بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 19 يناير 2019

جدل حول جمع وترتيب القرآن الكريم (4/4)



خلاصة لا بد منها
السؤال الذي يتبادر إلى الذهن على ضوء ما سبق ذكره حول الجدل الذي أثير بمناسبة جمع وترتيب القرآن الكريم بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم هو: - إذا كان المسلمون، بمختلف مشاربهم وتياراتهم ومدارسهم ومذاهبهم وفرقهم، قد أجمعوا على أن مصحف عثمان وفق الترتيب المعتمد يعتبر النسخة النهائية للقرآن الكريم كما تلقاه الرسول صلى الله عليه وسلم عن ربه كاملا غير منقوص، وأقرأه إياه الملك جبريل عليه السلام مرتين في آخر رمضان من عمره الشريف، وهو ذات الترتيب الذي أقرّه القرّاء والحفّاظ من بعده، وسلّم به المؤمنون عبر العصور والدهور لاعتقادهم الراسخ أن الله تعالى بعد جمعه وترتيبه وتلقين الرسول الكريم طريقة قراءته، تكفّل بحفظه من التحريف والتزوير والتحوير..  فلماذا العودة لإثارة هذا الجدل العقيم؟ .../ ...

والحقيقة أن من أعاد إحياء هذا الجدل القديم، ليسوا المستشرقين الذين يئسوا من وجود ثغرة ينفذون منها للتشكيك في أن القرآن الكريم ليس كلام الله بل كلام محمد، بل بعض كبار الباحثين المسلمين المحسوبين على التيار الحداثي، الذين أعادوا طرح ما يعتبرونه أسئلة جوهرية ومنهجية لم يجب عنها التاريخ الإسلامي بالشكل المطلوب. ونقصد بذلك، عبد الله العروي، محمد عابد الجابري، ومحمد أركون على سبيل المثال لا الحصر.
فعبد الله العروي مثلا، لم يشكك في أن القرآن هو كلام الله، لكنه اعتبر أن الطريقة التي تم جمعه بها كان الهدف منها خدمة مصلحة نبلاء قريش، وفق ما ورد على لسانه في كتاب (السنة والإصلاح).
ولأنه لا يمكن فهم الخطاب من دون معرفة صاحبه، فإن العروي، وباعتباره باحث أكاديمي مرموق، وصاحب باع طويل في مجال التاريخ والإيديولوجيا، يصنفه البعض في مرتبة "العالم"، وله مؤلفات عديدة في هذين المجالين، لا يمكن أن يصدر في أطروحاته إلا عن الهوس الذي يحرّكه النقد التاريخي للحوادث من خلال دراسة الوثيقة الشاهد، والتي قد تكون مخطوطا، أو آثارا، أو نقوشا، أو أمثالا.
ولأنه لا يوجد تعريف محدد مجمع عليه لمفهوم التاريخ، ولا منهجية علمية نهائية متفق عليها في دراسته، فقد صال وجال الرجل بحثا وتمحيصا في مختلف المذاهب التاريخية الإسلامية والغربية على حد سواء، وركّز في نقده على عديد النظريات التي تعنى بفلسفة التاريخ، ومنها نظريات ابن خلدون التي يكثر من الاستشهاد بها في كتاباته، لكنه لم يخرج بنظرية جديدة تساعده على تأصيل مقولته تلك تأصيلا علميا يمكن القبول به، وكل ما حاول التأسيس عليه هو العامل السياسي والعامل الجغرافي، فخلط بينهما وبين العامل الديني، ليخلص إلى القول بأن ترتيب القرآن تم بطريقة تخدم مصلحة نبلاء قريش، هذا علما أن المحرك الأساس الذي كان وراء عملية الجمع في تلك المرحلة المبكرة من التاريخ الإسلامي، هو الوازع الديني لا السياسي نظرا لما تركه رحيل الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم من فراغ على المستوى الروحي من جهة، ونظرا لطبيعة النص وقداسته ومكانته في قلوب المؤمنين من جهة ثانية، وعدم وجود ما ينافسه من نصوص دينية موازية يمكن التأسيس عليها للقول بأن جمع وترتيب القرآن تم بشكل توفيقي من نبلاء قريش لا بشكل توقيفي من الله من جهة ثالثة.
هذا الكلام لا يعني أن الخطاب القرآني حسب المنهج التاريخي، هو عبارة عن نص ثقافي له وطن نشأ وتطور فيه وتأثر بالتالي ببيئته وأحوال أهله والأجيال التي تعاقبت على جغرافيته، ما دام المنهج التاريخي وُضع أساسا لدراسة النص البشري لا النص الإلهي المتعالي، خصوصا وأن التاريخانية ترفض التعاطي مع كل ما هو غيبي وما ورائي فتصنفه في خانة الخرافي والأسطوري. وبذلك، لا يمكن تطبيق نظرية ابن خلدون القائلة بـ "توطين النص" على القرآن لتصنيفه في خانة المنتج الثقافي، لأن النص الإلهي بما يتضمنه من حقائق مطلقة بالنسبة للمؤمنين به، يعتبر مرجعا منتجا للثقافة التي تتطور من جيل لآخر بحكم ظروف المكان والزمان وأحوال معاش الناس لقول ابن خلدون: "أعلم أن اختلاف الأجيال في أحوالهم إنما هو باختلاف نحلتهم من المعاش". وهو القول الذي استند عليه عبد الله العروي في كتابه (مفهوم التاريخ – الجزء الثاني – ص: ٢٥٢) للجواب عن سؤال "الإسلام بين السماء والأرض"، ليخلص إلى أن معرفة نشأة الإسلام تستوجب تحديد الوطن الذي ظهر فيه الحدث، وهو بخلاف مفهوم الإسلام عامّة، لإن الإسلام كتراث وحضارة وسلوك وفن...إلخ، انتشر في أماكن جغرافية مختلفة بسبب الفتوحات. وتوطين النص القرآني وفق المنهج التاريخاني يعني تقييده بمرحلة النشأة والتكوين في الحيّز الجغرافي الذي ظهر فيه، ما يحوّله إلى منتج ثقافي وليد بيئته، وينزع عنه بالتالي الطابع الإنساني الكوني الذي يميّزه.
وإذا كان من المُسلّم به في علم التاريخ بمختلف مذاهبه، أنه ومنذ عصر التدوين، والإحساس قويّ بأنه لا يمكن فصل الوقائع عن مواطنها، وهذا صحيح نظريا، ما دام الخبر يشير في آن إلى الإنسان وإلى موطنه كما تؤكد ذلك نظرية الحتمية التاريخية التي تقول بسلطة العامل الجغرافي في التاريخ.. فإن المغالطة هنا تكمن في أن النص القرآني ليس نصا بشريا وليد ببيئة معينة، بدليل أن القرآن الكريم لا يقتصر في القصص مثلا، على ذكر وقائع تاريخية حصريّة حدثت في رقعة جغرافية محدّدة هي شبه الجزيرة العربية التي نزل فيها القرآن، لأن القرآن ليس نصا تاريخيا وإن كان يسرد بعض الحادثات الكبرى التي وقعت في مناطق جغرافية عديدة ومختلفة من باب الذكرى والموعظة ليس إلاّ، ما دام أنه لا يعنى بالكرونولجيا التاريخية في ترتيب الحوادث من قريب أو بعيد، ولا يقتصر على التاريخ البشري بمفهوم الزمن الدائري، بل يتجاوزه إلى التاريخ الكوني، وصولا إلى التاريخ القدساني في عالم الذر قبل الخلق، ويتحدث عن البعد الغائي الذي هو البعث والقيامة بصيغة الماضي وكأنه حدث وانقضى بمفهوم الزمن الدائري النسبي، وأن ما يعيشه الإنسان هو مجرد ذكرى لهذه الحادثات مجتمعة من خارج عامل الزمكان الوهمي الذي لا وجود له في المدى اللامتناهي. وبذلك يستحيل التعامل مع القرآن بمنهجية التاريخ ومنطق المؤرخ، وهو العمل الذي حاول القيام به عديد المستشرقين لربط النص المقدس بالظروف الزمكانية التي نشأ فيها ففشلوا فشا ذريعا، بخلاف نصوص التوراة والإنجيل التي هي عبارة عن سرد تاريخي لقصة موسى وقصة عيسى عليهما السلام كتبها الأحبار والكهنة، ولا تعتبر بالتالي كلام الله.
وإذا كان ابن خلدون كما خلص إلى ذلك العديد من دارسي نظرياته، يميل فعلا إلى الإيمان بحتمية العامل الجغرافي في دراسة أحوال الناس ومعاشهم، وأن ثقافة الأمم تخضع لتأثير البيئة التي نشأت وتطورت فيها، وهي النظرية التي أخذت بها المدرسة الفرنسية من خلال سيسيولوجيا دوركهيم التي كانت تقول بحتمية الاتجاه التاريخي، ثم طورتها المدرسة الألمانية من خلال ماكس فيبر الذي أسقط نظرية الحتمية بأخرى تقول بسيسيولوجيا نسبانية، ثم ظهرت في فرنسا مدرسة جديدة احتمالية تقول بالتأثير المتبادل بين الإنسان والبيئة، بمعنى أن البيئة تزود الإنسان بعدة ممكنات والإنسان هو الذي يحقق باختياره واحدة منها.. فإن ابن خلدون من جهته، لم يقل بأن نظريته تنطبق على النص المقدس، بل طرحها في معرض حديثه عن التاريخ الاجتماعي العربي والإسلامي بوجه عام، وفي هذا المجال (أي المجال الاجتماعي)، يفقد العامل الجغرافي حتميته، وتتخذ سنن الله في الخلق أبعادا كونية مطلقة تتكرر في كل زمان ومكان وإن بأشكال متفاوتة ومظاهر مختلفة، لكن الأسباب تظل هي نفسها، كما أن النتائج لا تتغير في الجوهر بل فقط في الشكل، ما يجعلها تأخذ طابع الحتمية التاريخية لأنها مقيدة بقوانين إلهية تخضع لإرادة الله ومشيئته. وبهذا المعنى، يكون الله هو صانع التاريخ بالنهاية.
وهذا يقودنا لخلاصة غاية في الأهمية قال بها عالم التاريخ غوبينو: "ليس التاريخ من عمل الجماعات أو الأفراد بل من عمل الطبيعة". وإذا كان غوبينو يتحدث هنا عن الطبيعة كقوة فاعلة في التاريخ، فإن فرانسوا جاكوب كان أكثر دقة في التعبير عن الشاهدة (الواقعة أو الحادثة) باعتبارها ليست شاهدة تاريخية فحسب، بل شاهدة جسيمة حصلت من خارج إرادة البشر، فيقول في هذا الصدد: "إن الرسالة الوراثية، بسبب تركيبها الذاتي، لا تترك أي فرصة لأي تدخل مخطّط من الخارج". وهذا يعني بالمفهوم العلمي تحكم العامل البيولوجي في تصرفات الإنسان، ويعني بالمفهوم الديني خضوع فطرة الإنسان لإرادة الله ومشيئته، لأن كل الأعمال بالنهاية هي من خلق الله تعالى دون سواه لقوله في محكم كتابه: (والله خلقكم وما تعملون) الصافات: ٩٦.
أما من الناحية التاريخية المتعلقة بعملية جمع القرآن، فقد سبق معنا القول، أن هذا الجمع قد مر بمراحل ثلاثة زمن الخلافة. وأنه خلال هذه المراحل كلف الخلفاء القراء من الأنصار لجمع القرآن الكريم، وتساءلنا في حينه عن السبب في إقصاء الخلفاء الراشدين الذين هم من المهاجرين أصلا لإخوانهم الذين هاجروا معهم من مكة إلى المدينة من عمليات الجمع التي كُلّف بها الأنصار حصريا، مع أن المهاجرين شهدوا مرحلة التنزيل بمكة المكرمة لمدة 13 سنة، وبالتالي، فإذا كان "نبلاء قريش" – كما يصفهم العروي – هم من بين من هاجروا مع الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وهم من استلموا السلطة السياسية بعد وفاة الرسول، لم يحتكروا عمليات جمع القرآن الكريم وكلفوا بها حصريا  إخوانهم الأنصار، فكيف يمكن أن يخدم ذلك مصلحتهم السياسة؟ .. هذا السؤال لا نجد له عند العروي جوابا.
ومن جهة أخرى، فإن مثل هذا الادعاء كان من الممكن أن يكون له ما يبرره في حال كانت هناك نصوصا قرآنية مختلف عليها بين الأطراف، كما حدث مع العهد الجديد، الذي تحوّل إلى 7 أناجيل مختلفة، اعترفت الكنيسة بأربعة منها فقط، بالرغم من الاختلافات الجوهرية القائمة بينها لجهة تعريف طبيعة المسيح عليه السلام، بين من تصفه بأنه الله، ومن تصفه بأنه ابن الله، ومن تعتبره ابن الإنسان. هذا في حين أن مرحلة ما بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعرف المسلمون مثل هذه الظاهرة، لأن مصاحف الصحابة وإن كانت نتاج اجتهادات فردية حرصا على جمع القرآن الكريم بين دفتي كتاب واحد، إلا أنه لا يمكن الحديث عن وجود اختلافات على مستوى نصوص الآيات إلا لجهة النطق ببعض الحروف أو التقديم والتأخير للبعض الآخر كما سبق تفصيل ذلك في معرض الحديث عن مصاحف الصحابة. وبالتالي، هذا الإجماع الذي حدث حول ترتيب آيات وسور القرآن الكريم لم يعرف له التاريخ الديني البشري نظيرا.
مما سلف، يتبيّن أن كل ما أثير من نقد حول مصحف عثمان الذي أجمعت عليه الأمة بمختلف تياراتها ومذاهبها وفرقها ومدارسها قديما وحديثا، لا أساس له من الصحة، بقدر ما يهدف إلى التشكيك في كتاب الله. وإذا كان الله يؤكد في قرآنه أنه تكفل شخصيا بجمعه وترتيبه وقرآنه وحفظه، فإن كل من حاولوا تفكيك النص المقدس بمعول النقد التاريخاني، سواء من المستشرقين أو الباحثين الحداثيين، اصطدموا بحائط مسدود ولم يخرجوا بنتيجة تذكر برغم استعانتهم بعديد المناهج المُسمّاة "علمية".   
ونأتي لمقولة محمد عبد الجابري الذي اعتبر في البداية أن المسلمين يقرؤون القرآن بالمقلوب، لأنه وفق رأيه، كان يفترض أن يتم جمع القرآن الكريم وفق ترتيب النزول. لكن الرجل عندما حاول البحث في هذه الإشكالية، مستندا إلى القوائم التي وضعها المستشرقون وغيرهم من فقهاء المسلمين، اصطدم بحقيقة تقول، أنه من الاستحالة بمكان إضفاء المصداقية والصحة على اللوائح التي تتضمن جميع سور القرآن الكريم مرتبة حسب أسباب النزول، نظرا للاختلافات الكبيرة القائمة بينها، خصوصا فيما له علاقة بتمييز السور المكية من المدنية وتداخل الايات في كل منهما. بالإضافة إلى صعوبة أخرى أثارها ابن عاشور في مؤلفه (تفسير التنوير والتحبير – في شرحه لسورة آل عمران)، حول وجود تداخل بين السور أثناء النزول، وقوله بإمكانية أن تكون عدة سور متزامنة النزول، ناهيك عن تداخل الآيات المكية في المدنية واستحالة الفصل بينها وفق معيار التحقيب الزماني والجغرافي.
وقد لاحظ الجابري في معرض بحثه حول الموضوع، والذي ضمّنه في مؤلفه (مدخل إلى القرآن الكريم – الجزء الأول – ص: ٢٣٠)، أن ما يطبع الروايات التي يمكن الاستعانة بها في هذا الشأن هو الاختلاف إلى حد التناقض. وهذا راجع وفق قوله: "ليس فقط إلى اختلاف المصدر الذي يعتمده هذا الراوي أو ذاك، بل أيضا إلى كون من خاضوا في هذا الموضوع من الرواة، خصوصا المهتمين منهم بأسباب النزول، قد بالغوا في البحث لكل آية عن سبب تزول، إلى الدرجة التي يتولّد معها في ذهن الباحث أن بعضهم كان مهتما ليس فقط بالنازلة التي نزلت فيها هذه الآية أو تلك، بل أيضا بالبحث لكل آية عن نازلة يمكن ربطها بها"، ليخلص إلى القول في النهاية، أن مثل هذه النزعة التجزيئية تمس بعمق مسألة المصداقية، ومن ثم يخلص إلى ضرورة ربط فهمنا للقرآن الكريم بوقائه السيرة النبوية. لكن السؤال الذي يطرح في هذا الصدد هو: - هل السيرة النبوية نفسها تم توثيقها بشكل متفق عليه بين الرواة والمخبرين؟ .. هذا سؤال آخر لا يسع المجال للخوض فيه هنا.
لقد كان الجابري مسكونا بهاجس البحث عمّا أسماه "المسار التكويني" للقرآن الكريم، لكن خضوع مصاحف الصحابة الأربعة لنفس الترتيب المعتمد في مصحف عثمان عموما، لم يساعده على الخروج بجديد في هذا الباب، كما أن اختلاف الروايات حو أسباب النزول وتضاربها، جعلته لا يأخذ بها لافتقارها للمصداقية العلمية، الأمر الذي دفعه للبحث فيما استخحلصه المستشرقون في الموضوع.
وقد لاحظ أن المستشرقين اهتموا بهذا الشأن منذ منتصف القرن التاسع عشر، وكان هدفهم بناء تصور موضوعي لتطور الوحي والتعرف على الجانب الروحي من السيرة النبوية. لكنهم اصطدموا بتضارب المراجع وتناقضها فعدلوا عنها. ويعتبر المستشرق الأماني "نولدكه" أشهر من اشتغل على هذا الموضوع، مستفيدا من أعمال سابقيه، وخرج بما اعتبره "معايير موضوعية" لترتيب القرآن الكريم حسب أسباب النزول ولخصها في معيارين أساسين:
1.                 الإشارات التي تحيل في القرآن إلى وقائع تاريخية، مع ملاحظة أن السور المكية لا تقدم نتائج تذكر في هذا الباب إلا ما له علاقة بالحقب التي مر منها التبشير من السر إلى العلن، ومن الخاصة إلى العامة. والمعضلة تبرز هنا بشكل أكثر حدة عند تناول السور المدنية التي تحتوي على كثير من الآيات التي تشير إلى حوادث قديمة وقعت قبل نزولها، وأخرى تحدث عنها القرآن قبل وقوعها.   
2.                 خصائص النص القرآني، خصوصا ما يتعلق بالفرق بين السور المكية والسور المدنية، لجهة الأسلوب أو الموضوعات التي تطرحها.
وعلى أساس هذين المعيارين وضع نولدكه ترتيبا للقرآن حسب أسباب النزول، وهو الترتيب الذي تبناه، على علاّته، المستشرق الفرنسي ريجيس بلاشير في الطبعة الأولى من ترجمة معاني القرآن مع تعديلات طفيفة.
وخلاصة القول، أن مثل هذا الترتيب لم يأتي بجديد يذكر، ما دام قد سبق إليه عديد المؤلفين المسلمين قديما، كما أن كتب السيرة تقدم من الأحداث والاجتهادات ما يغني هذا المجال، مع مراعاة الاختلافات القائمة لجهة تطابق الدال والمدلول أو المعنى والمصداق، ما يجعل مثل هذا العمل يتخذ طابعا عبثيا لا جدوى منه. وهو ما جعل نولدكه في آخر المطاف يعدل عن رأيه في الطبعات اللاحقة لكتابه "ترجمة معاني القرآن"، فعاد إلى الترتيب المعمول به في مصحف عثمان.
هذا ما خلص إليه محمد عابد الجابري في بحثه، فعدل عن رأيه، واعتمد هو بدوره على نفس ترتيب مصحف عثمان فيما أسماه بـ "التفسير الموضوعي لسور القرآن" في محاولة للوقوف على المعنى العام للسورة بدل المعاني الجزئية للآيات. وهذا بدوره عمل لا يقدم جديدا يختلف عما سبق وأن قيل في هذا المضمار من قبل من اعتمدوا هذا المعيار في التفسير، لأن القرآن لا يمكن تفسير سورة بمعزل عن الأخرى، ما دامت بعض الوقائع تتكرر في أكثر من آية وسورة وبسياقات مختلفة، وبالتالي، لا يمكن فهمها إلا في إطار القرآن كله، وهو ما أشار إليه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: (القرآن يفسر بعضه بعضا) لمن أراد أن تكتمل لديه الصورة، لا أن يفسر الصورة ويزعم أنه يستطيع الوصول من خلالها إلى المعنى الموضوعي العام الذي تعالجه.
ومما سبق طرحه في هذا الباب مختصرا لضيق المقام، نستطيع القول بكل ثقة، أن فشل الرواة والمؤرخين والباحثين المسلمين والمستشرقين قديما وحديثا في ترتيب القرآن حسب أسباب النزول، يحرر النص المقدس من سلطة التاريخ وعامل التوطين، ويجعله نصا متعاليا مهيمنا على التاريخ، وذلك لعمري وجه من أوجه الإعجاز.
ونأتي في الختام إلى ما قاله محمد أركون الذي يفضل تسمية القرآن الكريم بــ "خطاب النبي" أو "خطاب محمد"، ويرفض أن يعتبره نصا مقدسا متعاليا ومهيمنا على التاريخ، لأنه لا يتفق مع الطريقة التي تم بها جمع القرآن زمن عثمان وتدمير النسخ الأربعة الأخرى، وبالتالي، يفضل التعامل مع المصحف كما تعامل نظراؤه في الغرب مع التوراة والأناجيل دون مراعاة للفرق القائم بين كلام الله وكلام البشر، وينصح الباحثين في التراث الإسلامي بتطبيق المنهج الأركيولوجي على فترة نزول القرآن والفترات التي تلتها، لاكتشاف الدور الكبير والخطير الذي لعبه الخيال والتقديس في تشكيل العقل الخرافي العربي والإسلامي، كما سبق وأن أوضحنا في نقدنا لمنهج التاريخية عند أركون (مقال: مناهج التفسير الحديثة 2/4 – أركون: من الإيمان بالله إلى الإيمان بالدولة) المنشور على هذا الموقع. 
والحقيقة أن ما دعا إليه أركون قد سبقه إلى تطبيقه تيودور نولدكه سنة ١٨٥٩، والذي انتهت به حفرياته حول القرآن إلى خلاصة ضمنها في كتابه "تاريخ القرآن"، ومفادها، أن الطريقة التاريخانية النقدية لا تجدي نفعا ولا تؤدي إلى نتيجة تذكر مع القرآن، لأنها تتعامل معه كما تتعامل مع المخطوطات التي تتميز بتعددها وآلياتها وقدمها ودقتها، واستعمال النسخ المختلفة يهدف إلى الوصول إلى نص محقق أقرب إلى النص الأصلي الذي كتبه المؤلف، وهو ما لا ينطبق على القرآن الذي تناقلته الأجيال الأولى حفظا بالتواتر، ولم يعارض أحدا من المسلمين وخصوصا القراء والحفظة ما تم تدوينه في مصحف عثمان لا شكلا ولا مضمونا، بحيث حصل للقرآن إجماع لم تحظى به الكتب السماوية الأخرى كالتوراة والإنجيل. ومن ثم اعتبر نولدكه محاولة القراءة التاريخانية النقدية للقرآن مجرد خطل، لأن النص القرآني يعود إلى القرن السابع الميلادي، وهو نص واحد لا ينافسه نص آخر كما حدث مع الكتب السماوية الأخرى، وليس فيه أو له أصول وفروع مثل التوراة مثلا. وقد تخلى كل الباحثين المستشرقين عن عملية الحفر الأركيولوجي هذه بعد أن انتهوا إلى ما انتهى إليه نولدكه، ومنهم أوتو برتزل وآرثر جفري، ثم بلاشير وبارت من بعدهما، وحذى حذوهما محمد عابد الجابري الذي تراجع في الأخير عن قوله "إن المسلمين يقرؤون القرآن بالمقلوب".

واستحالة الترتيب هذه تعود لكون ثمانية أعشار آيات القرآن الكريم (٨٠ في المائة) ليست لها أسباب نزول معلومة، كما أن القسم الأكبر ممّا ذكر عن أسباب النزول في التفاسير مختلق ومشكوك في صحته، وقد وقع عليه اختلاف كبير بين المفسرين، لعدم ملاءمته لمنطوق النص ومقاصد الرسالة، وهذا الاختلاق وفق ما خلص إليه بسام الجمل في دراسته (علم التنزيل – المؤسسة العربية للتحديث الفكري والمركز الثقافي العربي ٢٠٠٥)، كانت وراءه دواع سياسية ومذهبية وبيئية وثقافية زمن بني أمية وما بعده، حتى قد تكون لعقد صلة بين آيات المصحف وما شاع من اخبار سيرة الرسول ومغازيه انطلاقاً من مجالس القصاص والإخباريين. ولا نستبعد أن عبد الله العروي قد يكون استند إلى هذه التناقضات التي يزخر بها التراث حول أسباب النزول، للقول بأن القرآن تم ترتيبه بطريقة تخدم مصلحة نبلاء قريش.

فابن عباس مثلاً، والذي استأثر برواية أكثر من ثلثي المرويات لا يعتبر شاهداً حقيقياً على مرحلة الوحي، وفي هذا الصدد يتساءل بسام الجمل في المرجع السابق فيقول: "كيف لابن عباس - وهو في سن الثانية عشرة عند وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم - أن يكون صحابياً بالمعنى الدقيق للصحبة وشاهداً موثوقاً به على احداث فترة الوحي؟ ثم من يجرؤ في ظل الدولة العباسية على تكذيب جد الخلفاء العباسيين او التشكيك في سلامة رأيه؟". هذا علما ان جل التابعين من رواة الاخبار في زمانه كانوا من الموالي، ومن المعروف ان مناهضة بني أمية للموالي سيدفع بالعديد منهم الى الرغبة في التفوق على العرب في الميادين التي كانوا يترفّعون عنها، ومنها مجال العلوم عموماً كعلوم الدين واللغة وغيرها بما في ذلك الفلسفة والعلوم الطبيعية. وبالتالي، فكل محاولة لتطبيق نظرية التوطين التاريخي على القرآن الكريم استنادا إلى أسباب النزول لم ولن تأتي بنتيجة تذكر.

ومرد دعوة أركون لتطبيق المنهج الأركيولوجي (الحفريات) على القرآن الذي سبق وأن اعترف مستشرقون كبار بعبثيّته، يعود لرغبته في اكتشاف أوجه الاختلاف بين مصحف عثمان والمصاحف المفقودة، ويقصد بذلك المصاحف الأربعة التي كانت تتداول في مختلف أرجاء البلاد الإسلامية إلى غاية العام ٣٠ من الهجرة، وهي: مصحف أبي بن كعب في دمشق، ومصحف ابن مسعود في الكوفة، ومصحف أبو موسي في البصرة، ومصحف المقداد في حمص. فكانت كل جهة تقرأ القرآن وفق المصحف الذي لديها وتعتبره المرجع الإمام في الفصل عند كل اختلاف.

وقد سبق وأن تناولنا هذا الموضوع بإسهاب عند الحديث عن مصاحف الصحابة، وخلصنا إلى القول، أنه وبالرغم من أن كل مصحف من المصاحف الأربعة كان يتميز عن غيره ببعض الخصوصيات البسيطة التي لا تغير من بنيته لجهة تقديم أو تأخير بعض الآيات وضم بعض السور القصار لبعضها واعتبار المعوذتين من طقوس الدعاء لا الوحي، إلا أن ترتيب السور كان هو نفسه  الذي جاء به مصحف عثمان، ولم يعتمد أحد من الصحابة الأربعة ترتيب الآيات وفق أسباب النزول، وما كان له أن يفعل مخالفا بذلك قراءة الرسول صلى الله عليه وسلم وجمهور المسلمين، خصوصا وأن الترتيب الذي لدينا اليوم لم يكن ترتيبا توفيقيا من الصحابة، بل ترتيبا توقيفيا من الله تعالى عن طريق الملك جبريل عليه السلام الذي كان يشير على الرسول صلى الله عليه وسلم بمواضيع الآيات من السور، وكان يُقرأه ما تنزّل من القرآن في رمضان، وفي رمضان الأخير من عمره الشريف، أقرأه الروح الأمين القرآن كاملا مرتين كما هو معلوم. كما أن الرسول كان قد قيّد للقرآن ٤٠ كاتبا لا شغل لهم سوى تدوين التنزيل، وبعد اكتمال الوحي وجّههم لطريقة ترتيب الآيات ووضعها في السور التي تناسبها. وهناك الكثير من الروايات التي تؤكد أن الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته وجمهور المسلمين من بعده، كانوا يقرؤون القرآن على نفس الترتيب الذي يبدأ بسورة الفاتحة وينتهي بسورة الناس. ولعل عمل كتّاب القرآن من جهة، وحفظ القرآن في صدور المسلمين قبل الجمع النهائي من جهة ثانية، هو الذي ساعد على حفظ ترتيب التلاوة وفق نفس قراءة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم دون تغيير أو تبديل، باستثناء مصحف الإمام علي كرم الله وجهه الذي كتبه وفق أسباب النزول وضمنه حواشي للشرح والتفسير وفق ما تذكر المصادر الشيعية، لكن لا أحد يعلم مصير هذه النسخة التي كتبها الإمام خلال ستة أشهر بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، ما يجعل الحديث عنها كمرجع يعتد به حديث بلا معنى.

ومهما يكن من أمر، فما طرحه أركون حول المصاحف المفقودة قد يشكل هاجسا بالنسبة للباحث الغربي، أما الباحث االمسلم فلا يسعه إلا التسليم بأن جمع وترتيب القرآن كان بتوجيه من الله تعالى لقوله: (إن علينا جمعه وقرآنه * فإذا قرأناه فاتبع قرآنه)  القيامة: ١٦ – ١٧. كما أنه تعالى تعهّد بحفظه من العبث والتحوير والتزوير كما حدث مع التوراة والإنجيل لقوله: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) الحجر: ٩.

وقد أشرنا من قبل في هذا الإطار إلى خاصية لافتة، وهي أن التحقيب الذي عمل عليه المستشرقون طويلا لم يساعد على كشف التناقض بين الخطاب القرآني والنصوص التاريخية المعتمدة كما حصل مع التوراة والأناجيل، وتكمن الصعوبة العملية لذلك في أن القرآن عندما يذكر حادثة من الحوادث فإنه يطمس معالمها وإحداثياتها الزمكانية ولا يهتم بالكرونولجيا التاريخية في السرد، حيث يجد الباحث نفس الحادثة وزعت على شكل أجزاء متفرقة في أكثر من سورة وبسياقات مختلفة، بحيث لا يمكن فهمها إلا إذا جمعت كل الآيات الخاصة بها وأعيد تركيبها لتتضح الصورة ويفهم المعنى الموضوعي للقصة من مختلف جوانبها، فيتضح مغزى الموعظة التي تعتبر الهدف الأساس من التذكير بالواقعة، فتخرجها من الإطار التاريخي التي حدثت فيه إلى مجال التدبّر العقلي للذكرى والتأمل الروحي لتغذية الإيمان وتقويته. وفي غياب تحقيب موثوق لآيات القرآن وفق أسباب نزولها، يستحيل على المنهجية التاريخانيّة القيام بمسح القرآن مسحا شاملا، وتحقيقه، والتأكد من تواريخه ووقائعه، ومن ثم دراسة كل ما ليس بواقعة مادية محسوسة من خلال علم النفس التاريخي، لتحديد الخيالات والأوهام والأحلام والطوباويات التي عمرت رؤوس الناس أو حرّكت نفوسهم، كما يقول محمد أركون متحسّرا (الفكر الأصولي واستحالة التأصيل – ص: ٦٧).

وأمام هذه الاستحالة، لم يجد أركون من مخرج لمعضلته سوى القول من باب تبرير العجز، بأن هذه الرمزية في السرد التي يعتمدها الخطاب القرآني تصبغ عليه نوع من التعالي (التقديس) والتسامي (التصعيد)، فتصبح الحادثة تروى من خارج التاريخ وكأن لا علاقة لها بأي زمان أو مكان وقعت فيه. وهذا من وجهة نظره طمس لمعالم التاريخية ينتزع النص من الواقع، الأمر الذي لا يساعد على تحريره من الأسطورة كما يقول. وهو عكس ما ذهب إليه حين أكد أن القرآن نفسه يتضمن الوعي التاريخي الذي يسمح بدراسته دراسة تاريخية، ما جعله يبحث عن ضالته في التطبيقات اللسانية لاكتشاف العلاقة بين المصطلح القرآني واستعمالاته المختلفة في اللغة القديمة، عسى أن يساعده ذلك في إثبات تاريخية القرآن باعتباره منتجا ثقافيا ينتمي للزمان والمكان اللذان أنتج فيهما، متناسيا أن القرآن وإن استعمل لغة العرب إلا أنه أنتج معانيه الخاصة من داخلها فأعطاها مفاهيم إنسانية وكونية جديدة لا يمكن فهمها إلا من خلال تفسير القرآن بالقرآن، وهذا إحدى أوجه الإعجاز التي تتمثل في ترجمة اللغة من كلمات محلية خاصة بثقافة معينة إلى كلمات كونية مشتركة بين البشر من خلال المعاني وعبر الآيات التي تعتبر إشارات واضحة وعلامات بيّنة لا يفهم المتشابه منها إلا بالرجوع إلى محكمه، هذا إن استطاع الباحث الاهتداء للمحكم الذي لا يعلمه إلا الله والراسخون في العلم، ولدينا في علم الكلام زمن المعتزلة والأشاعرة الدليل على هذه الصعوبة، حيث ما كان يعتبره المعتزلة بالتأويل محكما كان يحوّله الأشاعرة بنفس سلاح التأويل إلى متشابه، والعكس صحيح أيضا، فتحوّل الكلام إلى نوع من المجادلة العبثية التي لم تنتج معرفة حقيقية بقدر ما ساهمت في تعميق الخلاف الديني بين المتناظرين، في حين كان الهدف السياسي هو الذي يغذي هذا الخلاف من أساسه. وهو الأمر الذي علّق عليه الفيلسوف هنري كوربان بقوله: "إن الفائدة العميمة في هذه المجادلة تكمن في أن الاختلاف ليس اختلافا مبتذلا بين العقلانية، والفلسفة، والفقه بالمعنى الشائع. إنه اختلاف أكثر عمقا وأصالة بين فكر ديني باطني، تعليمي، وبين إرادة معادية لكل ما يتضمنه هذا الفكر" (تاريخ الفلسفة الإسلامية – ص: ٢١٩ – ٢٢٠). 

وبالتالي، فليست القضية بالنهاية قضية خطأ أو انحراف عن الصواب، لأن كل طرف بذل جهده، وبمجرد بذل هذا الجهد فهو يسير في طريق الحقيقة حتى لو لم يدركها، لأن "البحث عن الحقيقة  لهو أثمن من الحقيقة نفسها" كما يقول الفيلسوف ليسّنغ.

ملحوظة:
اضطررنا للربط بين الجدل العقيم الذي ثار حول ترتيب القرآن الكريم قديما، وما سبق وأن ذكرناه من نقد للتاريخية والتاريخانية التي أعادت إحياء هذا الجدل القديم، لنوضح الفرق القائم بين القرآن باعتباره نصا إلهيا متعاليا على التاريخ ومهيمنا عليه، وبين المناهج الحديثة التي تحاول عبثا توطين الخطاب الإلهي الموجه لخلقه كافة في البيئة الجغرافية التي نزل فيها، لتنزع عنه طابع القداسة والشمولية، وتسحب منه ميزة الرسالة الإنسانية الكونية التي تميزه، باعتباره خطاب رب العالمين للناس جميعا.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق