بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 11 مارس 2022

المنظومة السُّنيّة تحتضر

 

والعالم السنّي يندثر

لقد سبق وناقشنا معضلة المنظومة السنية عبر التاريخ في بحث من جزئين نشر على الموقع تحت عنوان: "استغلال الدين في السياسة"، كشفنا من خلالها دور فقهاء السلاطين في استغلال الدين لتدجين المسلمين خدمة للإقطاع. ولأن النتائج بمقدماتها، فإن ما تعيشه الأمة الإسلامية اليوم من جهل وفقر وتخلف وانحطاط، سببه الأساس المنظومة السُّنيّة التي استبدلت دين السماء بدين الفقهاء.../...

وفي هذا الصدد، سألني أحد الأصدقاء عن رأيي في المشروع الذي طرحه وليّ عهد السعودية لتوثيق الأحاديث النبوية والهدف الحقيقي منه. والحقيقة أنه لا يمكن فهم أهداف الأمير من هذا المشروع الضخم وغير المسبوق إلا من خلال الجواب على سؤال: - هل المشروع يهدف إلى مراجعة المنظومة السنية وتنقيتها من غثاء الأحاديث الكاذبة المنسوبة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم والتي تتعارض مع العقل والوحي.. أم أن الأمر يتعلق بصراع سياسي بقناع ديني يهدف إلى تدمير المنظومة السنية القائمة واستبدالها بأخرى مُنقّحة تسمح للسعودية بقيادة العالم العربي والإسلامي بمباركة العالم الغربي؟

ولتوضيح ذلك أقول، إن ما قام ويقوم به وليّ عهد السعودية في هذا الإطار يندرج تحت هذا العنوان، أي "استغلال الدين في السياسة"، لكن هذه المرة بأهداف جيوسياسية كبرى تتجاوز الجغرافية الوطنية إلى المجال الإسلامي الخاص والدولي العام. إنها حرب إيديولوجية بكل ما تحمل الكلمة من معنى ضد مذاهب أهل السنة والجماعة عموما وضد مؤسسة الأزهر التي فرضت نفسها كمرجعية للإسلام السني في العالم العربي بوجه خاص. 

هذه الحرب الإيديولوجية الجديدة لها وجهان، وجه ظاهر ووجه باطن:

من حيث الظاهر 

الأمير بن سلمان يقول إن مشروع توثيق الأحاديث النبوية يندرج ضمن إصلاح المنظومة الدينية السنية من أجل السعودية، لا استرضاء للغرب (في إشارة إلى أمريكا)، ولا ضد أحد (في إشارة إلى الأزهر والمرجعيات السنية في العالم العربي والإسلامي).

إبراهيم عيسى، أحد أبرز النقاد الموضوعيين للفقهاء عموما وفقهاء السلاطين على وجه الخصوص، والذي يعتبر من الدعاة الشرشين لتجديد الفكر الديني، وصاحب البرنامج الشهير "مختلف عليه" الذي يداع على "اليوتيوب"، يقول: "إن الرؤية التي أعلنها الأمير محمد بن سلمان حول تبني السعودية الجديد للاجتهاد الديني منهجا، وعن اعتماد الأحاديث النبوية المتواترة فقط دون أحاديث الأحاد وأحاديث الأخبار، بالإضافة إلى تصريحات الأمير عن أفكار مؤسس العقيدة الوهابية الشيخ محمد بن عبد الوهاب.. يعتبر تجديد حقيقي وشجاع سوف يؤثر بقوة في الواقع العربي والإسلامي، بل والواقع الإنساني كله".

لا شك أن رأي إبراهيم عيسى هذا يكتسي أهمية خاصة لأنه يُبرز بذكاء وبموضوعية معطيات رئيسية ثلاثة:

المعطى الأول: أن قرار السعودية غير المسبوق لمراجعة الفكر الديني هو إعلان حرب كبرى ضد المنظومة الفكرية السنية بمذاهبها الأربعة، وهي عملية هدم مُمنهج للمرجعية الدينية التقليدية في العالم العربي والإسلامي التي أرادت الوقوف في وجه الفكر الوهابي لنزع القيادة العربية والإسلامية من النظام السعودي خادم الحرمين الشريفين.

المعطى الثاني: أن نقطة ضعف المنظومة السنية تكمن في الأساس الذي تقوم عليه، أي في الأحاديث النبوية التي تتخذها كمرجعية بديلة حتى عن القرآن وإن لم تصرّح بذلك، وهي أحاديث بالآلاف بين متواتر وآحاد وأحاديث إخبار، ما مكّن فقهاء السنة من تطوير التشريع بشكل يخدم السياسي على حساب الديني بهدف السيطرة على عقول المسلمين وتدجينهم، لأن من يسيطر على الخطاب الديني يخضع الناس له بسبب جهلهم بالدين والدنيا من جهة، وخوفهم من المجهول القابع وراء الموت من جهة أخرى.. والحديث هنا عن فقهاء السلاطين، لأن اعتماد الأحاديث المتواترة التي أشار إليها محمد بن سلمان فقط، قد يقلص عدد الأحاديث التي قد يكون الرسول صلى الله عليه وسلم قالها إلى مائة أو أكثر قليلا وليس إلى آلاف كما هو الحال اليوم.

المعطى الثالث: أن تأثير هذا الاجتهاد السعودي غير المسبوق سيطال المفاهيم الدينية التقليدية في العالم العربي والإسلامي على مستويات ثلاثة:

- المستوى القطري: فيما له علاقة بطاعة الحاكم حتى لو كان ظالما فاسقا فاجرا ما لم ينطق بكفر بواح وفق ما يقول الفقهاء. هذا فيما طاعة الحاكم اقترنت في القرآن الكريم بطاعة الله ورسوله (الآية 85 من سورة النساء)، لكن شريطة أن يلتزم بأمرين: - حفظ الأمانة. - والحكم بالعدل. وفق ما هو مبيّن في الآية 84 من نفس السورة، والتي يتجاوزها الفقهاء بهدف التعمية والتضليل.

- المستوى الإقليمي: فيما له علاقة بالاعتراف بإسرائيل باعتبارها ليست عدوا للعرب والمسلمين كما قال بن سلمان في تصريح مثير الإثنين الماضي من جهة ثانية. الأمر الذي من شأنه إعفاء السعودية التي تصبوا لقيادة العالم العربي والإسلامي من واجب الجهاد لتحرير أرض ومقدسات المسلمين في فلسطين. 

- المستوى الدولي: من خلال توجيه رسالة كونية جديدة مفادها: أن السعودية دولة معتدلة ومنفتحة على الشعوب والحضارات، ورائدة في مجال محاربة التطرف والإرهاب من خلال مراجعة الفكر الديني الذي يستند إليه. ما يعني تجفيف المنابع الفكرية التي يرتوي منها هذا الفكر التكفيري الدموي. لكن لا يعرف إن كانت هذه المراجعة ستلغي الفكر الوهابي المتطرف أم أن المراجعة ستتم من داخله.

ومهما يكن من أمر، فبفضل هذا المشروع الكبير تقدّم السعودية نفسها باعتبارها رائدة الإسلام السمح المعتدل الذي يقبل بالثقافة الغربية والتعايش مع كافة الشعوب مع احترام الاختلاف، وبذلك تحظى بشرعية تمثيل الإسلام السني المعتدل في العالم العربي والإسلامي، وهو الأمر الذي فشلت تركيا في تحقيقه من خلال الإخوان المسلمين، وفشلت مصر أيضا في تكريسه من خلال مؤسسة الأزهر التي لا تختلف عن الكنيسية الكاثوليكية في الإيديولوجيا، لاعتمادها الكهنوت منهجا للخلاص.

من حيث الباطن 

المشروع الذي أطلقه ولي العهد السعودي ليس وليد اليوم، بل تبلورت فكرته نهاية سنة 2016، وتحديدا مباشرة بعد المؤتمر الذي انعقد في مدينة غروزني عاصمة الشيشان بحضور الرئيس الشيشاني رمضان أحمد قديروف ورعايته، ومباركة غير مباشرة من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بسبب الحرب في سورية وانخراط السعودية ومشيخات الخليج بالإضافة إلى تركيا من خلال الإخوان المسلمين في زعزعة استقرار المنطقة بهدف تقسيم سوريا والعراق ولبنان بالإرهاب خدمة لأهداف صهيو أمريكية وأطلسية.

وقد حضر هذا المؤتمر الإسلامي العالمي مجموعة كبيرة من علماء المسلمين السنة من مختلف دول العالم، كما عرف المؤتمر حضورا بارزا لكبار شيوخ الأزهر كالشيخ أحمد الطيبي، ومفتي مصر شوقي علام، ومستشار الرئيس المصري أسامة الأزهري ومفتي مصر السابق علي جمعة ونخبة من الفقهاء الشرعيين المصريين.

هذا الحضور البارز لفقهاء مصر من المستوى الرسمي الرفيع، اعتبرته السعودية مؤامرة ضدها حيكت من قبل الرئيس الروسي والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، بهدف نزع الشرعية عن "المذهب" الوهابي، وبالنتيجة نزع شرعية تمثيل النظام السعودي للإسلام السني في العالم العربي والإسلامي. 

وللإشارة، فقد استثني من حضور المؤتمر شيوخ الوهابية من السعودية ومشيخات الخليج، وبخاصة قطر التي تستضيف مفتي الناتو الشيخ يوسف القرضاوي الذي شن حربا شعواء على المؤتمر وبخاصة شيوخ الأزهر، مستنكرا تعرض الفقهاء المؤتمرين للسعودية بدل إيران وروسيا برغم ما يقومان به في سورية، واصفا المؤتمرين بـ "علماء السلطان" و"شيوخ العار". 

وقد شكل هذا المؤتمر بحق ضربة قاسمة لمملكة النفط والرمل والدم ولشيوخها المضللين ومذهبها المناقض لتعاليم الإسلام السمح الجميل، لأنه ولأول مرة في التاريخ خرج المؤتمرون ببيان قوي يخرج العقيدة الوهابية من المنظومة السنية ويعتبرها عقيدة متطرفة دخيلة على الإسلام، وبذلك يكون المؤتمر قد عمق انقسام العالم السني على المستوى الإيديولوجي بعد أن عمقت الحروب في العراق وسورية ولبنان واليمن انقسام المسلمين على المستوى الطائفي والجغرافي بدعوى الحرب المذهبية التي اتخذت من إيران الشيعية هدفا لها.

وإذا كان مؤتمر غروزني قد نجح في عزل السعودية عربيا وإسلاميا من خلال اعتبار الوهابية عقيدة غريبة على المنظومة السنية، ووصم نظامها بمملكة الإرهاب والخراب بسبب انخراطها في حروب بالوكالة لصالح أمريكا وإسرائيل والحلف الأطلسي في المنطقة، فإن النظام السعودي وكما كان الأمر زمن الاستعمار البريطاني الذي ساعد محمد بن عبد الوهاب على تفريخ الفكر الوهابي، ها هو الغرب وبمساعدة دبابات الفكر الأكاديمي الأمريكي والبريطاني، يمد يد المساعدة لولي العهد السعودي لإنتاج منظومة جديدة من الإسلام السني، تستند إلى عدد قليل من الأحاديث المتواترة قد لا تتجاوز المائة حديث، الأمر الذي سيطرح أكثر من علامة استفهام حول المنظومة السنية القائمة التي ستدخل مرحلة الاحتضار والاندثار بحكم قانون التطور والتبدل والتغير.

وبذلك قد تستعيد مملكة النفط والرمال زعامة العالم العربي والإسلامي بحكم أنها خادمة الحرمين الشريفين ورائدة مشروع تجديد الفكر الديني في العصر الحديث، لكن بأهداف سياسية تجعل من الدين مطيّة، أو بعبارة أخرى، من أجل تحقيق مصالح دنيوية خاصة لا أخروية تهم المسلمين.

وإذا قدُّر لهذا المشروع أن ينجح، فسيكون بسبب دعم النظام الرسمي في السعودية لهذه المراجعة الدينية غير المسبوقة لما تمثله من انقلاب بحجم الزلزال الذي سيضرب العقيدة السنية في العالم أجمع. لأنه إذا كانت كل دعوات الإصلاح الديني قد فشلت في الماضي، فلأن الدعاة كانوا علماء ربانيين، أو نقاد عقلانيين، أو باحثين مستقلين، أي مجرد أفراد لا سلطة سياسية لهم لفرض نتائج بحوثهم، وهو الأمر الذي يختلف هذه المرة مع ولي العهد الأمير محمد بن سلمان الذي يمتلك القوة المالية والسياسية والدعم الغربي، ما يزيد من فرص نجاح مشروعه، لتحل العلمانية أخيرا بديلا عن النظام الإسلامي المنشود، ويصبح الدين أمر يهم الإنسان في علاقته مع ربه، لا الدولة أو المجتمع. 

ومعنى المعنى، أنه سيتم استبدال ثقافة الـ "نحن" الإسلامية التي تعني تضامن وتعاون وتكافل المجتمع، بثقافة الـ "أنا" الغربية التي تهم المصلحة الشخصية الأنانية للفرد.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق