بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 5 مارس 2023

الصلاة بين السنة والقرآن.. (10/9)

 

(قل إنّ صلاتي ونُسكي ومحياي ومماتي لله ربّ العالمين)

- الأنعام: 162 -

الصــلاة حسب شريعة السماء:

عندما يخاطب الله تعالى المؤمنين في القرآن الكريم فهو لا يخاطب الذين آمنوا بالرسول الخاتم فحسب، بل يخاطب كل من آمن به وبرسله لقوله في محكم التنزيل: (إن الذين آمنوا – من قوم محمد - والذين هادوا – من قوم موسى – والنصارى – من قوم عيسى – والصابئين – من أتباع آدم وشيت وإدريس ونوح وسام بن نوح ويحيى بن زكريا - من آمن بالله واليوم الاخر وعمل صالحا - من كل الأحناف أتباع الديانة الإبراهيمية - فلهم اجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) البقرة: 62. ونفس الآية تكررّت في سورة المائدة: 69.../...


وهذا يعني، أن الله المنزّه عن العبث عندما يخاطب المؤمنين عبر الدهور والعصور فإنه يفرض عليهم نفس التشريع ونفس التكليف، بدليل ما يلي:

أولا: من حيث التشريع: ما ورد من وصايا عشر في التوراة والإنجيل والقرآن لقوله تعالى:

- (1. لا تشركوا به شيئا - 2. وبالوالدين إحسانا – 3. ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإيّاهم – 4. ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن – 5. ولا تقتلوا النفس التّي حرّم الله إلاّ بالحق – 6. ولا تقربوا مال اليتيم إلاّ بالتّي هي أحسن حتى يبلغ أشدّه – 7. وأوفوا الكيل والميزان بالقسط – 8. وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى – 9. وبعهد الله أوفوا – 10. وأنّ هذا صراطي مستقيما فاتّبعوه ولا تتّبعوا السّبل فتفرّق بكم عن سبيله) الأنعام: 151.

وتعتبر هذه الوصايا من الآيات المحكمات وفق ما ذكره الطبري في تفسيره (جامع البيان) نقلا عن ابن مسعود، وبالتالي، فكل ما جاء من تفصيل بشأنها في القرآن الكريم يندرج ضمن المتشابهات، وهذا هو معنى أن القرآن يفسّر بعضه بعضا.  

وواضح أن كل تشريع مع الله يعتبر شركا كما نهى تعالى عن ذلك في الوصيّة الأولى، لأنه يجعل الإنسان يحيد عن سبيل الله الذي وصفه تعالى بأنه صراطه المستقيم في الوصيّة العاشرة.

 ثانيا: من حيث التّكليف: ما ورد في مقام الواجب على كل مؤمن بغض النظر عن الأمة التي ينتمي إليها والرسول الذي يتبعه لقوله تعالى:

- (يا أيّها الذين آمنوا كُتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون) البقرة: 183.

وقوله بالنسبة لفريضة العدل:

- (يا أيها الذين آمنوا كُتب عليكم القصاص في القتلى) البقرة: 178.

وقوله بالنسبة للوصية احتراما لإرادة الموصي:

- (كُتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقّا على المتّقين) البقرة: 180. 

وقوله بالنسبة للقتال دفاعا عن النفس:

- (يا أيها الذين آمنوا كُتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبّوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون) البقرة: 216.

هذا ما كتبه الله تعالى على عباده المؤمنين بصيغة الفرض الواجب، لكن رجال الدين نسخوا كل الآيات التي لها علاقة بالوصية المذكورة في آيات المواريث الواردة في سورة النساء، وشطّبوا عليها جملة وتفصيلا استنادا إلى حديث مدسوس نسب زورا وبهتانا للرسول الأمين يقول: "لا وصيّة لوارث". والغريب أن كل الدول العربية والإسلامية أخذت بهذا الحديث الغريب في سن قوانين الإرث وضربت عرض الحائط عديد آيات الله العزيز الحكيم التي تتحدث عن ضرورة بل ووجوب احترام الوصية وإرادة الموصي سواء كانت للمقربين أو غيرهم، فحرمت المؤمنين من تطبيق شرع الله عند التعبير عن إرادتهم الحرّة فيما يتعلق بمصير أموالهم بعد وفاتهم، وتسبّبت بذلك في كمّ هائل من الخلافات بين الورثة في المحاكم. ولتلافي العداوة في الميراث بين الأقارب، لجأ عديد المُورّثين لتصفية ممتلكاتهم في حياتهم عن طريق الهبة والصدقة والبيوع الصورية في تحايل واضح على القوانين الوضعيّة.

لكن ماذا عن الصلاة؟ ..

يقول تعالى بشأن أنبيائه الكرام: (وجعلناهم أئمّة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين) الأنبياء: 73.

والحديث في الآية الكريمة هو عن الأنبياء الذين سبقوا محمد عليه السلام وفق ما يفهم من السياق، مع الإشارة إلى أنهم لم يبتدعوا فريضة من الدين استنادا لحديث من عند أنفسهم بل استنادا إلى ما أوحى لهم الله تعالى، ذلك أن البشر بما فيهم المُجتبين لا يملكون شرعية تشريع العبادات للناس، والصلاة كما هو معلوم تعتبر من العبادات التي شرّعها تعالى لعباده، ولو كان الأمر عكس ذلك لاختلف الرسل والأنبياء في صلاتهم، وهو ما تستبعده الآية الكريمة جملة وتفصيلا لقوله تعالى: (وأوحينا إليهم... إقام الصلاة). 

وهذا يعني بالعربي الفصيح، أن كل ما شرعه الله تعالى لعباده يؤخذ من وحي كتابه، خصوصا مناسك الدّين التي لا تُورّث من أعمال الناس ولا من أقوالهم حتّى لو نسبوها إلى رسلهم ومن يفعلون ذلك يكونون من الذين خانوا الميثاق مع الله ولجأوا إلى التلاعب بالدين، لقوله تعالى:

- (فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا وإن يأتهم عرض مثله يأخذونه ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلاّ الحق ودرسوا ما فيه والدار الآخرة خير للذين يتّقون أفلا تعقلون والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنّا لا نضيع أجر المصلحين) الأعراف: 169.

لقد بيّن تعالى بوضوح لا لبس فيه من خلال هذه الآية الكريمة أن الذي يُورّث من أمّة إلى أخرى هو الكتاب المُنزّل من السماء لا المأثور من اقوال وأفعال البشر، فالكتاب هو وحده دون سواه الذي يجب التمسّك به ودراسته والعمل بما جاء فيه، وعدم اتباع من ابتدعوا في الدين ما لم ينزل به الله من سلطان ابتغاء عرض الدنيا ممّا لا ثبات له ويتغيّر حسب الآراء والأهواء، الأمر الذي يُعتبر نقضا للميثاق، بدليل أمره تعالى لرسوله الخاتم عليه السلام ولقومه ايضا بقوله:

- (فاستمسك بالذي أوحي إليك إنّك على صراط مستقيم وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون) الزخرف: 44.

وبالتالي، فجميعنا سنُسأل يوم القيامة عن الكتاب وما جاء فيه لا عن أقوال وأفعال البشر ممّا لم يأتي ذكره في التنزيل الحكيم، ومنه الصلاة التي تعتبر من فرائض الدين التي لا يشرعها إلا ربّ العالمين.

- والسؤال هو: هل حافظ المسلمون على الصلاة كما شرعها تعالى في كتابه؟

الجواب هو لا بالقطع، ذلك أن المسلمين قد أضاعوها بعد أن غيّر الفقهاء في أوقاتها وابتدعوا لها حركات وطقوس لم يذكرها تعالى في القرآن الكريم، بدعوى أن القرآن الذي ذكر تفاصيل الغُسل والطهارة والصّوم والحج وغير ذلك من المناسك قد فرّط في الصلاة فلم يذكرها لا بأوقاتها ولا بطقوسها، ولولا السنّة لما عرف المسلمون طريقة الصلاة وفق زعم الفقهاء. وبذلك أصبح الرسول عليه السلام ومن دون علمه، مُشرّعا مع الله وشريكا له في تأصيل أركان الإيمان وشروط التديّن بفضل ما تركه من سنّة لقومه، وهو المُبلّغ الأمين عن ربه، بلّغ الرسالة وأدّى الأمانة دون زيادة أو نقصان بشهادة الله، لقوله تعالى: 

- (تنزيل من ربّ العالمين * ولو تقوّل علينا بعض الأقاويل * لأخذنا منه باليمين * ثم لقطعنا منه الوتين) الحاقة: من 43 إلى 46. 

والمعنى واضح لا يحتاج لتفصيل، ومفاده أن ما شُرّع للناس في الدين هو تنزيل من رب العالمين وليس للرسول دخل به، بل هو فقط مبلّغ عن ربه وفق ما يفيد مصطلح "رسول"، ويؤكّد تعالى في نفس الآية أنه في حال تقوّل الرّسول على الله بعض الأقاويل ونسبها إلى التنزيل فإنه سيأخذه من يمينه ويُقطّع نياط قلبه فينهي حياته. وبالتالي، كيف للرسول الأمين عليه السلام الذي يعلم أن الله لن يتسامح معه إذا أضاف شيئا إلى القرآن من عنده أن يأتي بأحاديث ما أنزل الله بها من سلطان ويدّعي أنه وحي من السماء كما يزعم زورا وبهتانا القائلين بأن السّنّة هي أيضا وحي من الله؟..

عدد الصلوات المفروضة ومواقيتها في شريعة السماء:

عندما نتحدّث عن الصلاة، فإننا نقصد بذلك الصلاة كما شرّعها الله تعالى لكل عباده من إبراهيم الخليل صعودا إلى محمد هبوطا مرورا بكل الأنبياء والرسل عليهم السلام جميعا، ما دام الدين عند الله الإسلام، وكل الأنبياء والرسل كانوا مسلمين بشهادة القرآن، والحقيقة أنه لم يرد في التنزيل الحكيم ما يفيد أن الله تعالى شرّع لكل أمة طقوس عبادة خاصة بها تختلف عن غيرها، لأن طريقة العبادة هي واحدة بالنسبة للجميع ما دام الله واحد والدين واحد وإن تعدد الرسل، والاختلاف هو فقط في الخشوع والطاعة والاجتهاد في فعل الخيرات الذي يُميّز في الدرجات عند الله بين شخص وآخر. 

أما عدد الصلوات فيعرف من أوقاتها كما حدّدها صاحب الدين، لقوله تعالى وهو يخاطب المؤمنين في كل مكان وزمان:

- (إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا) النساء: 103 

وتعتبر هذه الآية من المحكمات فيما هناك عديد الآيات التفصيلية المشابهة التي تفسّر معنى الآية المحكمة وفق ما سيأتي ذكره، وهنا لا بد من وقفة تأمل لفهم مقصود الله من هذه الآية الكريمة:

تتضمن الآية المذكورة أعلاه أربع مفاتيح للفهم: (الصلاة – المؤمنون – الكتاب – المواقيت): فـ "الصلاة" تعني العبادة. و"المؤمنون" هم المُكلّفون بإقامتها. أما "الكتاب" فيعني ما فرضه الله على عباده وكتبه عليهم بصيغة الواجب بنص قطعيّ الثبوت قطعيّ الدلالة. أما "المواقيت" فهي الأوقات التي حدّدها الله تعالى لعبادته لإقامة الصلاة ويفهم منها حكما عددها ما دام أن لكل وقت صلاة. 

ويشار بالمناسبة إلى أنّه لا دخل للرسول أو لأحد من البشر كائنا من كان بهذه الآية، لا تشريعا ولا تغييرا ولا تبديلا ولا تحويلا، وكل من تطاول عليها من الفقهاء بالتعديل أو التغيير أو النّسخ إلاّ ونصّب نفسه شريكا مع الله في التشريع، وكل من تبعه من المؤمنين في ذلك يعتبر مشركا أيضا، والله تعالى يقول:

- (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا) النساء: 116. 

فالآية الكريمة 103 من سورة النساء تأمر المؤمنين بعدم التفريط في إقامة الصلاة وفق التوقيت المحدّد الذي شرّعه الله لها، لكن ما حدث وفق ما يخبرنا تعالى، هو أن هناك خلف أضاعوا الصلاة واتّبعوا الشهوات لقوله:

- (فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتّبعوا الشهوات فسوف يلقون غيّا) مريم: 59.

والمقصود بهم قوم جاؤوا بعد المنعمين عليهم المذكورين في الآية 58 من سورة مريم وهم: (أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيئين من ذريّة آدم وممّن حملنا مع نوح ومن ذرّية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرّحمن خرّوا سجّدا وبكيّا).

وقد أجمع المفسرون ومنهم الطبري وغيره في أمهات التفاسير على أن إضاعة الصلاة لا تعني تركها بل تأخيرها وعدم أدائها في وقتها، لأن من لا يقيمها بالمطلق يدخل في زمرة من يكفرون بها. وبالتالي، فمن لم يُقم الصلاة المكتوبة في الأوقات التي حددها الله تعالى لإقامتها يكون قد أضاعها، وهي بخلاف الأوقات التي ابتدعها الفقهاء كما سيأتي تبيان ذلك من كتاب الله المجيد، ولا توجد آية واحدة تتحدّث عن قضائها بعد فوات أوانها أو عن كفّارة التفريط بها، وكل ما يقوله الفقهاء في باب القضاء والكفّارة بالنسبة للصلاة هو محض هراء وافتراء ما أنزل الله به من سلطان. 

وكمثال على أهمّية عدم تفويت وقت الصلاة، ذكر لنا الله تعالى قصة نبيّه سليمان عليه السلام فقال:

- (إذ عرض عليه بالعشيّ الصافنات الجياد * فقال إنّي أحببت حبّ الخير عن ذكر ربّي حتى توارت بالحجاب * ردّوها عليّ فطفق مسحا بالسّوق والأعناق) ص:31 – 32 – 33. 

والمعنى أنه عُرض على نبيّ الله سليمان كهديّة بالعشيّ، أي آخر النهار قبل الغروب، مجموعة من الخيل الأصيلة والسريعة في الركض، فانشغل بها لأن نفسه أحبت الخير ومالت إليه إلى أن فاته وقت صلاة المغرب حيث غابت الشمس فحجبها الليل (توارت بالحجاب)، فقال للملائكة (رُدّوها) أي ردّوا الشمس حتى أصلّي لله المغرب في وقتها، وطفق هو وأصحابه يمسحون سوقهم والأعناق على سبيل مسح العرق والغبار للصلاة. لكن الله لا يردّ وقتا فات لأن الزمن نهر يجري في اتجاه واحد.

ثلاث صلوات في شرع الله لا خمسة:

بخلاف ما زعمه الفقهاء من أن الله تعالى لم يبيّن أوقات الصلاة وطريقة أدائها في القرآن الكريم، إلا أن كل الآيات التي تتحدث عن إقامة الصلاة تذكر ثلاث مواقيت لإقامتها لا خمسة، وتبيّن بوضوح ما يقال فيها، بدليل عديد الآيات التي تتحدث عن الذكر والتسبيح في الصلاة، ذلك أن الصّلة العمودية مع الله لا تقوم إلا من خلال تلاوة الذكر الحكيم بتأنّي وخشوع لدرجة أن يخرّ المؤمن على الأرض ساجدا، كرمز للتصديق والتسليم بما جاء فيه من حكمة وموعظة. والوقت الذي اختاره الله تعالى لذلك هو الليل لا النهار، لأنه الوقت الذي يكون فيه الإنسان خالي البال متفرّغا من أعباء السعي بالنهار. 

لكن ورغم ذلك، فإنك إذا سألت الفقهاء عن عدد الصلوات التي فرضها الله تعالى على عباده أهي خمسة أم ثلاثة ؟.. فسيقولون لك: "إن الله فرض على عباده خمس صلوات في اليوم والليلة، وهذا هو المعلوم من الدين بالضرورة، فمن أنكر ذلك فهو كافر خارج من ملة الإسلام، يستتاب ثلاثة أيام، فإن تاب، وإلا، قتل ردة من قبل السلطان" (من فتاوى فقهاء السنة والجماعة الواردة في موقع "إسلام أونلاين"). 

وعلى هذا الأساس، فكل من خالف شريعة الفقهاء حتى لو تمسّك بشريعة السماء استنادا إلى كتاب الله، يُعتبر كافرا خارجا عن الملة، يُستتاب، وإن لم يتب عن دين الله بعد ثلاثة أيام ويعود لدين الفقهاء فإنه يقتل (هكذا).

أما إذا جادلتهم في الأمر وطالبتهم بالسند القرآني الشرعي الذي يدعم زعمهم للقول بخمس صلوات بدل ثلاثة، فسيقولون لك: "لقد دلّ كتاب الله عز وجل على أوقات الصلوات الخمس، بقوله تعالى: 

- (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً) [الإسراء:78].

ووفق تفسيرهم المُتعسّف لهذه الآية الكريمة، فقوله تعالى (لدلوك الشمس) يعني زوالها. وقوله (إلى غسق الليل) أي إلى حلول ظلام الليل. وهذا ينص على إقامة الصلاة من الزوال إلى ظلام الليل، وهو دليل بالاستنباط العقلي على شمول التوقيت للظهر والعصر والمغرب والعشاء. أما قوله: "وقرآن الفجر" فيعني صلاة الفجر، هذا بالرغم من أن قرآن الفجر يعني تلاوة القرآن فجرا لا صلاة الفجر. فهذه خمسة أوقات للصلوات التي أمر الله عز وجل المسلمين بها حسب زعمهم.

والحقيقة، أنه إذا لم يكن مثل هذا القول ليُّ واضح لعُنُق الحقيقة وتزوير فاضح لمعاني مفردات اللغة العربية، وتطاول على الله بتغيير معاني آياته، فلا حقيقة يُعتدّ بها في هذه الدنيا لا دينية ولا غيرها.

لأن السؤال الذي يطرح نفسه بالمناسبة هو: إذا كان دلوك الشمس يعني زوالها عند نهاية النهار وقت المغرب، فكيف يفسّرون زوال الشمس بوقت الزوال الذي يعني الظهر، وإذا كان الزوال يعني الظهر فرضا فما الدليل على العصر؟..

ثم هناك أمر آخر غاية في الأهميّة يتعلّق بأوقات الظهر والعصر، لأنه إذا كان الفجر والمغرب والعشاء لا يحتاجون لدليل من ساعة تدلّ عليهم فإن الأمر ليس كذلك بالنسبة للظهر والعصر، خصوصا إذا علمنا أن المؤمنين زمن الرسل والأنبياء وإبّان البعثة المحمديّة أيضا لم يكونوا يستعملون الساعة، وبالتالي: - هل كان الناس يستدلون على أوقات الظهر والعصر بظل الشمس؟ .. وإذا كان الأمر كذلك فكيف يكون الحال عندما تغيّم السماء أو تمطر؟ .. هذا علما أن الإسلام فرضه الله على العالمين في كل أصقاع الأرض باختلاف الأوقات والأماكن، وليس في شبه الجزيرة العربية فحسب، وجعله دين يسر في متناول الجميع.

وواضح أن الآية التي يستندون إليها للقول بخمس صلواة تقول عكس ما ذهبوا إليه، لأن "دلوك الشمس" في اللغة العربية يعني زوالها من السماء لا انحرافها عن قبُّتها، وهو وما أكده الطبري في جامع البيان استنادا لعديد المرويات منها ما قاله ابن مسعود من أن دلوك الشمس هو وقت إفطار الصائم أي غروبها، الأمر الذي يقطع الشك باليقين إن كان الأمر يحتاج أصلا إلى يقين ما دامت الآية واضحة، وتوضيح الواضحات يعدُّ من المُفضحات. ومعلوم أيضا أن الغروب هو الوقت الذي يبتدأ فيه اليوم بالمفهوم القرآني والمُكوّن من ليل ونهار عند المسلمين. و(غسق الليل) هو وقت حلول الظلام أي وقت العشاء، أما الفجر فلا يحتاج لدليل للقول بأنه وقت بزوغ أول خيط ضوء مُعلنا بداية طلوع النهار وفق تعريف القرآن لوقت بداية الصوم في الفجر، وهو وقت صلاة الصبح أيضا. وليس الطبري وحده من قال بهذا بل جل المفسرين القدامى، وبالتالي، فأين موقع صلاة الظهر وصلاة العصر هنا من الإعراب؟ ..

ولكن مع ذلك، وبرغم أن القرآن الكريم أنزله تعالى بلسان عربي مبين، وبرغم أن ما استند عليه الفقهاء من أضاليل لتحوير معاني الكلمات القرآنية لا يستقيم مع منطق الدين وقواعد اللغة العربيّة، إلا أنّ فقهاء الرسوم لم يجدوا من سبيل للنيل من القرآن الكريم غير القول بأنه ناقص لأنه لم يفصّل للناس عدد الصلوات وأوقاتها وطريقة أدائها ممّا يستوجب الاستنجاد بالسنّة التي تعتبر مكمّلة للقرآن، إذ بدونها لن يعرف المسلم كيف يُصلّي.. لكن لسوء حظّ هؤلاء المُدلّسين الذين يعرفون الحق ويحيدون عنه انتصارا للباطل، ها هو الرسول عليه السلام يدحض حجتهم ويفضح زيف قولهم بقوله في خطبة الوداع: "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا"؟. ومعلوم أن هذا القول سبق وأن أكّد صحّته بنفس الصيغة صاحب الدين في الآية 3 من سورة المائدة، وبالتالي، فلا خلاف ولا اختلاف بين قوله الله وقول رسوله الأعظم عليه السلام، أما ما عدى ذلك فقد وصفه تعالى بالظن الذي لا يغني عن الحق شيئا، لقوله تعالى:

- (قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحقّ قل الله يهدي للحقّ أفمن يهدي إلى الحقّ أحقّ أن يُتّبع أمّن لا يهدي إلاّ أن يُهدى فما لكم كيف تحكمون * وما يتّبع أكثرهم إلا طنّا وإن الظّنّ لا يغني من الحقّ شيئا إن الله عليم بما يفعلون) يونس: 35 – 36.

- والسؤال هو: هل نتّبع الله الذي يهدي إلى الحقّ أم نتّبع من نصّبوا أنفسهم شركاء له يشرّعون للناس في الدين ما لم ينزل تعالى به من سلطان؟

بالرغم من أن الجواب واضح ولا يحتاج لطرح مثل هذا السؤال أصلا، إلا أنك إذا سألت من اتّبعوا شريعة الفقهاء بشأن عدد الصلوات وأوقاتها وطريقتها بدل اتباع ما جاء به القرآن في هذا الشأن، فستفهم من جوابهم الجاهز ما قصده تعالى في الآية 104 من سورة المائدة بلقوله تعالى: 

- (وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون) المائدة: 104.

ذلك أنهم لا يستوعبون تغيير ما دأبت عليه الأمة في شأن الصلاة لقرون طويلة حتى لو خالف ذلك نصوص القرآن، لأن العادة تمثل بالنسبة لهم المنطقة الرمادية الآمنة بين شريعة الله وشريعة الفقهاء، وهذا لعمري هو حال أغلبيّة المسلمين الذين تلبّس عليه الشرك بالإيمان فحق عليهم قوله تعالى:

-  (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون) يوسف: 106.

لأن من لا يُفرّق بين نصّ القرآن الذي هو قطعيّ الثبوت وقطعيّ الدلالة وبين نص المرويات الذي هو ظنّيّ الثبوت وظنّيّ الدلالة، فإما أنّه أمّي لا يفقه في الدين إلاّ ما تكرّم به عليه فقهاء القشور من ضلال، أو أنه يعرف القراءة والكتابة لكنه لا يتدبّر القرآن كما أمره تعالى، والفئة الثانية هي الغالبية العظمى من المسلمين، للأسف.

ولقطع الشك باليقين فيما له علاقة بعدد الصلوات المفروضة وأوقاتها، ها هي الآيات التفصيلية التالية تبيّن بوضوح ما شرّعه الله تعالى لعباده من الأمم السابقة واللاحقة إلى أن تقوم الساعة:

يقول جل جلاله في شأن طريقة وأوقات صلاة نبيّه داوود عليه السلام: 

- (اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داوود ذا الأيد إنه أوّاب * إنا سخّرنا الجبال معه يُسبّحن بالعشيّ والإشراق) ص: 17 – 18.

فالله تعالى في هذه الآية الكريمة يوصي نبيّه محمد عليه السلام بالصبر على ما يقول المشركون، ويذكّره بنبيّ الله داوود ذا الأيد، أي ذا القوة والبطش الشديد، والذي برغم ذلك كان صبورا على قومه مطيعا لله، فكان إذا سبّح لله بالعشيّ (أي قبل غروب الشمس) وعند الإشراق (بعد الفجر) إلا وسبّحت معه الجبال، وهذين هما الوقتين اللذان تقام فيهما الصلاة، أي وقت دخول العبد في صلة عموديّة مع الله تعالى، وأوضح جل وعلى وفق ما يفهم من هذه الآية الكريمة أن الصلة يجب أن تكون من خلال التسبيح، وهي لا تقتصر على نبيّ الله داوود فحسب، بل وتشمل الجبال أيضا، وفي آيات أخرى الطير وكل المخلوقات، وإن كان الإنسان لا يفقه تسبيحها، لكن الله تعالى خصّها من خلال الوحي بلغة لا يفهمها الإنسان، ودليل ذلك أن الله يوحي للنمل والنحل والطّير والشجر والحجر والبشر كل باللغة التي يفهمها، ومن كان يعتقد أن الجبال من الجماد الذي لا حياة فيه فعليه أن يصحّح فهمه، لأن العلم يؤكد اليوم أن الجماد يتحرك بالروح التي بثها تعالى فيه، ويتلّق الأمر بنشاط الإشعاع النووي الضعيف الذي هو أحد القوى الفيزيائية الأربعة الأساسية التي لا تُرى إلا بالمجهر (Radioactivité)، والتي تُساهم إلى جانب الجاذبية، والقوة الكهرومغناطيسية، والقوة النووية القوية، في التفاعل الكيميائي الذي يؤدّي إلى التّحوّلات الفيزيائية في المادة على المستوى الكوني وفق ما هو مثبت علميا اليوم من خلال نظريات النسبية العامة والخاصة للعالم أنشتيان.

والآيات التي تبيّن أوقات الصلاة التي شرّعها الله تعالى لأنبيائه ورسله من قبل كثيرة، منها:

يقول تعالى في شأن صلاة نبيّه زكريا: 

- (قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألاّ تكلّم الناس إلاّ رمزا واذكر ربّك كثيرا وسبح بالعشيّ والإبكار) آل عمران: 41,

ويتعلّق الأمر بنفس الأوقات التي أمر تعالى نبيّه داوود بالصلاة فيها، أي قبل مغرب الشمس وقبل الشروق، مع التأكيد على أن الصلاة لا تكون إلا من خلال الذكر والتسبيح كما في الآية السالفة.

ونفس المعنى يستفاد من أمر الله تعالى لرسوله موسى عليه السلام لقوله:

- (وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى * إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري) طه: 13 – 14. 

والمعنى واضح حيث أمر تعالى نبيّه موسى عليه السلام بأن يستمع لما يوحى إليه من ذكر كريم ويقيم الصلاة به، وهذا هو معنى (أقم الصلاة لذكري)، أي أقم الصلاة لتذكرني فيها بما أوحيت إليك من آيات، بدليل ما نصّت عليه الآية 13 من سورة طه التي سبقت الأمر بإقامة الصلاة الوارد في الآية 14 من نفس السورة.

وهذا يعني أن الأنبياء لا يُغيّرون ولا ينقصون ولا يزيدون ولا يذكرون في صلاتهم ما لم يشرّعه الله لهم، بل يتّبعون ما أمر به تعالى بإخلاص وتفاني، ويخضعون له خضوعا تامّا، ويسلّموا له تسليما بما يعنيه ذلك من تصديق وطّاعة. هذا الأمر لم يتغيّر طوال تاريخ الرسل والرسالات وفق القرآن، بل حتى النبي محمد عليه السلام أمره الله تعالى بشكل واضح لا لبس فيه بأن يتبع ملّة جدّه إبراهيم الخليل أبو الرسل والأنبياء وصاحب العهد والوعد فيما يتعلق بطريقة العبادة التي عبّر عنها القرآن بالملّة، أي الطريقة وفق ما ورد في عديد الآيات.

ولم يأمر تعالى رسوله الخاتم بالصلاة في أوقات غير تلك التي شرعها للأنبياء والرسل والأمم من قبله، بدليل قوله تعالى:

- (ولا تطرد الذين يدعون ربّهم بالغداة والعشيّ يريدون وجهه) الأنعام: 52.

- (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربّهم بالغداة والعشيّ يريدون وجهه) الكهف: 28.

والمعنى واضح، إذ يشير إلى أمر الله لرسوله محمد كما فعل مع نبيّه داود وغيره من الأنبياء والرسل عليهم السلام جميعا، بأن يُصبّر نفسه مع الذين يدعون ربّهم بالغداة والعشي، أي في نفس الأوقات الذي شرّعها تعالى للصلاة بالنسبة للأنبياء والأمم السابقة، ولم يشرّع لرسوله محمد عليه السلام صلاة خاصة به وبقومه في أوقات مختلفة عن تلك التي ذكرها تعالى، وإلا لكان ذكر ذلك في القرآن الكريم الذي لم يفرط في شيىء وجاء تبيان لكل شيىء، اللهم إلا ما ورد في سورة المزمّل في بداية الدعوة بمكة وتم التخفيف منه بعد ذلك، وهي عبادة خاصة بالرسول في بداية نزول الوحي ولا علاقة لها بغيره من المؤمنين كما سنأتي على ذكره في حينه.

أما ما عدى ذلك فقد أمر تعالى رسوله الخاتم عليه السلام بإقامة الصلاة مع تبيان أوقاتها كما سبق وأن فعل بالنسبة للأنبياء السابقين، لقوله:

- (وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفى من الليل) هود 114 

ومعلوم أن (طرفي النهار) هما بداية النهار ونهايته، أي الغداة صباحا والعشي مساء، ومثال ذلك طرفي الخيط: أي أوله ومنتهاه، وهو ما يعني وقت الفجر ووقت المغرب، ثم يضيف تعالى وقتا آخر سماه (زلفا من الليل)، أي ساعة يظلم الليل في أوّله، والإشارة هنا إلى صلاة العشاء. فجمع تعالى في هذه الآية الصلوات الثلاثة المفروضة وبيّن أوقاتها بالتحديد، ولم يذكر غيرها كالظهر والعصر التي قال بها الفقهاء دون سند من كتاب الله ونسبوها زورا وبهتانا لنبيّ الله والنبيّ منها براء، لأنه عليه السلام يستحيل أن يشرّع لقومه ما لم يشرّعه لهم الله في قرآنه. 

وهناك عديد الآيات التي تتحدث كلها عن نفس أوقات الصلاة، منها قوله تعالى:

- (فاصبر على ما يقولون وسبّح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبحه وأطراف النهار لعلك ترضى) طه: 130 

في هذه الآية أيضا يؤكد تعالى على أوقات الصلاة، ويطالب رسوله الأعظم عليه السلام بأن يسبّح بحمد ربّه قبل طلوع الشمس أي في الفجر، وقبل غروبها أي قبل المغرب بقليل، وهي الأوقات المُعبّر عنها بأطراف النهار، أي بداية النهار ونهايته كما سبق القول.

وقوله تبارك وتعالى:

- (أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا) الإسراء: 78

ويؤكد تعالى في هذه الآية على نفس أوقات إقامة الصلاة العمودية بين العبد وربّه ويضيف إلى ذلك التذكير بأهمية قراءة القرآن في الفجر نظرا لما لهذه القراءة من أجر عظيم لأن الملائكة تشهد على العبد الذي يُؤدّيها.

وقوله جل جلاله:

- (وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب ومن الليل فسبّحه وأدبار السجود) ق: 39

وهنا أيضا يؤكد تعالى على نفس أوقات الصلاة، ويضيف إليها صلاة الليل التي هي العشاء والنافلة بعدها والتي أشار إليها بأدبار السجود، لقوله تعالى لرسوله الكريم: 

- (ومن الليل فتهجّد به نافلة لك عسى أن يبعثك الله مقاما محمودا) الإسراء: 79.

أي أن يُصلّي الرسول بعد العشاء نافلة يتهجّد فيها بالذّكر والتسبيح والدعاء (وفق ما يعطيه معنى التهجّد)، عسى أن يبعثه الله تعالى يوم القيامة المقام المحمود الذي وعده. ولم يأتي تعالى على ذكر الشفع والوثر وخلافه، بل فقط نافلة تُؤدّى بعد العشاء. أما قوله تعالى: (وأدبار السجود) فمعناه أن يُسبّح العابد بحمد ربّه بعد آخر سجدة من النافلة (لأن ادبار السجود = آخر السجود).

وقوله سبحانه:

- (يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا * وسبّحوه بكرة وأصيلا) الأحزاب: 41 – 42.

وبعد أن كان تعالى في الآيات السالفة يوجّه أوامره مباشرة لرسوله الكريم، ها هو هنا في هذه الآية الكريمة يتوجّه بالخطاب مباشرة لعباده الذين آمنوا برسالة محمد عليه السلام ليأمرهم بنفس ما أمر به رسوله الكريم، أي بذكر الله الذي لا يكون إلا من خلال القرآن والتسبيح الذي يعني التعظيم والتبجيل والحمد والشكر وما إلى ذلك من ذكر لبعض أسماءه الحسنى وصفاته العليا في الأوقات المُحدّدة التي عيّنها لهم.

وقوله تعالى:

- (فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك وسبح بحمد ربك بالعشي والإبكار) غافر: 55

هذه الآية أيضا تحمل نفس المعنى الذي أكّد عليه تعالى في الآيات السالفة.

وتجذر الإشارة من باب التذكير، إلى أن هذه الآيات التي حدّد فيها تعالى مواقيت الصلاة بدقّة تعتبر من المتشابهات التي جاءت تفصيلا وتبيانا للآية المحكمة التي انطلقنا منها كما سبق القول:

- (إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا) النساء: 103.  

وهذا هو معنى أن القرآن يفسّر بعضه بعضا، أي أن فهم المتشابه الذي هو تفصيل للمحكم لا يكون إلا بالتأويل، أي برد معنى المتشابه إلى المعنى الأول الذي يعطيه المحكم لفهم مدلوله الحقيقي لا تحميله معنى غريب لا يتطابق مع معنى المحكم، ومن ثم معرفة المراد من خطاب الله تعالى لعباده بسهولة ويسر، وهذا هو معنى قول الرسول الأعظم عليه السلام "إن القرآن يفسّر بعضه بعضا".

ونأتي الآن إلى سرّ الأسرار واللغز الخفيّ الذي فات الفقهاء فأسقط كل مزاعمهم حول مواقيت الصلاة، وكشف زيف ادعاءاتهم وزور افتراءاتهم على الله ورسوله. ويتعلّق الأمر بسورة المُزمّل، والتي تعتبر من أوائل السور المكيّة التي نزلت على الرسول الأعظم عليه السلام في بداية الدعوة، وسمّيت بالمزمل للدلالة على أهمّية الوحي الذي نزل على محمد، هذا فيما أقوى المخلوقات كانت تخاف وترتعد من وطيء القرآن باعتباره كما وصفه تعالى (قولا ثقيلا) لا قبل لأحد بحمله، والمزمل كالمدثر الذي يتغطى من برد القشعريرة، بدليل أنه بعد نزول أول سورة على محمد عليه السلام، ذهب إلى بيته متوترا وهو يرتعد ويقول لزوجته خديجة رضي الله عنها: "زملوني.. زملوني" أو "دثروني.. دثّروني" حسب اختلاف الروايات والمعنى واحد، أي لفّوني وغطّوني. فناداه تعالى أول مرة بقوله (يا أيها المُزمّل' فأمره بالانقطاع لعبادة الله وهجران قومه، وناداه في الثانية بـ "يا أيها المدثر" فأمره بالبدء بنشر الدعوة لقوله تعالى: (يا أيها المدثّر * قم فأنذر) المدثر: 1 و2. لكن حيث أن ما نحن بصدده في هذا المقام هو قضية الصلاة العموديّة، فقد قال تعالى لرسوله الكريم في سورة المُزمّل:

- (يا أيّها المُزمّل * قم الليل إلا قليلا * نصفه أو انقص منه قليلا * أو زد عليه ورتّل القرآن ترتيلا * إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا * إن ناشئة الليل هي أشد وطأ وأقوم قيلا * إن لك في النهار سبحا طويلا * واذكر اسم ربّك وتبتّل إليه تبتيلا * ربّ المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتّخذه وكيلا * واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا) المزمّل: من 1 إلى 10. 

وواضح أن الله تعالى أمر رسوله الكريم في الشطر الأول من سورة المزمل وقبل حتى أن يبدأ الجهر بالدعوة بإقامة الصلاة العمودية، وحدد له وقتها ليلا دون النهار، لأنه الوقت الأكثر سكونا وهدوء، ففيه تكون العبادة أكثر صفاء والنفس أكثر خشوعا.. ومعلوم أن الليل هو الوقت الذي تنتهي فيه مشاغل الإنسان وسعيه لضمان معيشته فيركن لنفسه ويكون باله فارغا. كما أمر تعالى رسوله الكريم بالصبر على ما يقول المكذّبون، وأن يستعين بالصلاة والتوكّل على الله، وأن يهجر قومه هجرانا جميلا إلى أن يتشبّع قلبه بالإيمان بفضل قيام الليل ويكون أكثر استعدادا للجهر بالدعوة. ولهذا السبب انقطع الوحي على الرسول الكريم عليه السلام سنة كاملة بعد نزول الشطر الأول من سورة المُزمّل تحضيرا له نفسيّا لما هو آت من متطلبات الدعوة.

وإذا كانت هذه الآية تدلّ على أن الرسول عليه السلام قد بدأ الصلاة باكرا جدا في مكة مع بداية نزول الوحي وبالطريقة التي كان يصلّي بها أقرانه من الرسل والأنبياء من قبل، مع التفرّغ أكثر والانقطاع بشكل تام لعبادة الله ليلا وترك كل شيء سواها، لأن معنى التبتّل هو الانقطاع التّام لعبادة الله، ولذلك سمّيت مريم بـ "البتول" لانقطاعها إلى الله وليس لعذريتها كما قال بعضهم.. وبالتالي، فإذا كانت سورة المزمّل تفيد في شطرها الأول تخصيص الليل للصلاة، فماذا عن النهار؟..

وهنا المفاجأة الكبرى، ذلك أن الله تعالى يقول لرسوله الكريم من خلال الآية 7 من نفس السورة: 

- (إنّ لك في النّهار سبحا طويلا).

ومعنى ذلك بالعربي الفصيح والمعنى الواضح الصريح، أن النهار جعله تعالى مُخصّصا لمهمّات العيش والسّعي من وراء الكسب الحلال. والسّبح الطّويل هو غير التّسبيح، ذلك أن التسبيح هو ذكر لله من قبيل التّعظيم والتّبجيل والتّمجيد والتّنزيه والتّحميد والشكر، أما السّبح فمعناه لغة المشي السّريع فوق الماء (سباحة)، أمّا اصطلاحا فمعناه السّعي للكسب، والسبح الطويل في النهار كما ورد في الآية الكريمة هو كناية عن السباحة والغور في بحار السعي الذنيوي للكسب باستعمال الأيادي والأرجل، لأنه بسبب هذه الضرورات المعيشية الملحّة، والمسؤوليات الحياتية الكثيرة، لا يستطيع الإنسان التفرّغ لربه والخشوع في عبادته نهارا، هذا مستحيل، وهذا هو السبب الذي خصّ تعالى الليل للصلاة لأنه الوقت الذي يفرغ فيه الإنسان من عمله حيث يكون التبتّل والخشوع ممكنين، وجعل النهار مُخصّصا للسعي ليتيح للإنسان فرصة كسب معيشته وتنمية إمكاناته والمساهمة في عمار الأرض. وهذا هو معنى أن الله لم يجعل لنا في الدين من حرج، وهو ما يؤيّده قوله تعالى: (وإذا فرغت فانصب وإلى ربّك فارغب) الشرح: 7 – 8. أي إذا فرغت من عملك في النهار فانتصب عابدا في الليل وارغب إلى ربّك دون سواه، وليس كما فسرها البعض بقولهم إذا فرغت من الصلاة فارغب في ذكر الله وتسبيحه، هذا تفسير لا يستقيم مع المبنى ولا يحتمله المعنى.

وبالتالي، ومن باب تأكيد المؤكد، فإن ما ورد في سورة المزمّل حول السبح الطويل نهارا، فهذا أيضا لا يعني التسبيح كما قد يتوهّم البعض، ولا يقبل التأويل المُتعسّف، لأن الآية تقول ببساطة ووضوح أن لك أيها المؤمن في النهار مشاغل كثيرة تهتم بها ولا تدع لك فراغا يسمح لك بالتّوجّه التام إلى ربك والانقطاع إليه بذكره والخشوع في صلاتك ببال خال مرتاح، لذلك فعليك بالصلاة ليلا لأنه الوقت الذي تفرُغ فيه من السّعي وراء الرزق ومشاغل الدنيا، وهنا يلتقي معنى الآية 7 من سورة المزمل مع معنى الآيتين 7و8 من سورة الشرح ليكمّل بعضهما بعضا قطعا للشك باليقين.

وهو نفس المعنى الذي قال به كبار الفقهاء في أمّهات التفاسير، وها هو الطبري أشار في تفسير الآية 7 من سورة المزمّل في جامع البيان، إلى أن أهل التأويل قالوا بنفس قوله، ومنهم ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن زيد وغيرهم، بحيث لم يخالف أحد من الرواة والمفسّرين القدامى ذلك، وأجمعوا على ان المقصود بالسبح الطويل في النهار هو السعي الكامل والتفرّغ للعمل والكسب فيما الليل جعله تعالى مخصّصا للعبادة.

وإلى نفس المعنى ذهب ابن حجر الهيثمي في كتابه "تحفة المحتاج لشرح المنهاج" في شرحه للآيتين 6 و7 من سورة المزمل حيث قال: "إنه لم يكلّف الناس في البداية إلا بالتوحيد فقط، ثم فرض الله عليهم من الصلاة ما نزل في سورة المزمل". أي ما كان يقوم به النبي محمد فقط من صلوات قيام الليل والذي خفّفه تعالى بعد حين بقيام نصف الليل، وتخصيص النهار للسعي والكسب.

وذكر الرّازي في "مفاتيح الغيب" في شرحه للآية 7 من سورة المزمل: "أن سبحا تعني تقلبا فيما يجب ولهذا سمّي السابح سابحا لتقلّبه بيديه ورجليه، ويعني ذلك أن لك في النهار تصرّفا وتقلّبا في مهماتك المعيشية فلا تتفرّغ لخدمة الله إلاّ باللّيل، لهذا السبب أمرتك بالصلاة في اللّيل".

وإلى نفس المعنى ذهب كل من الزمخشري في "الكشّاف"، والقرطبي في "الجامع لأحكام القرآن"، والبيضاوي في "أنوار التنزيل وأسرار التأويل"، والمحلى والسيوطي في "تفسير الجلالين"، والشوكاني في "فتح القدير".

أمّا ابن كثير شيخ المفسرين السنة، فقال في تفسير الآية 7 من سورة المزمل حسب ما ذكر في مؤّلّفه "تفسير القرآن العظيم" ما مفاده: "إن الله تعالى أمر رسوله بالإكثار من ذكره، والانقطاع إليه، والتّفرغ لعبادته، فإذا فرغت من أشغالك وما تحتاج إليه من أمور دنياك كما قال تعالى: (فإذا فرغت فانصب * وإلى ربّك فارغب) الشرح: 7 – 8. أي إذا فرغت من أشغالك في النهار، فانصب لطاعته وعبادته ليلا حين تكون هادئا فارغ البال". وذكر أن نفس المعنى أو قريب منه قال به ابن زيد، وابن عباس، ومجاهد، وأبو صالح، وعطية، والضحاك، والسدي، لأن الإخلاص في العبادة (يقصد به الخشوع) لا يكون إلا في الليل لقوله تعالى: (واذكر اسم ربّك وتبتّل إليه تبتيلا) المزمّل: 8، أي أخلص له وتوكّل عليه وانقطع إليه في العبادة". 

والسؤال الذي يفرض نفسه بالمناسبة هو: - كيف يمكن لله سبحانه وتعالى عمّا يصف الجاهلون علوّا كبيرا، أن يناقض نفسه بحيث يُخصّص الليل للعبادة والنهار للسعي والعمل كما أكد في الآيتين 6 و7 من سورة المزمّل والآيتين 7 و8 من سورة الشرح، وفي نفس الوقت يفرض على عباده صلاة الظهر وصلاة العصر في حين أن هاتين الصلاتين لا وجود لذكرهما في القرآن الكريم؟ ..

وإذا كان كبار فقهاء التفسير قد قطعوا الشك باليقين حين أوضحوا بما لا يدع مجالا للشك أن الله خص النهار للعمل والليل للعبادة كما سبق القول، فمن أين جاءت صلاة الظهر وصلاة العصر إذن؟

بالعودة إلى القرآن الكريم، نجده تعالى يقول في الآية 58 من سورة النور:

- (يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء ثلاث عورات لكم ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوافون عليكم بعضكم على بعض كذلك يبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم) النور: 58.

وحسب ما جاء في أمهات التفاسير، وخاصة عند الطبري الذي يعد الأقرب إلى مرحلة النبوة والأكثر موضوعية في تفسيره للقرآن وتأويله للحادثات التاريخية، فإن الله تعالى خصص للمؤمنين عورات ثلاثة موجبة للاستئذان قبل الدخول، لأنه خلال هذه العورات يخلع المؤمن ثيابه، ويمكن أن يجامع زوجته، وبالتالي، فمن غير اللائق أن يدخل عليه في حرمه أحد من الخدم ولا أحد ممّن لم يبلغ الحلم من أهله خلال هذه الأوقات التي حددها الله تعالى وهي: بعد صلاة العشاء، وقبل صلاة الفجر وعند الظهيرة حين يضع المسلم ثيابه بعد انتهاء عمله ليخلد للراحة، خصوصا في جو شبه الجزيرة العربية شديد الحرارة. وبالتالي، فالوقت بين صلاة العشاء وصلاة الفجر يعتبر عورة، وكذلك وقت الظهيرة، ذلك أن الله تعالى لم يقل بعد الظهيرة بل قال (حين تضعون ثيابكم من الظهيرة)، والتي هي وقت راحة من التعب يوافق نهاية يوم عمل عند العرب في المشرق لا وقت صلاة كما هو معلوم تاريخيا واجتماعيا ودينيا أيضا.   

- والسؤال الذي يطرح بالمناسبة هو: - لماذا شرع الفقهاء لأمة محمد خمس صلوات بدل ثلاثة التي شرّعها الله تعالى لعباده كافة عبر العصور والدهور وفق ما يؤكد في قرآنه؟

والجواب يكمن في السياسة لا في الدين، لأن الحقيقة التاريخية تقول، أن الفقهاء ولأسباب سياسية زمن بنو أميّة أرادوا أن يشغلوا الناس بالصلاة في المساجد في الفجر والظهر والعصر والمغرب والعشاء، وهي الوسيلة الوحيدة التي كان الحكام من خلالها يعرفون من يُؤيدهم فيأتي للصلاة في المسجد، ومن لم يكن يأتي إلى صلاة الجماعة في المسجد كان يُعتبر من المعارضين للسلطة القائمة فيتم اعتقاله وقتله، وخصوصا ظهر الجمعة، وهي الصلاة التي ستأتي على ذكرها للوقوف على مدة شرعيتها ومشروعيتها من عدمهما.

وبسبب هذا الوضع الذي خلقه الفقهاء بالافتراء على رسول الله، تحوّل المسلم إلى كائن غير منتج بوجهين: وجه لله ووجه للسلطان، لأنه يقضي الليل في النوم والنهار في الصلاة بالمسجد، في حين أن الله خص له النهار للعمل والإنتاج والعطاء ليزدهر ويتقدم فيتحوّل إلى مؤمن قوي وغنيّ بدل أن يتحوّل إلى مسلم ضعيف وفقير لا ينتج سوى الجهل والتفاهة ويستجدي حاجاته من الغير وخصوصا الأمم التي لا تدين بدينه، متسائلا في بلاهة عن سبب تقدّمها وتأخّره.. 

وهذا معناه بالمحصلة، أن المسلم الذي يدين بدين الفقهاء بدل دين السماء لا يمكن أن يفهم لا الدين ولا الدنيا للأسف، بسبب سيطرة الفقهاء على عقله وتنصيب أنفسهم حراسا لعقيدته، وتخويفهم له بعذاب القبر، والحرق في النار إذا ترك الصلاة التي تقول بها سنّتهم.

يتبـــع...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق