بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 17 يونيو 2023

لماذا تحدّث الله عن القيامة بصيغة الماضي؟ ... (3/1)

 

(أَتَىٰ أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ)

 - النحل: 1 -

تمهيـــد:

لعلّ حديث الله في القرآن الكريم عن يوم القيامة بصيغة الماضي بالرغم من أنّه لم يقع بعد، يطرح على العقل المسلم الكثير من التحدّي لجهة فهم مراد الله من استعمال هذه الصيغة غير المعهودة في أسلوب الخطاب عند العرب، الأمر الذي يقودنا إلى طرح سؤالين أساسين: الأول مرتبط بالعلم، والثاني مرتبط بالدين، وذلك كالتالي: 

- السؤال الأول: هل ما نعيشه في الحياة الدنيا هو واقع حقيقي أم واقع افتراضي؟ 

- السؤال الثاني: هل كتب الله لكل إنسان مصيره النهائي بشكل مسبّق في علمه الأزلي؟ .../...

الحقيقة أن مثل هذه الأسئلة تعتبر من الأسئلة الوجودية الكبرى التي لا تزال تطرح في كل وقت وحين، خصوصا وأن كل المحاولات التي تناولتها بالبحث انطلاقا من مجموعة من الفرضيات لم تنجح في الوصول إلى نتيجة يقبلها العقل ويرتاح لها القلب.

ومردّ ذلك أن تسارع الاكتشافات في مجال العلوم الكونية وما أفرزته البحوث الفيزيائية من تناقضات على مستوى النتائج حطّمت كل النظريات التي كنا نعتقد إلى وقت قريب أنها صحيحة علميّا من جهة.. بالإضافة إلى ما تعرفه الساحة الثقافيّة من ثورة معرفية على مستوى المفاهيم الدينيّة في الصراع الدائر اليوم بين القرآنيين الذين يتمسّكون بكتاب الله كمصدر وحيد للحقيقة، والتراثيين الذين يتمسّكون بالمرويات ويُفسّرون الدين بالعجائبي والغرائبي والأسطوري من جهة ثانية، وهو الأمر الذي أحدث زلزالا كبيرا على مستوى الوعي الديني لدى شرائح واسعة من المسلمين، خصوصا فئة المتنوّرين الشباب الذين لم يعد خطاب الكهنوت يقنعهم اليوم بعد أن انفتحوا على الثقافات الكونية في شتى مجالات العلوم والمعرفة.

أمام هذا الواقع الذي أصبح يُهدّد المؤسسات الكهنوتية القائمة بالتلاشي والاندثار كما حدث في عصر النهضة الأوروبية ضد تحالف الكنيسة والإقطاع بفضل قلّة من المفكّرين النُّبهاء، وهو ما استشعره فقهاء القشور وحرّاس العقيدة اليوم، فبدأوا بشن حملة منظّمة  ضد القرآنيين الذين يسمونهم بأبشع النعوت بما في ذلك الكفر، لأن من لا يؤمن بالسنة وفق رأيهم (ويقصدون بها المرويات الظنّيّة) يُعتبر كافرا، ولا أدل على ذلك من موقف شيخ الأزهر الذي قال في خطاب رسمي له أمام الرئاسة والحكومة وقيادات الجيش المصري وممثلي البعثات الديبلوماسية العربية والإسلامية في باحة الأزهر بمناسبة دينيّة: "أن السنّة أجمعت عليها الأمة، وتركُها يعني ترك 75%  من الدين الذي لا يقوم إلا بها نظرا لأن القرآن لم يأتي بكل ما يحتاجه المسلم في حياته من تشريع.. وهذا لعمري قمّة الكفر بآيات الله التي تؤكد بما لا يدع مجالا للشّك أن القرآن نزل كاملا غير منقوص.. ومعلوم أن الكهنوت عندما يستخدم مصطلح "السنّة" فهو يقصدر بها ما ورد في كتب البخاري ومسلم وغيرهما من مرويات ظنّيّة لا يوجد بينها حديث واحد تتوفّر فيه شرط التواتر الذي وضعه فقهاء القشور أنفسهم.

 والحقيقة أن ما قاله شيخ الأزهر، لا يعدو عن كونه افتراء على الله ورسوله، واستغباء لعامّة المسلمين، لأن السنّة وفق القرآن الكريم لا تعني حديث البشر بالمطلق، بل هي طريقة عمليّة للعبادة ضمّنها تعالى في مجموعة أوامر ونواهي تتعلّق بمجال التشريع، وقوانين تحكم العوالم الكونيّة والمجتمعات البشرية وحركة التاريخ، وقال عنها: (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا) الفتح: 23. وقال أيضا: ولن تجد لسنة الله تغييرا ولن تجد لسنة الله تحويلا، ولم يذكر شيىء عن سنّة أنبيائه، بل أمر الرسول الخاتم وأمّته من بعده باتّباع ملّة أبو الأنبياء والرسل إبراهيم الخليل عليه السلام، وهي الطريقة الوحيدة التي تضمن ألاّ يتفرّق المؤمنون الموحّدون في الدين، غير أن التفرقة، للأسف، هي التي انتصرت بفضل حرّاس العقيدة تحديدا ضدا في أمر الله تعالى بالاعتصام بحبله الذي هو القرآن الكريم دون غيره.

وبذلك يكون خطاب شيخ الأزهر ومن هم على عقيدته من فقهاء الكهنوت قد صيغ بكل أشكال الكذب وأساليب التزوير والتحوير بهف التضليل، في محاولة خبيثة للدفاع عن دين الفقهاء ضدا في دين السماء والله تعالى يقول: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) المائدة: 3، ويقول: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) الأنعام: 38، ويقول: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ) النحل :89، ويقول: (الر ۚ كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ)هود: 1، ويقول: (تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ ۖ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ) الجاثية: 6، ويقول: (اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ ۗ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ) الأعراف: 3، وغيرها كثير... لكن ما حصل أن المسلمين فرّطوا في دين السماء حين هجروا القرآن واتّبعوا دين الفقهاء، فأشركوا مع الله في التشريع أولياء، ثم تجدهم يتساءلون في غباء: - لماذا تقدّم الغرب وتخلّف المسلمون؟.. 

وعودة إلى السؤال الذي عنونا به هذا المبحث، نجد أنه من الفرضيات التي طرحت للجواب عليه: ما له علاقة بقواعد اللّغة وأسلوب التعبير، وما له علاقة بمفهوم الزمن انطلاقا من نظرية النسبية وميكانيكا الكّمّ، وما له علاقة بجدليّة الكلام بين "علم الله الأزلي" و "علم الله القديم"، وعلاقتهما بحرّية الإرادة والجبر وانعكاس ذلك على مبدأ التوحيد والعدل كما برز بشكل لافت من خلال علم الكلام زمن المعتزلة، وهي المعضلة التي لم تحل بعد برغم محاولة البعض فتح باب علم الكلام القديم من جديد. 

لأنه إذا كان المستقبل هو ما نصنعه في حاضرنا، فإن عدم استطاعتنا معرفة ما ينتظرنا نابع من عدم فهمنا لماضينا، ولعل هذه الحقيقة هي التي تزرع في نفوسنا الشك والريبة، فتجعلنا نشعر أن معرفة الحقيقة ليست مسألة بديهيّة، بل مجرّد تصوّر نابع من قدرتنا على إدراك ظاهر الأشياء بعد ملاحظتها والتفكير فيها، فيما باطنها يظل محجوبا عنا بحجاب الجهل لا نستطيع اختراقه إلا من خلال الخيال الخلاّق لا الواقع الموضوعي.. وكأن اللايقين هو وُقود عقولنا الذي يقودنا للاستنجاد بالأسباب الكامنة وراء الظواهر الطبيعية والحوادث الظرفيّة، لاعتقادنا أن كل ما يصيبنا إنّما هو بسبب جهلنا وما كسبت أيدينا، وهو ما يؤكّده تعالى بقوله: (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ) الشورى: 30.

قد يكون نفي السببيّة هو نفي للعقل كما يقول ابن رشد،، لكن متى كان العقل العربي يأخذ بالأسباب العلمية والموضوعيّة ليُغيّر من واقع الأمة؟ ... أليس هذا هو السبب في الوضع الذي آلت إليه الأمة اليوم؟ ... لكن من جهة أخرى أليس الإيمان بغض النظر عن العلم والجهل هو الذي جعل هذا الدين صامدا منذ أزيد من 14 قرنا وجعل أتباعه يتزايدون بمتتالية هندسية هائلة بحكم التكاثر الناجم عن الإنجاب بدل القناعة المؤسّسة على الفهم والتدبّر، الأمر الذي أنتج لنا مجتمعات كبيرة من المؤمنين الجهّال على امتداد العالم العربي والإسلامي حسب تعبير الإمام الهيثمي والإمام الحضرمي؟ ...

لكن من جهة أخرى، قد يكون نفي السببيّة يؤدّي أيضا إلى السّقوط في نسبيّة مطلقة لاستحالة الوصول إلى معرفة حقيقيّة يحصل بها اليقين، خصوصا إذا علمنا أن منهج "الشك الفلسفي" الذي قال به ديكارت قد أدّى في كثير من أوجهه إلى العبثيّة بعد أن أصبح الشك في الشك نفسه منهجا لمعرفة الحقيقة، وأن "مبدأ الريبة" الذي قال به أب فيزياء الكم الألماني "فيرنر كارل هايزنبرغ" أدى بدوره إلى تنامي ظاهرة الكفر في الغرب، وها هو "مبدأ الرّيبة" قد عاد اليوم لساحة الصراع الفكري من جديد، خصوصا بعد نتائج التجارب المخبريّة التي أجريت مؤخّرا على المُكوّنات ما تحت ذرّيّة وأظهرت أن الفوتون مثلا كلّما تعرّض لشعاع  إلا و تجسّد مرّة كجسيّم ومرّة أخرى كموجة ضوئية، الأمر الذي يؤكد أن ما كنّا نعرفه عن المادّة هو مجرد وهم، وأن العقل من خلال الحواس لا يمكن اعتباره مصدرا موثوقا للمعرفة كما زعمت الفلسفة الماديّة، وأنه بدون إيمان يستحيل الوصول إلى ما يسعى إليه الإنسان من إدراك للحقيقة في شقّيها الظاهر والباطن.. ما يجعل ثنائية العقل والوحي مصدرين أساسيين من مصادر المعرفة الدينية والعلمية معا.

ومردّ ذلك أن الأمور ليست كما تبدو للعيان، ويستحيل معرفة حقيقتها من دون النفاذ إلى باطنها من بوابة ظاهرها، ومثال ذلك ما حصل مع خليل الله إبراهيم عليه السلام، الذي حاول معرفة ماهية الله من خلال ما يلاحظه العقل في عالم الملك من صور، فعاش الشك والحيرة، وحين استبدّ به العجز فتح الله عليه باب العلم اللدّنيّ عبر الإلهام الذي استقبله الحدس، فحصل له اليقين حين أراه الله سرّ الخلق في عالم الملكوت لقوله تعالى: (وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) الأنعام: 75. 

لكن وبرغم ما فتح الله تعالى على خليله من معرفة غيبيّة لم يسبقه إليها أحد من قبل أو من بعد من الأنبياء والرسل، إلا أن شغفه بالمعرفة الباطنيّة دفعه إلى أن يطلب من ربّه المزيد، وهذه المرّة ليريه كيف يحيي الموتى لقوله: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَىَ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَىَ وَلَـكِن لّيَطْمَئِنّ قَلْبِي) البقرة: 260. فتبيّن أن السؤال لا علاقة له بالإيمان من عدمه، لأن إبراهيم عليه السلام كان مسلما حنيفا مؤمنا بيقين لما شاهده في عالم الملكوت المحجوب عن الإنس والجن من حقائق، لكن قضية إعادة إحياء الموتى جعلته يتساءل من باب حبّ الاطّلاع المدفوع بشغف المعرفة عن كيفية حدوث ذلك (؟)، خصوصا بعد أن شاهد في الخلاء فريسة تُقطّعها السّباع إلى أجزاء، فحصل له الاطمئنان القلبي بعد أن أطلعه الله على كيفية إحياء الطّير حين أذن له بتجربة ذلك بنفسه، ففهم أن النفس هي الجوهر الخالد الذي لا يموت، وأن الجسد إذا مُزّق أو أُكل أو غرق أو حُرق... فهو في النهاية مجرّد مستودع سوف يعيده الله في خلق جديد يوم القيامة، لأنه في الأصل لم يكن سوى صورة تتبدّل وتتغيّر حسب ما تقتضيه ظروف وشروط الحياة بين الدنيا والآخرة، ما دام أن جسد الدنيا الذي يمرض ويشيخ ويموت لا يصلح، من الناحية الدينية والعقلية لأن يكون مستودعا تعيش فيه النفس الحياة الأبديّة في الآخرة.  

من هنا يتبيّن أنه لا يمكن الحصول على الإطمئنان القلبي من وجهة نظر الدين من دون الحصول على اليقين كما أوضح تعالى ذلك من خلال أنموذج إبراهيم عليه السلام، ولتأكيد هذه الحقيقة بالنسبة لرسوله الخاتم عليه السلام، قال تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) البقرة: 4. الأمر الذي يقتضي التسليم بوجود اليوم الآخر عن قناعة قلبيّة، ما دام أن العقل لا يمكنه أن يدرك الأمور الغيبية دون أن يشاهدها واقعا قائما على الأرض، لذلك خاطب الله تعالى الإنسان بقوله: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) الحجر: 99. واليقين المقصود في هذه الآية الكريمة هو الذي يحصل بعد الموت لا قبله، فيرى الإنسان الأشياء كما هي على حقيقتها لا كما كانت تبدو له في الحياة الدنيا، ودليل ذلك ما قاله تعالى بشأن الكافر ساعة احتضاره: (لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) ق: 22 (فجاءت كلمة حديد بمعنى "حدّة البصر" وفق ما يعطيه جذر الكلمة من معنى)، ومعلوم أيضا أنه لا يمكن لإنسان كائن من كان أن يبلغ درجة اليقين في المجال الديني قبل أن يرى الحقيقة بأم العين ساعة الموت، باستثناء من فتح عليه الله بنور علمه اللّدني كما حصل مع إبراهيم أو نبيّه الخاتم عليهما السلام أو غيرهما ممّن اصطفى واجتبى وأطلعهم على بعض من أسرار غيبه، والطريقة الوحيدة لذلك بالنسبة لعباد الله المقرّبين كما يؤكد تعالى في محكم التنزيل هي من خلال بدل الجهد والمجاهد في تدبر آيات الله في النص والواقع معا، لكن بعد أن يُنظّف المؤمن المجتهد عقله ممّا علق فيه من أفكار مستمدّة من ثقافة القبور، ويُطهّر قلبه من كل أشكال الشرك وكل أنواع الرجس، ويستعين بالصلاة والصبر والذكر والتسبيح وتقوى الله إلى أن يبلغ مرتبة العشق التي هي أعلى مراتب الذوبان في نور الله بعد ولوج مرتبة الإسلام مرورا بمرتبة الإيمان وانتهاء بمرتبة الإحسان.

- والسؤال هو: كيف يمكن الوصول إلى القناعة المبنيّة على اليقين بأدوات العقل ليحصل الاطمئنان القلبي في الحياة قبل الموت؟

وهنا المعضلة، ذلك أن كل من سعى وراء هذا اليقين الذي تحدّث عنه القرآن بأدوات العقل إلا واصطدم بحائط مسدود، وقد تناول هؤلاء الموضوع انطلاقا من مجموعة فرضيات منها:

- فرضيـــة اللّغـــة:

من المعلوم أن اللغة لا تعدو عن كونها عبارة عن رموز لصور تتبادلها الأدمغة في عملية التواصل بينها، ومثال ذلك: عندما ينطق المُرسل إلى المرسل إليه باسم من الأسماء كالتفاحة مثلا، يفهم المستقبل الاسم الذي هو مجرّد رمز مجازي من خلال تصوّر المُسمّى الذي هو صورة التّفّاحة عبر استدعاء مجسّمها من الذاكرة، لأنه بالنسبة للعقل يعتبر الاسم هو عين المُسمّى، وهذا يعني أن كل ما ليس لصورته وجود في الذاكرة لا يدركه العقل على حقيقته.. لكن، وبالرغم من عدم تضمّن اللغة البشريّة لصور واضحة يمكن التعبير بها عن عوالم الغيب كالقيامة مثلا، بسبب أن فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على بال بشر كما قال الرسول عليه السلام، إلا أن من انطلقوا من هذه الفرضية واعتبروها مصدرا للحقيقة خلصوا إلى أن الله عندما يتحدّث عن القيامة فإن هذا الحدث العظيم واقع لا محالة، واستخدامه جلّ وعلى لصيغة الماضي هدفه أن يؤكد لنا هذه الحقيقة، وكأنه يقول للمشكّكين في خطابه: "كما أنّكم لا تشكّون في الماضي الذي عشتم فيه والحاضر الذي ترونه بأم العين، فكذلك ينبغي ألاّ تشكّوا في المستقبل الذي ينتظركم، وهذا هو سبب حديثه تعالى عن الماضي بصيغة المستقبل". 

هذه هي الخلاصة البسيطة والسّطحيّة التي توصّل إليها أصحاب النقل والبيان القائلين بفرضية اللغة.

والسؤال هو: - هل تعتبر مثل هذه الخلاصة منطقيّة؟ ...

لنحاول فهم ذلك من خلال ما يلي:

o أ - فيما يتعلّق بالقواعد النّحويّة:

وفق علم اللّسانيات فإن اللغة العربيّة تستطيع التفريق بين الماضي والحاضر فقط، ولا يوجد في قواعدها فعل يمكن تصريفه بصيغة المستقبل على الإطلاق، فمثلا فعل "يعمل" منفردا وخارج أي سياق يشير بصورة حصريّة للزمن الحاضر، في حين يُشير نفس الفعل برسم "عمل" إلى صيغة الماضي، ولا يمكن تصريفه إلى المستقبل إلا إذا أضيفت إليه أداة "سوف" أو حرف "س"، كأن تقول مثلا "سوف أعمل" أو "سأعمل"، وهذه الإضافات لا تُعدّ تصريفات زمنية بالمعنى الحقيقي، لأنها لا تُعطي للفعل صورة نقيّة تمكّن من تحديد صيغة المستقبل بشكل منفرد. 

وكمثال على هذه الظاهرة قوله تعالى في محكم التنزيل:

- (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ) الزمر:68.

- (انشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ) الحاقة: 16.

- (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ) الشعراء: 91. 

- (وَعُرِضُواْ عَلَىٰ رَبِّكَ صَفًّا لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَٰكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ۚ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُم مَّوْعِدًا) الكهف: 48. 

وواضح أن الآيات السالفة الذكر كما غيرها كثير، تتحدث عن أحداث القيامة بصيغة الماضي، وبالتالي، فالسؤال هو:

- هل وقعت أحداث القيامة حقّا؟.. أم أن عدم وجود أفعال تُعبّر عن المستقبل في اللغة العربية هي التي جعلت الله تعالى يتحدث عن يوم القيامة بصيغة الماضي؟

هذه الفرضية لا يمكن أن تكون صحيحة بالمطلق، بدليل أن يوم القيامة لم يقع بعد بالنسبة لنا من وجهة نظر دينيّة وعقلية ومنطقيّة وموضوعيّة من جهة، ومن جهة ثانية نجد أن الله تعالى قد تكلّم عن نفس أحداث القيامة بصيغة المستقبل بدل الماضي، مستعملا في ذلك أدوات تكميلية تفيد وجوب الوقوع في المستقبل بشرط معلّق على الأجل لقوله تعالى:

- (إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ) الانشقاق: 1.

- (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ) الفرقان: 25.

- (فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ) الحاقة: 15.

مما سلف، نلاحظ أن الله تعالى استعمل في الآية 16 من سورة الحاقة صيغة الماضي بالنسبة لحدث مستقبلي لم يقع بعد لقوله: (انشَقَّتِ السَّمَاءُ)، ثم استعمل بالنسبة لنفس الحدث صيغة المستقبل المعلّق على شرط الأجل بإضافة أداة "إذا" في الآية 1 من سورة الانشقاق لقوله: (إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ)، ما يعني أنها لم تنشقّ بعد ما دام لم يحن الأجل المقدر لذلك. ونفس الأمر يقال بالنسبة للآية 25 من سورة الفرقان التي استعمل فيها الأداة "يوم" للدلالة على المستقبل، والآية 15 من سورة الحاقة التي استعمل فيها الأداة "يومئذ"، وهي كلّها أدوات تستعمل للدلالة على وجوب الوقوع في المستقبل بشرط الأجل.

والسؤال هو: - كيف يمكن أن يكون حدث انشقاق السماء قد وقع بالفعل عندما يتحدث عنه الله تعالى بصيغة الماضي، وفي نفس الوقت يكون لم يقع بعد عندما يتحدث عنه بصيغة المستقبل؟ ...

الحقيقة أن قواعد اللغة لا تسعفنا في حل معضلة المعنى، لأن القرآن نزل قبل أن يضع النّحويون في العصر العبّاسي قواعد اللغة العربية، خصوصا إذا علمنا أن أحدا غير الله لو استعمل هذه الطريقة في التعبير لاعتبر ما قاله ضربا من التناقض الذي لا يصح من إنسان عاقل. وبالتالي، يجب البحث عن سر استعمال الله لصيغة الماضي بالنسبة للمستقبل في مجال آخر غير اللغة.

o ب - فيما يتعلق بأسلوب التعبير:

هناك من المفسّرين من ذهبوا حدّ القول بأن الأمر يتعلق باستعمال الله تعالى لأسلوب البلاغة في التعبير عن المستقبل بصيغة الماضي في شرحهم للآية 1 من سورة النحل لقوله تعالى: (أَتَىٰ أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ ۚ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ)، وهو قول لا تسعفه قواعد اللغة ولا بلاغة الأسلوب، وإن كان وجيها من حيث المضمون، ذلك أن من استند في شرحه على هذه المسألة فهمه بشكل سطحي لا يحلّ المعضلة، بدليل أن حتى ابن جرير الطبري الذي يعتبر الأكثر قربا لمرحلة البعثة من جهة، والأكثر موضوعيّة في التعاطي من تفسير القرآن وتأويله من جهة ثانية، اعتبر أن الأمر لا يعدو عن كونه مجرّد تهديد ووعيد من الله للمشركين، ولا علاقة له بالفرائض حسب ما ذهب إلى ذلك بعض المفسّرين، ويُؤكّد الطبري في تعليقه على نظرية "الأسلوب البلاغي": "إن أحدا لم يُبلّغنا أنّ أحدا من أصحاب الرسول عليه السلام استعجل الفرائض قبل أن تُفرض ليقال لهم من أجل ذلك قد جاءتكم فرائض الله فلا تستعجلوها"، هذا علما أن الذين استعجلوا العذاب بتحدّي الرسول هم من المشركين، وقد كانوا كثر، لقوله تعالى في شأنهم: (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ ۚ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) العنكبوت: 53، وهو ما يفيد أن العذاب واقع لا محالة لكن تنفيذه مشروط بالأجل المقدّر من الحقّ سبحانه، وقد اختصر تعالى الحيثيات التي بنى عليها أمره القاضي بتعذيب المشركين على تكذيبهم لرسالة محمد عليه السلام وتحدّيهم لله تعالى بقولهم: (إِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَٰذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) الأنفال: 33، فجاء الجواب بأن لا تستعجلوا العذاب أيها المشركون فقد صدر أمر الله القاضي بوقوعه بعد أن تبيّن له كفركم وتحدّيكم، لكنه (أي العذاب) لن يقع إلا في الأجل المقدّر له من قبل الحق وليس قبله أو بعده. وهذا يعني أن العذاب واقع بهم لا محالة يوم القيام بقضاء مبرم، وليس قبل ذلك برغم تحدّيهم للرسول باستعجاله، ما دام وقوعه يخضع لأجل، أي للتقدير الذي هو من مجال القدر لا القضاء. 

وهو الأمر الذي يؤكد أن لا علاقة للبلاغة من حيث أسلوب التعبير بحديث الله عن القيامة بصيغة الماضي.

فرضيـــة العلـــم:

لم يصل العلم بعد لنظرية يمكنها تفسير هذه الظاهرة بطريقة علميّة مقبولة من خلال فكّ لغز الزمن، ولا زال العلماء يتخبّطون بين "نظرية النسبيّة "التي قال بها أينشتاين قبل 90 سنة واعتبرت إلى وقت قريب من المسلّمات اليقينيّة، و"نظرية ميكانيكا الكم"، وتحديدا "نظرية الاشتباك الكمّي" الحديثة التي غيّرت فهمنا للمادة والزمن بشكل جذري وأسقطت بالضربة القاضية نظرية "الكون المغلق" و"حدود سرعة الضوء" التي قال بها أينشتاين، الأمر الذي يؤكد مرّة أخرى أن "تاريخ العلوم هو تاريخ أخطاء العلوم" كما استنتجت ذلك الفلسفة الحديثة.

o الزمن من وجهة نظر أينشتاين:

من وجهة نظر النسبيّة الخاصة التي قال بها العالم أينشتاين، فإن الإنسان كلّما حاول السّفر في الكون إلا وتباطأ الزمن وفق معدّل السرعة التي يطير بها أخذا بالاعتبار الساعة البيولوجية للجسم والسّاعة الذرّيّة للكون سواء من النقطة التي ينطلق منها أو تلك التي سيصل إليها، وهذا معناه أن السّفر بسرعة الضوء التي حدّدها أينشتاين بـ (300 ألف كلم/ثانية تقريبا) سيتطلّب طاقة هائلة غير متوفّرة للبشرة اليوم، وفي حال حصول ذلك نظريّا فيستوقف الزمن عن الجريان، هذا ناهيك عن أن السفر بسرعة الضوء يفقد الجسم كتلته ويحوّله إلى موجات ضوئية (فوتونات).

غير أن هذه النظرية ثبت خطأها بعد أن تبيّن أنه لا وجود للفراغ في الكون بسبب وجود شبكة ضخمة من الفوتونات والإلكترونات وعديد المكوّنات ما تحت ذرّية غير مرئيّة تسبح في الفضاء، وبسبب هذه الأجسام التي تعتبر من العوارض لا ينتقل الضوء من مكان إلى مكان بالسرعة التي حدّدها أينشتاين، ودليل ذلك أن ضوء القمر لا يصل الأرض إلا بعد 1.5 ثانية، أما نور الشمس فلا يصل الأرض إلا بعد 8.5 دقيقة من انطلاقه، وقس على ذلك أنوار بقيّة النجوم الذرّيّة، إذ هناك نجوم قد انفجرت وخمد لهيبها واندثر وجودها منذ ملايين السنين الضوئية ولم يصل نورها إلى الأرض إلا مؤخرا ما يعني أن ما نرصده في الفضاء لبعض النجوم الذريّة لا يمثل حاضرها بل ماضيها السحيق، ذلك أنها لم تعد موجودة اليوم بالمطلق.

هذه النظريّة الفيزيائية العلميّة تعني أن الإنسان في حال استطاع فرضا السفر في الكون بسرعة الضوء فإنه سيسافر نحو الماضي لا المستقبل. 

غير أن ما أغفلته نظرية أينشتاين هو ما يلي:

- أن قياسات السفر عبر الزمن بسرعة الضوء تختلف عند انتقال الكتلة التي هي جسم مادي عنها بالنسبة لانتقال الفوتون الذي هو موجة ضوئية، والتغيّر في الزمن يحدث عندما يصطدم الجسم أو الموجة الضوئية بالغلاف الجوي الأرضي حيث تتباطأ السرعة عن تلك التي ينتقل بها الجسم أو الموجة في الفضاء الكوني خارج المدار الأرضي الأمر الذي يجعل من الحسابات الفيزيائية الدقيقة عمليّة معقّدة إن لم تكن شبه مستحيلة بما وصل إليه العلم من نظريات رياضيّة حتى الآن.

- أن بلوغ سرعة الضوء التي حدّدها أينشتاين أمر مستحيل بسبب أن الأجسام ستفقد كتلتها وستتحوّل عندها إلى موجات ضوئية كما سبق القول، وبالتالي لا يمكن الحديث عن نسبيّة في غياب المحدّد الأساس لها والذي هو الكتلة الجسميّة. ولنا المثال الحيّ في واقعنا المعاش، حيث نعلم علم اليقين أن الإنسان عندما يموت تنتقل نفسه التي هي جوهر نوراني لا كتلة له بسرعة خارقة إلى العالم البرزخي، فيما يعود جسده الذي هو كتلة مادّية إلى أصله الذي هو التراب.. 

والسؤال هو: - هل يمكن قياس سرعة انتقال النفس إلى عالم ما وراء البرزخ؟

o الزمن من وجهة نظر ميكانيكا الكمّ:

لقد أحدثت نتائج التجارب الفيزيائية الأخيرة التي أجريت على المكوّنات ما تحت ذريّة (الفوتون والإلكترون) زلزالا عظيما على مستوى فهم الطريقة التي يعمل بها الكون، بحيث سقطت جميع النظريات الفيزيائيّة التي كان العلماء يعتبرونها إلى وقت قريب صحيحة.

فقد أكّدت نتائج هذه التجارب الدّقيقة التي أجريت على المكونات المذكورة في مسرّعات كسر الذّرّة، أن الفوتون مثلا يتصرّف مرّة كموجة ضوئيّة ومرة كجسيّم حسب وجود المراقب من عدمه، فيما الإلكترون حين يوضع تحت المراقبة الفيزيائية ينقسم إلى أصل ونسخة، فيدور الأصل في اتجاه والنسخة في اتجاه معاكس في نفس الوقت بغض النظر عن المسافات الضوئية التي تفصلهما، الأمر الذي حدى ببعضهم للقول أن الإلكترون له "وعي إدراكي" لأنه يتأثر بـ "وعي المراقب"، بحيث أنه كلّما خضع للمراقبة إلا ودار في اتجاه معيّن لكنه في نفس اللحظة الفيزيائية يبعث بإشارة إلى نسخته التي قد توجد في أبعد نقطة من الكون بسرعة تفوق سرعة الضوء بملايين، بل ومليارات السنوات الضوئيّة، فيدور الإلكترون التوأم المتلقي للرسالة الآنية بعكس دوران الأصل. وهو ما أدهش العلماء فلم يجدوا تفسيرا علميّا لهذه الظاهرة الغريبة وغير المسبوقة، والتي تعني ببساطة شديدة: "انتفاء الزمن". 


التشابك الكمّي

والحقيقة أن هذا ما كانت تقول به نظرية النسبية الكلاسيكية من أن الزمن مجرّد وهم، لأنك لو قمت بتصوير شخص عند خروجه صباحا من المنزل، ثم صوّرته عند وصوله إلى عمله، ثم صوّرته عند خروجه مساء من عمله، ثم صوّرته عند عودته ليلا إلى بيته.. فستحصل على شريط من مجموعة صور تمّ أخذها في أزمنة نسبيّة مختلفة تتضمّن الماضي والحاضر والمستقبل، لكنك حين ستعرض هذه الصّور مجتمعة في نفس الوقت لمراجعتها، فإنك لن ترى سوى أحداث وقعت كلّها في الماضي، وبالتالي لم يعد فيها للحاضر أو المستقبل من محل. 

والسؤال هو: - هل يمكن لمثل هذه الظاهرة العلمية أن تفسّر لنا سبب تحدّث الله عن القيامة بصيغة الماضي؟.. 

من الصعب الجزم بذلك نظرا لأنه حتى الآن لم تصمد أيّة نظرية علميّة، وكل من فسّر القرآن بما وصل إليه العلم من نتائج إلا واكتشف بعد ذلك أن تفسيره لم يكن صائبا.  

وها هي نظرية التشابك الكمّي الحديثة تثبت ما نقول، وللإشارة، فهي النظرية التي رفضها أينشتاين قديما قبل تجربتها مخبريّا بقوله: "أنا لا أعتقد أن الله يلعب النرد"، لأنها وفق رأيه تلغي مبدأ السببيّة وتطرح إشكالية التصرّف العشوائي والعبثي للمادة في الكون، وهو ما عبّر عنه العالم الفيزيائي جون ستيوارت بالقول: "إن الكون فوضوي على المستوى الذرّي"، الأمر الذي يدعم "ظاهريّا" نظرية "اللايقين" التي أصبحت قاعدة علمية مؤدّاها أن "المعرفة ليست مؤكّدة بل مبنيّة على تصوّر الإنسان وإدراكه للأشياء بعد ملاحظتها"، وهو ما خلص إليه أيضا الفيلسوف الفرنسي في زمانه "ميشيل دي مونتين" الذي أعاد إحياء "مبدأ الريبة" بإدخال الشك الفلسفي المطلق في فكر الحداثة ما أدى إلى تنامي ظاهرة الإلحاد في الغرب.

 وللإشارة، فهو الأمر الذي تنبّه له الفيلسوف "إيمانويل كانط" بذكائه، فاستحقّ أن يُعتبر بمثابة الفارس المنقذ للعقل الغربي من السّقوط في العدميّة، مُتأثرا في استنتاجاته بقواعد الفلسفة الإسلامية، وخصوصا نظريّة ابن رشد القائلة بأن "إنكار السببيّة هو بمثابة إلغاء للعقل" كما سبق القول. وعلى هذا الأساس تفطّن الفيلسوف "إيمانويل كانط" للفرق القائم بين مبدأ "الشكّ المنهجي" من جهة، و مبدأ "الشك الفلسفي" كوسيلة للوصول إلى اليقين. ذلك أن الشك الفلسفي يؤدي إلى التفكير العدمي، في حين أن الشك المنهجي يتطلّب من الباحث أن يجرّد عقله من كل المعلومات والأفكار والمعارف المسبّقة، وينطلق في رحلة تأمّل وتفكير تدريجي ينتهي به إلى الحقائق الموضوعيّة النسبيّة لا المطلقة التي هي مجال خاص بالخالق وحده دون سواه، والحقيقة أنه ليس مطلوب من الإنسان الوصول إلى الحقيقة التي لا يعلمها إلا الله، بل يكفيه السّعي وراءها، لأن السّعي وراء الحقيقة لهو أنبل من الحقيقة نفسها كما قال الفيلسوف ليسنغ. 

وللإشارة فقد استعمل المفكّر جان جاك روسو مبدأ "الشّك المنهجي" الذي ساعده على وضع أوّل قاموس للّغة الفرنسية في عهد النهضة بهدف توحيد لغة التواصل بين الناس وتوحيد فهمهم للمصطلحات في نفس الوقت. وهي المنهجية المعتمدة اليوم في مجال العلوم والتكنولوجيا حيث يتكلم العلماء نفس اللّغة العلمية في كل أصقاع الأرض، فيما خضعت اللغة الدينية لعبث الفقهاء، الأمر الذي أدى إلى التفرقة في الدين بين المنتمين للديانة التوحيدية من الأمم الإبراهيمية من جهة، وبين المنتمين لنفس الأمة والرسالة من جهة ثانية. ولتوضيح ذلك نفتح قوسا بالأمثلة التالية:

1. ما حدث مع اليهودية: ذلك أنك إذا سألت يهوديا عن ديانته فسيقول لك أنه يدين بالديانة اليهودية. هذا علما أن اليهودية تعني الانتساب إلى يهودا الذي هو أحد أبناء يعقوب الملقّب بإسرائيل أحد أبناء نبي الله إبراهيم. والسؤال هو: - هل يهودا جاء بديانة خاصة باليهود مختلفة عن ديانة أبيه يعقوب أو جدّه إبراهيم؟.. لأنه إذا كان الجواب هو "لا"، فما هي ديانة يعقوب وإبراهيم عليهم السلامة جميعا؟

2. ما حدث مع المسيحية: نفس الأمر يمكن أن يقال بالنسبة للمسيحي الذي إذا سألته فسيقول لك أنه يدين بديانة المسيح عيسى عليه السلام الذي يعتبره ابن الله سبحانه وتعالى عمّا يشركون، لكن هذا المسيحي الذي يؤمن أيضا بما جاء في العهد القديم (التوراة) ويعتبر أن العهد الجديد (الإنجيل) هو امتداد له، لا يدرك أن عيسى عليه السلام لم يأتي بدين جديد، بل جاء بنفس الدين الذي جاء به من سبقوه من الرسل واتبع ملّة جده إبراهيم الخليل عليه السلام وفق ما يؤكد القرآن.

3. ما حدث مع أتباع الرسالة المحمديّة: بحيث تكرر نفس الأمر الذي حدث مع اليهود والنصارى، حيث عمل فقهاء المسلمين وفق التراث على التمييز بين رسالة محمد ورسائل من سبقوه من الرسل عليه السلام جميعا، وذلك من خلال ابتداع دين جديد خاص بهم استنادا إلى سنّة نسبوها لنبيّهم الخاتم فأصبحت بديلا عن تعاليم القرآن الكريم.

هذه الأمثلة التاريخية تؤكد بما لا يدع مجالا للشك، أن اليهود والنصارى والمسلمين كلهم إلا من رحم الله، تركوا كتاب الله وراء ظهورهم واعتنقوا دين أحبارهم ورهبانهم وفقهائهم ليتشكل في كل زمان ومكان دين بشري جديد بديلا عن دين السماء، هذا بالرّغم من أن الله هو في السماء إله وفي الأرض إله ولم يبعث رسولا ولا نبيّا لأمّة من الأمم إلا بنفس الدين الذي ارتضاه تعالى طينا للعالمين، أي "الإسلام".  

وعودة إلى الفرضية العلمية، فقد تبيّن على ضوء نتائج التجارب الفيزيائية الأخيرة فيما أصبح يعرف علميّا بـ "التشابك الكمّي"، فإنه ولسوء حظ أينشتاين سقطت إلى لا رجعة نظريّته القائلة بأن "الكون فضاء مُغلق"، وبأن أقصى سرعة فيه هي سرعة الضوء "التي حدّدها في 300 ألف كلومتر في الثانية تقريبا كما هو معلوم"، مع فارق أن المكوّنات ما تحت ذرّيّة لا تتصرّف بعشوائية كما اعتقد أينشتاين في زمانه. ذلك أن الجسيّم حين يبلغ سرعة الضوء القصوى يتحوّل إلى موجة، أي أنّه يفقد كمّوميته التي كانت تميّزه كجسم، ولهذا السبب يستحيل السفر عبر الأكوان من دون أن يفقد الإنسان (كمّوميته) كثلته المادّيّة ويتحوّل إلى موجات ضوء (فوتونات شبحيّة)، وهو ما يحدث عندما تغادر النفس الجسد لحظة الموت لتنتقل إلى عالم ما وراء البرزخ كما سبق القول.. فسبحان الله العظيم.

إن التشابك الكمّي بالتعريف الفيزيائي يعني وجود جسمين في حالة تراكب، أي أن خواص الجسيمات لا تكون محددة إلى أن تُقاس. فمثلًا، الجسيمات الكمية - الكيوبتات - لها قيمة احتمالية (لا يقينيّة) تتراوح بين (0 أو 1) في الحاسوب الكمّي في الوقت ذاته قبل خضوعها للمراقبة في المختبر، لكن حين تخضع للمراقبة تصبح قيمتها (اليقينيّة) إمّا 0 أو 1. ومثال ذلك، حال توّلد إلكترونين متشابكين من أصل واحد، أي من نفس الذرّة، فإن أحد الجسيمات وبمجرد تعرّضه للشعاع الضوئي الإلكتروني سيدور في اتجاه عقارب الساعة، فيما يدور توأمه الآخر عكس عقارب الساعة. ومردّ ذلك أن الإلكترون "أ" مثلا حين يخضع للمراقبة وفي الوقت الذي يدور فيه في اتجاه عقارب الساعة يبعث بإشارة إلى نظيره الإلكترون "ب" تجعله يدور في عكس اتجاهه حتّى لو كان هذا الأخير يتواجد في أبعد نقطة من الكون، بحيث تصل الإشارة إليه في نفس اللحظة الفيزيائية بسرعة تفوق سرعة الضوء بملايين، بل وبلايين السنوات الضوئيّة كما سبق القول. وبهذه الطريقة يولد الزّمن في الكون.. وهذا ما لم يدركه اينشتاين في زمانه، وهو فعلا أمر محيّر وشديد الغرابة قلب اليوم نظريات النسبيّة وميكانيكا الكمّ رأسا على عقب.

وعلى ضوء هذه النتائج العلمية المذهلة، سيكون من المفيد التوضيح أن كل من اعتقد أن للإلكترون والفوتون والمواد ما تحت ذريّة عموما "وعي إدراكي" قد جانب الصواب، لأن الحقيقة العلميّة تقول غير ذلك، ما دام الفوتون والإلكترون لا يتصرّفان بالطريقة التي أكّدها علماء الفيزياء في المختبرات بسبب وجود مراقب يؤثر فيهما كالإنسان، بل بسبب أن الكاميرات التي رصدت هذه التحوّلات خلال التجربة هي كاميرات إلكترونية فائقة الدقة ترسل إشارات كهربائية إلى الفوتونات والإلكترونات فتستقبلها الأخيرة وتتصرّف تحت تأثيرها، وهي الظاهرة التي تُسمّى في الفيزياء بـ "الوعي البرمجي" الخاص بالمادة، لا "الوعي الإدراكي" الخاص بالإنسان، ومعنى ذلك أن الجزيئات ما تحت ذرّيّة تختزل في ذاتها وعي على شاكلة "فطرة"، أي أنها موجودة بقانون إلهي يحكمها ويجعلها (تُسبّح) تتصرف على أساسه مثلها مثل بقيّة المخلوقات، وهذا هو معنى التّسبيح في قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ ۖ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ) النور: 41، وهي الآية التي وردت في سورة النّور للعلاقة القائمة بين النور والمادة، أي النّور باعتباره طاقة منه تتوّلد المادة، وعند فنائها تتحوّل إلى طاقة وهكذا إلى ما لا نهاية.

تشابك كمّي لإلكترونين توأمين من نفس الأصل الذّرّي

والحقيقة أن نظرية التشابك الكمّي التي اكتُشفت بعد ما يناهز قرن من النظريّة النسبيّة (90 سنة بالتحديد)، هي العنصر المفقود الذي كان يبحث عنه أينشتاين في حياته فلم يجده. وباكتشافه اليوم سقطت نظرية سرعة الضوء في الحد الذي قال به (أي 300 ألف كلم في الثانية)، وبالتالي، فالقول  بأن الزمن يسير بلمح البصر كما يؤكد القرآن في أكثر من مثال (نقل عرش بلقيس زمن سليمان عليه السلام نموذجا)، هو ما أكّدته نظريّة "التشابك الكمّي" اليوم، بالإضافة لنظرية "المادة المضادة" المسؤولة عن تخليق العدم أو الفناء في الكون والتي أكّدت الملاحظات الأخيرة أن الكواكب والنجوم كلّما ابتعدت عن مراكز مجرّاتها إلاّ وتحرّكت بسرعة أكبر من سرعتها المعتادة، وبالتالي، لم يعد لنظريّة سرعة الضوء القديمة من معنى، وسقطت أطروحة أن الإنسان إذا استطاع السّفر بسرعة الضوء فسيرى الماضي، ذلك أن هذه النظريّة النسبيّة التي انساق وراءها عديد الباحثين الإسلاميين لإثبات سبب حديث الله عن القيامة بصيغة الماضي من الناحية العلميّة، سقطت ولم تعد قائمة، خصوصا بعد أن تأكد لعلماء الفيزياء النوويّة اليوم بأن الحالة المُوحّدة (الفوتون أو الإلكترون من نفس الأصل) قد تؤدي إلى قياس جسيم له تأثير مباشر على جسيم آخر مرتبط معه بقوة وبسرعة هائلة دون اعتبار للمسافة بين الجسيمين، وهو ما يشبه نظرية تأثير الفراشة مع فارق الزمن والسّرعة، أي أن الأمر يتعلّق بسرعة يستحيل قياسها فيزيائيا انطلاقا من ثابتة أينشتاين، وهذا هو العنصر المفقود الذي يشتغل عليه العلماء اليوم لملأ الفجوة القائمة بين التشابك الكمّي والنظرية النّسبيّة، أي قبول عالم الكّمّ في ظلّ النسبيّة.

لكن العجيب في الأمر أن الصوفيّة، وعلى رأسهم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي استطاع ببراعة فك هذا اللغز من خلال نظرية الأعيان الثابتة، وهي النظرية الصوفية الوحيدة التي تفسّر ما وصل إليه العلم اليوم حول التشابك الكمّي، وسنعود إلى هذه النظرية الصوفية عند معالجتنا للمسألة من الناحية الدّينية الباطنيّة.

ومهما يكن من أمر، فالنتائج المذهلة المتوصّل إليها علميّا اليوم في مجال ميكانيكا الكّمّ تحديدا من خلال تجربة "نظريّة التشابك الكمّي" قد سبّبت صدمة في البداية للفيزيائيين والمفكّرين على حد سواء، لأنها تخالف ما استقرّ في وعي العلماء من حقائق اعتبرت إلى وقت قريب صحيحة من الناحية العلمية، كما أنها ستغذي الكثير من الفرضيات وتلهم العديد من الأفكار.. ذلك أنه وبمجرد ظهور نتائجها العلميّة الأوليّة، أصبح العلماء يطرحون مجموعة فرضيّات جديدة، منها: أن "الزمن نشأ من التشابك الكمّيّ"، وأن "للمستقبل تأثير على الماضي".. وما إلى ذلك من الأسئلة التي تشغل بال الفلاسفة والعلماء على حدّ سواء.

لكن وبغض النظر عن النقاش العلمي والفلسفي "الميتافيزيقي" الدائر اليوم حول نتائج هذه النظرية الغريبة على المستوى العالمي، فما حصل هو مجرّد بداية قد تساعدنا على فهم القوانين التي أودعها الله في الطبيعة بشكل أفضل، لا كما يريدها البعض أن تكون لأنها تخدم وجهة نظره الفلسفيّة أو نظريّته العلميّة الافتراضية كما حدث مع نظرية النسبيّة ونظرية سرعة الضوء اللّتان قال بهما اينشتاين.

يتبـــع...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق