بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 20 يونيو 2023

لماذا يتحدث الله عن القيامة بصيغة الماضي؟ ... (3/2)

 

(أَتَىٰ أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ ۚ)

   - النحل: 1 -

لقد سبق معنا القول في الجزء الأوّل من هذا المبحث أنه من وجهة نظر العلم، وحسب ما أكّدته نتائج التجارب الفيزيائية التي أجريت على المكوّنات ما تحت الدريّة (الفوتون والإلكترون) فيما أصبح يعرف اليوم بـ "نظريّة التشابك الكمّي"، أن الزمن عبارة عن وهم، وأن المادّة مجرد سراب لأن ماهيتها المُخادعة غير تابثة ما دامت تصرّفاتها العبثيّة يحدّدها ما يسمّى علميّا بـ "وعي المراقب"، وعلى هذا الأساس، ومن منطلق العقيدة المادّية، فنحن نعيش في واقع افتراضي لا حقيقي ما دام الكون فوضوي على المستوى الذرّي.../...

والحقيقة أن نتائج هذه التجارب العلميّة الحديثة المدهشة وغير المسبوقة، قلبت رأسا على عقب ما كان يعتبر من ثوابت علم الفيزياء القديمة، وجعلت العلماء ينقسمون بين قائل: "إن الله يفعل ما يريد" من جهة، وقائل: "كل ما يحدث في الكون يحدث بشكل فوضوي ولا يوجد له سبب منطقي يمكن للعقل أن يستوعبه". وللإشارة فقد سبق للعالم "أينشتاين" أن رفض النتائج الافتراضية لنظرية "ميكانيكا الكم" قبل تجريبها بقوله: "لا أعتقد أن الله يلعب النرد"، بل وشكّك في إمكانية تجريب مثل هذه النظريّة علميّا، وها هو الواقع يكذّبه بعد أن تمت تجربة نظريّة "التشابك الكمّي" بنجاح اليوم.

وواضح أن الخلاصة الثانية التي قال بها أصحاب نظرية الكون الفوضوي لا يمكن اعتبارها علميّة بقدر ما هي خلاصة فلسفيّة تعتبر بمثابة تأويل ميتافيزيقي لنتائج تجربة مادّية لنظريّة التّشابك الكمّي، الأمر الذي سيؤدّي إلى إعادة إحياء "مبدأ الريبة" الذي أسّس له عالم فيزياء الكمّ الألماني "فيرنر كارل هايزنبرغ" وكان من نتائجه الكارثيّة تنامي ظاهرة الإلحاد في الغرب كما سبق القول.

ذلك أن إحياء "مبدأ الريبة" أو "الشك الفلسفي العبثي" بدل "الشك العلمي المنهجي" سيؤدّي حتما إلى العبثيّة التي تعني انتفاء السّببيّة وسقوط العقل وطغيان الشّرّ وإباحة الظلم وانهيار الثوابت الدينيّة والقيم الأخلاقيّة الكونيّة، وهو ما جعل عديد الباحثين الإسلاميين يعيدون طرح النقاش القديم الجديد حول ثنائية الجبر وحريّة الاختيار.

لأنه إذا كان العلم هو آلية منهجية عقلانية تتغيّى تقصّي الحقائق عبر التجربة للكشف عن قوانين الطبيعة باعتماد المشاهدة والرصد والتحليل والحسابات الرياضية المعقّدة لاستنتاج الخلاصات المنطقيّة، فما هو مؤكد حتى الآن أن "تاريخ العلوم هو في النهاية تاريخ أخطاء العلوم" كما تؤكد نتائج تاريخ عديد النظريّات العلمية، بحيث لم تصمد حتى اليوم برغم زعم العلماء حين اكتشافها أنها تؤكد حقيقة يقينية. ولا أدل على ذلك من أن نتائج "نظرية التشابك الكمّي" الأخيرة أسقطت "نظرية الكون المُغلق" و "نظريّة سرعة الضوء الثابتة" اللتان قال بهما العالم ألفريد أينشتاين قبل زهاء قرن من الزمن كما سبقت الإشارة.

كما أن ما كشفت عنه تجارب التشابك الكمي من نتائج اعتبرها العلماء مدهشة وغير مسبوقة، لكنها بالمحصّلة لا يمكنها أن تفسّر لنا عديد الظواهر الكونية، خصوصا منها القوانين الفيزيائية التي تحكم المجرات الأخرى المكتشفة في كوننا والبعيدة عنا بمسافات هائلة من جهة، كما أنها لا يمكن أن تفسّر لنا ماهية وخواص الذرّات والمكوّنات ما تحت ذريّة للمادّة المظلمة في الكون والتي تُشكل طاقتها ما يناهز 70%  من طاقة كتلة الكون كاملا، هذا إذا كانت نظريّة "الطاقة المظلمة" صحيحة علميّا بسبب ما أثير حول وجودها من شكوك مؤخّرا.

نقول هذا لأنه تبث لوكالة ناسا الفضائية حديثا ما نسف نظرية "المادة المظلمة" وبعد أن ثبت لديها بفضل تليسكوب هابل أن بعض التغيّرات في أرجاء الكون السحيق والتي كانت تعتبر من المُسلمّات العلميّة قبل فترة قصيرة أصبحت اليوم غير ذلك، والحديث هنا هو نفي وجود ما يسمّى بالمادة المظلمة في الكون، الأمر الذي يضرب صحّة نظريّة "الانفجار العظيم" في الصّميم، ويعتبر كل ما قيل بشأن نشأة الكون لا علاقة له بالحقيقة الفيزيائية المكتشفة والتي مفادها، أن أينشتاين أخطأ التقدير حين اعتبر أن 68 % من الكون تشكّله الطّاقة المظلمة، و27 %  منه تشكّله المادة المظلة، فيما فقط 5 %  هي نسبة المادة العادية.

وبالتالي فقد جاء الاكتشاف الجديد ليُدمّر كل ما نعرفه عن قوانين الكون الفيزيائية، لتصبح المعلومات الفلكية التي لدينا لا أساس لها من الصّحّة بالمطلق، ذلك أن المادة المظلمة لا تتفاعل مع الطيف المغناطيسي كما كان يُعتقد، وأنها لا تُرى من خلال التلسكوبات العملاقة، بل فقط من خلال نتائج تأثيراتها على الأجرام السماوية سواء في مجموعتنا الشمسية "درب التبّانة" أو في المجموعات الأخرى المتواجدة في أعماق الكون السحيق.

وبفضل تجربة تصادم الهادرونات في مركز "سيرن" الذرّي، اكتشف العلماء أن كوننا يتشكّل من المادّة المضادّة وليس المادّة المظلمة كما كان يعتقد من قبل. والجديد هذه المرّة أنهم نجحوا في خلق "العدم" أو "اللا شيء" انطلاقا من التحكّم في المادة المضادّة (غرام واحد منها قادر على تدمير قارّة بأكملها). وقد تم إنتاجها من خلال اتّحاد (إلكترون سالب مع بوسطرون موجب) واتّحاد (فروطوت سالب مع أنتي بروتون موجب). ويعتقد أن هذا الاكتشاف سيستغل على عديد المستويات مستقبلا، سواء ما له علاقة بالعلاج الطبي من خلال تدمير الخلايا السّرطانية وغيرها كتلك المسؤولة عن الأمراض المزمنة والشيخوخة من خلال تقنية النانو تكنولوجي، بالإضافة إلى استغلال المادة المضادة في الصناعات العسكريّة لإنتاج أسلحة فتاكة ومدمّرة، وأيضا باستعمالها كوقود (طاقة خارقة) للمركبات الفضائية في رحلتها الاستكشافية عبر مجاهيل الكون الفسيح، وهي الطاقة التي لم تكن متوفّرة للبشرية حتى الأمس القريب.

لكن الجديد الغريب هذه المرّة هو اتّفاق العلم مع الدين حول نظرية الخلود، بحيث تأكد علميّا من خلال آخر تجارب ميكانيكا الكمّ، أن الإنسان كائن خالد، يعيش حياة حقيقية لا ماديّة غير زمنيّة تنتمي لعالم الخلود، وبالتالي، فمن الخطأ الاعتقاد أن حياة الإنسان تنتهي حتما بالموت، لأن من يموت هو الجسد فقط لا النفس.

وتأتي هذه الخلاصة من نتائج التجارب الفيزيائية التي أثبتت أن البشر، مثلهم مثل كل مادّة في الكون، تتكوّن من عنصرين: - ذرّات مادّية تتفكك بمجرّد مغادرة النفس للجسد بعد الموت. – وبنى غير مادّيّة عبارة عن موجات ضوئية وطاقة دماغيّة مستقلّة عن الجسم تدوم إلى الأبد ومنها تتكوّن النفس.

وفي هذا الصدد يقول العالم الفرنسي (Thierry Paul Milleman) تييرّي بول مليمان (من مواليد سنة 1053) صاحب مؤلّف: "الموجات والطّاقات الدماغيّة في فيزياء الكم": "بادئ ذي بدء، فإن الجسم ليس سوى ارتباط غير مستقر للذرات المنظمة في كمبيوتر عضوي كمي، - أي أن معالجه المركزي، العصبونات، يعمل مع أصغر وحدة مادية وهي الجسيم الأوّلي - مُزوّدًا بأجهزة استشعار وأجهزة إرسال. وأجهزة الإرسال تديرها الخلايا العصبية في الدماغ، لكنها تتمتع بفكرة مكوّنة من الأمواج والطاقات الدماغية" ويستشهد في ذلك بقول العالم "هوبرت ريفز" الذي خلص إلى أننا: "نحن جميعًا عبارة عن غبار النجوم". أي أن مصدرنا الجوهري ليس أرضي بل من غبار النجوم، فيقول: "على سبيل المثال، تم إقناعك بأنك ترى بعينيك وتسمع بأذنيك، لكن هذا خطأ! لأن العين كما الأذنين لا يتلقون سوى الضوء أو الموجات الصوتية التي ترسل لهما عبر شبكية العين أو أجهزة السمع، والقليل من الإلكترونات في الخلايا العصبية للرؤية أو القشرة السمعية للدماغ يسمح لهم بإعادة تكوين الصورة والصوت في بيئة المتلقّي أثناء إنشاء الموجات والطاقات المُخزّنة في الذاكرة"..  فتخيل مليارات ومليارات من الاهتزازات العصبية والطاقات الموجية المنبعثة كل نانوثانية والتي تبقيك بعيدًا جدًا عن الواقع والتعقيد غير العادي للحياة.

هذا يعني أنه من الخطأ تصوّر أن الإنسان يعيش حياته في بيئته بحواس جسمه، معتقدا أنه يستطيع شمّ عطر منعش أو تذوق مشروب لذيذ، أو بلوغ ذروة النشوة عند الممارسة الجنسيّة، ذلك أن جميع الأجزاء الحسية في الجسم لا تفعل شيئًا سوى إعادة إرسال النبضات الكهربائية إلى الخلايا العصبية في الدماغ عبر شبكة من الإلكترونات ذات التعقيد الذي لا يمكن تصوره. وجميع الخلايا العصبية تنسخ كل هذه النبضات لتشكّل ما تعتقد أنه تجربة حسّيّة.

اليوم هناك المزيد والمزيد من علماء الفيزياء الحديثة يعترفون بأن حياة الإنسان الدماغيّة مكوّنة من أمواج ضوئية وطاقات فاعلة تستمر في عملها حتى بعد موت الجسم، ما يعني أن الذي يموت في النهاية هو المستودع (الجسم) وليس النفس الممثلة في الدماغ، وهو ما تم التأكد منه من خلال ربط الدماغ بألياف ونوع من الكابلات الدقيقة التي نجح بفضلها عالم الفيزياء والرياضيات "روجر بنروز" الحائز على جائزة نوبل والذي أثبت كيف يعمل الجسم من خلال أوامر فكرية متينة لا يمكن التحكم فيها بل هي من تتحكم في أعضاء الجسم من خلال الموجات والطاقات التي يبعثها الدماغ. وقد تمت تجربة فكرة استمرار الموجات والطاقات الدماغية في العمل بعد الموت وتمت تجربتها بنجاح سنة 2010 من قبل البروفيسور في الأكاديمية الفرنسية للعلوم "فرنسوا جروس" وعالم الفيزياء الفلكية المرموق "جورج كورتيس". 

ويعد اكتشاف "الموجات المداريّة" المسمّاة (Ondes Valence) والتي تعتبر العنصر الأبرز الذي تأسست عليه نظريّة "وحدة موجة الحياة"، لأنها أظهرت كيف تم ربط الأمواج والطاقات الدماغية ببعضها إلى الأبد، وخاصة في ظل وجود موجة مدارية عامة تُغلّف جميع مكونات الدماغ التي تتشكّل منها الموجات والطاقات، ما يسمح بتكوين وحدة حياة "موجية" خالدة. مثل "سمكة ذهبية في وعاء يحفظها من الصدأ والتلاشي والفناء"، ووفق هذه النظريّة فإن الفناء لا يطال في النهاية إلا المادة.

ولعلّ أبرز نتيجة لما توصّل إليه علماء فيزياء الكم في مجال الخلود هو قولهم أن أفكار الملحدين الماديين من أمثال كارل ماركس وغيره تعتبر "كارثة فكرية" حلّت بالبشريّة، لأن تصوّرهم للحياة والموت والخلود كان مبنيّا على أفكار فلسفية خاطئة تماما، لأن هدفهم الأساس لم يكن تحرير الإنسان من خلال المعرفة بل فرض نموذج من المعرفة التي تمكّنهم من تحويل الإنسان إلى آلة منتجة في خدمة مشروعهم المجتمعي، أي تحويل الإنسان إلى رأس مال في سلسلة الإنتاج المادي، ولا يختلف الأمر بين النموذج الاشتراكي أو الرأسمالي، في حين أن الخيار الصحيح هو جعل رأس المال المادي في خدمة الإنسان الخالد لا العكس.. ويتوقع علماء فيزياء الكم أن هذين النموذجين سيؤدّيان بالبشرية إلى الضياع والفناء لأنهما ضد قانون الكون، والمثال العلمي الذي يجسّد هذه الحقيقة هو ما يحدث على مستوى الخراب الجيولوجي الذي يحدث في الطبيعة بسبب عبث الإنسان وجشعه، ومردّ ذلك يكمن في أن البشرية تعتبر أن جوهر الحياة مادّي وأن سر التقدّم والتطوّر يقوم على هذا الأساس، المر الذي أكد صح’ مقولة الملائكة لله تعالى حين قرر جعل آدم خليفة في الأرض فقالوا له: أتجعل فيها ما يفسد فيها ويسفك الدماء؟ فأجابهم بقوله إنه يعلم ما لا يعلمون.

-  فما هو هذا العلم الذي تحدث عنه الله تعالى؟

يتبيّن ذلك واضحا جليّا من خلال قوله تعالى: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا) الأحزاب: 72.

والحقيقة أنه وبخلاف ما ذهب إليه المفسرون القدماء من أن الأمانة تعني الطاعة والعبادة والامتثال للتكليف، فما قصده الله تعالى بالأمانة هي "الإرادة" التي تعني المشيئة وحريّة الاختيار في حدود معيّنة ما ينفي – انطلاقا من هذه القاعدة المعرفية - أطروحة الجبر بمفهومه الغليظ، وهي الإرادة التي تجعل الإنسان "كائنا أخلاقيا" يتمتّع بحرّية الاختيار التي تمكّنه من الوعي بذاته ليتحوّل من مفسد في الأرض كما عاهدته الملائكة إلى مصلح، أي إلى إنسان صالح يستطيع التمييز والاختيار بين الخير والشر، الخطأ والصواب، الحق والضلال.. مع الإشارة إلى أن "الإصلاح" هو المعنى الدقيق والعميق للإسلام كما يتضح ذلك من عديد الآيات.. وعند موت الإنسان يستعيد تعالى أمانة الإرادة التي أودعها في نفس الإنسان فجعل له بها سلطة على جسده، لتعود نفسه إلى ربّها خاضعة مستسلمة بدون إرادة كما كان حالها في الحياة الدنيا، لتعيش الخلود في المحطّة البرزخيّة في انتظار الأبدية بعد القيامة من دون أن يكون لها حول ولا قوة.

فرضيـــة الديـــن:

هناك اتفاق بين العلم والدين على أن كل شيىء موجود في الوجود إلاّ ويعتبر حادثا يحتمل أن يكون إمّا ساكنا أو متحرّكا، والفرق بينهما هو في تعريف المحرّك المسبّب لحركة المادة، بين الدين الذي يخبر عن أنه الله، والعلم الذي يفسّر ذلك بما يسمّى بـ "الوعي الكمّي" أو "الوعي الإدراكي" الذي هو عبارة عن قانون ناظم لحركة المادة، وهذا ما أكّدته نظرية التشابك الكمي نفسها برغم نفي مكتشفيها لـ "مبدأ السببيّة" الدّيني أو "مبدأ المحرّك الأوّل" قبل اكتشاف نظرية الموجات والطاقات الدماغية التي أثبتت أن الإنسان كائن خالد وأن الذي يموت هو الجسم فقط.. بدليل أن الفوتون لا يتحوّل من جسيّم إلى موجة ضوئيّة من تلقاء نفسه، بل فقط عندما يتعرّض لشعاع المجهر الإلكتروني المسمّى علميّا بـ "المراقب" أي الطاقة المحرّكة أو الآمرة، وكذلك الأمر بالنسبة للإلكترون من نفس الأصل، بحيث لا يتحرّك توأمه في النقطة التي ينتقل إليها في الكون بسرعة تفوق سرعة الضوء بملايين المرّات من تلقاء نفسه، بل لأنه يستشعر حركة التوأم الذي انفصل عنه إلى أبعد نقطة في الكون برسالة خاطفة كالوميض تخبره بأن توأمه في الأرض قد تعرض لشعاع المجهر الإلكتروني، وفي غياب "المراقبة" لا تحدث مثل هذه الحركة المعاكسة، ما يعني أن هناك دائما "سكون وحركة" وأن لكل حركة سبب يحرّكها وقانون ينظّم إيقاعها، مع العلم أن القوانين الناظمة لحركات الذرّات والمجرّات في كوننا تختلف عن تلك التي تعمل في الأكوان المُتوازيّة، ما دفع بالعلماء إلى القول بضرورة البحث عن نظرية جديدة تجمع بين نظرية النسبية ونظرية ميكانيكا الكم.

ذلك أن القوّة المحرّكة التي تحدثت عنها "نظرية السببيّة" الدينيّة، هي القوانين الناظمة والتي أودعها الله تعالى في الأجسام بمختلف أشكالها وأحجامها وطبيعتها. بدليل أن الحدوث لا تنعت به إلا الأجسام المادّيّة لتعرّضها من قبل المُسببّات التي تحرّكها إلى التغيّر والتبدّل وتقلّب الأوصاف من دون أن تكون القوانين الناظمة لها قابلة للتغيير، وبذلك فالأجسام لا تكون إلاّ ساكنة أو متحرّكة كما سبق القول، ولا يمكن أن تكون ساكنة ومتحرّكة في نفس الوقت وإلا لكان الكون فعلا عبثيّا لا يستوعب عقل نظامه ولا طريقة عمل مكوّناته من أصغر جزيء ذرّي إلى أكبر جرم سماوي. 

وهو ما يقودنا إلى القول أنه إذا كان مجال عمل العلم هو المادة وغايته الوصول إلى تفسير منطقي يوضّح ماهيتها وقانون عملها، فما يستطيع العلماء الوصول إليه في النهاية لا يمكن أن يكون حقيقة يقينيّة كلّيّة، وذلك بسبب أن المادة حادثة في الكون في حين أن خالقها ومحرّكها الأوّل وواضع قوانين عملها أزلي لا يسري عليه الحدوث، وبالتالي، فما يمكن أن يصل إليه العلم هو فقط حقيقة ماديّة نسبيّة تتعلّق بالمادة وقوانين عملها، لكن وللمفارقة، فالمادة وبحكم نفس القوانين المتناقضة الموضوعة في أصلها سرعان ما تجعلها تتلاشى لتتحوّل بدورها إلى سراب وفق ما أكّدته نظرية التشابك الكمّي العجيبة التي أثبتت وجود الظاهرة وعكسها في نفس الوقت.. من هنا ضرورة الاستنجاد بالدين لمعرفة وجهة نظره في المسألة.

بناء على ما سلف، فإن السؤال الذي يطرح على الدين هو التالي:

- كيف يمكننا معرفة إن كانت الحياة التي نحياها على الأرض تعتبر حياة افتراضيّة أم حقيقيّة؟ ... 

أولا: من حيث الواقع الافتراضي.

إذا سلّمنا بوجود خالق مدبّر للكون، فإن القول بأننا نعيش في "واقع افتراضي" يؤدّي إلى نتيجة حتميّة مفادها، أن كل شيء مخطط له ومبرمج من قبل الله، ويدخل في مجال "العلم القديم" الذي يحيط بكل ما يتعلّق بإرادته ومشيئته، والإنسان بهذا المعنى لا يعدو عن كونه مجرد أداة ينفّذ بها الله رؤيته للخلق بالحقّ، وهذا يفضي حكما إلى القول بأن الكائن مجبر لا مخيّر، وهو قول أهل السنّة والجماعة وعلى رأسهم  الإمام "أبي حامد الغزالي" وفق أطروحته التي أوردها بتفصيل في الإحياء في معرض حديثه عن  "أركان الإيمان في معرفة ذات الله والعلم بصفاته تعالى" (إحياء علوم الدين، الجزء الأول، صفحة من 139 إلى 152 ،  مكتبة مصر، طبعة 1998). وهي الأطروحة التي تتعارض جملة وتفصيلا مع أطروحة المعتزلة حول ذات الموضوع.   

ذلك أن أطروحة الغزالي من حيث الظاهر تتعارض مع مبدأ العدل الإلهي بسبب انتصارها لمقولة "الجبر" بمفهومه الغليظ، كما سبق وأن أسّس لها معاوية بن أبي سفيان حين روّج لفكرة أن الله هو من ولاّه حكم المسلمين لتبرير ما قام به من تجاوزات في حق الدين ومن جرائم في حق المسلمين، ومعلوم أن هذه القضية تعتبر من المسائل الشائكة التي عرفها تاريخ الفكر الإسلامي حيث انقسمت أمّة محمد عليه السلام إلى ثلاثة طوائف: (الأشاعرة أنصار مبدأ الجبر – المعتزلة أنصار مبدأ حرية الإرادة والاختيار – الشيعة والصوفية أنصار الجبر مع حرّية الاختيار في حدود معيّنة). وكمثال على الجبر بمفهومه الغليظ ما روّج له الغزالي حول مسألة خلق الأفعال أو ما يُسمّى بـ "نظرية التوحيد والشرع" كما دافع عنها في "الإحياء"، والتي تعني أن الله هو خالق الأفعال وأن ليس للعبد إلاّ الكسب.

يقول أبو حامد في الإحياء: "فإن الفاعل بالحقيقة واحد، فهو المخوف والمرجو وعليه التوكل والاعتماد، ولم نقدر أن نذكر من مجاز التوحيد إلا قطرة من بحر المقام الثالث من مقامات التوحيد.. وكل ذلك ينطوي تحت قول: (لا إله إلا الله)، وما أخف مؤنته على اللسان، وما أسهل اعتقاد مفهوم لفظه على القلب، وما أعز حقيقته ولبّه عند العلماء الراسخين في العلم، فكيف عند غيرهم.. فإن قلت: فكيف الجمع بين التوحيد والشرع؟  ومعنى التوحيد أن لا فاعل إلا الله تعالى، ومعنى الشرع إثبات الأفعال للعباد، فإن كان العبد فاعلاً فكيف يكون الله تعالى فاعلا؟ وإن كان الله تعالى فاعلا فكيف يكون العبد فاعلا؟.. ولأجل توافق ذلك وتطابقه نسب الله تعالى الأفعال في القرآن مرة إلى الملائكة ومرة إلى العباد، ونسبها بعينها مرة أخرى إلى نفسه! فقال تعالى في الموت: (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ) السجدة:11، ثم قال عز وجل: (اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا) الزمر:42، وقال تعالى: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ) الواقعة:63، أضاف إلينا، ثم قال تعالى: (أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا..)[عبس:25-28، وقال عز وجل: (فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا) مريم:17،  وكان النافخُ جبريل عليه السلام، وكما قال تعالى: (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ)  التوبة:14،  فأضاف القتل إليهم والتعذيب إلى نفسه! والتعذيبُ هو عين القتل! بل صرح وقال تعالى: (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ) الأنفال:17، وقال تعالى: (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى) الأنفال:17، وهو جمع بين النفي والِإثبات ظاهراً، ولكن معناه: وما رميت بالمعنى الذي يكون الرب به رامياً، إذ رميت بالمعنى الذي يكون العبد به رامياً؛ إذ هما معنيان مختلفان. وقال الله تعالى: (الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) العلق:4-5، ثم قال: (الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ) الرحمن:2، وقال: (عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) الرحمن:1-4، وقال: (إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ) القيامة:19، وقال: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ * أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ) الواقعة:58- 59. (إحياء علوم الدين 4/221). 

 ويمكن القول، إن كل ما أورده الإمام الغزالي مفصلا في هذا الباب يندرج مختصرا تحت قوله تعالى: (والله خلقكم وما تعملون) الصافات آية 96.  فقد روى عن النبيّ عليه السلام أنه قال: " إن اللّه خالق كل صانع وصنعته "ذكره الثعلبي، وخرّجه كذلك البيهقي من حديث حُذَيفة حيث قال: قال رسول اللّه عليه السلام: "إن اللّه عز وجل صنع كل صانع وصنعته فهو الخالق وهو الصانع سبحانه، وهو ما ورد تأكيده في قوله تعالى: (فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) المؤمنون: 14.

هذا الكلام مفاده، أن الله سبحانه وتعالي، يهبنا حرية الاختيار في حدود ضيقة جدّا، بحيث تُمكّننا من فعل الخير أو الشر من دون إدراك حقيقي لأبعاد ونتائج أفعالنا، وتظل الإرادة المطلقة وآليات القدر العظيمة الفاعلة في هذا الكون بيده سبحانه وتعالى، يتصرف بها كيف يشاء (وما تشاءون إلا أن يشاء الله)، وبذلك يكون  كل شيء خاضع لمشيئته لا لإرادة العبد وحريته...  هذا هو الإله الذي سأل النمرود إبراهيم عنه، فبهت لما عرف جزء يسير فقط من قدرته. و هكذا هي الأمور حتى بالنسبة لأبسط الأشياء التي قد تبدو لنا بلا معني...  وكمثال علي خضوع أفعال الإنسان لإرادة الله وحده، يقول الصوفية أن الإنسان لا يستطيع النطق بحرف "ب" دون أن يستعمل شفتاه الاثنتان معا.. و لن ينجح في إصدار مثل هذا الصوت بنفس الرنة من دون ذلك، لأن تركيبة جسم الإنسان هي من خلق الله وإبداعه تعالى، فإرادته إذن هي التي تسمح لنا بالنطق بحرف "ب" وغيره ومعنى المعنى، أن خلق إمكانية النقط لا تكون إلا من الله أما قرار النطق فيكون بإرادة الإنسان واختياره للحروف والكلمات والجمل التي يريد التعبير بها عن نفسه. و هذا فقط من باب توضيح الفرق بين فهمين مختلفين لنفس الشيء، فهم يعتقد أن الإنسان يستطيع النطق بحرف "ب" بمحض إرادته، وفهم يقول أنه لولا مشيئة الله وبديع صنعه وعلمه في خلقه لما استطاع الإنسان ذلك على الإطلاق.

وفي مثال آخر، يقول تعالي: (كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة والينا ترجعون) الأنبياء: 35. وهذه الآية قد أسيء فهمها بشكل كبير لعدم التفريق بين الخلق والفعل،ذلك أن الله تعالى وإن كان قد خلق الخير والشر فتنة لابتلاء العباد فإن من يفعل الخير أو الشر هو الإنسان لا الله، وبالتالي فمن الطبيعي أن تعود نتائج أفعاله عليه، ولا علاقة لهذه المسألة بالجبر بمفهومه الغليظ لأن الله تعالى لا يجبر عبدا على فعل الشر ولا يحب الكفر لعباده، لكن من يكفر و يفعل الشر هو الإنسان لا الله، من هنا ضرورة التفريق بين الظاهرة باعتبارها من خلق الله والفعل باهتباره من مسؤولية الإنسان. ومثال ذلك أيضا الأمراض التي خلقها الله لكن إصابة الإنسان بها يكون بسبب اهمال الوقاية منها، وبذلك يكون معنى قوله تعالى  (قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلَّا مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَنَا) التوبة: 51، تعني أن الإنسان بالنسبة للمرض على سبيل المثال أن الإنسان لا يمكن أن يصاب إلا بأحد الأمراض الموجودة في القائمة التي خلقها الله وخلق لها في نفس الوقت الدواء، ويستحيل أن يصاب الإنسان بمرض لم يخلقه تعالى، وإذا أصيب يكون ذلك بسبب تفريطه وإهماله وعدم اتخاذه الوقاية اللازمة لحماية نفسه. 

ونفس الأمر يمكن أن يقال بالنسبة لقوله تعالى: (والله خلقكم وما تعملون) الصافات: 96. حيث لجأ المؤمنون بالجبر بمفهومه الغليظ إلى محاولة حلّ معظلة خلق الشر الذي لا يمكن أن ينسب إلى الله وفق زعمهم حد القول أن لا ضير في نسبة خلق الشر إلى عمل الانسان، وهو قول يلامس الشرك لأن الإنسان لا يخلق خيرا أو شرا بل الله هو خالقهما ليبتلي الإنسان بهما في الدار الدنيا لقوله تعالى: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) الأنبياء: 35، لكن ولتبرير تطاولهم على مجال من اختصاص الله يقولون: "إن المقصود بالآية 96 من سورة الصافات الأصنام التي كان يصنعها قوم إبراهيم"، متجاهلين القاعدة الشرعية التي وضعوها بأنفسهم، ومفادها "أن المعنى يأخذ من عموم اللفظ لا من خصوص السبب". 

ذلك أن ما يريده الانسان وما يعمله من خير باختياره هو عين مراد الله تعالى من العبد، أما الشر وإن كان تعالى قد خلقه لاختبار الإنسان في تجربته الأرضية إلا أنه قد نهاه عن الإتيان به. وكون الخطاب في الآية 96 من سورة الصافات يفيد توبيخ المشركين وتقبيح عملهم، فهذا لا يعني التناقض بين الإرادة والفعل كما سبق القول، لأن إرادة الله تتعلق بعلمه، ولو كان يعلم في قلوبهم خيرا لآتاهم خيرا كما يؤكد سبحانه، ولكن علمه بكفرهم وانقلابهم على الميثاق الذي قطعوه على أنفسهم مع الله في عالم الذر والأنوار العلوية وفق ما يستفاد من مضمون الآية: 172 من سورة الأعراف، جعل الله تعالى تعالى يُملي لهم ليحرمهم من رحمته بسبب خيانتهم لميثاقهم مع ربّهم، ويؤكد ذلك قوله: (وأُملي لهم إن كيدي متين) وهي الآية التي وردت مرتان في القرآن المجيد، مرة في سورة الأعراف - آية: 183، وتكررت للمرة الثانية بنفس الصيغة في سورة القلم - آية: 45. والإملاء الوارد هنا لا يفيد الاستثناء، بل جاء من باب تأكيد القاعدة، بدليل التكرار" المشار إليه، وهو ما يدل على أن ما ورد مكررا بهذا الشكل، فليقرر به تعالى سنّة من سننه التي لا تتبدل، بدليل قوله تعالى في سورة الحج الآية 48: (وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها وإليّ المصير). وواضح أن "الإملاء الإلهي" لمّا جاء مقرونا بـ "ظلم سكّان القرية" فهو يفيد حصريا حالات الشرك البيّن، من حيث أنها نقض لعهد الله، الأمر الذي يتنافى مع الغاية من خلق الإنسان من أساسه، لذلك قال تعالى أنه يغفر الذنوب جميعا برحمته إلا الشرك الذي وصفه بأنه ظلم عظيم.

والمصيبة أن محاولة فقهاء الرسوم إثبات الجبر بمفهومه الغليظ لا يتعلّق بالمنفّذ الذي هو الإنسان فحسب، بل ينسحب حكما على أفعال الله تعالى أيضا كما قال المعتزلة، مستدلّين في ذلك بمعنى العبارة التي قالها ابن تيميّة: "إن الله لا يفعل إلا وفق علمه الأزلي السّابق"، هذا بالرغم من أن مصطلح "العلم الأزلي" لم يرد في القرآن الكريم بالمطلق، الأمر الذي يفهم منه "أن الله كائن مجبور لأنه برمج نفسه على فعل ما سبق في "علمه الأزلي" سبحانه وتعالى عمّا يصف الجاهلون، أي أنه أجبر نفسه على تحقيق علمه السابق في الأزل بشأن خلقه ليكون واقعا قائما على الأرض، وهو ما يتعارض مع مشيئته المطلقة، لأنه سبحانه كل يوم في شأن، وكل يوم في خلق جديد، وأنه فعّال لما يريد، وبالتالي، فلا قيود زمكانيّة تحدّ من إرادته أو تنقص من قدرته لقوله تعالى: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ) يس: 82. 

وهو ما يؤكد سوء فهم السّلفيّة لمعنى "العلم الإلهي" بسبب الخلط القائم بين مفهوم "العلم الأزلي" الذي قال به التراثيون، ومفهوم "العلم القديم" الذي قال به المعتزلة، وعلاقة هذا العلم القديم بـ "الواقع الزمكاني" المتغيّر، لتعلّقه (أي العلم القديم) بالحادثات الكونيّة لا بالذات الإلهية التي لا يصح وصفها بالقدم لارتباط المصطلح ارتباطا وثيقا بمفهوم الزمن، والله سبحانه وتعالى غير مُتزمّن كما هو معلوم. 

ويؤكّد ما ذهبنا إليه أن الحكمة من تنزيل القرآن الكريم مُنجّما (مُفرّقا) تكمن في أنه كان ينزل – في جزئ منه - حسب الحوادث وحاجات السائلين لمعرفة بعض المسائل المستشكلة على الفهم، وبالتالي، فالقول بأن هذه الحوادث الظرفية والتساؤلات الوقتيّة تندرج في باب علم الله الأزلي يلغي الأسباب التي تؤدي إلى النتائج ما دام كل شيء يحدث بسبب باستثناء المعجزات التي هي خرق لهذه القاعدة الأساسية، لأن جذر كلمة "معجزة" أصله من "عجز"، أي عجز الإنسان عن تجاوز الأسباب والسنن وقوانين الطبيعة التي خلقها الله، لذاك قال ابن رشد "من رفع الأسباب فقد رفع العقل".

ثانيا: من حيث علم الله المُسبّق:

الحقيقة أن قضيّة العلم كانت من أوائل ما ظهر من صفات الله تعالى بعد تجلّي قدرته في الخلق لقوله للملائكة الذين جادلوا في مسألة جعل آدم خليفة في الأرض: (وإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) البقرة: 30. 

وبفضل هذه الآية الكريمة أصبحنا نعلم اليوم سبب سؤال الملائكة الذي يقوم على علم سابق بما أحدثته فصائل البشر المتوحشّة "النياندرتال" من فساد وسفك للدماء في الأرض قبل أن يقرّر تعالى اصطفاء فصيلة متطوّرة منهم "هومو سابينس" (الإنسان العاقل) عرّفها تعالى باسم "آدم" الذي يعني المخلوق من أديم الأرض الذي نفخ الله تعالى فيه من روحه، أي من نور علمه، بدليل أنه كلّما ذكر تعالى الروح في القرآن الكريم إلا واقترن المصطلح بالنور الذي هو بدوره تمّ تعريفه في سياق العديد من الآيات بأنه علم الله العظيم الذي هو من أمره. وبالتالي، فلم يكن سؤال الملائكة مبني على علمهم بالغيب ما دام تعالى يؤكد أنه محجوب عنهم ولا يطلع عليه أحدا من خلقه إلا من ارتضى من عباده. وما يؤكّد هذا المعطى أنّنا من خلال القرآن والعلم معا استطعنا معرفة أنه قبل آدم كان هناك ألف ألف آدم كما قال الرسول الكريم عليه السلام، بحكم أن الله خلق البشر الذين كانوا يتصرّفون في الأرض أسوء من الحيوانات فيفسدون فيها وسيفكون الدماء، وهو ما كانت تعلمه الملائكة علم اليقين بحكم ملاحظتها لأفعالهم قبل قرار الاصطفاء، ونعلم أيضا أنه من فصيلة هذا البشر الحيواني البدائي اصطفى تعالى آدم باعتباره مرّ بطفرات تطوّر عديدة جعلت منه كائنا أخلاقيا مُؤهّلا لتحمّل الأمانة ومسؤولية التكليف بعد أن جعله الله تعالى كائنا أخلاقيا مسؤولا بحكم تمتيعه بالإرادة وحرّية الاختيار بخلاف بقية المخلوقات وهو ما يعتبر منتهى التكريم الإلهي، ليبدأ عهد ديانة التّوحيد قبل أقلّ من 10 ألف سنة، أي منذ بداية العصر الزراعي باعتبار أن فصيلة آدم الأخلاقيّة هي من نقلت البشرية البدائية من العصر الحجري الذي كانت تعيش فيه على الصّيد إلى العصر الزراعي لتقيم بذلك أول مركز لتجمّع إنسانيّ مستقر.

والسؤال هنا هو عن ماهية هذا العلم الإلهي الخاص الذي يتحدّث عنه تعالى في الآية 30 من سورة البقرة بقوله: (إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ)؟.. الأمر الذي يوحي من حيث الظاهر، وفق ما فهم ذلك عديد المفسّرين القدماء، أنه علم إلهي يتعلق بالمستقبل، أي مستقبل الإنسان على الأرض. وهو فهم مجانب للصواب، ذلك أنّ ما أفصح عنه تعالى في الآية المذكورة أعلاه لا علاقة له بما ذهب إليه المفسّرون من علم المستقبل، بحكم أن الإجابة لم تتأخّر، بحيث وبمجرد أن علّم تعالى آدم الأسماء كلّها وطلب منه أن يُخبر الملائكة بها حتى أعقب ذلك بالقول: 

- (قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ ۖ فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ) البقرة: 33. 

وهنا يتكلّم الله سبحانه عمّا هو محجوب عن الملائكة من غيب السماوات والأرض في الواقع القائم، بل ويعلم ظاهر ما يبدون وما يكتمون، بمعنى أن الحديث هنا هو عن العلم بالحاضر والماضي بالمفهوم المجازي للزمن ما دام الحوار يدور بين الله وملائكته في عالم الذّرّ والأنوار العلويّة حيث ينعدم المكان والزمان، لقوله تعالى في نفس الآية (وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ) في إشارة إلى الحاضر، وقوله (وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ) في إشارة إلى الماضي، وذلك لتقريب الصورة إلى أذهان المخاطبين بالقرآن ليس إلا، لكنّه لم يوحي في سياق الكلام أن علمه يشمل المستقبل المتعلّق بمصير الإنسان أيضا، بدليل قوله تعالى لأدم وحوّاء ومعهم الشيطان بعد واقعة الغواية والعصيان: 

- (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا ۖ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) البقرة: 38 – 39.

فصيغة "جميعا" تفيد الكثرة وليس آدم وحواء فحسب كما ذهب إلى ذلك التراثيون، كما أن الأمر يتعلّق بحكم قطعي صدر عن الله تعالى في حق فصيلة آدم بعد أن عصت ربّها ولم يذكر حواء لأن "آدم" هو جمع للمذكر السالم الذي يشمل الذكور والإناث، غير أن تنفيذ حكم الله لم يجعله تعالى مقدّرا بشكل مسبّق، بل جعله معلّقا على نتيجة ما ستميل إليه إرادة الإنسان وحرّيته من اختيار: إما الهدى أو الضلال، الكفر أو الإيمان.. ذلك أن الخلاص يوم القيامة يتوقّف على هذا الاختيار تحديدا ومدى التزام الانسان به في تجربته الدنيويّة. وواضح أن هذا لا يعني أن الله قررّ في علمه الأزليّ المسبّق من سيكون سعيدا ومن سيكون شقيّا قبل أن يوفّر لكل انسان فرصة التجربة والاختيار وفق ما يقتضيه مبدأ العدل الإلهي، بل ترك حريّة ذلك لعباده، وتعهّد بأن يساعدهم على الخلاص بنور الهدى الذي سيبعثه لهم مع الرسل، وتوعّد من لا يتّبع ما جاء به الرسل بالعذاب الأليم. وهذا هو المعنى الذي تؤكّده عديد الآيات التي تتحدث عن علم الله في الحاضر والماضي بالمعنى المجازي لكن دون المستقبل الذي جعله الله تعالى معلّقا على ما سيختاره الإنسان من نهج في حياته، ومثال ذلك:

- صيغة الحاضر: كقوله تعالى: (أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ) البقرة: 77. وهو سؤال استنكاري وجّهه تعالى لليهود الذين يكتمون عن إخوانهم ما علّمهم الله من حق فيطلبون منهم إظهار الإيمان إذا لقوا المؤمنين والعودة عن ذلك بعد مفارقتهم لهم، على أن لا يحدّثوهم بما فتح الله عليهم، وبالتالي فهذه الآية كما الكثير غيرها ممّا لا يسع المقام لذكرها تتحدث عن علم الله بصيغة الحاضر فقط.  

- صيغة الماضي: كقوله تعالى: (أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) البقرة: 140. وواضح من سياق الكلام أن الله تعالى يكذّب كلّ من قالوا بأن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا يهودا أو نصارى، ويصف بأن شهادتهم هذه شهادة ظلم بسبب كتمان رجال الدين لديانة أنبياء الله ورسله المنعمين وكشف الله لها في سياق نفس السورة بأنها الإسلام الحنيف، وبالتالي، فعلم الله هنا يتعلّق بمرحلة تنتمي إلى أزمنة مضت وانقضت عاش فيها بالدور هؤلاء الأنبياء والرسل الكرام. 

أما المستقبل فقد تحدّث الله تعالى عنه لكنّه أوضح أن العلم به لا يكون في الماضي ولا في الحاضر بل عندما يحين أجله فقط، أي حين يحين زمن وقوعه، بدليل قوله تعالى:

- صيغة المستقبل: (وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ۗ وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ) البقرة: 143.

هذه الآية الكريمة تتحدث عن المستقبل في مناسبتين مختلفين: 

- المناسبة الأولى: تتعلّق بمن سيختارهم الله مع الرسل ليدلوا بشهاداتهم على أقوامهم وعصورهم يوم الدين الذي هو مستقبل بعيد لا يعلم أجل حلوله إلا الله، لكنه تعالى لم يحدد من هم هؤلاء الشهداء الذين سيكونون مع الرسل بشكل مسبّق، بل جعل ذلك مقرونا بما سيُقدّمونه من أعمال صالحة على رأسها الجهاد في سبيل الله الذي يعني تبليغ رسالاته لقوله تعالى: (وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا) الفرقان: 52 في إشارة إلى القرآن الكريم. بمعنى أن الرّسالة لم تنتهي بوفاة الرسول عليه السلام، بل تستمر مع حملتها من المؤمنين الذي يجاهدون في سبيل الله لتبليغها إلى الناس كل في زمانه حسب اجتهاده واستطاعته.

- المناسبة الثانية: ليعلم الله المؤمنين من المنافقين لقوله تعالى (لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ)، وبالتالي، فلو كان الله تعالى يعلم من سيتّبع الرّسول ممّن سينقلب على عقبيه من المنافقين في المستقبل لذكر ذلك بصريح العبارة.. ولو حصل ذلك بالفعل لتأكد للعالمين بما لا يدع مجالا للشّك صحّة "نظريّة الجبر" بمفهومه الغليظ، ولأصبح مبدأ "العدل الإلهي" محلّ تساؤل وتشكيك، الأمر الذي سينعكس حكما على مفهوم التّوحيد بالنتيجة.. 

لأن من يعلم ما سيحدث لعباده في المستقبل الذي سيعيشون فيه تجربتهم الأرضية بحكم أن كلّ شيىء سبق تقديره منذ الأزل، لا يحتاج لأن يمتحنهم من أجل ذلك، وإلا لن يعود لمبدأ الابتلاء في الحياة الدنيا من فائدة تذكر، خصوصا إذا علمنا أن مثل هذه الفرضيّة تنفي العدل عن الله كما سبقت الإشارة، بل وتسمه بالظلم سبحانه وتعالى عن ذلك علوّا كبيرا، بسبب أن مثل هذا الفهم الخاطئ يفترض أن الحق سبحانه يعلم من سيهتدي فيطهّر نفسه باتباع ما جاء به الرسّول ممّن سيضل عن الهدى ويتّبع شيطانه فيستحق بذلك العذاب الأليم في أصل الجحيم.. وهذا هو معنى "العلم الأزلي المسبّق" الذي يقول به فقهاء القشور من دون أن يدركوا خطورة ذلك. 

هذا السيناريو العبثي لا يمكن أن يكون صحيحا لا دينا ولا عقلا ولا منطقا، لأنه يفترض أن ما تعيشه البشرية هو مجرد "ملهاة إلهية"، وأن كل شيىء مخطّط له ومبرمج بشكل مسبّق منذ الأزل، وأن مصير كل مخلوق سبق وأن حدّده الله تعالى قبل أن يخلقه، وبالتالي، فالإنسان وفق هذا الطّرح لا يعدو عن كونه مجرّد منفّذ مُجبر لا مُخيّر. وهذا قد يصحّ في شأن العبيد لا العباد، مع العلم أن الله تعالى "لا يحتاج لأعناق عبيد بل لقلوب عباد" بتعبير الشيخ متولّي الشعراوي، خصوصا وأن القول "بعلم الله المسبّق بأفعال عباده" ينفي مسؤولية الإنسان عن أفعاله في الحياة الدنيا، وبالتالي، لا يعود لمبدأ المحاسبة على قدر المسؤولية من معنى يذكر، وكل ما يقال عن الإرادة وحرية الاختيار والامتحان الأرضي وتنزيل الكتب وبعثة الرسل مجرّد ثرثرة كلامية ليس إلاّ. 

ممّا سلف، نفهم أن مصطلح "الغيب" القرآني يشير بشكل دقيق لا لبس فيه إلى كل ما هو غائب عن إدراكنا ووعينا في ملك الله وملكوته سواء تعلّق الأمر بما يجري في الحاضر بعيدا عنّا، أو بما جرى في الماضي المحجوب عنّا، ولا علاقة له بالمستقبل من حيث الحدوث ما دام أنه لم يقع بعد ليصبح واقعا موضوعيّا، وإن كانت قوانينه قد حدّدها تعالى بشكل مسبّق في علمه القديم كأمر قطعي اتخذه بصيغة "كن"، ما يجعل منه قضاء مكتوبا لا راد له، لكن أجل حدوثه وكيفية ذلك بالتفصيل هو ما سمّاه تعالى في محكم التنزيل بـ "القدر"، أي بالواقع الموضوعي الذي لا يكون إلاّ بعد الحدوث في المكان والزمان، بدليل ما تؤكّده الآيات التالية من معنى واضح:

- (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) آل عمران: 140.

- (فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) العنكبوت: 3

- (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) آل عمران: 142.

- (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ ۚ فَمَنِ اعْتَدَىٰ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ) المائدة: 94.

- (يَوۡمَ يَجۡمَعُ ٱللَّهُ ٱلرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَآ أُجِبۡتُمۡۖ قَالُواْ لَا عِلۡمَ لَنَآۖ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّٰمُ ٱلۡغُيُوبِ) المائدة: 109.

- (وَهُوَ ٱللَّهُ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَفِي ٱلۡأَرۡضِ يَعۡلَمُ سِرَّكُمۡ وَجَهۡرَكُمۡ وَيَعۡلَمُ مَا تَكۡسِبُونَ) الأنعام: 3.

- (وَعِندَهُۥ مَفَاتِحُ ٱلۡغَيۡبِ لَا يَعۡلَمُهَآ إِلَّا هُوَۚ وَيَعۡلَمُ مَا فِي ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِۚ وَمَا تَسۡقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعۡلَمُهَا وَلَا حَبَّةٖ فِي ظُلُمَٰتِ ٱلۡأَرۡضِ وَلَا رَطۡبٖ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَٰبٖ مُّبِينٖ) الأنعام: 59.

هذا غيض من فيض، وكلّها آيات وردت بصيغة الماضي أو الحاضر باختلاف السياقات، بل ومنها من تتحدث عن فعل الحاضر في المستقبل البعيد، لكن ذلك ليس على سبيل الوقوع بل فقط على سبيل الوعد والوعيد تجنبا للوقوع.

ومثال ذلك:

- استعمال الفعل الماضي من خلال الضمير "ت" المفتوحة في "عَلِمْتَهُ" للإشارة إلى أنه يعود للمخاطب من قبل الرسول عيسى عليه السلام، أي إلى الله لقوله على لسان عيسى عليه السلام: (إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ) المائدة: 116.

- استعمال الفعل الماضي المتصل بضمير المتكلم "نا" الذي يعود إلى الله تعالى في قوله: (قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ) قّ: 4.

- استعمال الفعل المضارع "أعلم" والفاعل الضمير المستتر "إنّي" الذي يعود إلى الله تعالى لقوله: (قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ) البقرة: 30

هذا بالنسبة لاستعمالات الأفعال بصيغة الماضي والمضارع، لكن حين يستعملها جلّ جلاله للدلالة على المستقبل، فلينفي العلم المسبّق بنتائج أفعال الناس لقوله مثلا: 

- (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) آل عمران: 142. 

فجاءت هذه الآية لتُؤكّد أنّ دخول الجنّة لا يكون بعلم الله المسبّق وكأن الأمر مخطط له منذ القدم، بل بعلمه الحقيقي الذي يحصل نتيجة الاطلاع على أعمال الناس خلال تجربتهم الدنيويّة، ما يؤكّد احترام القرآن لقاعدة "تعلُّق العلم بالمعلوم"، أو بتعبير الألسنيّين: "نزول نفي العلم منزلة نفي مُتعلّقه"، الأمر الذي يؤكد "أن رجاء الأجر من غير علم مستبعد"، وأن "طلب الجنّة من غير عمل يعتبر ذنبا"، وأن "انتظار الشفاعة بلا سبب غرورا"، أما "ارتجاء الرحمة من غير المعبود فجهالة" كما يقول المناطقة. 

وبهذا المعنى، يكون القول بعلم الله الأزلي لأفعال العباد ومصيرهم المحدّد مسبقا هادما لنظرية التكليف من جهة، ومحوّلا الله سبحانه وتعالى إلى كائن مجبور أسير لعلمه الأزلي بحيث أنه لا يتصرّف إلا بما علم مسبقا لا بما تقتضيه أفعال المكلّفين من مغفرة ورحمة في الدنيا وثواب أو عقاب في الآخرة، ما دامت المصلحة هي الدافع والمحفّز الأساس لأفعال الناس، سواء تعلّق الأمر بمصلحة دنيويّة أو أخرويّة، وهذا هو مناط التجربة التي تخضع لمتغيّرات الواقع بالأساس.

ويلاحظ في هذا السّياق، أن الكثير من الملحدين لا يخاطرون بحياتهم كما يفعلون ذلك بالنسبة لآخرتهم، فتراهم يصرّون على رفض الإيمان بالله وبالوحي بسبب جهلهم بالحكمة من إرادة الله في خلقه، فينخرطون في متاهات الحياة المادّيّة ويجتهدون في الوصول إلى أعلى المراتب في السلم الاجتماعي لتحقيق النجاح الذي يحلمون به، ما يؤكد صحّة "نظريّة المصالح" التي تعتبر الحافز الأساس لاختيارات الإنسان وتصرّفاته، بل ولتوجّهاته الفكرية أيضا، نظرا إلى أن البحث عن الحكمة يتعارض مع ما تقتضيه المصالح، ولهذا السبب أوجز الله تعالى حياة الإنسان من بدايتها إلى نهايتها بقوله:

- (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ۖ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ۖ وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ ۚ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) الحديد: 20.

ومعنى المعنى، أن الإنسان يقضي طفولته في اللعب، وصباه في اللهو، وشبابه في التزيّن ليظهر بمظهر الأنيق الجذّاب، وعندما ينهي تعليمه ويلج حياته العملية يتفاخر على أقرانه بما حصل عليه من شهادات وما ناله من مراتب وما حصل عليه من مناصب، وحين يشتد عوده ويبلغ سن الرجولة يبدأ عهدا جديدا من التفاخر بالأموال والأولاد وما اكتسبه من رزق في سعيه.. لكن سرعان ما يصل القطار إلى محطّته النهائية فيكتشف أن كل ما سعى إليه وحقّقه لا يساوي شيئا يذكر أمام مغفرة الله ورضوانه، وأن الحياة الدنيا عبارة عن متاع الغرور الذي لا يصلح كعملة للنجاة في الحياة الآخرة.

وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على استحالة أن يهتدي الإنسان لمصلحته الحقيقيّة في الدنيا من غير هدى من الله ونور يرشده إلى الطريق القويم، وهذا النور هو الوحي الذي يوفّر للإنسان العلم والمعرفة التي يحتاجهما في تجربته الأرضيّة. وفي هذا الصدد، وخلافا لما يروج له التراثيون عن علم الله الأزلي الذي حدد فيه مصير الإنسان إما سعيد أو شقيّ، ها هو الوحي يخبرنا بأن الإنسان قد خُيّر بالفعل قبل أن يخوض تجربته الأرضيّة لقوله تعالى:

- (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ) الأعراف: 172.

- (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا) الأحزاب: 72. 

وبالتالي، فالإنسان لم يأتي إلى الدنيا من العدم بالتعبير الفلسفي، أو "اللاشيئ" بالتعبير الديني، بل أتى كنفس سبق وأن شهدت بربوبية الله لها وتعهّدت بعدم نسيان ذلك، ولم تحلّ هذه النفس في المستودع (الجسد) الدّنيويّ المقدّر لها لخوض تجربة الحياة الأرضيّة دون إرادتها، بل حلّت فيه بعد شهدت بربوبية ربّها لها وقبل بحمل أمانة الإرادة وحرّية الاختيار التي رفضتها السّماوات والأرض والجبال لثقلها، وعلى هذا الأساس خلق الله الخير والشر ليكون فتنة لها في تجربتها الأرضية لقوله تعالى: (كُلُّ نَفْسٍۢ ذَآئِقَةُ ٱلْمَوْتِ ۗ وَنَبْلُوكُم بِٱلشَّرِّ وَٱلْخَيْرِ فِتْنَةً ۖ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) الأنبياء: 35، وهو ما يعني أن الشّرّ ليس موجودا في هذا العالم بذاته كحقيقة موضوعية مفروضة، بل هو مجرّد قيمة أخلاقيّة نسبيّة يختبر بها تعالى إيمان المكلّف من عدمه ويحاسبه على ما كسبت يداه بعد موته ورجوعه إلى خالقه، لا على أساس العلم الأزلي والمصير المحدّد بشكل مسبّق، ذلك أن الله العادل سبحانه يستحيل أن يقدّر على إنسان كائن من كان بأن يكون شقيّا لينتهي به المصير إلى النار دون أن يهبه الإرادة وحرّية الاختيار في امتحان الدنيا، وبالتالي فلا عذر للإنسان إلاّ أن يفي بميثاقه مع ربّه ويكون في مستوى مسؤولية ما تكفّل بحمله، يساعده في ذلك الوحي كدليل والعقل كميزان لمعرفة الخير من الشرّ، والحق من الباطل، والهدى من الضلال، والخطأ من الصواب، والعمل على تحقيق مصالحه في انسجام تام مع القيم الدينية والأخلاقية التي تعهّد باحترامها ما دام أن الله جعله كائنا أخلاقيا حرا وصاحب إرادة في حدود معيّنة.

يتبـــع...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق