونس: 19.

وبسبب هذا الاختلاف في الدين حدثت التفرقة التي نتج عنها الانقسام الذي فرّخ أمما ومللا ونحلا ومذاهبا وفرقا وأحزابا... كل بما لديهم فرحون، لقوله تعالى:

- (فتقطّعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون) المؤمنون: 53.

- وقوله أيضا: (منيبين إليه واتّقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين * من الذين فرّقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون) الروم: 32.

ولأن الله تعالى وصفهم بالمشركين كما هو وضح في الآية أعلاه، فقد أمر رسوله الكريم بأن لا يكون منهم لقوله تعالى:

- (إن الدين فرّقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء) الأنعام: 159.

لكن ماذا عن أمة محمد عليه السلام التي تفرّقت بعده إلى مذاهب وطوائف كما هو حالها اليوم؟.. 

الجواب هو كما أمر تعالى رسوله الكريم بقوله إن كل من لم يُدر ظهره لهذه المذاهب ويوّه وجهه لله ويتّبع آياته.. يكون حكما من المشركين بنصّ القرآن. ذلك أن التفرقة في الدين المقصودة في الآية الكريمة هي التي جعلت دين الله الواحد أديان متعددة كاليهودية والمسيحية وغيرهما، وانعكس ذلك أيضا على نفس الرسالة المُحمّدية بظهور المذاهب بعد وفاة الرسول الأعظم بقرنين من الزمن، الأمر الذي يؤكد أن من تسبب في هذه التفرقة هم السّاسة وفقهاء السلاطين الذين يدّعون العلم وليس لهم منه إلا التّسمية، هؤلاء المتطاولين على شرع الله – إلا من رحم – هم مُجرّد خُدّام جنّدهم الشيطان ليشاركوا الله في التشريع لعباده فيُضلّوا الناس ويبعدوهم عن صراط العزيز الحميد استنادا إلى سنّة ابتدعوها لتكون بديلا عن القرآن الكريم، فتبعهم للأسف معظم المسلمين بسبب الجهل والأميّة، والحقيقة أن ما اتّبع أكثرهم إلا الظن الذي لا يغني من الحق شيئا كما يقول تعالى في الآية 36 من سورة يونس، ويتساءل رب العزة في الآية التي قبلها إن كان هؤلاء الشركاء أحق بالإتّباع أم الله الذي يهدي إلى الحق المبين؟

والطّامة العظمى التي لا ينتبه لها هؤلاء التّابعون من العامّة المسحورين، هو أن هؤلاء الفقهاء الذين يزعمون أنّهم يتبعون سنّة الرسول الكريم عليه السلام بدعوى أنها مكمّلة للقران، إنّما يتّهمون الله صراحة بالتفريط في كتابه والنقصان في دينه، وهو القائل سبحانه وتعالى عما يصف الجاهلون: (ما فرّطنا في الكتاب من شيء) الأنعام: 38، والقائل: (ونزّلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء) النحل: 89. والقائل أيضا بشكل قاطع، حاسم، ونهائي: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمني ورضيت لكم الإسلام دينا) سورة المائدة: 3، وهي نفس الحقيقة التي أكدها الرسول الخاتم عليه السلام لقومه في خطبة الوداع كما هو معلوم.. فأين يذهب الفقهاء من هنا؟ 

وحقيقة الأمر وفق ما تبيّن من نتائج هذه التفرقة البغيضة التي حدثت عبر تاريخ الرسل والرسالات، أن هدف رجال الدين في كل العصور والدهور لم يكن خدمة دين الله كما زعموا، بل التفرقة بين الله ورسله بدعوى قولهم: "نؤمن ببعض الآيات ونكفر بالبعض الآخر" كما فضحهم الله تعالى في الآية 150 من سورة النساء ووصفهم بالكافرين، وهذا بالضبط هو السبب الذي دفع فقهاء المسلمين لابتداع الناسخ والمنسوخ لينهوا بذلك شريعة السماء ويستبدلوها بشريعتهم بدعوى تطبيق سنة مزوّرة نسبوها إلى رسول الله عليه السلام وقالوا عنها وحيا، وهذا بالضبط هو معنى أن يفرّقوا بين الله ورسله كما أوضح تعالى في قرآنه، وهو النهج الذي ابتدعه قديما حاخامات اليهود ورجال الدين النصارى، ولم يحد عنه فقهاء الرسوم خدام إبليس من أمة محمد الذي يفترون الكذب على نبيّ الله ووصفهم عليه السلام بـ "مجوس الأمة" وفق ما ذكره الإمام الغزالي في (الإحياء – باب العلم والعلماء).
  
وهذا يعني بما لا يدع مجالا للتأويل، أن الله تعالى وبرغم أنه خلق الناس ليكونوا أمّة واحدة، إلاّ أنهم تفرّقوا بسبب "الحديث" الذي شغل الناس عن القرآن تحديدا واختلاف الشيوخ بينهم فيما سمّوه "اجتهادا" والذي طال حتّى النّصوص القطعية الثّبوت والقطعيّة الدلالة في القرآن الكريم، فتاهت بأتباعهم السبل عن سبيل الله، وانقطع الحبل بين العبد وربّه، ففُضّ الاعتصام الذي أمر به تعالى المؤمنين كافة لقوله تعالى:

-  (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرّقوا) آل عمران: 103. 

ويُؤكد المولى عزّ وجلّ في محكم التنزيل أن التفرقة التي حدثت بين المؤمنين لم تكن بسبب نقص في المعلومات لتقصير الرسل في تبليغ رسالات السماء، بل كانت بسبب بغي الفقهاء بعد أن جاءتهم البيّنات، لقوله تعالى: 

- (كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مُبشّرين ومُنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه الا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم) البقرة: 213.

 ويستفاد مما سبق أن الله كلّف الناس جميعا بإقامة الدين ليكونوا كما خلقهم أول مرة أمة واحدة موحّدة لا تعبد إلا الله ولا تشرك به شيئا، لكنهم اختلفوا، وهو ما يؤكده تعالى في خطابه لأهل الكتاب بشأن معنى "الإقامة" بقوله:

- (يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل) المائدة: 68.

فالمطلوب من اليهود إذن إقامة التوراة التي نزلت على الرسول موسى عليه السلام، أما النصارى فمطلوب منهم إقامة التوراة والإنجيل معا، أي الإيمان بما أنزل على عيسى وما أنزل على موسى قبله عليهما السلام.. وعلى هذا الأساس من ترتيب، طلب الله تعالى من رسوله الخاتم وأمّته أن يقيموا الدين بنفس المعنى السالف الذكر، أي "إقامة القرآن" الذي يضم بين دفّتيه كل الشرائع التي أنزلها الله تعالى لعباده وفق ما يفيد معنى كلمة "قرآن" في لغة العرب القديمة، كقولهم مثلا: "قرئ الماء في الحوض"، أي جمع الماء في مكان واحد، وهذا هو ما حدث بالضبط في القرآن الكرام الذي جمع بين دفّتيه كل الشرائع السابقة بدليل قوله تعالى:  

- (شرع لكم من الدين ما وصّى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصّينا به موسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تفرّقوا فيه) الشورى: 13.

وبرغم وضوح المعنى في هذه الآية الكريمة، ها هو شيخ الأزهر أحمد الطيبي يقول بمناسبة تعليقه على الضّجّة التي أثيرت مؤخرا حول ما أصبح يعرف بالبيت الإبراهيمي الذي روجت له الإمارات العربية، أن القرآن ينسخ التوراة والإنجيل، وهو قول ينمّ عن جهل فضيع بالدين، بل وافتراء على الله الذي أمر رسوله الكريم وأمّته من بعده بالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وقضائه وقدره خيره وشرّه، ولم يقل أنه نسخ الرسالات السابقة، بل أوضح أنّه صحّح في القرآن الكريم ما طال التوراة والإنجيل من أوجه التحريف والتزوير والتبديل والتغيير والتحوير.

وبالتالي، فلا وجود لدين عند الله غير الإسلام الذي ارتضاه دينا قيّما للع_المين من نوح صعودا إلى محمد هبوطا مرورا بكل الرسل والأنبياء عليهم السلام على من اتبع جميعا بشهادة القرآن، أما سواه فسمّاه تعالى بدين الكفر وفق ما يستفاد من أمره تعالى لرسوله الكريم بأن يقول للكافرين: (لكم دينكم ولي دين) الكافرون: 6.  

أما كيف يُقام الدين؟.. فيقول تعالى:

- (والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنّا لا نضيع أجر المصلحين) الأعراف: 170.

فذكر عزّ وجلّ أن إقامة الدين تكون من خلال إقامة القرآن (الكتاب) بما يشمل من صلة عمودية بين العبد وربه وصلة أفقية بين العبد ومحيطه تقوم على الإصلاح الذي هو المعنى الأساسي للإسلام، لأن الآية الكريمة تشير إلى أن التمسّك بما جاء في الكتاب وإقامته، أي تنزيله على أرض الواقع من خلال الصلاة بشقّيها العمودي والأفقي هو عين الإصلاح، أي إصلاح النفس وإصلاح المجتمع معا ليسود الأمن والعدل والطمأنينة المنشودة.

وأوضح تعالى أن التمسّك بكتاب الله هو تطبيق الإنسان في حياته لما تقتضيه قوانين الخلق من فطرة واحترام ما تفرضه سنن الكون من توازن، ولا سبيل لتحقيق ذلك إلاّ بالصلاح الذي لا يضيع الله أجره كما أكّد في الآية 170 من سورة الأعراف. 

ويفهم من مختلف الآيات التي وردت فيها كلمة "إقامة"، أن المطلوب هو إقامة الكتاب من خلال تمسّك الإنسان بما جاء في آياته، وتوجيه وجهه لله دون سواه، راجيا منه الهداية، وطالبا منه العون ليقوّم اعوجاجه، ويُصحّح أخطاءه، ويُهذّب نفسه، ويُغذّي روحه.. ليسمو بمكارم الأخلاق فيكون في النهاية إنسانا مستقيما صالحا يتبوأ في الدنيا المقام الأعلى بين البشر، ويخصّص له الله تعالى في الآخرة المقام الرفيع بين عباده المرضي عنهم جزاء ما قدموا في حياتهم من أعمال صالحة تنفع الناس. وهذا هو ما يعطيه معنى "الإقامة"، ذلك أن إقامة الجدار الآيل للسقوط بسبب الاعوجاج مثلا تعني إعادة بنائه بشكل مستقيم، لقوله تعالى:

- (فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقضّ فأقامه) الكهف: 77.

وعلى هذا الأساس، فالهدف الأساس من إقامة الدين يتمثّل في إعادة بناء الإنسان الضال المنحرف ليكون مستقيما بالإيمان والتقوى ومفيدا لنفسه ولمجتمعه وللإنسانية جمعاء بالعمل الصالح. 

ومعلوم أن المعنى الحقيقي الذي يعطيه مصطلح "إسلام" وفق القرآن الكريم هو: "إصلاح" الذي هو عكس "إفساد"، أي أن يكون المؤمن الحق مُصلحا لا مُفسدا. من هنا يُفهم أصل المسألة فيما يتعلق بقراره تعالى إخضاع الإنسان للتجربة الأرضية ليعلم المُصلح من المُفسد، بدليل ما سبق وأن عبّرت عنه الملائكة من مخاوف لربّها عندما أخبرها أول مرّة بأنه سيجعل في الأرض خليفة، فقالت له: 

- (أتجعل فيها من يُفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نُسبّح بحمدك ونُقدّس لك) البقرة: 30. 

وهو ما يدلّ على أن جوهر الاستخلاف في الأرض، أي استخلاف الأمم البدائية المتوحّشة السابقة التي كانت تفسد وتسفك الدماء في الأرض قبل آدم الإنسان الأخلاقي الذي اصطفاه الله من سلالتهم المتطوّرة فيما عرف بعصر الجنّة، ولا علاقة لهذا الاستخلاف بالله سبحانه وتعالى عمّا يصف الجاهلون بقولهم: "إن الإنسان هو خليفة الله في الأرض"، فما يفهم من كلام الملائكة الذين لا يعلمون الغيب بل فقط يحكمون على ما عاينوه من تجارب سابقة لأجناس بشرية بدائية متوحشة (نياندرتال) عاشت تفسد وتسفك الدماء على الأرض قبل آدم الإنسان الأخلاقي. وبذلك، فالخلافة وفق المفهوم اللغوي والاصطلاحي والقرآني لا تكون إلا في حق الغائب لا في حق الحاضر، وخصوصا الله الحي الدائم القيّوم المُدبّر لملكه وشؤون خلقه في كلّ وقت وحين.. وبالتالي، فإن جوهر الاستخلاف إنّما يقوم على الصلاح، والصلاح لا يتحقّق إلا إذا وجّه الإنسان وجهه لله تعالى وأقام الدين الذي ارتضاه له، ليتحوّل بذلك إلى مُسبّح مُنسجم ومُتناغم مع سنن الكون وقوانين الخلق كما هو حال كل المخلوقات التي أوجدها الله تعالى في السماوات والأرض من غير البشر وعلّمها كيف تسبّح لله بلغات وحركات لا يفهمها إلا هو، ومن يُسبّح ضد سنن الله وقوانين الطبيعة يكون مصيره الهلاك وفق ما يستفاد من قصص الأحزاب الواردة للعبرة والموعظة في القرآن الكريم.  

ولأن النتائج بمقدماتها، فإننا نستخلص مما سلف بالتحليل العقلي والاستنباط المنطقي، أن حرص المسلمين على إقامة الصلاة الحركية وفق شروط الفقهاء بدل إقامة الدين بشروط السماء لم يغيّر من واقع الأمة شيئا، بل على العكس تماما، حيث أصبح واضحا لكل ذي عقل راجح وحسّ سليم، أن لا علاقة لتصرفات الغالبية العظمى من المسلمين مع ما يتضمّنه كتاب الله من تعاليم، ولعل أكبر معضلة يعيشها المسلم على مستوى الشعور تتمثل في استحالة التوفيق بين الدين والدنيا كما سبق القول، أي بين تعاليم السماء وظروف العيش على الأرض، والسبب يعود لعدم تدبّر المسلم للقرآن الكريم ليكتشف القطبة المخفية التي تعيق توجّهه بحرّيّة نحو ربّه، ليمارس دينه الذي ارتضاه له بيسر ومن غير حرج لقوه تعالى: (وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم) الحج: 78،  وليشعر الإنسان أن ما هو مطلوب منه ليس بدعة بشريّة بل شريعة سماويّة أوجدها الله في جينات البشر، والمعبّر عنها بـ "الفطرة" بلغة القرآن الكريم لقوله تعالى: 

- (فأقم وجهك للدّين حنيفا فطرة الله التي فطر النّاس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدّين القيّم ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون) الروم: 30

وقد وردت عديد الآيات بنفس هذا المعنى، مثل: (يونس: 105، الروم: 43، الشورى: 13).   

الأمر الذي يعني أن كل ما يقتنع به العقل ويرتاح له القلب إلاّ وتقبله الفطرة لأنه يتوافق مع دين السماء، والعكس يرفضه العقل ويكرهه القلب فتشمئز منه الفطرة لأنه لا يتوافق مع دين السماء، وبذلك يكون اتّباع شريعة الفقهاء بدل شريعة السماء سببا في كل تلبيس يختلط فيه الإيمان بالشرك لقوله تعالى (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون) يوسف: 106. 

وها هو الواقع اليوم يؤكد بما لا يدع مجالا للشك، أن إقامة المسلمين للصلاة الحركية بديلا عن إقامة الدين هو سوء فهم كبير لما ورد في كتاب الله من تعاليم. والسؤال الذي يطرح نفسه بالمناسبة هو:

- إذا كانت صلاة المسلمين التي يقيمونها بالتواتر لم تصلح حالهم ولم تحقق الغاية التي شرّعها الله من أجلها.. فأين تكمن المشكلة إذن؟

للجواب على هذا السؤال المسكوت عنه، علينا أن نفهم أوّلا كيف تم التأصيل للصلاة الحركية من خارج تعاليم القرآن لمعرفة سبب هذا الانحراف الكبير الذي وقع فيه معظم المسلمين عبر العصور والدهور.

الصلاة حسب شريعة الفقهاء:

لن نعيد ما سبق وأن قلناه بشأن فرض الصلاة ليلة الإسراء والمعراج كما يقول فقهاء الرسوم، خصوصا بعد أن أوضحنا بالدليل القاطع من القرآن الكريم أن الله تعالى لم يخص رسوله الخاتم عليه السلام بالمعجزات باستثناء القرآن، وقدمنا الدليل على ذلك بآيات بيّنات من التنزيل الحكيم، وبحقائق التاريخ التي تفيد أن الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي في القدس لم يتم لأن الأخير لم يكن قد بني بعد في العهد الأموي على يد عبد الملك بن مروان كما ذكر شيخ المفسرين السنّة ابن كثير في تفسيره لسورة الإسراء والمعراج وغيره، وبالتالي، فقصة الإسراء والمعراج كما سبق وأن بيّنا زيفها بتفصيل في سياق هذا المبحث وأوضح ذلك غيرنا أيضا، لا تعدو عن كونها أسطورة ينفيها القرآن والتاريخ جملة وتفصيلا (راجع: الجزء 2/8 من هذا المبحث)، هذا بالإضافة إلى أنها تسيئ إلى الله سبحانه وتعالى عما يصف الجاهلون إساءة بليغة حيث تزعم أن النبي موسى عليه السلام أعلم من الله والرسول الخاتم بما تطيقه أمة محمد أو لا تطيقه. ثم كيف يمكن تصديق أن الرسول عليه السلام صلّى بالأنبياء والرسل جميعا (وهم أكثر من 124 ألف حسب التراث) في باحة المسجد الأقصى قبل أن يُبنى هذا الأخير، بل وقبل أن يفرض الله عليه الصلاة أثناء معراجه المُتوهّم؟

إن تصديق مثل هذا الهراء يعني بوضوح تكذيب الله تعالى حين يقول في محكم التنزيل (ما يبدّل القول لديّ وما أنا بظلاّم للعبيد) ق: 29. فأين يذهب من هنا المفترون على الله بما لا يليق بجلاله وعدله وكماله؟

هذا غيض من فيض سقطت بموجبه حجة القائلين بأن الصلاة فرضها الله تعالى ليلة الإسراء والمعراج، ولم يبقى لهم من زعم يستندون إليه في دعواهم غير بعض الروايات التي لا يمكن القبول بها لا عقلا ولا دنينا، منها على سبيل المثال:

- ما رواه البخاري عن مالك بن الحويرث حيث زعم أن النبي عليه السلام قال: "صلّوا كما رأيتموني أصلّي". ومشكلة هذا الحديث أن من قالوا بوجوبه من فقهاء السنة والجماعة عادوا عن رأيهم واعتبروه من صنف المستحب لا الواجب، مستندين في ذلك إلى دليل شرعي يقول: "إن المستحب غير واجب، وأنه لا يمكن الاستدلال على الوجوب بمطلق الفعل في غياب النص المشرّع، خصوصا عندما يتعلّق الأمر بفريضة تعتبر من أركان الدين". ناهيك عن أن الحديث المذكور لا يُبيّن أوقات الصلاة ولا عدد ركعاتها ولا كيفية أدائها، ويترك ذلك لعبث العابثين، وبالتالي، لا يمكن الاعتماد عليه في تأصيل الصلاة التي هي علاقة حميمية بين العبد وربّه تقوم على القنوت والخشوع والذكر والتسبيح والدعاء.

- ما رواه ابن إسحاق من "أن الصلاة حين فرضت على الرسول أتاه جبريل وهو بأعلى مكة، فهمز له بعقبه في ناحية الوادي، فانفجرت منه عين، فتوضّأ جبريل ورسول الله ينظر إليه ليرى كيف الطّهور للصلاة، ثم توضّأ كما رأى جبريل، وقام به جبريل فصلىّ به، ثم انصرف جبريل فجاء رسول الله خديجة، فتوضأ لها ليريها كيف الطهور للصلاة، كما أراه جبريل فتوضّأت، ثم صلى بها، كما صلى به جبريل فصلّت". ودليل أن هذا الحديث هو محض هراء وكذب على جبريل والرسول الأعظم عليهما السلام، مخالفة الرواية للنص القرآني في شقّه المتعلق بالغُسل بتعبير القرآن، أو الوضوء بتعبير الفقهاء كما فصّل الله تعالى طريقته في الآية 6 من سورة المائدة، وبالتالي، هل يحتاج جبريل لأن يعلّم الرسول ما سبق وأن أوضحه له تعالى بتفصيل في كتابه الكريم؟.. وإذا كانت الرواية مشكوك في صحتها في الشق المتعلّق بالوضوء فكيف القبول بشقّها المتعلق بالصلاة؟.

ثم نأتي للزعم القائل بأن الصلاة عرفها المسلمون بالتواتر، وهو قول يؤكد ضمنا أن الله تعالى لم يُشرّعها في كتابه الكريم بالطريقة التي دأب المسلمون على أدائها، وهذا معناه أن هناك من يشرّع مع الله أركان دينه بالرغم من أن مثل هذا العمل يعتبر من الشرك الواضح، لعلم المسلمين علم اليقين أن الله تعالى لا يشرك في حكمه أحدا ولا يسمح لكائن من كان أن يفرض على عباده ما لم يفرضه عليهم في محكم كتابه. ثم كيف يبيّن الله تعالى أحكام الحج والصوم والغُسل والطهارة وخلافة... ويتجاهل أحكام الصلاة؟ أيعقل هذا؟

هذا مستحيل، خصوصا بعد أن تأكّد بالاستنتاج المنطقي القائم على دراسة وتحليل آيات القرآن الكريم المتعلقة بالموضوع، أن الصلاة الحركية لم يشرّعها الله لعباده بالطريقة التي يؤديها بها المسلمون بالتواتر، بل هي مجرد طقوس ابتدعها الفقهاء ونسبوها زورا وبهتانا إلى رسول الله الذي أصبح بموجب هذا الافتراء مشرّعا مع الله – حاشاه -، يريدون بذلك التفرقة بين الله ورسوله وابتداع دين بشري جديد يحل محل الدين السماوي القويم. وأكبر دليل على ذلك، أن الصلاة الحركية التي يقيمها المسلمون بشروط الفقهاء لم تجعل من سلوكهم ونمط حياتهم ينسجمان انسجاما تاما مع تعاليم السماء، وهو ما أدّى حكما إلى مخاصمة المسلم لدنياه اعتقادا منه أن التنازل عن حقه في الحياة الكريمة في الدنيا هو الثمن الذي يجب أن يدفعه للظفر بالجنة في الآخرة، وكأن وجوده على الأرض لا يعدو عن كونه مجرد ضرب من العبث الذي لا فائدة منه، والله تعالى يقول:

- (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون) المؤمنون: 115.

- ويقول أيضا: (أيحسب الإنسان أن يُترك سدى) القيامة: 36.

أما طقوس الصلاة وفق ما يستفاد من آيات الذكر الحكيم، فجاءت كالتالي:

- "القنوت": ويعني الخضوع لله والإقرار بالعبودية له دون سواه والطاعة الخالصة التي لا يتخلّلها شرك أو معصية.

- "الخشوع": ويعني إحساس القلب بخشية الله وإخضاع النفس بالتّذلّل لعظمة المولى جل جلاله.

- "الذكر": ويعني تلاوة وتدبّر كلام الله بالعقل والقلب.

- "التسبيح": ويعني تعظيم وتبجيل الخالق وشكره على موفور نعمه.

- "الركوع": ويعني تصديق ما أنزل الله من وحي بالعقل والقلب.

- "السجود": ويعني الترجمة العمليّة لما آمن به العبد من خلال الاستقامة والتقوى والعمل الصالح على أرض الواقع.

- "الدعاء": ويعني الرجاء وطلب المغفرة والرحمة والعون من الخالق.

وبالتالي، فلا معنى لقنوت وخشوع وذكر وتسبيح وركوع وسجود ودعاء إذا لم يكن الهدف منهم استقامة العبد، والسعي من أجل إقامة العدل، ومعاملة الناس بإحسان، ودوام العمل الصالح الذي ينفع الناس، وهذا هو الهدف الأساس الذي من أجله جعل الله تعالى الإنسان كائنا أخلاقيا حرّا يتصرّف كما يشاء في حدود المسموح له التصرّف فيه، لكن جعله أيضا مُكلّفا ومسؤولا عمّا قدّمت يداه في الحياة الدنيا. 

يتبـــع...


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق