بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 31 يناير 2023

الأزهـر.. معبد الجهل المقدّس (2/1)

 


الإسلام بين سندان الإصلاح ومطرقة الكهنوت

منذ أن ابتدع فقهاء المذاهب ما أسموه بـ "علم أصول الفقه" بعد صدر الإسلام الأول الموافق للقرن الثاني الهجري، والإجتهاد ظل حكرا على شيوخ المذاهب وفق شروط صارمة ومناهج مغلقة تتوارث بين تلامذتهم جيلا بعد جيل، فابتدعوا بموجبها كمّا هائلا من الفتاوى والأحكام التي ضمّنوها فيما أسموه بـ "الشريعة الإسلامية"، والتي تعني حرفيّا شريعة الفقهاء لا شريعة السماء، لدرجة أنهم كانوا يفتون لعصرهم وللعصور التي ستأتي من بعدهم دون اعتبار لقوانين التاريخ، ولا لطفرات التبدّل والتغيّر والتحوّل التي تفرضها سنن التطوّر.../...

وظل الحال على ذلك إلى أن قرّر الأشاعرة سدّ باب الإجتهاد في القرن الرابع الهجري، الأمر الذي جعل المسلمين في كل أصقاع المعمور يأخذون دينهم من ثقافة القبور ميّت عن ميّت، وكأن الله تعالى لم يجعل قرآنه صالحا لكل مكان وزمان، وكأنه جل جلاله لم ينزل كتابه للعالمين كافة وأمرهم بقراءته وتدبّره وفهمه للعمل بمقتضى ما جاء فيه، بل جعل مسؤولية نشر دينه حكرا على فقهاء القشور استنادا إلى سنّة ابتدعوها ونسبوها إلى رسوله الأعظم عليه السلام، هذا بالرغم من أنه تعالى شرّع للعالمين دينا يتوافق مع الفطرة الإنسانية، فلم يجعل في الدين من حرج، ولم يجعل بينه وبين عباده من وسطاء ولا شفعاء ولا مخلّصين كما هو الحال في العقيدة المسيحيّة الأورثدوكسيّة التي تقول بأن "الخلاص لا يكون إلا من خلال الكنيسة"، حيث يعتبر رجل الدين "ممثلا لله في الأرض"، وهي الصيغة التي اعتمدها المسلمون تحت مسمى: "خليفة الله في الأرض" ليشرّعوا للأمة الحكم التيوقراطي الاستبدادي ضدا في العدل الذي هو أهم صفة تميّز شرع الله.

لكن بتقدّم العلوم وتراكم المعارف وانفتاح المسلمين على العالم في العصر الحديث بفضل شبكة الإنترنت وما فرضته الثورة السيبرانية من تحوّلات نوعيّة على مستوى الوعي، تكسّرت أغلال المنع، وتكسّرت قيود العبودية الدينية، وتحطّمت أسوار العزل على أرض الحرية، فنزل إلى الساحة ثلة من الباحثين المسلمين المُجدّدين من كل الأعمار ومن مختلف الاختصاصات والمشارب والتوجهات، فاقتحموا باب الإجتهاد في المجال الديني، ونجحوا أيّما نجاح في نفض غبار التعتيم الذي ظل لقرون طويلة يحجب رؤية المسلمين عمّا طال الحديث المنسوب إلى النبي عليه السلام من كذب وتزوير وتدليس، فسقطت القداسة التي تستّر بردائها الفقهاء، وتحطّمت أبراج التبجيل، وانهارت كل تحصينات قلاع الخوف التي كان يختبئ وراءها شيوخ الضلال، خصوصا بعد أن رفع فرسان الإجتهاد الجدد مرجعية الحقيقة التي يمثلها كتاب الله في مواجهة مرجعية الأحاديث المكذوبة على رسول الله والتي كان يستند إليها فقهاء الجهل لتحصين منظومتهم الفقهيّة المتهافتة.

هذا الوضع المُستجدّ أدخل المنظومة السّنّيّة برمتها في حالة احتضار، وبدى واضحا لكل ذي عقل وبصيرة أن ما يحدث يعني بالمختصر المفيد أن من أرادوا إطفاء نور الله بما ابتدعوه بأقلامهم من ضلال، وروّجوا له بأفواهم لقرون طويلة من مهاترات عبثيّة، قد وصل إلى منتهاه بعد أن قرّر الله تعالى أن يُتمّ نوره على يد ثلة من عباده المجتهدين والمجاهدين الذين آمنوا بأن أفضل الجهاد هو جهاد المعرفة لقوله تعالى لرسوله الكريم (وجاهدهم به جهادا كبيرا) الفرقان: 52، في إشارة إلى القرآن، فبدأت عملية كيّ الوعي الجمعي للأمة تنتشر رويدا رويدا كانتشار بقعة الزيت على رقعة الثوب. 

الأزهر تاريخ حافل بتكفير التفكير

وكان من المتوقّع أن لا تسكت مؤسّسة دوغمائية كالأزهر على مثل هذا الوضع المستجد والخطير الذي يهدد بفضح كهنوتها، وتقويض سلطتها الدينية، وإضعاف تأثيرها السّياسي، ويهدد بالتالي وجودها بالزّوال ولو بعد حين، ومن تابع تصريحات شيخ الأزهر وزبانيته خلال العقد الأخير سيدرك لا محالة عمق الأزمة التي يعيشها شيوخ هذا المجمّع الكهنةتي، ومقدار القلق الذي ينتابهم على مستقبلهم ومصير منظومتهم التراثية المتداعية.

لذلك، لم تعد إطلالات شيوخ الأزهر تفاجئنا، فكلّما انتقد أحد المتنوّرين الغيورين على الدين شريعة الفقهاء انتصارا لشريعة السماء إلا وثارت ثائرة شيوخ الظلام فسارعوا إلى استعمال كل أسلحتهم الثقيلة لتكفير التفكير وتحريض الدولة والقضاء للوقوف في وجه كل محاولة لنقد الثرات بهدف إصلاحه، هذا بالرغم من أن الإسلام يعني حرفيا الإصلاح، فيما الكهنوت يعني حرفيّا كتمان الحق لترويج الباطل، الأمر الذي جعل الله تعالى يلعن من يفعل ذلك  كما جاء في محكم التنزيل لقوله تعالى على سبيل المثال لا الحصر: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ البقرة: 159، 160.

فإصرار الأزهر على تكفير مخالفيه واستعمال القضاء والصحافة التي تفتقر إلى الضمير في حملاته المسعورة لإخراص الأصوات الشجاعة التي تنتقد مواقفه المنافقة وتطالب بإصلاح منظومته التعليمية التي تفرّخ التطرف وتنتج الإرهابيين، أصبحت عادة تتكرّر مع كل نقد يوجّه إلى هذه المؤسسة الكهنوتية، وبالتالي، لا يمكن السكوت على تغوّلها ومحاولاتها المستميتة التطاول على عقيدة المؤمنين وإخراص أصوات المنتقدين المصلحين في كلّ وقت وحين، وذلك من باب واجب النهي عن المنكر والأمر بالمعروف المقدّس والذي لا يقام الدين في مجتمعات المسلمين إلا به.

وليس أدلّ على ما نقول من موقف شيوخ الفتنة والضلال من تصريحات المستشار عبده ماهر وقرار متابعته أمام القضاء وتحريض الصحافة الصفراء ضده لإخراصه وقهره بسبب تجرّئه على فضح مناهج التدريس الأزهريّة التي تتعامل بعنصرية مع المسيحيين الأقباط أبناء الوطن الواحد، وتدعو لتمييز نسائهم عن نساء المسلمين ووضع علامات على بيوتهم ليعرفوا بها فيشعرون بالذلّ والصغار والقهر والاحتقار.

لن نخوض هنا في مواقف الأزهر القديمة التي وصلت حد تكفير فرج فودة الذي قتل نتيجة لذلك على يد المتطرفين كما هو معلوم، وبرغم ذلك أشار وكيل الأزهر عبّاس شومان في تصريح للصحافة بأن الأزهر لم يكفّر أيّ شخص أو جماعة على مدار تاريخه، الأمر،الذي فضحته ابنة الراحل فرج فودة في حينه..

ولن نخوض في موقف شيخه الأكبر من الباحث الإسلامي نصر حامد أبو زيد الذي كُفّر وتم تطليقه من زوجته غصبا بحكم قضائي، الأمر الذي أجبره على هجر وطنه وترك وظيفته ليمارس عقيدته في بلاد الحريّة بالمهجر إلى أن توفّاه الله في غربته.. 

 ولن نخوض في مواقف شيخ الأزهر المتطرّفة من الطائفة الشيعية اسهاما منه في إضرام نار الفتنة بين المسلمين مقابل 3 مليون دولار تلقّاها من ولي عهد السعودية حسب ما كشفته وكالة "فارس للأنباء" إبّان الحرب العراقية ضد الإرهاب، وذلك ثمن قيامه بحملة تحريض مُنظّمة ضدّ الحشد الشعبي العراقي المجاهد واعتباره مليشيا شيعيّة متطرّفة، هذا فيما الحشد الشعبي العراقي هو من قاتل "داعش" وعملاء أمريكا وإسرائيل وطردهم من بلاد الرافدين حينها..

 ولا نزيد أن نخوض في مُبرّرات رفض شيخ الأزهر  تكفير القاعدة وداعش وأخواتهما من التنظيمات الإرهابية التي استباحت دماء وأموال وأعراض المسلمين في العالم العربي والإسلامي، بذريعة أنهم "مؤمنون" لا يجوز تكفيرهم،  لأن ما يهمّنا هنا ليس مسألة التكفير في حد ذاتها بل الكيل بمكيالين الذي تتعامل به هذه المؤسسة الكهنوتية التي سبق وأن كفّرت أفرادا وتيارات وطرق' دينية،  مع العلم أن هذه التنظيمات الإرهابية التي يعتبرها الأزهر تنظيمات مؤمنة، فقد تبث بالدليل القاطع وباعتراف وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة هيلاري كليمنتون بأنها تخدم المصالح الأمريكية والأهداف الصهيونية لتقسيم دول المنطقة وطمس هويّتها ومحو تاريخها وتفجير لحمتها الدينية والوطنية، وإذا لم يكن ما تقوم به هذه الجماعات التكفيرية الدموية كفرا بواحا وفسادا مفضوحا فلا كفر ولا فساد في هذه الدنيا.. 

ولن نقف عند المبرّرات الدينيّة المتهافتة التي كفّر بموجبها مشايخ الجهل والضلال كلّ من لا ينتمي لأهل السنة والجماعة ولا يؤمن بالدين الجديد الذي أسّس له معاوية وشيوخ المذاهب الأربعة والبخاري ومسلم وغيرهما استنادا إلى مرويات مكذوبة على نبي الرحمة محمد عيله السلام برغم تعارض معظمها مع آيات قرآنية واضحة المعنى قطعيّة الدلالة، ولم ينجو من التكفير حتى "القرآنيين" الذين لا يؤمنون إلا بما ورد في كتاب الله العزيز، لأن من لا يؤمن بسنّة الفقهاء يعتبر كافرا في عرف الشيوخ، وقد اختير لهم إسم "القرآنيين" عن عمد وسبق إصرار لإيهام العامة من الدهماء وسواد الأمة بأن أتباع هذا النهج الرباني لا يؤمنون بالسّنّة، وبالتالي يعتبرون على غير شريعة من الهدى.

ولن نتحدث كذلك عن محاولة الأزهر المستميتة التي قام بها كاهنهم الأكبر لينصب معبده المقدس مؤسسة رسميّة تمثل المسلمين في العالم العربي والإسلامي دون شرعية من دين ولا تفويض من بقيّة مذاهب المسلمين المخالفة للمذهب الشافعي كالمالكية والأحناف والحنابلة والأباضية والأحمدية والصوفية والشيعة وغيرهم، الأمر الذي جعل الأزهر يصطدم بآل سعود الذين حاولوا بدورهم نشر العقيدة الوهابية في العالم الإسلامي من خلال الشيوخ وبناء المساجد والمساعدات المالية لتكون عقيدتهم اليهودية بديلا عن الإسلام القرآني الصحيح، فيتحوّل بذلك الصراع من صراع سياسي إلى حروب دينيّة بالوكالة كما حدث في أوروبا في القرنين السادس عشر والسابع عشر وبداية القرن الثامن عشر.

هذا علما أن الإسلام وكما هو معلوم ينبذ التفرقة والانقسام الذي كرّسته المذاهب، ويدعو الجميع إلى الإعتصام بحبل الله الذي هو القرآن، ويعتبر التفرقة في الدين شرك بالله واتنباع لدين الفقهاء بدل دين السماء، لقوله تعالى: (... ولا تكونوا من المشركين * من الذين فرّقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون) الروم: 31 – 32. وقوله: (اتبعوا ما أنزل إليكم من ربّكم ولا تتّبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذّكّرون) الأعراف: 3. 

ولن يكون من المفيد أيضا التذكير بمحاولة شيخ الأزهر محمد سيد طنطاوي الحصول بغير حق ولا موجب من استحقاق على لقب "الإمام الأكبر للمسلمين"، لينزع من نبي الله ورسوله الكريم محمد عليه السلام هذا اللقب الشريف باعتباره الإمام الأكبر والأخير لأمة المسلمين كافة، وهي الإمامة التي ورثها عن جده إبراهيم الخليل الذي كان وحده أمة عليه السلام. 

ولعل منّا من لا يزال يذكر خروج شيخ الأزهر قبل فترة ليفتن بين المسلمين ويحذر ممّا  أسماه في حينه بـ"الحملة المحمومة" التي تستهدف الشباب المصري لتحويله عن المذهب السني نحو المذهب الشيعي، وذلك لضرب وحدة واستقرار مصر من خلال التبشير والغزو الثقافي الذي يتشح بوشاح الإسلام وفق زعمه، وقد لاحظ الجميع استعمال شيخ الأزهر للخطاب الديني الفتنوي لاستدعاء تدخل الدولة القهري للتفرقة بين المسلمين. وللتذكير، فشيخ الأزهر سبق وأن حذّر شعب مصر من مغبة أن يتسلل أحد إليهم من بوابة محبة آل البيت، بصيغة تبدو وكأنها دعوة لدين آخر غير الإسلام، هذا علما أن محبة آل البيت تعتبر من ثوابت عقيدة المسلمين كافة، ولم يفته التذكير ومن باب التعميم المُغرض، بموقف من أسماهم بـ"الشيعة" من صحابة رسول الله عليه السلام في إشارة إلى أبي بكر وعمر وعثمان، ناسيا أو متناسيا أن الصراع في الأصل كان سياسيا بين نبلاء قريش والإمام علي، وأنّه اتخذ من الدين سلاحا للظفر بالسلطة. 

وبالمناسبة تجدر الإشارة إلى أن شيوخ الأزهر ليسوا متخصّصين في السياسة والعلوم الحديثة الصيحة منها والاعتبارية على حد سواء، ويجهلون أن المجتمعات العربية والإسلامية الحديثة قد تغيّرت وبدأت تنحو نحو الحرية والعقلانية والاستقلالية الروحية، بمعنى أن الأفراد المُتنوّرين يرفضون اليوم فهم اسلافهم للدين، ويشنون حملات توعية واسعة النطاق لنقد التراث وردّ الإعتبار للقرآن كمصر وحيد وأوحد للتشريع وفق فهم سليم لمتطلبات العصر ومقتضيات الدين. هذا التحوّل الذي هو من سنن الله في الخلق له أبعاد عميقة وستكون له لا محالة نتائج حاسمة على مستقبل الأمة لا يدركه عقل النقل والإحالة الذي يتميّز به الفقيه التقليدي، وهذا مجال لا يمكن إصلاحه من دون ثورة معرفية جديدة تقطع مع مناهج الماضي وما تضمّنه التراث من عجائبي وغرائبي يتجاوز منطق العقل ويصطدم مع الفطرة الإنسانية السليمة.

والحقيقة أن هذه لم تكن المرة الأولى ولن تكون الأخيرة التي يفتن فيها شيخ الأزهر بين المسلمين بدل أن يدعو للوحدة والتعاون والتضامن والتعاضد في مواجهة الأخطار المحدقة بالأمة، فكثيرة هي المناسبات التي رصدنا له فيها تصريحات تخرج عن إطار الخطاب الإسلامي الجامع، وتبث سموم الحقد وتكسر جسور التواصل بين مختلف مكونات الأمة خدمة لأجندات مشبوهة، وبذلك أصبح واضحا بالنسبة لشرفاء الأمة اليوم أن عقيدة الأزهر لا تختلف في شيئ عن عقيدة القاعدة وداعش، بل يمكن القول أن هذه المؤسسة الكهنوتية هي التي فرّخت بمنظومتها التعليميّة المتطرّفة هذه التنظيمات الإرهابية الخطيرة التي تعتبر الوجه الدموي لجماعة الإخوان المسلمين الدعويّة، والتي أصبحنا نعرف اليوم أن أعضاءها ليسوا في حقيقة الأمر سوى خدّام المحفل الصهيوني والماسوني العالمي. لأنه إذا كانت. جماعة الإخوان المُتأسلمين تمثل الوجه الظاهر للإسلام المنافق، فإن التنظيمات الإرهابية تمثل الوجه الباطن للصهيونية والماسونية العالمية، فيما الأزهر الأزهر هو الصدر الحنون الذي يرضع من حليبه التطرّف، أما الوهابيّة فتمثل الدراع النجس الذي يُسلّح الإرهاب ويموّله ويوجّهه ليبث سموم حقده وكراهيته على المستضعفين من عباد الله الآمنين، فيعيث في بلاد المسلمين خرابا وفسادا وفي الأبرياء نهبا وقتلا واغتصابا.

أقول هذا ليس دفاعا عن مذهب أو غيره، لأنني لا أؤمن بغير كتاب الله مصدرا للحقيقة، بل أقول ما أقول نصرة لهذه الحقيقة تحديدا، والتي مُؤداها الاعتصام بحبل الله المتين بديلا عن كل الحبال الشيطانية التي كبّلوا بها أعناق المسلمين، ولتكون بمثابة سد منيع في وجه حملات التضليل المُغرضة التي يروّ لها الفكر الضّال.. وعلى سبيل المثال فالفكر الشيعي أو الصوفي الذي يحذر منه الأزهر بمناسبة وغير مناسبة لا يمكن نشره من خلال حملة ماركتينغ ترويجية كما هو الحال مع الفكر السنّي  عموما، لأن الفرق بين المذاهب السّنية والفكر الشيعي أو الصوفي - ولا أقول مذهب لأن التصوّف طريقة لولوج الحقيقة فيما التشيّع تيار فكري قبل أن يكون مذهبا فقهيّا - هو كالفرق بين الظاهر والباطن، بين القشور والجوهر، بين النقل والعقل، بين تكرار مقولات نمطية سخيفة اعتاد على اجترارها  فقهاء القشور من أهل السنة والجماعة من جهة، وانتاج معرفة جديدة بطرق تفكير شجاعة تتجاوز أدوات العقل لتصبر أغوار الحقيقة الثاوية في النص المسطور بلغة الرمز والإشارة الربانية من جهة أخرى.. وهو ما لا يمكن اختزاله في "الشريعة الأزهرية" لأن الحقيقة الدينية تتجاوزها إلى فضاء العالمية كما هي طبيعة الإسلام السمح الجميل.

وكون شيخ الأزهر دائما ما يركز في حملاته الدّعائية على تمجيد وتقديس من يسمّيهم بـ "صحابة رسول الله"، فالسؤال الذي يطرح نفسه بالمناسبة من باب الجدوى وهاجس المعرفة هو:  - ما الذي يمكن أن يستفيده المسلمون من أثر هؤلاء الصحابة اليوم، والله تعالى يقول: (تلك امة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون) البقرة: 134، وهي الصيغة التي تكررت في الآية: 141 من نفس السورة.

نقول هذا، مع احترامنا لتجربتهم الخاصة جدا، لأنهم لم يتركوا لنا موروثا دينيا نوعيا يُعتدّ به كمرجع إن على مستوى الشريعة أو الحقيقة، لأنه وباستثناء الفلسفة النبوية أو علم القلوب الذي تركه الإمام عليّ كرّم الله موجهه ذخرا  للأمة الإسلامية في نهج البلاغة الذي يعتبر موسوعة في العرفان، لا يوجد شيئ يذكر تركه لنا الخليفة ابو بكر أو عمر أو عثمان، وبالتالي، فما الفائدة التي ترجى من الترويج لتجربتهم سواء في الدين أو السياسة؟..

هل ترك لنا أبو بكر الصديق مثلا، كتابا في نظام الحكم الإسلامي نهتدي به في إقامة دولة المؤسسات على أساس الشورى المُلزمة التي أمر بها تعالى في التنزيل الحكيم وجعلها لأهمّيتها مقترنة بفريضة الصلاة؟ أم أن تجربته الخاصة جدا، كانت إلى حد بعيد نسخة طبق الأصل عن ديمقراطية نبلاء قريش على شاكلة نبلاء روما كما يقول عالم التاريخ والإيديولوجيا عبد الله العروي؟

وماذا عن الخليفة عمر بن الخطاب؟ هل ترك لما كتابا جامعا في التشريع نهتدي به لإقامة العدل بين الناس، أم أن منتهى العدل هو أن نحرص على توزيع حصص القمح على الجياع ليلا بدل توفير فرص الشغل الكريم لهم ومساواتهم مع بقية أفراد المجتمع في توزيع الثروات؟

وهل كانت تجربة الخليفة عثمان بن عفان رشيدة حقّا ليحتدى بها في إدارة خيرات ومقدرات الأمة؟ أم أن البذخ والإسراف في الإنفاق والمحسوبية دفعت بدواعش العصر الرشيد (الخوارج) لقتله بتحريض من عائشة التي رفعت قميص محمد عليه السلام، متهمة عثمان بتبديل سنة النبي قبل أن يبلى قميصه؟..

أليست هذه الواقعة هي بداية الفتنة الصغرى التي أعقبتها الفتنة الكبرى عندما رفعت عائشة مرة أخرى قميص عثمان مطالبة بالثأر لدمه؟ أيس هو الأمر الذي استغله معاوية بن أبي سفيان في فرض أحقيته في الخلافة التي انتزعها من الإمام عليّ بالخديعة، فكانت تلك بداية الفتنة الكبرى التي أنتجت كربلاء وقسمت ظهر الأمة وفرّقتها إلى طوائف ومذاهب وملل ونحل لا نزال نعيش تداعياتها الكارثية على حساب الوحدة إلى اليوم؟..

وهل كانت فعلا خلافة راشدة على هدي النبوة تلك التي حاربت الممتنع عن دفع الزكاة بحد السيف باعتباره مرتدا عن الدين، بالرغم من تحريم القرآن للإكراه في الدين؟.. وحتى لو سلمنا جدلا بصوابية القرار من باب المحاججة العقلية ليس إلا، فلماذا لم يحارب الخليفة الأول تارك الصلاة مثلا، علما أن فريضة الصلاة مقدمة على فرض الزكاة كما أعلن هو جهارا نهارا بشهادة عمر ابن الخطاب؟..

وهل كانت الفتوحات التي أمر بها الخليفة الثاني إسلامية حقا هدفها نشر الإسلام بحد السيف ضدا في شريعة السماء أم أن دافعها كان الغنيمة كما تؤكد أحداث التاريخ التي لا يسع المجال للتوسع فيها في هذه العجالة؟.. ولنا في التجربة اليمنية التي نجحت في نشر الإسلام بالتجارة في البلاد الأسيوية المثال على ذلك.

لا نريد طرح مزيد من الأسئلة التي تؤرق عقل الباحث حول تلك الحقبة المبكرة من تاريخ الأمة انطلاقا من مشروعية سؤال المعرفة، ونفضل القول مع القرآن، أن تلك أمة قد خلت، لها ما كسبت ولكم ما اكتسبتم، ولا تسألون عما كانوا يفعلون.. فلماذا الإصرار على جرنا لماضي لن يفيدنا في تغيير الحاضر لبناء المستقبل؟..

وبدل أن نبحث عن القمر في عز الظهر، لنلتفت قليلا إلى ما نراه واقعا جليا قائما في حاضرنا، ونتسائل مع الذين يريدون أن يفهموا ويسعون إلى المعرفة الحقيقية فنقول: -   لماذا فشل "أهل السنة والجماعة" فيما نجح "الشيعة" أيما نجاح في تطوير فكرهم السياسي، وهو ما ساعدهم على تأسيس دولة محورية قوية بطموحات حضارية عالمية، خصوصا بعد أن حققوا الإكتفاء الذاتي في كل مجالات الإنتاج الحيوية بالإضافة إلى أنهم أخذوا بأسباب القوة، وسجلوا قفزة علمية مدهشة في المجالات التي ظلت حكرا على الغرب ومحرمة على المسلمين، وهو ما مكنهم من الحفاظ على استقلاليتهم وحرية قرارهم السيادي؟..

هذا في الوقت الذي ظلت فيه الدول السنية – باستثناء تركيا العلمانية - ضعيفة، جاهلة، متخلفة، فاسدة، خاضعة، ومستسلمة للغرب الإستعماري بلا سيادة ولا كرامة، ومنها السعودية والمغرب ومصر التي بدل أن ينتقذ شيخ الأزهر تحالف نظامها السياسي العميل مع تل أبيب، ويحارب فساد العسكر الذي يضرب مفاصل الدولة، ما أدى إلى انتاج أجيال من  شباب  عاطل، جائع ومتخلف، نراه يركّز على مواضيع تافهة لا تغيّر من الواقع شيئا ولا تخدم مصلة الأمة.. 

والمفارقة أن شيخ الأزهر يتجاهل عن قصد ما يحدث في مصر من كوارث خطيرة تهدد وجود الأمة ومصيرها، من ردة عن الإسلام بسبب عجز هذا المحفل الكهنوتي المُقنّع المسمى بـ "الأزهر" والذي تحكمت فيه على امتداد التاريخ الحكومات البريطانية المتعاقبة وفق شهادات جواسيس أنجليز، أقول عجزه عن إنتاج خطاب حداثي جديد بلغة جذابة ومضامين مقنعة، ولا نتحدث عن حملات التبشير والتنصير المنظمة، ولا عن حملات تشجيع الحرية الجنسية والمثلية وعبادة الشيطان وما إلى ذلك التي غزت العالم العربي وانقاد لها عديد الشباب المسلم اليوم.. 

لكن السؤال الأهم الذي على شيخ الأزهر الجواب عنه هو التالي: - ما قيمة أن يكون عدد المسلمين في العالم زهاء مليار ونصف مسلم من بينهم 10 في المائة فقط شيعة فيما 90 في المائة سُنّة؟ وعلى مستوى مصر مثلا، أي خطر يمكن أن يمثله الفكر الشيعي على مجتمع يمثل فيه السنة 99 في المائة فيما الشيعة لا يتجاوزون نسبة 1 في المائة فقط لا غير أو أقل قليلا؟..

أهمية السؤال تنبع من أن المكوّن السنّي الذي هو غثاء كغثاء السيل لا قيمة حقيقية ولا تأثير له، لا في السياسة ولا في الحضارة ولا في التاريخ ما دام العدد هو نتيجة التكاثر بالولادة لا القناعة.. لأن ما يعتدّ به في الحقيقة هو الكيف لا الكم، أي القيمة النوعية للعنصر البشري وجودة عطائه وإنتاجه في مختلف مجالات العلوم إسهاما منه في الحضارة الإنسانية، أي أن ما يُعتدّ به هو المؤمن القوي القادر على العطاء لا المسلم الضعيف الذي لا يعرف غير الاستهلاك.. وفي هذا يشهد التاريخ أنه وباستثناء ابن خلدون في العمران كل العلماء في مختلف المجالات الذين أناروا بعطائهم المعرفي ظلمالت الجهل في الكون هم عقول شيعيّة، فيما شيوخ السنة اهتموا بالإفتراء على الله ورسوله بما أنتجوه في مجال الفقه عموما، ولا حاجة لنا هنا لمقارنة ما لا يقارن، فسيّان بين الثريّا والثرى.

إن المعضلة في مصر والعالم العربي عموما، لا تكمن في خطر الفكر الشيعي المتوهم، والذي لا أساس له من الصحة، لأن من يريد التشيّع عليه أن يسعى لمعرفة الحقيقة بالجهد والمجاهدة والصبر والمثابرة لا بالدعائية.. بل الخطر الحقيقي يكمن في من حوّلوا الإسلام إلى عقيدة دوغمائية لتكون عائقا منيعا بين المسلم والفهم الحقيقي لتعاليم السماء، وأرغموه على قراءة القرآن من باب التبرك لا التدبر والفهم المؤدّ إلى التغيير الحقيقي حين يعمل المؤمن بما اقتنع به، لذلك نجد القرآن يخاطب أولي الأباب لا الجهّال والأغبياء.

والحقيقة أن ما أبدع فيه شيوخ الأزهر حتى الآن، هو أنهم حوّلوا مُجمّعهم إلى مؤسسة كهنوتية تحتكر إنتاج المعنى وفق أهواء الحكام، وتمارس الرقابة على عقول المؤمنين، والوصاية على عقيدتهم ووتقرر بدلا عنهم ما يجب أن يُختزل في قلوبهم، لأن المعنى الروحاني الذي يعطيه النص المقدس يكون دائما ثوريا محفزا على التغيير، في حين أن المعنى الذي ينتجه شيوخ الجهل والضلال لا يعدو أن يكون نمطيا وفق قوالب جامدة تحيل بين الإنسان وربه وتحوّله من عابد لله إلى عبد للأولياء، وهذا هو عين الرهبنة التي نهى الله عنها عباده، لأنها تبعدهم عن فضاء الرحمة الرّحب الجميل، وتسجنهم في فضاء الكهنوت الضيق، لدرجة أن الإنسان لا يستطيع أن يتصالح مع نفسه وعالمه ومع الأخر المختلف عنه، فيعيش ضائعا تائها بين الدين كواقعة تاريخية لا تهتم بتجربته الأرضية الخاصة، وبين الدين كواقعة لا تاريخية من عالم الغيب ما بعد الموت لا يعرف عنها شيئا، سوى ما يتفضل عليه به الكهنة من تفاسير عجائبية وغرائبية تشبه إلى حد بعيد لغة السحرة.

إن ما نتحدث عنه هنا وللتذكير، هو موضوع غاية في الخطورة والأهمية، وعليه يتوقف مستقبل الأمة، وقد آن الأوان ليعرف الناس الفرق بين الشريعة والحقيقة، لأن الدين ليس شريعة فحسب، لأن الشريعة لا تمثل فيه سوى الظاهر الذي يخفي الحقيقة، أي أقل من 5 في المائة من آي القرآن الكريم، فيما الحقيقة خصّص لها الله تعالى أزيد من 94 في المائة من آيات الذكر الحكيم، وجعل الوصول إلى الحقيقة غاية كل مؤمن يريد أن يعيش المعراج الحقيقي إلى فضاء المعانى المفيدة والجميلة.

ذلك أن الإيمان بمعناه العميق، هو شعور الإنسان بحضوره في رحاب مُلك وملكوت ربّه بالعلم والمعرفة، وإدراكه لحقيقة نفسه والعالم، همّه الوصول إلى معنى الوحي من خلال تفكيك رموز وإشارات اللغة الإلهية التي تخفيها العبارات الظاهرة، ومن كان هذا مسلكه، لا يمكن لأي جهة بما في ذلك الأزهر الذي هو عبارة عن معبد للجهل المقدس حبسه في سجن الجماعة ولا معتقل المذهب، لأن المؤمن العارف يكون مثله مثل طائر حرّ يتحرك في فضاء المعاني بوحي من الله لا من الكهنة..

 يتبـــع...


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق