بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 23 فبراير 2022

الدين في خدمة السياسة (2/2)

 


(ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب)

النحل: 116

بعد أن اكتملت مناهج الاستنباط الأربعة التي وضعها الفقهاء: الإمام أبو حنيفة (70- 150هـ) في بغداد، والإمام مالك بن أنس (93- 179هـ) في الحجاز، والإمام الشافعي (150- 204 هـ) في بغداد، والإمام أحمد بن حنبل (164-241هـ) في بغداد، انبعث الفكر الظاهري من جديد في القرن الثالث الهجري على يد المفكر الإيراني داود بن علي الظاهري (201-271 هـ). وهو الذي أعلن موقفا متشدداً من الفقهاء، وكان يقول بأن هذه المذاهب الأربعة إنما هي بديل عن الدين الواحد الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم.../...

وذهب داود بن علي حد القول بأن مذاهب الفقهاء في الاجتهاد إنما هي هدم للشريعة، وأن طريق النجاة إنما هو في ترك هذه المصادر التشريعية جميعاً والوقوف عند الكتاب والسنة دون سواها من المصادر في إشارة إلى الاجتهاد. وقد ألف داود علي كتابا أسماه "إبطال القياس"، ذهب فيه إلى الجزم بأن القياس هو منهج ابليس وفق ما يستفاد من القرآن، لأن ابليس هو أول من قاس بينه وبين آدم بقوله: (أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين).  وعلى هذا الأساس، أنكر الظاهرية مبادرة الفقهاء، واعتبروا تشريعهم تطاولا على الله وعدوانا على شرعه، لأن النصوص المعصومة كاملة وشاملة ومبينة لكل شيء، ولا مبرر لأحد في أن يجتهد، بدليل قوله تعالي: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً) المائدة: 3.

غير أن الظاهرية، لم تتشكل إلا علي يد علي بن أحمد الشهير بابن حزم (384 – 456 هـ)، والذي وضع أسس هذا المذهب في مُصنّفين كبيرين، الأول في تقرير أصول الظاهرية تحت عنوان: "الإحكام في أصول الأحكام"، والثاني في فروع الفقه الظاهري تحت عنوان: "المحلي". ويلاحظ القارئ لهذه المصنفات، تكرار ابن حزم أكثر من عشرين مرة لعبارة: "من قال ذلك فهو كافر مرتد حلال الدم والمال". (الظاهرية في الإسلام – د. محمد حبش).    

وتشير العديد من الدراسات النقدية الحديثة، إلى أن سبب ظهور المذاهب الفقهية تاريخيا، يعود بالأساس إلى اكراهات السياسة وليس إلى حاجة المجتمعات الإسلامية الي التشريع، نظرا إلى حاجة خلفاء بني أمية ومن بعدهم خلفاء بني العباس للفقه والفقهاء، بهدف شرعنة الاستبداد، والسيطرة على عقول الأتباع وتدجينهم، وتكفير المخالفين، وقتل المعارضين السياسيين بدعوي عدم جواز الخروج على الحاكم.. وهي حاجة نابعة من رغبة الحاكم السلطوية أكثر منها دودا عن الدين وخدمة للمسلمين. 

وفي غياب بيئة سياسية ديمقراطية سليمة، بمفهوم الشورى الإسلامية، المبنية على تداول السلطة بشكل سلمي منظم، بعيدا عن العصبيات القبلية والمذهبية، والضامنة لحرية الرأي والتعبير، والحق في الاختيار.. ظهرت العديد من الاتجاهات الفكرية، سواء منها الموالية أو المعارضة للسلطة القائمة، لتخوض معركة الشرعية والمشروعية بسلاح الإيديولوجيا. فاشتغلت جميعها على النص من قرآن وسنة لإنتاج المعني الذي يتوافق مع قناعاتها الفكرية، ويخدم مصالحها الزمنية وأهدافها السياسية، ويُجرّد المخالفين من حجتهم الفكرية، وينزع عن المعارضين عمامتهم الدينية. ويمكن الإشارة هنا إلى خمس اتجاهات رئيسية، أغنت التراث بكم هائل من المعطيات الدينية، وتركت بصماتها في تاريخ الفكر الاسلامي، بغض النظر عن معايير التقييم المعتمدة في معرفة الحق من الباطل، والخطأ من الصواب، وهي:  

الاتجاه ألأول: "السلفية"، وهم "أهل السنة والجماعة" الذين اعتمدوا ما اصطلح على تسميته بالتفسير عن طريق "النقل" من المأثور، وحصر مصدره في أقوال الجيل الأول أو الثاني ممن عايشوا تجربة الوحي عن قرب، فحرّموا تفسير القرآن بالرأي، واعتمدوا الحديث مصدرا للتشريع. وهو اتجاه الظاهرية والمجسمة وغيرهم من فقهاء الرسوم، الذين اشتهروا بالتعصب، وتكفير التفكير، وإقصاء المخالف.. ومن هذا التيار ظهرت العديد من المدارس والفرق المتشددة، أشهرها مدرسة ابن تيمية، والوهابية ومدرسة الإخوان المسلمين التي تعتبر المجتمع الاسلامي يعيش الجاهلية الأولى، وأن الحاكمية تكون لله دون سواه، وهي التي أسسها حسن البنا، فرفعت شعار: "الإسلام هو الحل" على غرار مقولة الخوارج الشهيرة: "لا حكم إلا لله". وهو شعار يقول نظريا كل شيء، دون أن يفصح عمليا عن أي شيء. 

الاتجاه الثاني: "الأصولية"، وهم "المعتزلة" الذين اشتهروا بتفسير النص عن طريق "العقل"، وهو اتجاه الفلاسفة والمتكلمين العقلانيين بامتياز، أو كما يحلوا للدكتور محمد عابد الجابري أو يسميهم بـ: "أهل البرهان"، الذين اشتغلوا على تفسير النص بآليات التأويل من كناية ومجاز وتشبيه وما إلى ذلك.. وكانوا يصنفون في خانة "المُعطّلة"، لتعطيلهم صفات الله تعالى، وقولهم بـ: "خلق القرآن"، ومخالفتهم لبعض أصول اعتقاد السلف فيما له علاقة بمبادئ: "التوحيد والعدل"، التي قام على أساسها مذهبهم من خمسة أصول، فاتُّهموا من قبل السلفية المتشددة بالكفر والزندقة والمروق عن الدين.

الاتجاه الثالث: "الأشاعرة"، وهذا الاتجاه عُرف في بداياته الأولي بالنهج الوسطي التوفيقي، لكنه سرعان ما تحول إلى خصم شرس للمعتزلة ومنتقذ لمذهبهم. وسمّوا بالأشاعرة نسبة إلى إمامهم المؤسس أبو الحسن الأشعري. وهو اتجاه انبثق عن المدرسة المعتزلية، وكان يجمع بين التفسير بالنقل والتأويل بالعقل عن طريق استعمال نفس الأدوات التي برع فيها المعتزلة، سعيا منه لمحاربتهم بسلاحهم. وكانوا يتهمون من قبل المعتزلة بـ: "الصفاتية" لمبالغتهم في رد الأفعال كلّها إلى صفات الله تعالى، سواء منها المتعلق بالكون أو الإنسان أو التاريخ. 

الاتجاه الرابع: وهم "الشيعة"، حيث اعتمدت هذه الفئة الأخيرة على الجمع بين النقل حينا والعقل أحيانا، أسوة بمدرسة الإمام علي التي عرف عنها أنها أول من وضعت الأسس الأولى لما أصبح يعرف في الثرات الاسلامي ب: "الفلسفة النبوية" أو "علم القلوب".  وتعتبر هذه الفئة نفسها الوريث الشرعي لما يسميهم الباحث الإسلامي هشام جعيط بـ: "مجال عليّ"، لاعتقادهم أن الإمام علي هو وارث سر النبي صلى الله عليه وسلم استنادا إلى  حديث مشهور يقول: "أن النبي هو دار العلم، و عليّ بابها". ويعتبر المذهب الشيعي الجعفري أول المذاهب التي ظهرت في الإسلام، وأن بقية المذاهب السنية التي تناسلت من رحم "أهل السنة والجماعة" التي أسسها معاوية، جاءت كرد فعل على أطروحات التيار الجعفري قبل أن يتحوّل إلى مذهب، وذلك لتسحب منه بساط الشرعية الدينية والسياسية التي كان يزعمها. 

الاتجاه الخامس: يتشكل من الأقلية الصوفية، التي أنزلت الحقيقة الدينية من سماء التجربة الوجدانية الفردانية إلى مجال النظر العقلي والتأمل الفلسفي، فتجاوزت في تفسيراتها حدود النقل ومقتضيات العقل معا، لتقول بالتأويل عن طريق الكشف والإشراق، مع اعتماد الرمز والإشارة بدل صريح العبارة عند التواصل فيما بينهم، وذلك لمحدودية اللغة المتناهية في التعبير عن المطلق اللامتناهي من جهة، ومن باب التقيّة لقناعتهم بصعوبة الإفصاح عما وصلوا إليه من معارف باطنية وأسرار خفية، تحسبا لهجمات فقهاء الرسوم التكفيرية، وتأليب الرأي العام ضدهم من جهة أخري. 

وتجدر الإشارة، إلى أن كل محاولات التوفيق بين الاتجاهين الرئيسيين، المتمثلين في تيار أهل السنة والجماعة أصحاب منهج النقل والتفسير بالمأثور، والمعتزلة أصحاب منهج العقل والتفسير بالرأي أو "التأويل"، بهدف الوصول إلى توافق حول المعاني المشتركة، باءت بالفشل، بسبب اختلاف وجهات النظر في قضايا جوهرية كثيرة، كأسباب النزول، الناسخ والمنسوخ، المحكم والمتشابه، الظاهر والباطن، الكناية والمجاز، التشبيه والتنزيه، التفسير والتأويل، حكم مرتكب الكبيرة، قضية الذات والصفات...الخ...  لكن القشة التي قسمت ظهر البعير، وعجّلت بانتصار المنهج النقلي المقلّد على حساب المنهج البرهاني المجدد، هي إشكالية "خلق القرآن"، والتي أخذت من الجدل حدا انتهي إلى القول بتكفير المعتزلة. ولم ينجح الجهد الوسطي التوفيقي الذي قام به الفكر الأشعري لحل هذه المعضلة المستعصية من خلال نظرية: "القدم والحدوث". وهي القضية التي عرفت في التاريخ الإسلامي ب: "محنة خلق القرآن".

ويذكر الثرات، أن أهل السنة والجماعة في عمومهم كانوا ينظرون إلى تيار الاعتزال، على أنه لم يقدم تفسيرا موضوعيا للقرآن، ويتهمون أصحابه بأنهم لم يكونوا ينطلقون في عملهم من الحقائق التاريخية والمعطيات اللغوية لتفسير النص، بل يتقيّدون بأفكارهم الفلسفية ويتعصّبون لمواقفهم المُسبّقة، ثم يبحثون لها عن سند من القرآن يدعمُها، وغالبا ما كانوا يخضعون ما يتعارض معها إلى التأويل. غير أن حقيقة الأمر تشهد بخلاف ذلك، فكتب التفسير بالرأي أو التأويل، لم تتجاهل الحقائق التاريخية واللغوية المتصلة بالنص، إنما المعضلة وفق ما يري الدكتور نصر حامد أبو زيد في كتابه (إشكاليات القراءة وآليات التأويل ص:15)، تكمن في البعد الميتافيزيقي الذي لم يتنبه له القدماء بشكل واضح وإن مسّوه مسّا غير مباشر فيقول: "كيف يمكن الوصول إلى المعنى الموضوعي' للنص القرآني؟ وهل في طاقة البشر بمحدوديتهم ونقصهم الوصول إلى 'القصد' الإلهي في كماله وإطلاقه؟.. لم يزعم أي من الفريقين (أهل النقل وأهل العقل) إمكان هذا، غاية الأمر أن المُؤوّلة كانوا أكثر حرية في الفهم وفتح باب الاجتهاد، بينما تمسك أهل السلف – وان لم يُقرّروا ذلك صراحة – بإمكانية الفهم الموضوعي على التغليب (ترجيح معنى على آخر)". 

ويلاحظ أنه بالرغم من اتفاق جميع المذاهب والمدارس والاتجاهات الفكرية المختلفة حول مصادر المعرفة الدينية من قرآن وسنة، واقتصار الخلاف على المنهج في ترتيب الآليات وطرق الاستنباط (نقل – عقل)..  و بغض النظر عن الأسباب الذاتية والموضوعية الثاوية وراء كل اتجاه في مسعاه لإخضاع النص لتفسيرات وتأويلات تصب في مجملها في خدمة مصالحه الزمنية وغاياته الإيديولوجية، لم يعرف التاريخ الإسلامي اتجاها مستقلا، اشتغل على تفسير القرآن بالقرآن بشكل مجرد ومحايد، من منطلق نظرة فلسفية شمولية، تؤسس لقناعة روحية تستحضر التاريخ والواقع معا في التعامل مع المفاهيم الدينية السائدة، فتُصالح المسلم مع دينه ودنياه، وتزيح عتمات الظل التي تحول دون تحقيق التناغم المفترض بين تعاليم النص وواقع الإنسان في تجربته الأرضية، باعتبار أن الأمر بالنهاية يتعلق بالبحت عن المعرفة القمينة بتحقيق سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة معا، بدل التنازل عن الحق في الدنيا مقابل الاكتفاء بوعد الآخرة كما يشهد بذلك واقع السواد الأعظم من المسلمين اليوم، بسبب هيمنة الحقل السياسي على المجال الديني لأسباب إديولوجية كما سبق القول.  ولا يبدو أن هناك في الأفق أمل في التغيير من دون ثورة حقيقة تنطلق من إعادة صياغة المفاهيم، وتنقية القرآن من غُثاء سيل التفاسير التي اعتمدت الخرافي والعجائبي والغرائبي في شرحه، وغربلة السنة من كم الأحاديث الضعيفة والمتضاربة التي تتعارض مع النص القرآني، ليتسن للمسلمين في النهاية، فهم عقيدتهم، واستطرادا مراجعة شريعتهم على أساس موضوعي سليم.

ولعلّ ما يُفسّر هذا الاختلاف الحاد في المفاهيم الدينية القائمة، هو طبيعة البيئة الاجتماعية والثقافية والسياسية الحاضنة، والتي مهّدت لبروز كم هائل من الفرق والملل والنحل التي تناسلت جميعها من صلب الاتجاهات المذهبية الكبري، حتي بلغ عددها ما يفوق السبعين فرقة. ويردّ بعض الباحثين هذه الظاهرة الشاذة التي عرفها التاريخ الاسلامي، إلى قيام بعض الفقهاء بتقسيم المسلمين إلى ثلاث وسبعين فرقة، لينسجم واقع الحال مع الحديث الشهير المنسوب للنبيّ والذي أخرجه الترمذي و أبو داود و ابن ماجة من حديث أبي هريرة، و نصّه: (افترقت اليهود على إحدى و سبعين فرقة، و تفرقّت النصارى على اثنين و سبعين فرقة، و تفترق اُمّتي على ثلاث و سبعين فرقة). المرجع: (سنن الترمذي: ح /264 - دار إحياء التراث – بيروت. وسنن ابن ماجة: ح / 3991، دار الفكر - بيروت)، وكأنهم بذلك كانوا يتعجّلون قيام الساعة، وكأن الزمن يقف عندهم وحدهم فلا يستمر مع غيرهم، فاجتهدوا في وضع القواعد لتصنيف وإحصاء الفرق، وأصّلوا أصولا اعتمدوها في التمييز بينها بهدف بلوغ العدد المذكور في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، والذي يعتبر من مؤشرات قيام الساعة. غير أن الأحقاب التي أعقبتهم، كذّبت دعواهم، وفرّخت فرقا جديدة لم يدركوها، فزاد العدد على الثلاثة وسبعين، حتي أصبح كل كاتب مقالة صاحب فرقة كما يقول الشهرستاني في مؤلفه:( الملل و النحل - الشهرستاني 1: 21 ـ مكتبة الانجلو مصرية ـ القاهرة). 

وقد ذهب البعض إلى إرجاع الكثير من الفِرق الإسلامية إلى أصول غريبةً عن الإسلام، كاليهودية، والنصرانية والمجوسية، واليونانية، والهندية والبوذية... ومنهم ابن تيمية الذي هاجمهم هجوما شديدا في مؤلفاته، مثل: (اقتضاء الصراط المستقيم) و (منهاج السنّة : ج 1). غير أن بعض الباحثين المتأخرين، ذهبوا عكس هذا القول، فنفوا نظرية "التأثّر" من خارج الإسلام، ومنهم الدكتور سامي علي النشّار الذي قال: "إنّ فلسفة أيّة اُمّة من الأمم هي انبعاث داخلي عقلي يعبّر عن الروح الحضارية لهذه الأمة، وأنّه ليس من المعقول أن تتشابه الانبعاثات الداخلية العقلية لاُمّتين مختلفتين أشدّ الاختلاف جنسياً وعقلياً ولغوياً، وإنّ فلسفة امّةٍ ما من الأمم لا تخرج عن دائرة السنّة التي تضعها هذه الاُمّة، ومن خرج عن هذه الفلسفة لُفظ حتماً من الدائرة العقلية، ولم يَعُد يمثّل فلسفياً سوى فكره الذاتي". (نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام/ سامي علي النشار 1: 211 ـ الطبعة الثانية، ـ دار المعارف بمصر).   وأيضا الدكتور محسن عبد الحميد الذي اعتبر الحراك الفكري الذي ظهر في صدر الإسلام بمثابة نتيجة طبيعية للحراك السياسي والاجتماعي الذي مهّد له، فقال: "إنّنا لو راجعنا بدء تحرّك الأحداث السياسية والاجتماعية الكبرى في صدر الإسلام، لحصل عندنا يقين كامل أنّه هو الذي ولّد الحركة الفكريّة التي حدثت فيما بعد، و التي أرادت أن تلتمس من القرآن الكريم أسس انطلاقها في المجتمع". (تطوّر تفسير القرآن / الدكتور محسن عبد الحميد: 100ـ جامعة بغداد ـ 1408 هـ).

وبذلك اعتبرت ظاهرة تعدد الفرق ظاهرة طبيعية، بل وحتمية باعتبارها المولود الشرعي الذي نجم عن الصراع السياسي والحراك الفكري الذي عرفه المجتمع الاسلامي في صدر الإسلام، فأنتج اختلافا في الفهم وتنوعا في التأويل، لا خلافا يمسّ جوهر الدين، وهو ما يتساوق مع المعني الذي يعطيه حديث معروف لدي الشيعة مفاده (أن للقرآن ظهرا وباطنا ولبطنه بطن إلى سبعة أبطن أو سبعين بطنا)، ويُفسّره الرجع الشيعي اللبناني موسي الصدر على أساس أن معاني القرآن الكريم متعددة سبعة أو سبعين، ويقول: "أن كلمة سبعة أو سبعين كناية عن الكثرة والانسجام الكامل" (تاريخ الفلسفة الإسلامية 1 – هنري كوربان -  منشورات عويدات – بيروت – باريس – الطبعة الثانية 1977 – ص: 13). ويلتقي مثل هذا الفهم مع القول الصوفي الذي يؤسس إلى ثقافة كونية رحبة، يطبعها الاختلاف والتنوع، وتزينها قيم المحبة والاحترام، من منطلق أن الاختلاف في الرأي يعود إلى اختلاف مستويات الفهم للحقيقة الواحدة، وهو اختلاف لا يخرج عن الصراط المستقيم، ما دام الله ماسك بناصية العباد، لأن ما في الوجود إلا الصراط المستقيم حتى لو اختلفت الطرق وتباينت المسالك كما يقول محيي الدين ابن عربي استنادا إلى قوله تعالى: (ما من دابّة إلاّ هو آخذ بناصيتها إن ربّي على صراط مستقيم) هود: 56. ودليل ذلك، أن المسلمين باختلاف مذاهبهم وفرقهم، كانوا جميعا مؤمنين، مدافعين عن الدين، مُعظّمين لله ومُنزّهين له. فالمشتغلون بالدين وفق هذه الرؤية، قد يختلفون ويخطئون آراء بعضهم بعضا، لكن أحدا منهم لا يخطأ الدين، لأن الدين بالنسبة للمؤمنين يمثل عين الحقيقة الصادرة عن الحق، ومن هنا التمايز القائم بين الدين الذي يمثل الحقائق الإلهية من جهة، والفهم الديني البشري النسبي الذي يحتمل الخطأ والصواب من جهة أخري.

وبغض النظر عن الأحكام القيمية الجاهزة التي كانت تستعمل من قبل هذا الطرف أو ذاك في تصنيف من هو على هدي ومن هو على ضلال، فان الاختلاف في الرأي والاجتهاد في المجال الديني، هو غير الخلاف السياسي الذي يحمل في كنهه معنى الصراع على السلطة والتشاجر على الشرعيّة، لأن الاختلاف في الرأي مرده التباين في الأفكار ووجهات النظر، من دون أن يؤدي ذلك إلى المساس بثوابت الدين وأسس العيش المشترك القائمة على الاحترام وتقبّل الآخر المُختلف والمُخالف، ومن مزاياه، أنه يُخصّب الفكر ويعطي للحياة طعم ومعني، ولولاه، لما أضيئت جوانب كثيرة من الحقيقة التي ينشدها الانسان في مسعاه نحو المعرفة. وهذه هي سنة الله في خلقه، تتجلي واضحة من خلال قوله تعالى: (وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ...) هود: 118 - 119. لكن بقدر ما يكون الاختلاف في الرأي مقبولا، بل ومطلوبا لإغناء التجربة الإنسانية، تكون كل محاولة لفرض الرأي الواحد أو المذهب الأوحد مذمومة، خاصة تلك التي تُأسّس لمبدأ رفض الآخر وتكفير التفكير، وتُشجّع ثقافة العنف والدم والدموع.. ولعلّ الصراع بين مختلف المذاهب والملل والنحل حول من يمتلك الحقيقة الدينية، هو من أفشل التجارب السياسية على امتداد تاريخ وجغرافية المسلمين، حيث اتخذت جميعها من الإيديولوجية شعارا ومنهجا في الحكم، فتحولت بالتالي إلى أنظمة تيوقراطية استبدادية فاسدة، الدين منها براء.

ليس هدفنا من هذا البحث التأريخ للتجربة السياسية الإسلامية خلال القرون التي تلت مرحلة الرسالة، بقدر ما يهمنا معرفة مدى استغلال الدين في السياسة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وخطورة توظيف التراث الذي ارتقى في الوعي الشعبي الي مرتبة القداسة، في خدمة الأنظمة الاستبدادية التي تعاقبت على الأمة طوال القرون التي تلت حقبة الرسالة. 

إن اللذين يتحدثون عن الدولة الإسلامية المثالية الأولى زمن الرسالة يسمُّونها "دولة المدينة" بدل "الدولة الإسلامية". ومرد ذلك، أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يترك للمسلمين بعد وفاته وصية يحدد فيها شكل الدولة، أو طبيعة النظام السياسي الذي ينبغي أن يسيروا عليه من بعده. كما أنه لم يوصي بمن يخلفه لا في الدين ولا في السياسة.. لأن الرسالة انتهت بوفاته بعد أن ترك أمته على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك. ووارث العلم النبوي كما يشير إلى ذلك الحديث المأثور (العلماء ورثة الأنبياء)، ليس خليفة للرسول المُبلّغ عن ربّه كما يزعم الشيوخ، بل هو المُبلّغ لهذا العلم والمُفسّر له حسب فهمه. ولو كان الأمر بخلاف ذلك  لتحول الإسلام إلى كهنوت كما حصل مع المسيحية. أما في السياسة، فقد ترك الله سبحانه وتعالى مسألة اختيار النظام السياسي الكفيل بتحقيق العدل، والحرية، والمساواة، والكرامة الإنسانية، وفق مقاصد الإسلام الكبري، إلى اتفاق المسلمين فيما بينهم على أساس مبدأ الشورى الملزمة للجميع. 

لكن ما حدث بالنسبة للتجربة السياسية الإسلامية، هو عكس ما أمر به تعالى عباده من خلال قوله: (والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون) الشورى: 38. حيث صنّف تعالى مبدأ الشورى في خانة التكليف الواضح، وجعل الاستجابة له فرض عين على كل مسلم، باعتباره من مقتضيات الإيمان، بدليل اقترانه بفريضة الصلاة، الأمر الذي يجعل من الشورى أسلوب حياة، وممارسة أخلاقية مستدامة، تطبع كل مناحي حياة المسلم الاجتماعية والسياسية. وبالتالي، لا يمكن بحال من الأحوال، اعتبار مبدأ الشورى حول شؤون المسلمين المتعلقة باختياراتهم المصيرية مجرد فرض كفاية، يقام من خلال مؤسسة أهل الحل والعقد التي أسسها عمر ابن الخطاب في سقيفة بني ساعدة وأصبحت سنة للأنظمة المتعاقبة.. خاصة عندما يتعلق الأمر بنظام الحكم والتعاقد مع الحاكم، ورسم السياسات المحوريّة الكبرى (الاستراتيجيّة)، واختيار المُمثلين عن الأمة، و تحديد دور ومسؤولية المؤسسات، وآليات الرقابة والمحاسبة...  وعلى أساس هذا التحوير الخطير الذي حوّل الشورى من فرض عين إلى فرض كفاية، انحرف مصير المسلمين عن الصراط السياسي المستقيم، ليتخذ منحى الاستبداد والحكم التيوقراطي المطلق، فجاءت النتائج بعكس المقدمات، مناقضة للأهداف، فضاع العدل وديست  كرامة الانسان وسرقت سعادته.

ويوضح لنا التاريخ، أن الفقهاء عندما يتحدثون عن الدولة الإسلامية المثالية التي قامت بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، يذكرون دولة الخلفاء الراشدين ويشيدون بها كأرقي نموذج من نماذج الحكم الرشيد، ويستدلون في ذلك بعدل عمر كأنموذج فردي يتيم ومحدود في الزمن، لم ينتج تاريخ المسلمين مثيلا له، باستثناء تجربة عمر بن عبد العزيز القصيرة أيضا، وكلا التجربتين قُضي عليهما غدرا. والذين يدافعون عن قدسية الثرات، لا يتحدثون عن نظام سياسي إسلامي واضح المعالم، بل عن تجارب شخصية لأفراد صالحين، تنتهي بموتهم لتبدأ تجربة أخري مع أشخاص آخرين... هذا في الوقت الذي نكتشف، أن مبدأ البيعة على أساس الشورى التي أمر بها تعالي، لم يُحترم بالمطلق، بل انتهك من قبل "الخلفاء الراشدين" بالذات. 

وبغض النظر عن رأينا فيهم كصحابة، ها هو الخليفة أبو بكر تتم مبايعته في سقيفة بني ساعدة من قبل ثلة من أعيان وأصحاب النفوذ من الأنصار دون المهاجرين، وفي غياب الإمام علي الذي كان منشغلا بإعداد جسد الرسول الطاهر للدفن. وها هو عمر بن الخطاب يرث الخلافة بناء على وصيّة سلفه، ومن ثم يقرر اختزال مبدأ الشورى في مجلس معين من ستة من الصحابة بالإضافة لابنه، لمبايعة عثمان بن عفان من بعده، فيحرم بقية المسلمين من حقهم في اختيار من يتولاهم ما دامت البيعة التي تمّت في المسجد بعد ذلك كانت شكلية لمباركة قرار أهل الحل والعقد. وها هو علي بن أبي طالب يتعرّض لخديعة معاوية بن أبي سفيان فيقصيه عن الحكم، لتتحول الخلافة من بعده إلى ملك عضوض بقوة السيف، وتتحول البيعة من عقد اجتماعي على أساس الإرادة الشعبية الحرة والملزمة، إلى بروتوكول شكلي بين الحاكم وأهل الحل والعقد من فقهاء البلاط وأمراء العسكر... ومع هذه الردة المبكرة في تاريخ المسلمين، تحوّل الدين من خدمة الناس إلى خدمة الساسة وأمور السياسة، ضدا في أمر الله وإرادة الناس معا.

مما سلف، يتبين أن خط الانحراف في تاريخ المسلمين، بدأ مبكرا بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وليس مع معاوية الأموي كما تدعي الحركات السلفية المنادية اليوم بإقامة الخلافة وتطبيق الشريعة، واستمرت مع العصر العباسي وما تلاه، وصولا إلى العصر العثماني الذي انتهت الخلافة بنهايته. لكن نظام الملك العضوض لم يسقط بسقوط الباب العالي في تركيا، بل استمر بنفس الشكل الذي عرف به قديما في بعض الأقطار العربية التي حافظت على النظام التيوقراطي الملكي في الحكم.

والذين يطالبون اليوم بإعادة إحياء نظام "الخلافة الإسلامية" على مستوي الأمة، أو أولائك الذين يتمسكون بنظام "إمارة المؤمنين" على المستوي القطري، بدعوى إقامة الدولة القوية العادلة، لا يسعون إلى تحرير المجتمع من الظلم والاستبداد، إنما يسعون إلى إعادة إحياء الإيديولوجيات الاستغلالية الماضية، التي أثبتت فشلها في تحرير الناس وتحقيق العدل بينهم بشهادة التاريخ. وبفضل هذا الانحراف الخطير في مفهوم الدين والسياسة معا، تحول الإسلام من دين للأمة، الي دين لجماعة أو طائفة بالمفهوم الجغرافي الضيق، حتى أصبح لكل قطر إسلامه ومذهبه ونظامه.. وتحولت السياسة من أداة لتحقيق العدل والحرية والكرامة، إلى وسيلة لتزييف إرادة الناس، وتأبيد الظلم والفساد، ونشر الجهل والفقر، وتكريس الاستبداد.. وكل ذلك، كان نتيجة طبيعية لسوء فهم الأمة للدين والدنيا معا وللاستحواذ الفقهاء على مجال التشريع.

بناء علي ما سبق، يتبين أن "أمير المؤمنين" الذي يطلق على الحاكم، لا أصل له من القرآن ولا فصل له من السنة،  بقدر ما هو مجرد لقب لا أكثر ولا أقل، وكما سبقت الإشارة، لم يترك الرسول صلى الله عليه وسلم للمسلمين نظاما سياسيا محددا في الحكم، كما أن الخلفاء الراشدين من بعده، اختلفوا حول لقب الحاكم، فأطلقوا علي أبي بكر الصديق "خليفة رسول الله"، علما بأن مهمة "الرسول" كما حددها الله تعالى وكما يفصح عن ذلك الاسم نفسه، هي تبليغ رسالة الله إلى الناس حصريا، وهي مهمة محددة جدا وخاصة جدا تتعلق برسالة التشريع، وتختلف عن طبيعة وظيفة النبي الروحية، أو مهمة القائد السياسي والعسكري المحنك، أو الحاكم المدني العادل. وبهذا المعني، لا يعتبر لقب "خليفة رسول الله" دقيقا، لأن الله هو الذي يصطفي رسله ولا يعين لهم خلفاء. وهي الإشكالية التي طرحت مع خلافة عمر بن الخطاب، حيث اقترح تسميته "خليفة، خليفة رسول الله"، الأمر الذي لم يستسغه الحضور حينها لا شكلا ولا مضمونا، فاستبدل بلقب توافقي أكثر قبولا أطلق لأول مرة، وهو "أمير المؤمنين". وسار الأمر على هذا النحو الي أن تولي المأمون الحكم في العصر العباسي، فأطلق على نفسه ألقاب ثلاثة في نفس الوقت: "أمير المؤمنين" و "إمام المسلمين" و "خليفة المسلمين". 

أما في التراث، فيندرج لقب "أمير المؤمنين" ضمن مبحث الإمامة، وأول من أسّس لهذا المبحث عمليّا عند السّنة هو الإمام الشافعي، الذي ضمنه في مباحثه الفقهيّة، وكذلك فعل بقية العلماء السنة، الذين اعتبروا "الإمامة" جزءا من "الفقه"، ويعود الفضل للشافعي أيضا لأنه قرر "مبدأ الإجماع" كقاعدة أساسية ستُبنى عليها نظريات "أهل السنة" في الإمامة من بعده. لكن المشكلة تكمن في أن الإجماع عند الشافعي هو ثالث مصدر للتشريع بعد القرآن الكريم والسنة النبوية. وأول إجماع معتبر عنده هو إجماع الصحابة، ثم إجماع العلماء المجتهدين في أي عصر من بعدهم.. غير أن التاريخ يؤكد أن هذا الإجماع المزعوم والمخادع، كان يعني إجماع فقيهين أو ثلاثة في أمر، ولا يمثل بحال من الأحوال إجماع فقهاء الأمة وفق ما يوهم بذلك المصطلح.

وبإدراج "الإمامة" ضمن مباحث الفقه، وضبطها بمبدأ الإجماع المزعوم، أضحى للواقع كما تعيشه الأمة مكانا معتبرا في اجتهادات الفقهاء. كما أصبحت "الإمامة" وظيفة دينية وليس أي شيء آخر. فاجتهد الفقهاء في تعريفها، وقال الماوردي مثلا إن "الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا". ويعلق ضياء الدين الريس أن تعريف الماوردي يشمل ثلاثة عناصر: الأول أن الإمامة للخلافة عن النبوة. والثاني والثالث أن "موضوع هذه الخلافة حراسة الدين أولا، ثم سياسة الدنيا ثانيا". ويضيف أن "الماوردي، وكان قاضي قضاة بغداد، ومن كبار علماء الشافعية – كان يرى أن مما يدخل في صميم اختصاصات النبوة سياسة الدنيا، ولذا وجب أن يخلف الرسول في هذا الأمر". ويزيد قائلا:" وقوله - أي الماوردي- "حراسة الدين" يفيد أن وظيفة الإمام حراسته وحمايته والذب عنه، أي لا شرحه أو التبديل فيه. ومما ينطوي تحت هذه الحراسة أن يدل الإمام، بتصرفاته وأعماله، على أنه حافظ للدين، مراع لأوامره" (ضياء الدين الريس/121).

فالإمامة وفق هذا التعريف إذن هي مجرد وظيفة تُؤدى، بغض النظر عن الشخص أو شكل النظام السياسي. ويعتبر ابن خلدون أول مبدع على هذا المستوى، بحيث أنه لم ينظر إلى مركز الإمام من هو وكيف ينبغي أن يكون، بل التفت إلى هذا المعنى الوظيفي، أي إلى "المُؤسّسة" في علاقتها بأنواع الأنظمة قبل عصره. وهي أنواع ثلاث: "الملك الطبيعي" على حد تعبيره، وعرفه بأنه "حمل الكافة على مقتضى الغرض والشهوة"، وهذا النوع يمكن التمثيل له بحكم الفرد المستبد، وهو نوع مذموم ومرفوض عند ابن خلدون.  والنوع الثاني هو "الملك السياسي" وتعريفه عنده: "حمل الكافة على مقتضى النظر العقلي في جلب المصالح الدنيوية ودفع المضار"، وهو نظام مختل لأنه يحقق المصلحة المادية دون مراعاة مقتضى المصلحة الشرعية. أما النوع الثالث فهو "الحكم الشرعي" ويُعرّفه بأنه "حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية". وهذا النوع عند ابن خلدون محمود كله. وبهذا الاعتبار، يرى ضياء الدين الريس أن الإمامة على الحقيقة هي "الحكومة التي تكون الشريعة الإسلامية قانونها" (الريس/127). أما اللقب، سواء كان "أمير المؤمنين" أو غيره، فيكون حينها تعبير عن واقع مادي وشرعي.

ويذكر التاريخ الديني والسياسي للمغرب، أن الحكام "السلاطين" على امتداد العصور، اختاروا ألقابا مختلفة، منها "أمير المسلمين" التي اختارها المرابطون في عهد يوسف ابن تاشفين إلى جانب لقب "ناصر الدين". لكن في عهد الموحدين، أصبح لقب "أمير المؤمنين" الأكثر استعمالا، إلى أن اختارت جماعة "لسان المغرب" أن يوصف "السلطان" بـ: "أمير المسلمين" في أول وثيقة سياسية مغربية هي دستور 1908. وذلك، بسبب الخصوصية التي طبعت التجربة الدينية والسياسية المغربية التي كانت إلى حد ما، مستقلة عن تجربة دولة "الخلافة" في المشرق، وخاصة الخلافة العثمانية. لكن الملفت في الأمر، هو أن هذه الجماعة لما اقترحت لقب "أمير المسلمين"، كان ذلك من منطلق فهمها لضرورة أن يكون للمغرب "دولة مجاهدة" كما أسمتها، ليستحق السلطان مثل هذا اللقب كما يقول الأستاذ إسماعيل حمودي في دراسة له حول لقب "أمير المؤمنين" بالمغرب. إلا أن السلطان المولي عبد الحفيظ، وبسبب ارتباطه بالقوي الاستعمارية الغربية، رفض تبني وثيقة دستور 1908.

والحقيقة، أن الفهم الذي قدمته جماعة "لسان المغرب" للوظيفة الجهادية التي يجب أن يقوم بها "أمير المسلمين"، يتناغم بشكل دقيق مع الفهم الاسلامي الذي كان سائدا حول علاقة الدين بالدولة في الوعي الجمعي للأمة. بحيث إذا انتفت مهمة الجهاد من وظيفة "الأمير"، يفقد هذا الأخير شرعيته الدينية والسياسية معا. ولذلك نجد السلطان محمد الخامس بعد إعلان الاستقلال قال: "لقد خرج المغرب من الجهاد الأصغر (أي المقاومة المسلحة) الي الجهاد الأكبر (بمعني البناء والتنمية)"، هذا علما أن المغرب لم يكن بعد قد استكمل مسيرة تحرير كل أراضيه المغتصبة (شرقا وشمالا وجنوبا). وبهذا الخطاب، تحولت "إمارة المسلمين" عن الهدف الجهادي الذي تستمد منه شرعيتها، إلى العمل السياسي البحث، من دون أن تتخلص من اللقب الديني الذي تمسكت بالمحافظة عليه لأسباب لا علاقة لها بالدين، بقدر ما تخدم أهداف السياسية. وقد رأينا كيف أن العاهل محمد السادس شرعنة في نفس الوقت الوظيفة الدينية "إمارة المؤمنين" والوظيفة السياسية "ملك البلاد" في دستور 2011 لينهي الجدل حولهما.  

وتأكيدا لصحة هذا الاستنتاج الموضوعي، نشير انطلاقا من المفاهيم القرآنية التي لا تقبل التأويل، إلى أن القول بأن الملك هو في نفس الوقت "أمير للمؤمنين"، وأن دوره يهدف الي ضمان الأمن الروحي للمغاربة (استبدل الجهاد بالأمن الروحي)، وذلك من خلال فرض سلطان مذهب فقهي معين كما هو الوضع الحالي في المغرب.. هو مجرد بدعة لا أساس لها من الفكر الاسلامي لا شكلا ولا مضمونا.. لأن الله وحده له السلطان على الروح التي هي من أمره لا من أمر سواه، وهو الذي يراقب عقيدة الناس في المجال الديني، ويطلع على نواياهم، ويوجّه خطاهم، ويهدي من يشاء إلى صراطه المستقيم، وكل تدخل من قبل الحاكم أو فقهاء السلاطين على مجال من هذه المجالات هو تطاول على اختصاص الله تعالى. 

إن مثل هذه المفاهيم المبتدعة تحمل أهدافا سياسية مشبوهة ترمي إلى تكريس نموذج الحكم "الدهري – الكسروي"، وتلبيسه لبوس الدين كما أثبت ذلك ابن خلدون في نظريته حول الدولة العربية. إن ما يفصل الملك عن إمارة المؤمنين، ليس تطبيق الشرع فقط، بل تحديد الهدف من ذلك التطبيق. وإذا كان الملك يهدف إلى تحقيق مصالح الناس الدنيوية من أمن وازدهار واستقرار، فان إمارة المؤمنين هي الحكم الذي يهدف من وراء المصالح الدنيوية إلى تحقيق مقاصد الشريعة، أي تلك التي عرفها الرسول صلى الله عليه وسلم بأنها مكارم الأخلاق وفق الحديث المشهور. 

هذا الكلام معناه أن الدولة الديمقراطية العقلانية الحديثة، لا يمكن أن تتجاوز أهدافها الذاتية سعيا وراء أهداف طوباوية مستحيلة التحقيق من دون النظر بنور الله فيما هو مغيب عن الناس من أمور آخرتهم. أو بكلام أكثر وضوحا، أن الدولة التي تتبني مكارم الأخلاق كهدف أسمي، هي الدولة التي تسعي إلى أن تكون كلمة الله هي العليا في الداخل كما في الخارج، عبر الجهاد بمعناه العام الدال على بذل الجهد والمجاهدة في العمل المنتج الذي ينفع الناس، ومعناه الخاص الذي يفيد القتال في سبيل الله دفاعا عن النفس والعرض والأرض، كما يقول عبد الله العروي في تحليله لنظرية ابن خلدون في الدولة (مفهوم الدولة). وفي هذا الصدد يقول ابن رشد الفيلسوف والفقيه المالكي: "إن الشرع أعلى من الناموس العقلي". وهو ما يؤكده ابن خلدون كذلك في مقدمته من خلال قوله: "وما كان منه بمقتضي السياسة وأحكامها فمذموم أيضا لأنه نظر بغير نور الله.. لأن الشارع أعلم بمصالح الكافة فيما هو مغيب عنهم من أمور آخرتهم".    

إن واقع التجربة المغربية اليوم، يشهد بانقسام حاد بين الدولة والدين، وتنازع عميق حول شرعية الحكم، ولد العديد من الصراعات الظاهرة والخفية، بين أنصار الدولة والمعارضين المحتجين الدائمين عليها. وبرغم التسويات الصورية التي تمت بين الدولة والدين، لم تستطع رغم مسايرتها لرجال الدين من جهة، وللتيارات السياسية الليبرالية واليسارية من جهة أخري، أن تشيع جو من التفاهم والتعايش والانسجام بين مختلف مكونات المجتمع، بسبب التمايز داخل المجتمع السياسي والديني نفسه، بين تيارات اليمين المحافظ واليسار الراديكالي، وبين تيارات الإسلام السلفي (جماعة العدل والإحسان التي لا تعترف بشرعية النظام مثالا)، وتيارات الإسلام السياسي التي دجنها النظام، فتحولت إلى العمل الحزبي (العدالة والتنمية نموذجا). وبرغم العديد من الحلول الترقيعية التي حوّلت الدولة في المغرب إلى سلطة عصبوية تستخدم الدين كأداة صرفة للاستفراد بالحكم، والأيديولوجيا المذهبية كوسيلة لبناء شرعية دينية متوهمة في غياب الشرعية السياسية والدينية الحقيقية، لم ينجح النظام في بناء لا الدولة السياسية بالمفهوم الديمقراطي الحديث، ولا الحكم الاسلامي بالمعني الشرعي المتعارف عليه، حيث أنه فشل في رفع  كلمة الله لتكون هي العليا بولائه المطلق وتبعيته اللامشروطة للغرب الرأسمالي المتوحّش، فتحوّل بالتالي إلى نظام استبدادي من خلال السلطات المطلقة التي أنيطت بالمؤسسة الملكية، ومؤسسة إمارة المؤمنين الصورية التي ليست لها من الدين إلا الاسم، فأصبحت تدير الشأن العام بسلطات مطلقة دون أهداف محددة، ومن غير رقيب ولا حسيب. 

إن غياب السلطان الديني في الإسلام على عكس ما هو معروف في الكنيسة المسيحية، يعني عدم امتلاك الشرعية الدينية من قبل أية سلطة زمنية استملاكا نهائيا ومشروعا، لأنه عندما حاولت مختلف الأنظمة العربية والإسلامية عبر التاريخ السيطرة على الشرعية الدينية، تحول الإسلام في المقابل الي قيم ملهمة للمقاومات ومفجرة للثورات ضد هذه الأنظمة، والتاريخ الاسلامي حافل بالأمثلة التي لا يسع المقام لذكرها هنا.

إن تسييس الدين واستخدامه كأداة لتجديد السلطة، وإبعاد شخص الحاكم عن المساءلة والمحاسبة، وفرض مذهب فقهي بالاجبار، حوّل النظام في المغرب إلى نموذج تيوقراطي فاشل، ومصدر دائم لعدم الاستقرار، ومنع الدولة من أن تتحول إلى مؤسسة مدنية ثابتة، مستقرة، موضوعية ومستقلة.. وأفقدها بالتالي، الشروط الضرورية الكفيلة بضبط النظام، وتحقيق العدل، وإشاعة الحرية، وتحقيق التنمية، وتكريس مكارم الأخلاق.

وهو ما يفسّر توجه النظام لبناء دولة بوليسية قمعيّة من الباطن، بوجه ديمقراطي يراعي مبادئ حقوق الإنسان بشكل صوري من حيث الظاهر.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق