بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 11 فبراير 2023

الصلاة بين السنة والقرآن.. (10/7)

 

(قل إنّ صلاتي ونُسكي ومحياي ومماتي لله ربّ العالمين)

الأنعام: 162 -

الصلاة عند الأمم السابقة:

لأن الإسلام ليس دينا جديدا أتى به الرسول الخاتم كما هو معلوم، بل يتعلّق الأمر بنفس الدين الذي ارتضاه الله لعباده كافّة من نوح صعودا إلى محمد هبوطا عليهم السلام جميعا، وبالتالي فلا يعقل أن يكون الله تعالى قد شرّع الصلاة الحركية لرسوله الكريم بنفس الطريقة التي يصلّي بها المسلمون اليوم، بزعم أنه تعالى ترك تبيان أوقاتها وعدد ركعاتها وطريقة أدائها للسنّة كما يدّعي الفقهاء، خصوصا وأن الله جل جلاله يقول في محكم التنزيل أنه لم يفرط في الكتاب من شيء، وجاء بتفصيل كل شيء، ويؤكد بما لا يدع مجالا للجدل في الآية 3 من سورة المائدة حقيقة بديهية تقول بشكل قاطع، حاسم، ونهائي ما نصّه: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمني ورضيت لكم الإسلام دينا)، وهي نفس الحقيقة التي أكدها الرسول الخاتم عليه السلام لقومه في خطبة الوداع كما هو معلوم.../...

وعلى هذا الأساس، فما سيُسأل عنه المسلم يوم القيامة ليس ما شرّعه الفقهاء لعباد الله باسم سنّة ابتدعوها ونسبوها لنبيّه، بل ما شرّعه جلّ جلاله لعباده في قرآنه، بدليل قوله تعالى لرسوله الأعظم: (فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تُسألون) الزخرف: 44.../...

فالله تعالى في الآية السالفة الذكر يأمر رسوله بالتّمسك بوحي السماء باعتباره ذكر له ولقومه لأنه السبيل الوحيد ليهتدي المؤمن إلى صراط الله الحميد، وأنه تعالى سوف يسألنا يوم الدين عن مدى تمسُّكنا بكتابه الحكيم أم أننا تركنا الوحي وراء ظهورنا واتّبعنا أولياء من دون الله كما فعل مع أضاعوا الدين من قبلنا. وما يشير إلى هذا المعنى هو أن الآية التي تليها وتقول: (واسأل من أرسلنا قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون) الزخرف: 45، والسؤال هنا هو عن الرسل قبل محمد، ليتأكد عليه السلام إن كان تعالى قد جاء من قبل بدين يُعبد فيه آلهة مع الله على شاكلة ما ابتدعه الكهنة وما لم ينزل به تعالى من سلطان، في إشارة إلى من ترك رسالات السماء وراء ظهره من أهل الكتاب وقوم محمد سواء، واتّبع دين الكهنة الذي هو نسخة مشوّهة إلى أقصى الحدود عن دين الله السّمح الجميل. ولا أدلّ على ذلك من شهادة الرسول في أمّته يوم القيامة بقوله لربّه: (وقال الرسول يا ربّ إنّ قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا) الفرقان: 30.

وعلى الذين يتهموننا بتجاهل سنة النبي محمد عليه السلام، أن يجيبوا على الأسئلة المنطقية التالية:

- لماذا لم يروي أبو بكر الصدّيق عن الرسول بعد وفاته أي حديث يذكر، بالرغم من أنه الوحيد الذي رافقه أطول مدة في حياته، وعاش معه كل الأحداث زمن البعثة كبيرها وصغيرها؟

- ولماذا لم يجمع الخلفاء الراشدون الذين عايشوا مرحلة البعثة أحاديثه عليه السلام كما فعلوا بالنسبة للقرآن، بل قام أبا بكر بجمع ما كتب عن الرسول من أحاديث وأحرقه؟

هذا ما سنجيب عنه بتفصيل في مقالة جديدة بحول الله تحت عنوان: "الإسلام بين السنّة والقرآن".

والحقيقة أنه كلّما طرحت مسألة الصلاة للنقاش إلا وسارع البعض للتساؤل بالقول: 

- هل يعقل أن تكون الصلاة الحركية التي يقيمها المسلمون في مختلف أصقاع المعمور منذ عصور ودهور صلاة مبتدعة لم يأمر بها الله تعالى نبيّه الأمين؟

خلفية السؤال تأتي من طبيعة النفس البشرية التي تخشى التغيير، وتُفضل التّموضع في المنطقة الرمادية "الآمنة"، ظنّا منها أن اتباع سنّة الاباء والأجداد سيحميها من هول السؤال يوم القيامة.

هذا فيما الله تعالى لم ينتظر يوم القيامة ليبيّن لرسوله الكريم حقيقة الأمر في القرآن، وليتضّح للجميع أن صاحب الدين إن لم يذكر في كتابه المبين تفاصيل الصلاة الحركية التي توارثها المسلمون عن السلف بالتواتر، فلأنه جل جلاله لم يشرّعها بالطريقة التي تُؤدى بها، وإلاّ لماذا بيّن في قرآنه تفاصيل الغُسل والطّهارة بالماء والتيمم ولم يأتي على ذكر تفاصيل الصلاة؟ 

هذا بالإضافة إلى أن الله تعالى لم يقل إنه سمح لرسوله الكريم بتشريع ما لم يشرعه له بالوحي المبين، والآيات أكثر من أن يسعها المقام للتدليل على هذه الحقيقة، وقد ذكرنا العديد منها في مطلع هذا المبحث، لكنه سيكون من المفيد التذكير هنا أن الأمر يتعلق بشريعة تخص أحد أهم ركن في العبادة، والذي يهمّ العلاقة العمودية بين العبد وربّه التي هي من مجال الله دون سواه، لا العلاقة الأفقية بين الناس والتي قد تخضع للاجتهاد حسب تغيّر ظروف المكان وشروط الزمان.  

- وفي هذا الصدد يقول تعالى: (أم لهم شركاء شرّعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله) الشورى 21.

- ويقول في آية أخرى: (ما لهم من دونه من وليّ ولا يشرك في حكمه أحدا) الكهف: 26.

هاتين الآيتين الكريمتين وإن اختلفت الصياغة، إلا أنهما يؤكدان من حيث المعنى وبشكل حاسم، أن الله هو صاحب الدين، وأنه هو وليّ الذين آمنوا يتولّى أمرهم وتدبيرهم، وأنه وحده دون سواه من له حق التشريع لهم، فلا يجعل أحدا شريكا في قضائه وتدبيره لشؤون عباده ولا في حكمه على تصرّفهم الذي على أساسه ستكون المساءلة يوم الدين، ولم يستثني تعالى من ذلك نبي أو رسول، لا باسم سنّة ولا باسم وحي يوحى من غير ما تضمّنه التنزيل الحكيم.. ومن يقول عكس ذلك إنما يفتري على الله الكذب وينسب بالتدليس لنبيّه ما لم ينزل به تعالى من سلطان، وبالتالي، فلا دين إلا لله ولا تشريع ولا حكم ولا تدبير إلا له وحده دون سواه، سارية فينا مشيئته نافذُ فينا قضاؤه.

وإذا كان الفقهاء يستغفلون الناس من خلال التدليس على النبي ليشرّعوا لهم ما لم ينزل به الله من سلطان، ويستدلّون على صحّة صلاة المسلمين بحديث مكذوب على النبي عليه السلام يقول: (ما اجتمعت إمّتي على ضلال)، فلو كان هذا الحديث صحيحا لما تبرّأ الرسول من قومه بسبب هجرهم القرآن يوم القيامة كما يستفاد من الآية: 30 من سورة الفرقان. ولعل أكبر دليل على ما ذهبنا إليه يفهم من قوله تعالى:

- (وما يؤمن اكثرهم بالله الا وهم مشركون) يوسف: 106

والضمير هنا راجع إلى عامة الناس الذين يقولون أنهم "مؤمنون"، لكنك ستلاحظ اختلاط الكثير من مظاهر الشرك في أعمالهم بسبب أنهم لا يؤمنون بما أنزل الله بقدر ما يؤمنون بما شرّع لهم رجال الدين، فتراهم يمرّون على الآيات القرآنية وآيات الخلق في السماء والأرض مرور الكرام فلا يفهمونها، ويحتاجون دائما لمن يشرح لهم دينهم بدل البحث عن المعاني في مدرسة الله من خلال تدبّر النّصّ وآيات الخلق كما يحث تعالى على ذلك، ما دام سبحانه وتعالى هو المعلّم الأكبر الذي علّم الإنسان ما لم يعلم.

وبالتالي، فتلبّس إيمان المسلم بالشّرك كما ورد في الآية يشير إلى الخلط بين معنيين متقابلين لا يجتمعان في دين الله، وهو ما لا يتحقق في الواقع إلاّ إذا ترك الإنسان كتاب الله وراء ظهره واستمد دينه من كتب غيره وخضع لتعاليم الكهنوت. وللشرك درجات ومراتب كما هو معلوم، تختلف باختلاف مستويات الناس ومعتقداتهم وتصرفاتهم التي هي ترجمة عمليّة لإيمانهم بغض النظر عن صحّته من عدمه. 

وعودة إلى قضيّة الصلاة التي لم يأتي تعالى على تفصيلها في كتابه، يخبرنا صاحب الدين في محكم التنزيل أنه سبق وأن شرّعها للأنبياء والرسل من قبل، وهي بالتالي ليست مختلفة ولا خاصة بالرسول محمد وأمته، لقوله تعالى: 

- وجعلناهم أئمّة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين) الأنبياء: 73. 

والإشارة هنا إلى إبراهيم الخليل عليه السلام الذي وهبه الله إسحاق ولدا ويعقوب حفيدا، وجعلهم أئمّة صالحين يهدون الناس إلى الله العزيز الحميد، ويفعلون الخيرات، ويقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة، ولا يعبدون إلا الله الواحد الأحد الفرد الصّمد.

 وواضح من السياق القرآني العام أن هذه هي المرة الأولى التي يتحدث فيها تعالى عن فرض الصلاة والزكاة ابتداءا من نبيه إبراهيم الخليل عليه السلام وذريته من بعده التي شملها الوعد بالإمامة.

فيقول تعالى على لسان نبيّه إبراهيم الخليل عليه السلام: 

- (ربّنا إنّي أسكنت ذرّيتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرّم ربّنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من النّاس تهوى إليهم وارزقهم من الثمرات لعلّهم يشكرون) إبراهيم: 37.

والآية الكريمة تدلّ على أن إبراهيم عليه السلام أسكن زوجه هاجر المصريّة وابنه منها إسماعيل عليهما السلام، في أرض صحراوية قاحلة لا زرع فيها، قرب البيت المُحرّم الذي لا يُستحلُّ فيه ما حرّم الله، بل يصلح فقط لعبادة الله، وهذا ما يعطيه مصطلح "المحرّم" من معنى. وهناك اختلاف كبير بين الفقهاء حول من بنى البيت الحرام، فمنهم من يقول بناه آدم قبل أن تنتشر ذرّيته في الأرض بمساعدة الملائكة، ومنهم من يقول بنته الملائكة قبل ذلك، ومنهم من يقول أنزله الله من السماء، ومنهم من يقول بناه إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام. 

والحقيقة أن إبراهيم الخليل لم يكن أوّل من بنى البيت الحرام، بل كان موجودا منذ غابر الأزمنة ولا يعرف بالتحديد من أقامه ما دام القرآن لم يذكر ذلك، لكنّه ذكر أن إبراهيم وولده إسماعيل عليهما السلام هما من أعادا بناءه بإقامة القواعد من جديد على أنقاضه، لقوله تعالى: 

- (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربّنا تقبّل منّا إنّك أنت السميع العليم) البقرة: 127.

وقد قام إبراهيم وولده إسماعيل بإعادة رفع قواعد البيت التي تهدّمت ونظفوه بعد ذلك من النفايات وكل مظاهر الشرك التي كانت عالقة به من قبل، ليكون صالحا للطّائفين والعاكفين والرّكع السجود لقوله تعالى:

- (وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا واتخذوا من مقام إبراهيم مُصلّى وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهّرا بيتي للطائفين والعاكفين والرّكّع السجود) البقرة: 125.

ويقصد بالطائفين القادمين من بعيد، فيما العاكفين هم القاطنين بمكة، أما مناسك العبادة في البيت الحرام فتتضمن الطواف والركوع والسجود، ومعلوم أن الركوع والسجود يكونان غالبا متلازمان لا ينفصلان كلما ذكرت الإقامة للصلاة الأفقيّة التي يتقرّب بها العبد من ربّه، وواضح أن أمر الله تعالى للناس هو باتخاذ مقام إبراهيم "مُصلّى"، أي مكان للدّعاء، لأن المصلّى هي غير المسجد من حيث المعنى، خصوصا وأن مقام إبراهيم هو عبارة عن حجر كان يقف عليه عند بناء الكعبة، وهو في الأصل من نوع الحجر الرخو المسمى بحجر الماء على شكل مكعّب عرضه وطوله وارتفاعه لا يتجاوز 50 سم - وعلى سطحه أثر أقدام النبيّ إبراهيم عليه السلام، ويقال أنه نفس الحجر الذي أذّن فوقه للحجّ، وبالتالي، لا يعقل أن يأمر تعالى الناس بالصلاة الحركية في مكان هذا الحجر الصغير، ذلك أن قوله: (واتّخذوا من مقام إبراهيم مصلّى)، يعني أن يتخذ الناس من مكان هذا الحجر عند زيارته مقاما للصّلة مع الله من خلال الدعاء. وهذا يعني أن الصلاة الحركية لم تكن قد شرّعت بعد في هذه المرحلة المبكرة من التاريخ. 

وللإشارة، فقد اختلف الفقهاء كعادتهم في كل مرّة اختلافا كبيرا في تحديد معنى مقام إبراهيم عليه السلام، فمنهم من قال هو الحجارة التي كان يقف عليها نبي الله لبناء الكعبة (وهو قول الحسن وقتادة والربيع بن أنس)، ومنهم من قال هو الحرم كلّه (وهو قول مجاهد)، ومنهم من قال هو عرفة والمزدلفة والجمار (وهو قول عطاء)، ومنهم من قال الحجّ كلّه مقام إبراهيم (وهو قول عبد الله بن عبّاس). غير أن معظم الرواة ومنهم الطبري اتفقوا على أن القول الأول هو الأصحّ. 

ويؤكد تعالى هذا المعنى الذي ذهبنا إليه ليشمل بقية الأنبياء الذين أنعم عليهم من ذرّية آدم وإبراهيم وإسرائيل وغيرهم من الصالحين الذين أخذوا من كتاب الله دينهم لا من غيره من الكتب لقوله تعالى: (إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خرّوا سجّدا)، أي عند سماع آيات الله يسقطون بوجوههم على الأرض يبكون من الخشوع، وهذه هي الصلاة التي قصدها الله تعالى لقوله: 

- (أولئك الذين أنعم الله عليهم من النّبيّين من ذرّية آدم وممّن حملنا مع نوح ومن ذرّية إبراهيم وإسرائيل وممّن هدينا واجتبينا إذا تُتلى عليهم آيات الرحمن خرّوا سجّدا وبكيّا) مريم: 58. 

وقوله تعالى في مطلع الآية 58 من سورة مريم: (أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين) إشارة إلى "أولئك" المذكورين قبل هذه الآية في نفس السورة وهم: زكريا ويحيى ومريم وعيسى وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وموسى وهارون وإسماعيل وإدريس عليهم السلام، أي أصحاب القصص المُمجّدين في القرآن والذين أنعم الله عليهم بالذكر، ثم أضاف إليهم عبادا صالحين من ذرّية آدم ونوح وإبراهيم وآخرين من غير النبيين ممّن اجتباهم وهداهم وأنعم عليهم بالسعادة وفق ما يفهم من الآية.

فالذي عناه صاحب الدين بقوله: "من ذرّية آدم: هو إدريس"، والذي عناه بقوله: "من ذرية من حملنا مع نوح: هو إبراهيـم"، والذي عناه بقوله: "من ذرية إبراهيـم: هم إسحاق ويعقوب وإسماعيل"، والذي عناه بقوله: "من ذرية إسرائيـل: هم موسى وهارون وزكريا وعيسى وأمه مريـم". وقد تعمّد تعالى أن يفرّق أنسابهم وإن كانوا جميعا ينتهون إلى آدم صعودا عليهم السلام جميعا، لأن فـيهم من لـيس من ذريّة من كان مع نوح فـي السفـينة كإدريس، ومعلوم أن إدريس هو جدّ نوح، ووقوفه تعالى عند ذكر عيسى بن مريم هو إعلان بنهاية عهد النبوّة ووعد الإمامة في ذرية إسرائيل، لأن عيسى عليه السلام ولد من غير أب، وذلك تمهيدا لنقل العهد والوعد لذرية إسماعيل في شخص محمد عليهم السلام جميعا.

وللتّذكير، فهؤلاء النبيين والصالحين المُنعّمين هم الذين تحدّث الله تعالى عنهم في الآية: 39 من سورة البقرة المكلّفين بتبليغ هدى الله  لأقوامهم، وذلك لقوله: (قيل اهبطوا منها جميعا فإما يأتينّكم منّي هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون)، وميزتهم كما يستفاد من نصّ الآية 58 من سورة مريم، أنهم كانوا يخشعون في صلتهم مع الله بحيث كلّما تُليت عليهم آيات الرحمن إلا وخرّوا سجّدا وبكيّا، كما سبقت الإشارة، أي سقطوا على وجوههم بعد أن كانوا واقفين يستمعون لآيات الله، وليس بين وقوفهم وسقوطهم للسجود والبكاء ركوع يذكر كما هو واضح من نص الآية الكريمة. 

وتدلّ نفس الآية أيضا، على أن تلاوة الذكر هي عين الصلاة التي يقيمها العبد ليتّصل بربّه، فيعبّر له من خلالها عن إيمانه بالخشوع، وعن تصديقه لآياته بالسجود الذي هو تعبير حركيّ يفيد الطاّعة والتّسليم المُطلق، أمّا البكاء، فيُعبّر به عن التأثر البالغ والتواضع الشديد والخشية من الله. 

غير أن هذه الصلاة التي تحدث عنها تعالى في الآيات المذكورة أعلاه لم تعد قائمة، لقوله تعالى:

- (فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتّبعوا الشّهوات فسوف يلقون غيّا) مريم: 59.

ويفهم من الآية السالفة الذكر أن الخلف الذين أضاعوا الصلاة المقصودين بهذه الآية الكريمة هم الأمم التي جاءت بعد أصحاب القصص المذكورين في سورة مريم والمشار إليهم بـ (أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين) أي: "زكريا ويحيى ومريم وعيسى وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وموسى وهارون وإسماعيل وإدريس عليهم السلام جميعا بالإضافة إلى غيرهم من الصالحين الذين هداهم الله واجتباهم" كما يفهم من الآية 58 من سورة مريم. 

وقد اختلف المفسّرون في شرح معنى "إضاعة الصلاة"، فقالوا إنها قد تعني تحريفها عن أصلها، أو تغييرها بالزيادة أو النقصان فيها، أو السّهو وعدم الالتزام بأوقاتها لقوله تعالى: (الذين هم عن صلاتهم ساهون) الماعون: 5، وقد تعني تركها بالمرّة، وهي معاني معاكسة للمعنى الأصيل الذي قصده تعالى بقوله: (الذين هم على صلاتهم دائمون) المعارج: 23، وقوله: (والذين هم على صلواتهم يحافظون) المؤمنون: 9، وقوله: (والذين هم على صلاتهم يحافظون) المعارج: 34.

والملاحظ أن الله تعالى استعمل في الآية: 9 من سورة المؤمنون والآيتين: 23 و34 من سورة المعارج رسمين مختلفين للدلالة على نوعين من الصّلات (بكسر الصاد) ولا نقول الصّلوات:

- الرسم الأول كما ورد في الآية 9 من سورة المؤمنون: "صلواتهم" والذي جاء بصيغة الجمع للدلالة على الصلاة الأفقية التي تُؤدى لله تعالى والمسماة مجازا بالصلاة الحركية التي يقيمها المؤمنون في أوقاتها التي بيّنها تعالى في كتابه، ودليل ذلك وفق ما يفهم من السياق، أن سورة "المؤمنون" تبدأ بقوله تعالى: (قد أفلح المؤمنون * الذين هم في صلاتهم خاشعون) الآية 1 و2. ومعلوم أن الخشوع لا يكون إلا في الصلاة العمودية التي تقام بين العبد وربّه.

- الرسم الثاني كما ورد في الآيتين 23 و34 من سورة المعارج والذي جاء بصيغة "صلاتهم" والتي تفيد جمع المؤنث السالم، فيعني وفق ما يفهم من السياق الصلات الأفقية  (بكسر الصاد) لا العمودية، أي الصلات بين الناس، بدليل أن الحديث هنا معطوف على المُصلّين المذكورين في الآية 22 وما بعدها من نفس السورة، وهم الذين لهم صلة أفقيّة دائمة مع العباد، بحيث لهم في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم لتصديقهم بالدين وخوفهم من عذاب ربّهم يوم القيامة، فتجدهم أحرص الناس على الحفاظ على فروجهم إلاّ على من أحلّ الله لهم، وهم الذين يحافظون على أماناتهم ويراعون عهودهم، ويقومون بالشهادة لله لا تأخذهم في ذلك لومة لائم، ويحافظون على صلاتهم (بكسر الصاد) مع أهلهم وأقاربهم وإخوانهم في العقيدة.. هؤلاء هم الذين سيكرّمهم الله في جنّاته يوم الدين.

وعودة إلى الآية 58 من سورة مريم، يفهم من السياق أن الصلة العمودية مع الله لا تقوم إلا من خلال الذكر (أي قراءة القرآن والتسبيح)، فيما تقوم الصلة الأفقية مع عباده من خلال المعاملة الحسنة، أي أننا أمام ثنائية "التوحيد" و "الإحسان". أما الخلف الذين أضاعوا الصلاة مع الله والصلة الطيّبة مع عباده فقد وصفهم تعالى في أكثر من آية وسورة بأنهم إما "مُنافقين" أو "فجّار"، وهم من أمة محمد وفق ما يفهم من سياق الآية موضوع البحث. وسواء كان من هؤلاء المنافقين والفجّار من عاش زمن البعثة المحمّديّة أو ممّن أتوا وسيأتون بعدها إلى أن تقوم الساعة، فقد توعّدهم الله تعالى بـ "الغيّ"، أي بإبطال العمل والضلال، لأن أصل الكلمة من مصدر "لغا" أي أبطل، و"اللّغوُ" هو ما لا يُعتدّ به من الكلام الباطل الذي لا فائدة منه. وبالتالي، فالمعنى الذي يعطيه المصطلح القرآني لا علاقة له بما ذهب إليه التراث استنادا إلى الظن الذي لا يغني عن الحق شيئا، لقولهم إن "الغيّ" هو بئر أو واد في جهنّم. وهو تفسير غريب لا يسنده نص من وحي.

يتبـــع...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق