بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 26 يوليو 2023

هل "الدين الإبراهيمي" دين جديد حقا؟ (2/1) ...

 

(مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَٰكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا)

 - آل عمان: 67 -

عندما كتبت مقالة بعنوان "من أجل لغة دينية واحدة"، لم أكن ألمّح من قريب أو بعيد لما راج في الإعلام العربي والإسلامي حول ما يُسمّى بـ "الدين الإبراهيمي الجديد"، بل هدفي كان البحث عن المنطلقات الأساسية التي تشكّل الوعاء الجامع لكل المعتقدات التوحيدية انطلاقا من القرآن الكريم باعتباره المرجع الوحيد والأوحد للحقيقة الدينية كما أمر بها صاحب الدين عباده كافّة من نوح صعودا إلى محمد هبوطا مرورا بكل الرسل والأنبياء ممّا نعلم ولا نعلم عليهم السلام جميعا، واعتبرت أنه ما دام العلماء في مختلف مجالات العلوم التجريبية والتكنولوجيّة يتكلّمون لغة علميّة واحدة، فلماذا لم نفكّر من جهتنا، باعتبارنا حاملي مشعل عالمية الإسلام، في وضع قاموس لمفاهيم دينية من القرآن نتكلم بفضلها لغة دينية واحدة سدا لذرائع الاختلاف القائم بين أبناء الديانة التوحيدية الواحدة؟.../... 

لقد عايشت كما غيري من المهتمّين بالشأن الديني الحملة الشعواء التي نظّمها أهل السّنّة والجماعة ممثّلين في الأزهر من جهة، وبعض جماعات الإسلام السياسي في العالم العربي من جهة ثانية، والتي ركّزت في مجملها على تشويه فكرة "الدين الإبراهيمي" واعتباره دعوة لدين جديد برداء سياسي هدفه التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي، ومنهم من قال إنها دعوة ماسونيّة تُمهّد لظهور الدجّال، وأخرون قالوا أن من يروّج لها هم عبدة الشيطان، فيما أكّد البعض أنها دعوة تمهّد لحملة استعمارية جديدة وأنها مؤامرة على الأمة من قبل أعداء الله والمسلمين، أما السّلفيّة الجديدة فاعتبرتها دعوة كفريّة لا علاقة بالإسلام لعدم جواز مزج الإسلام باليهودية والمسيحية بعد أن أظهر الله الدين الإسلامي على الدين كله... وغيرها من المبررات التي تتغيّى رفض الفكرة جملة وتفصيلا بعيدا عن القرآن واستنادا فقط إلى المأثور حينا والرأي أحيانا.

وبغض النظر عن هذا النوع من النقاشات السفسطائية والدوغمائية التي أثيرت حول الموضوع، فما يهم الباحث عن الحقيقة في نهاية المطاف هو ما يقوله القرآن الكريم عن الموضوع لا ما يقوله ما يدّعون الكلام بلسان الله ويروّجون للترّهات التي لا يقبلها عقل ولا دين خوفا على مراكزهم الاجتماعية ودفاعا عن مصالحهم الدنيوية، مُستغلّين في ذلك جهل الأمة بالقرآن وقبولها دون نقاش لكل ما يروّج له الكهنوت من جهل وضلال استنادا إلى مفاهيم تراثية عتيقة لم تعد صالحة لهذا الزمان، ناهيك عن تعارضها رأسا مع ما ورد في التنزيل الحكيم من حقائق.

لكن ما أثار انتباهي بشكل خاص هو ما روّج له موقع الرئاسة العلميّة للبحوث والإفتاء تعليقا على قيام الإمارات العربية ببناء ما يسمّى بـ "البيت الإبراهيمي" والذي هو عبارة عن مجمع ديني يحتوي على مسجد وكنيسة ومعبد يهودي، وذلك بقوله: "لا يجوز لمسلم الاستجابة لدعوة بناء مسجد وكنيسة ومعبد في مجمّع واحد لما في ذلك من اعتراف بدين يعبد الله به غير الإسلام، وإنكار ظهوره على الدين كلّه". غير أن المفارقة تكمن في أن هذه الفتوى بالذات ليست جديدة، بل استعملها المُأدلجون من باب الكذب والتدليس لخداع الأمة واختطاف عقول أبنائها كما أشار إلى ذلك الدكتور علي راشد النعيمي، مؤكدا أنها (أي الفتوى) قالت بها اللجنة الدائمة للإفتاء بالمملكة العربية السعودية قبل 26 سنة، وتخص الإدارة الدينية في المملكة السعودية وفق العقيدة الوهّابيّة.  

البيت الإبراهيمي في الإمارات العربية

أما الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين فقد سارع إلى وصف "الدعوة الإبراهيمية الجديدة" بالباطل المرفوض شكلا وموضوعا، هذا فيما انقلب شيخ الأزهر أحمد الطيبي (الذي يمثل المذهب الشافعي في مصر، والذي سبق وأن وقّع على وثيقة "الأخوّة الإنسانية" في الإمارات بمعيّة بابا الكنيسة الرومانية كما يتضّح من الصورة أدناه)، أقول، أنه سرعان ما انقلب على عقبيه وأعلن في تصريح له من على منبر الأزهر الإعلامي بعد عودته من الإمارات رفضه لما اسماه بـ "الديانة الإبراهيمية الجديدة"، متسائلا باستغراب إن كان المقصود بها "صناعة دين جديد لا لون ولا طعم ولا رائحة له" حسب تعبيره، بدعوى "إشاعة المحبة والتسامح والسلام". مضيفا أن "هذه الدعوة تبدو في ظاهرها دعوة للاجتماع الإنساني والقضاء على أسباب النزاعات والصراعات - التي تمتح من الثقافة الدينية السائدة كما هو معلوم - وهي في الحقيقة دعوة إلى مصادرة حرّية الاعتقاد وحرّية الإيمان والاختيار" حسب رأيه. مختتما تعليقه بالقول: "إن الدعوة إلى توحيد الدين دعوة أقرب لأضغاث الأحلام منها لإدراك حقائق الأمور وطبائعها، لإن اجتماع الخلق على دين واحد أمر مستحيل في العادة التي فطر الله الناس عليها". (؟؟؟) وكأن الله فطر الناس على ديانات مختلفة لا على دين واحد اسمه دين التوحيد.

التوقيع على وثيقة الإخوة الإنسانية

هذا فيما أشار بعض الأكاديميين العرب إلى أن الحديث عن "المسار الإبراهيمي" أو "الديانة الإبراهيمية" أو غيرها من المسميات ليست وليدة السنوات الـ 5 الأخيرة أو وليدة اتفاقيات التطبيع التي أطلق عليها اتفاقات أبراهام عام 2020، كما يقول أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية عصام عبد الشافي، بل هناك مجموعة من الدراسات والأوراق والتقارير الرسمية سبقت هذه الخطوة بـ 10 سنوات، مشيرا إلى وثيقة صدرت عن جامعة هارفارد عام 2013 سميت "مسار إبراهيم"، ووثيقة رسمية صدرت عن جامعة فلوريدا الأميركية عام 2015 تتحدث عن "الاتحاد الفدرالي الإبراهيمي". وفي عام 2013 تم تشكيل إدارة خاصة سميت "إدارة الحوار الاستراتيجي مع المجتمع المدني" داخل وزارة الخارجية الأميركية عندما كانت تتزعمها هيلاري كلينتون.

غير أن ما قاله الدكتور عصام عبد الشافي ليس دقيقا، ذلك أن أوّل من طرح هذا الموضوع للنقاش في إطار الدعوة إلى إصلاح المنظومة السنّيّة المسؤولة عما أصاب الإنسانية من تطرّف وإرهاب هو الدكتور عبد الله العروي في كتابه المميّز (السنّة والإصلاح – المركز الثقافي العربي – الدار البيضاء – المغرب – الطبعة الأولى: 2008). وهو الكتاب الذي تناول أنساق المعتقدات التوحيدية من يهودية ونصرانية وإسلام واعتبرها جميعها تعني "الواحد الذي لا يحضر، ولا ينكشف، ولا يتجسّد، لا في الطبيعة ولا في شعب مميّز، ولا في أسرة، ولا في فرد، بل في كلمة تُسمع، تُقرأ، تُتلى" موضّحا ذلك بالقول: "بما أنّ إبراهيم هو أب الأمم، فإنه يوضع حكما خارج النّسق، قبل البدء، تجربته فريدة، قابلة للتجدّد والتكرار، لكن في صورتها الأصليّة قبل أيّ تخصيص. لا هو يهودي ولا نصراني، إبراهيم هو الخليل وكفى. محمد يجدّد تجربة إبراهيم، في براءتها الأولى ولا يحيد عنها. يستخلص منها العبرة كاملة وهي أن خطر التجسيم قائم باستمرار". ويخلص عبد الله العروي إلى القول: "ما إن نقرّ بالتوحيد، بالقلب ثم باللسان، حتّ نزرع بذرة الثنائية (أنت وأنا) وندشّن توالي الشبهات، أي العقائد المذكورة آنفا. هذا يعني أنّ اليهوديّة التاريخية تحمل في لبّها نصرانية افتراضيّة وإسلاما محتملا، كما أن النصرانيّة القائمة تحمل يهوديّة شكليّة (ألا تدّعي الكنيسة أنها إسرائيل الجديدة؟) وإسلاما اعتباريّا تحقّق بشكل ما في الثورة البروتستانتيّة، كما أن الإسلام التاريخي حمل يهوديّة صوريّة (أهل البيت هم القبيل المقدّس) ونصرانيّة شكليّة ظهرت عند بعض المتصوّفين، ممّا دعا البعض إلى الكلام عن إسلام متنصّر، في الأندلس خاصّة" (السنّة والإصلاح – ص: 70/71). 

وتجّر الإشارة إلى أنّ عبد الله العروي في تعريفه لمصطلح "الخليل" يقول أنّه يؤدّي معنى الصحبة والمداخلة والملاصقة. وهو ما قد يفهم بأنه نوع من التجسيد، لكن في حدود المعقول، وفق رأيه. والحقيقة أنه لا يمكن تفسير الخلة بالصحبة لأن الله نفى عن نفسه هذا النوع من العلاقة مع البشر، أما "الخلّة" وفق قاموس المصطلحات الصوفيّة فتعني التخلّل، كما يتخلّل الخمر الماء فيصبح ماء ولا خمر وخمر ولا ماء كما يوضّح ذلك محيي الدين ابن عربي في رسالته حول الأحاديّة.

موقف القرآن من "الدين الإبراهيمي"

لن نضيف جديدا لما قيل حول الموضوع من قبل المعارضين لما أصبح يعرف بـ "الدين الإبراهيمي الجديد"، ما دام كل ما تناقلته مختلف وسائل الإعلام لا يخرج عن صلب ما قيل آنفا. لكن لنرى الآن ما يقوله الخطاب القرآني حول الموضوع، وذلك انطلاقا من المفاهيم القرآنية للمصطلحات التي تم تداولها، ونقصد بذلك: (دين – إسلام - ملّة - الخليل). 

مفاهيـــم قرآنيـــة:

مفهوم الديـــن: لقد سبق وأن تناولنا مفهوم الدين في كتابات سابقة نشرت على هذا الموقع انطلاقا من القرآن الكريم، وخلصنا إلى أن الدين بالتعريف العام هو مجموع المعتقدات التي يؤمن بها قوم أو شعب أو أمة أو فرد وترجمتها إلى سلوك عملي في الحياة، وهو بالتعريف القرآني معتقد وسلوك أيضا، لكن لا وجود لشيء اسمه أديان كاليهودية والمسيحية والإسلام بشهادة القرآن، بل هناك دينين فقط لا غير بالنسبة لله: دين الإسلام ودين الكفر، بدليل ما ورد في سورة (الكافرون) من بيان. وبالتالي فالذين يتحدثون عن أديان سماوية متعدّدة إنما يتّهمون الله بالعبث سبحانه وتعالى عمّا يصف الجاهلون، وكأنه جلّ جلاله كان يبعث في كلّ مرّة بدين جديد ينسخ ما قبله، الأمر الذي يوحي ضمنيّا بأن الدين السابق لم يكن دينا قيّما لأنه لو كان كذلك لما اضطرّ الله لاستبداله بآخر جديد، وهو ما فهمه مشركو قريش عندما اتهموا الرسول الأعظم عليه السلام بأنه بدّل دين الإباء والأجداد حين أتى بدين جديد، بل هو ذات الخطاب الذي روج له الكفّار في كل زمان ومكان في مواجهة دعوة الرسل، وهو نفس الخطاب الذي يروّج له التراثيون اليوم رفضا لأي إجتهاد من القرآن يمس ما علق في عقول المسلمين من ثقافة القبور.

ومردّ سوء الفهم لدى فقهاء القشور هذا يكمن في أنهم يستندون للقول بتعدد الأديان على آيتين كريمتين أسيئ فهمهما بشكل فظيع: 

- الأولى تقول: (إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم) آل عمران: 19. 

- والثانية تقول: (ومن يبتغي غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين) آل عمران: 85. 

وبالتالي، فإذا كان الدين عند الله هو الإسلام كما يؤكد تعالى في الآية 19 من سورة آل عمران، فإن نفس الآية تخبرنا أنه ما اختلف فيه الذين أوتوا الكتاب من يهود ونصارى إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم، وهذا يعني أن لا وجود لدين غير دين الإسلام أمر تعالى أهل الكتاب باتباعه، بل وذهب حد وصف من يختلف حول هذا الأمر بالكفر بآياته وتوعّده بالعقاب، وهذا يعني أن من يقول أن الله قد أنزل دينا غير الإسلام من قبل رسالة محمد عليه السلام يكون قد كفر بآيات الله كائنا من كان حتى لو وضع على رأسه عمامة شيخ أو طربوش عالم. وكونه تعالى قد سبق وأن أكد في الآية 85 من سورة آل عمران أن من يبتغي غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وسيكون في الاخرة من الخاسرين، فالسؤال الذي يطرح بالمناسبة هو: ما الإسلام بالتعريف القرآني؟ ...

مفهوم الإسلاميخبرنا صاحب الدين في التنزيل الحكيم أن دعوة الأنبياء والرسل عبر التاريخ البشري هي دعوة واحدة لا تختلف، بدليل قوله تعالى:

- ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾ النحل: 36.

هذه الدعوة التي تتحدث عنها الآية المحكمة السالفة الذكر هي الإسلام باعتباره دين التوحيد ولا وجود لدين غيره سوى الكفر، وذلك منذ نوح إلى محمد عليهما السلام. ويمكن القول إن تاريخ التديّن البشري عرف طورين أساسيين:

o الطور الأول: يبدأ وينتهي بنيس الله نوح عليه السلام، والذي مكث في قومه 1.000 عام إلا 50 سنة يدعوهم للإسلام لكن دون جدوى، الأمر الذي جعله ييأس منهم ويدعو عليهم بقوله: - (وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِرًا كَفَّارًا) نوح: 26 – 27، فكان مصيرهم الغرق كما هو معلوم.

o الطور الثاني: يبدأ بإبراهيم وينتهي بمحمد مرورا بكل الرسل ممّا نعلم ولا نعلم عليهم السلام جميعا لقوله تعالى: - (وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلًا لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ) النساء: 164.

والمتدبّر للقرآن الكريم بعيدا عن التراث الذي روّج لتعدد الأديان واعتبر استنادا إلى أحاديث منسوبة للنبي الخاتم ما أنزل الله بها من سلطان أن الإسلام هو الدين الذي جاء به الرسول الخاتم محمد عليه السلام، يدرك بسهولة ويسر أن كل المبعوثين الكرام عليهم السلام جميعا كانوا يدينون ويبشرون أقوامهم بنفس الدين. هذا الدين سمّاه صاحبه الإسلام، وذكره تعالى مُعرّفا في ستة آيات من أربع سور، جاءت جميعها في أوائل الترتيب وفق المصحف العثماني (البقرة – آل عمران – النساء - المائدة). وبيان ذلك كالتالي:

أولا: سورة البقرة - آية 132 (وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ  فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ).

وهذا إعلام واضح يؤكّد أن الدين الذي اصطفاه الله لعباده هو الإسلام، أي نفس الدين  الذي وصّي إبراهيم به بنيه ويعقوب في وصيّته لولده من بعده. وقوله (لا تموتن إلا وأنتم مسلمين) يبيّن بشكل دقيق لا يحتمل أي لبس أو تأويل نوع الدين الذي شرّعه الله لخلقه أي الإسلام.  وبذلك يكون كل الأنبياء والرسل والأمم التي جاءت قبل أو بعد أبو الأنبياء والرسل وصاحب العهد والوعد خليل الله إبراهيم عليه السلام، تدين بدين الإسلام.  بما في ذلك نوح من قبل و بنو إسرائيل من بعد، بشهادة الله نفسه، وذليل ذلك ما ورد في الايات البيّنات التالية:

- قوله على لسان نوح عليه السلام: (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) يونس: 72. 

- وقوله على لسان إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام: (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) البقرة: 128. 

- وقوله على لسان يوسف عليه السلام: (تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) يوسف: 101. 

- وفي عهد سليمان عليه السلام، اعترفت ملكة سبأ بظلمها لنفسها وأعلنت إسلامها مع سليمان لله رب العالمين لقوله تعالى: (قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) النمل: 44.  

- وعلى لسان موسى عليه السلام: (وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ) يونس: 84. 

- بل حتى سحرة فرعون عندما آمنوا بإله موسى قالوا: (رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ) الأعراف: 126.  

- وأشهد الحواريون عيسى على إسلامهم بقولهم: (قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) آل عمران 52.

وبعد هذا كيف يمكن القول أن اليهودية والمسيحية أديان مختلفة عن الإسلام، وإيهام الناس ابلكذب والتدليس أن إسلام محمد عليه السلام مختلف عن ديانات أهل الكتاب، وأن ما يسمّى بالديانة الإبراهيمية هي دين جديد ما أنزل الله به من سلطان؟

ولا أدل على ما نقول من حديث للرسول عليه وسلم يقول: (الأنبياء إخوة أبناء علات، أمهاتهم شتى ودينهم واحد) أخرجه الشيخان وأبو داود. وبالتالي، فكيف يعقل إذن أن نجد بيننا ممّن يزعم التخصّص في علوم الدين ممّن يتلو القرآن ويستند في اجتهاده على ما يقول أنها أحاديث صحيحة منسوبه للنبي الكريم، لكنه يتغاضى عن هذا الكمّ من الآيات الكريمة التي تشير إلى حقيقة حاسمة تقول أن الدين عند الله واحد بالنسبة لجميع خلقه من دون استثناء، عرّفه لنا باسم الإسلام.. ورغم ذلك، نجده مصرّا على إنكار الحقيقة، مصرّا على الدفاع عن الباطل بقوله أن اليهودية والمسيحية ديانات مختلفة عن الإسلام وأن لا وجود لشيء إسمه الديانة الإبراهيمية؟

وبالمناسبة، ومن باب توضيح الواضحات، ليس إبراهيم عليه السلام هو من سمّانا (المسلمين) كما روّج لذلك عديد الفقهاء، لأن الضمير (هو) في الآية (هو سمّاكم المسلمين من قبل وفي هذا) الحج: 78، يعود على الله تعالى وليس على إبراهيم عليه السلام كما فهم ذلك خطأ، لقوله تعالى في سياق نفس الآية (جاهدوا في الله... هو اجتباكم – أي الله - وما جعل عليكم في الدين من حرج – أي الله - هو سمّاكم المسلمين – أي الله). 

كما أنه من الناحية المنطقية البحتة، لا يعقل أن يكون إبراهيم عليه السلام هو من سمّى نوح (مسلما) لقول هذا الأخير: (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) يونس: 72. علما أن نوح سابق له في العهد، ولأن الأمر في الآية (أُمِرْتُ) يعود على الله تعالى كما هو واضح من المبنى والمعنى. كما  يستحيل أيضا، أن يكون إبراهيم الذي لا يعلم الغيب بدليل قوله تعالى (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا) الجن: 26، ولم يسبق له أن اطلع على القرآن، هو من أطلق على أمة محمد عليه السلام اسم "المسلمين" لقوله تعالى في نفس الآية السابقة (وفي هذا) إشارة إلى القرآن الكريم. ولذلك وجب التوضيح من باب ضرورة تصحيح مثل هذا الفهم الخاطئ الذي لدينا من التراث عن أصل التسمية كما يعتقد الكثيرون.  والمفارقة أن محيي الدين ابن عربي هو بدوره وقع في نفس الخطأ في شرحه لهذه الآية الكريمة في الفتوحات المكّيّة، الشيء الذي يؤكد – إن صحت نسبة المكتوب إليه - أن بعض مقولاته على الأقل لا يمكن أن يكون مصدرها الإشراق العرفاني كما يبدو، بل الاجتهاد الفقهي الشخصي الذي قد يصيب وقد يخطئ.

ثانيا: سورة آل عمران - آية 19 (إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ).

أما في الآية الثانية، فيؤكد سبحانه على التوالي، أن الدين عنده بالنسبة للناس كافة هو الإسلام، وأن اختلاف أهل الكتاب من يهود ونصارى حوله، لم يكن بسبب قصور في الفهم أو نقص في المعلومات، بل نتيجة بغي بينهم، خصوصا بعد أن جاءتهم الرسل بالشرع المبين. وفي كتبهم ترد كثيرا كلمة (شالوم) بمعني (سلام)، وهو تحوير متعمد حصل عند ترجمة كلمة "إسلام" الأصلية من الآرامية إلى اليونانية، حيث كانت السين تقرأ شينا من قبل.

ثالثا: سورة آل عمران – آية 83 (أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً وإليه يرجعون).

بعد الإعلان الواضح في الآية الأولى والتأكيد الصريح في الآية الثانية، يستنكر الله تعالى بشدة في الآية الثالثة على كل من ابتغي غير دين الله، وهو الذي أسلم له كل من في السماوات والأرض طوعا وكرها، حيث لا يعبد إلا هو دون سواه. وهذا هو المعني الحقيقي لـ: (لا اله إلا الله).  ذلك أن من يعتقدون أنهم يعبدون آلهة غير الله، إنما يعبدون أسماء لا وجود لها أصلا، بدليل قوله تعالى: (ما تعبدون من دونه إلا أسماء سمّيتموها انتم وآباؤكم ما انزل الله بها من سلطان) يوسف: 40.  بل حتى أولائك الذين يعبدون الأصنام، لا يعبدونها باعتبارها آلهة، إنما لاعتقادهم الخاطىء أنها تقرّبهم إلى الله زلفى كما يقول تعالى: (ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون) الزمر: 3. 

وبذلك يكون الله الواحد الأحد، هو المعبود على الحقيقة دون سواه، وحتى الإغريق الذين كانوا يعبدون من قبل عديد الآلهة كإله البحر وإله الحرب وإله الريح وإلهة الجمال، كانوا يعتقدون بوجود إله واحد يحكمهم جميعا، وهذه الآلهة كما يتضح من الفلسفة اليونانية كانت تمثل مستوى الربوبيّة الفاعلة المتضمنة في الأسماء والصفات نظرا للفرق القائم بين مفهوم الألوهية ومفهوم الربوبية في الإسلام. وهذا هو معنى قوله تعالى: (طوعا أو كرها) الواردة في أواخر الآية الثالثة من سورة (آل عمران: 83). ومصداق هذا الكلام نجده في قوله تعالي: (ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم) هود: 56. الأمر الذي جعل الصوفيّة يؤكدون، أنه يستحيل أن يخرج أي مخلوق عن صراط الله المستقيم ما دام هو آخذ بناصيته، ولهذا السبب يقول ابن عربي: (ما في الكون إلا الصراط المستقيم) حتى لو بدت المسالك مختلفة والطرق متفرقة.. والصراط الذي يتكلم عنه ابن عربي، لا يتمثل بخط مستقيم بين نقطتين، بل بخط دائري محيط لا بداية له ولا نهاية. لأنه إذا كانت الطريق إلى الله بالنسبة للعامة لها نهاية تحين بالموت، فان الطريق في الله بالنسبة للصوفي بلا نهاية، باعتبارها مجاهدة وسعي دائم وراء المعرفة والتنوير. وهذا هو المعني الدقيق لكلمة (حنيف) أي (أعوج) أو مائل بقوة الجبر إلى الله تعالى، وليس مستقيم كما يعتقد البعض. وقد ورد نفس المعنى في الآية 26 من سورة الروم: (وله من في السماوات والأرض كل له قانتون) الروم: 26 والبقرة: 116. وهي إشارة إلى إحاطة ملكه بجميع المخلوقات في السماوات والأرض. أي أن الكل مطوق ومحاصر من جميع الجهات. وبتعبير آخر: (لا هروب من الله إلا إليه). فلا أحد يمتلك من الحرية ما يعفيه من أمر الله، أو من الحصانة ما يحميه من قضائه، أو من الإرادة ما يغنيه عن قدره.  فالله باعتباره الخالق والمالك المطلق، يفعل في ملكه ما يريد، ويقضي في خلقه ما يشاء.  وقد أكد ذلك بقوله: (كل له قانتون)، فـ "الكل" هنا تشمل الجميع بالمطلق من دون استثناء.  أما "القنوت" فتفيد الطاعة مع الخضوع بحكم الأمر التكويني في أصل الخلق: (وما خلقت الإنس والجن إلا ليعبدون) الذاريات: 56. ومن كانت له ذرة شك في هذا، فلينزع الأقفال عن قلبه وليتدبر الآية التالية: (ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال) الرعد: 13. رفعت الأقلام وجفت الصحف، وكل شرح في هذا المضمار، لن يوضح الأمور بنفس العمق الذي بيّنه تعالي بإشارته إلى سجود "الظلال" لله طوعا وكرها، أي بالمعني الحقيقي للسجود لا المجازي بسلطة النور عليها. 

رابعا: سورة آل عمران - آية 85 (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

ويحذر سبحانه في الآية الرابعة، كل من يعتنق غير الإسلام دينا بأنه لن يقبل منه، وسيكون في الآخرة من الخاسرين. وواضح من الآية الكريمة أن لا وجود لدين آخر غير الإسلام سوي الكفر بمفهوم الشرك كما أسلفنا، والمبني على الاعتقاد بوجود اله آخر مع الله أو من خارجه، له وجود مستقل عنه. وبهذا المعني لا يمكن أن يكون الإسلام كما يعتقد بعض المفسرين الذين يأخذون بالنظرة التجزيئية انطلاقا من الظاهر الذي يعطيه معنى الآية هو فقط الدين الذي جاء به الرسول محمد عليه السلام، فمثل هذا القول يمثل حيزا ضيقا في الرؤية وقصورا فظيعا في الفهم، لعدم وضع الآيات المراد تفسيرها في سياقها العام، مع التجرد من الأحكام المسبّقة المستمدة من التراث، والأوهام الخاصة العالقة بالأذهان والتي هي بالمحصلة، نتيجة طبيعية لثقافة القبور التي تعتمد النقل ميت عن ميت من دون استعمال أدوات العقل، والالتزام بمنهج الرسول عليه السلام في تدبير القرآن من خلال قاعدة "القرآن يفسر بعضه بعضا". 

خامسا:  سورة النساء - آية 125 (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّه وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً).

في الآية الخامسة، يتساءل الله من باب المفاضلة بين الدينين، والترغيب في الإيمان على الكفر، مؤكدا سبحانه، أن من اعتنق الإسلام كدين، موجها وجهه لله الواحد الأحد، بالعبادة والعمل الصالح الذي يرقى إلى درجة الإحسان، مُتّبعا في ذلك ملة إبراهيم التي آمنت بربها ونبذت الشرك كاعتقاد.. فقد اعتنق أحسن دين قويم شرّعه الله لعباده، وهو دين التوحيد، أي الإسلام.

سادسا:  سورة المائدة – آية 3 (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا).

أما في الآية السادسة، فيخبر الله تعالى أنه بتمام نزول القرآن، يكون قد اكتمل هذا الدين الذي ارتضاه لعباده كافة، وسماه إسلاما. وبذلك تمت نعمة الله على العالمين، وهو ما يؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن الرسول محمد عليه السلام، وبخلاف ما روّج له بعض التراثيين، لم يأتي لقومه بدين جديد، بل بعثه الله بنفس دين التوحيد القديم ليكمّله بمكارم الأخلاق، وهي ذات الحقيقة التي أكدها عليه السلام في خطبة الوداع الشهيرة.

والسؤال الذي نطرحه بعد هذا كلّه هو: هل حقا فهم التراثيون ومعهم شيخ الأزهر والمنتسبون لجماعات الإسلام السياسي الإسلام بما يتعارض وفهمنا هذا الذي بيّناها أعلاه؟.. وهل المطلوب من الأمّة اليوم اتباع  سنة السلف الذي لم يكن كله صالحا إلا من رحم الله، أم اتباع ما أمر الله به في محكم التنزيل؟.. 

الجواب يعرفه الجميع بالعقل والفطرة السليمة.

وبعد أن بيّنا في هذا الجزء معنى الدين ومعنى الإسلام من القرآن الكريم، وحتّى تكتمل الصورة الحقيقية التي نحن بصدد تحديدها، سنقوم في الجزء الثاني بتبيان معنى "ملّة" ومفهوم "الخلّ" المثير للجدل، لنفهم لماذا أمر الله تعالى كل أنبيائه من قبل ومحمد وأمّته من بعد باتّباع ملّة إبراهيم عليهم السلام جميعا، وثم لماذا سمّى تعالى إبراهيم خليلا؟.

يتبـــع...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق