بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 9 أكتوبر 2018

مفهـــوم الشريعـــة (3/1)



بين شرع الله وشريعة الفقهاء

الشريعة من منظور القرآن
الشريعة لغة هي المكان الذي ينحدر منه الماء من أعلى إلى أسفل، واشتُقت الكلمة من الفعل "شرَع"، أي حدّد وأمر فأباح ومنع. أما اصطلاحاً فهو ما شرّعه الله تعالى لعباده من طقوس ومناسك لعبادته، ووصايا في المعاملات، وأحكام جزرية في المخالفات، وأخلاق إنسانية في العلاقات، ليسود العدل والأمن والسلم اجتماع المؤمنين، فتتحقق لهم بذلك سعادة الدنيا وخلاص الآخرة.../... 

وإذا كان هدف الدين هو تحقيق العدل بين الناس في الدنيا وتبيان طريق الخلاص في الآخرة، فإن أصول الشريعة لا يمكن أن تكون إلا من مصدر علوي يشمل العباد كافة وفق ما يعطيه المفهوم القرآني للمصطلح، وهو ما يفيد بالتالي، أن المشرع الوحيد هو الله تعالى دون سواه بحكم أنه صاحب الدين ورب العالمين.

وبهذا المعنى، تكون شريعة السماء، شريعة مطلقة، شاملة، ومشتركة بين جميع الأمم باختلاف الرسل والرسالات، لقوله تعالى: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب) الشورى: ١٣.

ويفهم من الآية الكريمة، أن اختلاف الرسل والرسالات لا يُبرّر التفرقة في الدين ما دامت أصول الشريعة هي واحدة والمشرع هو نفسه، لكن واقع الحال يؤكد أن التفرقة هي التي انتصرت بفضل لصوص الدين الذين نصبوا أنفسهم أوصياء على عقيدة المؤمنين، باسم سنة نسبوها لرسلهم الذين ظلوا يتكلمون لعقود بعد وفاتهم. يقول تعالى لرسوله الكريم محمد صلى الله عليه وسلم في هذا الشأن: (قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون) آل عمران: ٨٤. وهي ذات الآية التي تكررت حرفيا في سورة البقرة: ١٣٦ مع تغيير في المخاطب بالأمر من (قل ...) إلى (قولوا ...).  

وحيث أن الأمر كذلك، فشريعة المساء لا يمكن أن تكون إلا شاملة بالنسبة للجميع دون استثناء. ولعل أجمل ما يعبر عن هذه الحقيقة الواحدة هي آيات الوصايا العشر التي جاء فيها: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَاماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ) الأنعام: من ١٥١ إلى ١٥٤.

والإشكالية التي تطرحها هذه الآية الكريمة التي تعتبر من المحكمات، وتتضمن قانونا إلهيا أخلاقيا ساميا، شاملا، مشتركا وخالدا، يفتخر به أهل الكتاب من يهود ونصارى.. تكمن في أن التراث الإسلامي تجاهلها، حيث اختلط الأمر على فقهاء الظاهر فاعتبروها شريعة خاصة بقوم موسى، زاعمين أن شريعة محمد نسخت ما قبلها من شرائع، مستدلين في ذلك بقوله تعالى: (لكل جعلنا شرعة ومنهاجا، ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة) المائدة: ٤٨.

هذا علما – ويا للغرابة - أن الوصية الثالثة المتعلقة بالنهي عن قتل الأولاد خشية إملاق (فقر) لا تخص اليهود بل عرب قريش دون سواهم، كما أن استهلال الوصايا بقوله تعالى: (وأنزلنا اليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما انزل الله ولا تتبع اهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا) المائدة: ٤٨، يؤكد أن المعنيّ بالوصايا هم كل المؤمنين سواء من أهل الكتاب أو الذين آمنوا زمن الرسول. وبهذا المعنى، تكون الشريعة أخص من الدين، لأن تصديق كتاب محمد صلى الله عليه وسلم لما بين يديه من الكتاب، برغم تعدد الرسل والرسالات، جاء ليؤكد الأصل الواحد للشريعة المستمدة من أم الكتاب – ما يعني، أن شريعة محمد هي مجموع وصايا الله تعالى لأنبيائه ورسله عليهم السلام جميعا، وأن الاختلاف هو في بعض الأحكام التفصيلية التي لا ترقى للمحكمات، والتي تم نسخها في القرآن الكريم مقارنة بالرسالات السابقة، لتغيّر الظروف والشروط والأحوال وانقضاء مصلحة الحكم المستنسخ، وهو ما لم يعجب الفقهاء الذين أصرّوا على التشبث بالمتشابه لنسخ ما هو محكم، فقالوا بالنسخ من داخل القرآن الكريم نفسه، وهذا لعمري هو عين العبث. ذلك أن نسخ بعض الأحكام الجزئية في القرآن وفق ما يستفاد من السياق الذي وردت فيه كلمة "نسخ" له علاقة بالكتب السابقة لا بما نزل على محمد من وحي خلال مرحلة الرسالة بين مكة والمدينة. لأنه لو أخذ الباحث بمزاعمهم حول الناسخ والمنسوخ، لاكتشف أن الفقهاء استبدلوا شريعة الله بشريعتهم، واختزلوا الدين في مذهبهم، فحوّلوه إلى نسخة مشوّهة إلى أقصى الحدود عن الإسلام السمح الجميل، وهذا هو عين العبث تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. نقوله هذا لأنك لو أخذت بمنطق الناسخ والمنسوخ الذي اعتمده الفقهاء لاكتشفت أن سورة السيف التي نزلت بدون بسملة قد نسخت سور القرآن الأخرى جملة وتفصيلا.

وإذا كانت الشرعة وفق الراغب تعني الطريق العام الذي يمر منه الماء من أعلى إلى أسفل، فالمنهج بالتالي هو المسلك الذي يسلكه الماء في طريقه إلى مصبه متجاوزا بذلك كافة العقبات التي تعترض طريقه. وبذلك يكون الله تعالى قد شرع لعباده كافة دينا واحدا سماه الإسلام، لكنه وضع لهم مسالك مختلفة فيما له علاقة بطقوس العبادة وبعض أحكام الشريعة، كل حسب اختلاف زمانه وتنوع استعداداته، ليبلوهم جميعا فيما آتاهم كما توضح ذلك نفس الآية بجلاء: (ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما أتاكم) المائدة: ٤٨.

وهو ما فهمه الصوفية بالعمق المطلوب، فعبروا عنه بما يفيد، أن الطريق إلى الله واحدة هي الصراط المستقيم، والتي يمضي عبرها الخلق كافة طوعا أو كرها ما دام الله ماسك بناصية عباده ولا هروب لهم منه إلا إليه.. أما المسالك فهي بعدد أنفاس الخلائق.. ومثل ذلك عندهم كمسافر في بحر بلا شاطئ، تتقاذفه رياح الأهواء وتيارات المسارات، ولا يملك إرادة التحكم في مسيره إلا بقدر ما له من حرية التحكم بأنفاسه.

وهذا يعني أن الإنسان إذا فقد حريته فقد كرامته وقيمته، وأصبحت تجربته الأرضية بلا معنى في حال صادر لصوص الدين إرادته، وفرضوا أنفسهم أوصياء على عقيدته، فيتحول الدين بالتالي من رحمة ونعيم إلى عذاب وجحيم.

ذلك أن الإنسان باعتباره كائن تاريخي سجين الزمن الدائري، جاء إلى العالم بمحض إرادته، بعد أن شهد على نفسه في عالم الدر بربوبية الله له، وقبل حمل أمانة التكليف طوعا لا كرها.. وبالتالي، فلا يمكنه والحال هذه أن يفهم نفسه والعالم الذي يعيش فيه إلا من خلال تجارب الحياة التي تمثل الاختبار الموضوعي الذي على أساسه يكون الخلاص من عدمه. وبهذا المعنى، فالإنسان ليس مشروعا جاهزا مسبقا، بل مشروع في حالة تخلق دائم إلى أن يصل إلى درجة الكمال بالعلم والمعرفة والتجربة، وهذا هو معنى قول الله تعالى للملائكة يوم خلق آدم (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون) البقرة: ٣٠.

لهذا السبب نجد الإنسان البدائي في طور التخلق يعيش الحيرة والضلال، فيفضل الهروب نحو الماضي في محاولة للاقتداء بدين الآباء والأجداد خوفا من المجهول القابع وراء الموت، وهو المعطى الذي ركز عليه القرآن بشكل لافت في أكثر من آية وسياق، كوقله تعالى: (وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون) الزخرف: ٢٣. وقوله أيضا: (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون) البقرة: ١٧٠.

أما بالنسبة لمن لا يعقلون لأنهم لا يتدبرون القرآن من عامة المسلمين اليوم، فنجدهم ينحون نحو التراث للبحث عن نماذج وأنماط من التجارب جاهزة يستوردونها لمواجهة الظروف الموضوعية التي يعيشون فيها، أملا في أن يهتدوا بها إلى فهم واقعهم المعقد وتجاوز شروط زمانهم الصعبة والمتغيرة باستمرار، ما أدى إلى سوء فهم الدين والدنيا معا، بسبب أن العلاقة بين تراث الماضي ومستجدات الواقع الآني علاقة متغيرة في الزمان والمكان، وهذا المعطى الموضوعي يفرض على الإنسان الذي يسعى إلى مفهم واقعه الجديد البحث عن معاني جديدة يفسر بها تجربته المغايرة لتجربة أسلافه، ولا يمكن أن يتأتى ذلك إلا من خلال المعرفة التي يكتسب منها الإنسان فن التأويل لا التقليد.

هذا الهاجس الذي يفرض على الإنسان التوجه نحو الماضي، يجد تبريره في أن الهداية لا تكون إلا بالاقتداء بسنة الرسول والسلف الصالح من بعده. وهنا يبرز السؤال الكبير المسكوت عنه في الثقافة الإسلامية، ومفاده: - هل الهداية مشروطة باتباع سنة الرسول والسلف من بعده؟ ...

الجواب نجده في القرآن واضحا لا لبس فيه، حيث يؤكد تعالى في قرآنه، أن الهداية والضلال مهمة تكفل الله تعالى بها شخصيا، لقوله: (الله أنزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد) الزمر: ٢٣. وبذلك قطع الطريق على الكهنة ولصوص الدين من أن يعبثوا بعقول وقلوب المؤمنين بزعم هداية الناس إلى الدين القويم. بل حتى الرسل لم يكلفهم الله بهداية البشر، وحصر مهمتهم في التبليغ عنه مبشرين ومنذرين لا أكثر ولا أقل. بدليل قوله تعالى: (رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما) النساء: ١٦٥. وقوله لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم في شأن طلب الهداية لعمه عبد المطلب الذي دعمه في فجر الدعوة وحماه من بطش قريش: (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين) القصص: ٥٦، وقوله له أيضا بصريح العبارة: يا محمد (إنما أنت منذر ولكل قوم هاد) الرعد: ٧، وهو ما يؤكد أن دور الرسول (أي رسول) يقتصر على تبليغ رسالة ربه إلى عباده وفق ما يعطيه مصطلح رسول من معنى، فيما يبعث الله لكل قوم هاديا ينير لهم الطريق، وهو الدور الذي يقوم به الإمام الصالح حين يكون وليا من أولياء الله، لذلك قال ابن خلدون (الناس على دين ملوكها)، يتأثرون بهم أكثر مما يتأثرون بالقرآن. وهو الأمر الذي دفع الخليفة الثالث لإطلاق مقولته الشهيرة "يزع الله بالسلطان ما لا يزع بالقرآن".. والمقولتان تفيدان الإكراه بالقهر، فيما الآية تشير إلى دور الإمام العادل والولي الصالح في هداية القوم بإذن الله دون قهر ولا إكراه.

والحقيقة التي سعى القرآن لإقرارها بشكل واضح لا لبس فيه، تختلف عن تلك التي عمل الفقهاء على الترويج لها من خلال وضع منظومة دينية تفسيرية وتشريعية مغلقة بزعم هداية الناس من الضلال، فيما رؤية الله تعالى للإنسان تقوم على أساس مساعدته على فهم ذاته وإدراك المغزى من تجربته والوعي الكامل بدوره في حياته بحكم مهمة التكليف المنوطة به. وقد وهبه تعالى المعرفة الأولية (الفطرية) لمساعدته، والعقل المفكر ليتدبر أموره بمنطق وعقلانية، بالإضافة إلى النص المقدس الذي جعله تعالى نورا يسترشد به الإنسان في دروب الحياة المظلمة، وجعل الجهاد سبيله للوصول إلى الحقيقة بما يعنيه "الجهاد" من بذل للجهد والمجاهدة في مجال العلم والمعرفة، والجهاد هو غير القتال، لأن الحقيقة لا ترك إلا بالجهاد الفكري على ضوء نور الوحي لفهم متغيرات الواقع، وهو ما يفرض على الإنسان بدل الجهد العقلي والمجاهدة الوجدانية ليحصل له الفهم، لأن العالم لا يكشف نفسه للإنسان إلا من خلال عمليات لا تنتهي من التفسير والتأويل، وهذا أمر يتجاوز عقلية فقهاء الرسوم وما أنتجوه من موروث بكثير.

وهو ما أشار إليه ابن عربي بما مفاده، إن الممكنات كلام الله، كما أن القرآن كلامه، وبذلك يكون للكلام الإلهي مستويين: مستوى الكلام الوجودي الذي يتجلى في ظهور أعيان الممكنات، ومستوى الكلام اللغوي الذي يتجلى في النص القرآني (الفتوحات المكية: ٢ / ٤٤٨)، ويشرح ابن عربي هذا الطرح في موضع آخر بالقول: "اعلم أن الممكنات هي كلمات الله التي لا تنفذ، وبها يظهر سلطانها الذي لا يبعد، وهي مركبات لأنها أتت للإفادة، فصدرت عن تركيب يعبر عنه اللسان العربي بلفظ (كن)، فلا يتكون منها إلا مركب من روح وصورة، فتلتحم الصور بعضها ببعض لما بينها من المناسبات.. والمادة التي ظهرت فيها الكلمات هي نفس الرحمن، ولهذا عبر عنه بالكلمات" (الفتوحات المكية: ٤ / ٨٥).

ما قاله ابن عربي عن كلمات الله في الرق المنشور الذي هو الكتاب، وتطابقها مع صور العالم الذي هو كتاب الله المنظور، حقيقة يؤكدها الله تعالى بقوله: (لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفذ البحر قبل أن تنفذ كلماته ولو جئنا بمثله مددا) الكهف: ١٠٩، وقوله أيضا: (ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفذت كلمات الله). والقرآن يسمي عيسى كلمة الله، ومعنى ذلك، أن المتصوفة لم يغالوا كثيرا – كما يحلو لخصومهم القول – حين نظروا للوجود مثل هذه النظرة التي تربط بين أجزائه وتوحد بين عناصره (نصر حامد أبو زيد – إشكالية القراءة وآليات التأويل – ص: ٨٦ – ٨٤).

غير أنه وبسبب الصعوبة التي واجهت المسلمين في التعاطي مع النص المقدس في كليته، من منطلق الرؤية الوحدوية للحقيقة في إطلاقها، والتي تتفرع منها مختلف الحقائق الجزئية التي نسميها "حقائق نسبيّة"، انقسمت الأمة إلى فريقين، فريق يستند إلى المأثور على أساس تجميع الأدلة التاريخية واللغوية التي تساعد على فهم النص فهما موضوعيا كما فهمه الأوائل خلال مرحلة التنزيل، وهؤلاء هم أهل السنة والجماعة. وفريق يستند إلى معطيات الواقع ويجتهد في إيجاد تفسيرات لها لدعم موقفه المسبّق منها بآليات التأويل، مثل ما كان يفعل المعتزلة والأشاعرة زمن الحروب الكلامية.

ومهما يكن من أمر، فمجرد القول بأن فهم السلف هو الفهم الموضوعي المقبول كما يزعم أصحاب منهج النقل والبيان، يحوّل النص المقدس إلى نص تاريخي مغلق غير صالح لكل مكان وزمان، لأن الوصول إلى المعنى الموضوعي للنص القرآني أمر يفوق طاقة الباحث عن الحقيقة مهما بلغ علمه، لكن منهج أصحاب العقل والبرهان أعطى للمؤوّلة حرية أكبر في الاجتهاد وفتح الباب واسعا على معاني جديدة يساير بعضها تطور الواقع فيقبلها العقل، نقول بعضها، لأن الحقيقة غاية بعيدة يدرك كل إنسان طرفا منها ولا يدركها كلها لاستحالة الإحاطة بها في شموليتها، وعلى هذا استقرت الثقافة الإسلامية في مجال التأويل (نصر حامد أبو زيد – إشكاليات القراءة وآليات التأويل – ص: ١٨٧).

ونفس الأمر يمكن أن يقال بالنسبة للشريعة، والتي يلاحظ أن أهل السنة والجماعة لم يكونوا على قلب رجل واحد في فهمها، فانقسموا إلى مذاهب ومدارس، كل يدلو بدلوه فيها، لا على أساس القرآن والسنة فحسب، بل وذهبوا بعيدا في الاجتهاد بالرأي والقياس لوضع منظومة تشريعية مغلقة تصلح لقومهم وللأجيال التي ستأتي من بعدهم، وقالوا بإغلاق باب الاجتهاد. وهو تطاول غير مشروع يرفضه القرآن الذي جاء لإسقاط حجيّة السنة التي استعملها لصوص الدين لتحريف التوراة والإنجيل واستبدال رسالة السماء بمنظومة كهنوتية تحولت إلى بديل مُشوّه عن الدين. وهو ما يطرح معضلة العلاقة بين النص والواقع من جهة، والظروف الموضوعية التي تم فيها التشريع، خصوصا إذا كان التشريع ينتمي لواقع عصر قديم مغاير لواقع العصر الجديد.

ولعل أجمل ما يعبر مجازا لكن بالعمق المطلوب عن حقيقة الأصل الواحد للشريعة، هو قوله تعالى: (أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية او متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الارض كذلك يضرب الله الامثال) الرعد: ١٧.

هذه الآية المدهشة تختصر تجربة الإنسان في الزمن الأرضي بشكل بليغ، لأنها تشبّه الشريعة بالمطر (الماء) الذي ينزل من السماء (والسماء تعبير مجازي عن أم الكتاب)، وتشبه الرسالات بـ "الأودية" التي تسيل بقدرها عبر العصور والدهور، وفي كل مرة كان الكهنة يستغلون السيل (الوحي) لينتجوا منه زبدا رابيا (سننا وحقائق وهمية) ينسبونها إلى رسلهم ابتغاء منفعة ذاتية أو خدمة لمصلحة فانية، وفي كل مرة كان الله يضرب الحق والباطل ليذهب الزبد جفاء ويمكث في الأرض ما ينفع الناس بإظهاره للحقيقة. وهذا تعبير دقيق عما يحصل من فتن (الزبد) كلما استبدل الناس رسالات السماء بسنن رسلها، وفي كل مرة كان الله يتدخل ليظهر الحق ويزهق من خلال تصحيح ما طرأ على شريعته من تزوير وتحوير وتبديل وتغيير. ونزول القرآن قطع على تجار الدين الطريق من كل جهة، لأنه ولأول مرة وضع الله كلماته بين أيدي الناس ليتدبروها دون وسيط وأمرهم بالقراءة، ووعدهم أنه هو من سيتولى بيان معاني آياته لكل من تتلمذ على يده في مدرسته لقوله تعالى (ثم إنا علينا بيانه) القيامة: ١٩، وقوله أيضا: (ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل ربي زدني علما) طه: ١١٤، ولم يقل "شيخي زدني علما". وهو ما أكده الرسول صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع لأمته كافة فردا فردا بقوله: (تركت فيكم ما إن استمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا، كتاب الله).

والحقيقة أن هذا المثال الرائع الذي ضربه تعالى لعباده في الآية ١٧ من سورة الرعد، يبرز جوهر المعنى الذي نتحدث عنه، إذ يميز بين الحق والباطل، بين اللب والقشور، بين الظاهر والباطن، بين الزبد الذي يذهب جفاء والجوهر الذي ينفع الناس، والجوهر هنا هو الحقيقة الإلهية الكامنة في سننه التي أودعها تعالى في الكون والخلق والتاريخ، والتي لا تدرك أسرارها الخفية إلا بنور الإيمان والمعرفة الدائمة المستمرة من وحي كلامه، شريطة الالتزام بثوابت الشريعة الإلهية الواحدة والشاملة. لأن الشريعة هي بوابة العبور إلى الحقيقة الباطنة، وهذا هو معنى أن ولوج عالم الباطن لا يكون إلا من بوابة الظاهر كما يؤكد الصوفية.  

وقد كان هذا التشابه في أصول الشريعة بين الرسالات، هو الذي دفع العقل الظاهري القريشي المغلق لاتهام محمد صلى الله عليه وسلم بأنه كان يأخذ قرآنه عن اليهود والنصارى لقولهم (إنما يعلمه بشر)، فدحض الله تعالى هذا الافتراء بقوله: (وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق للذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين) يونس: ٣٧. وهو ما يؤكد أن القرآن ليس كتابا مختلفا ومنفصلا عما سبق من رسالات، بل هو جامع ومكمّل لها وفق ما يعطيه المعنى اللغوي لكلمة "قرآن"، والتي تفيد المستقر (البحر) الذي يجتمع فيه الماء من كل حدب وصوب بعد أن ينزل من السماء ويسلك سبلا عديدة ومسالك مختلفة، الأمر الذي يدحض قول بعض الفقهاء بأن القرآن قد نسخ ما قبله من شرائع. وهذا هو المعنى الدقيق والعميق الذي يعطيه المثال الذي ضربه الله لعباده في سورة الرعد آية: ١٧. بحيث ينتهي المطر بعد مروره بالأودية المختلفة إلى البحر. والبحر هنا هو القرآن الكريم كما أسلفنا القول.

وإلى نفس المعنى ذهب الدكتور محمد عابد الجابري في كتابه (مدخل إلى القرآن الكريم – ص: ١٧٧) حيث أشار إلى أن العلاقة القائمة بين الكتاب (القرآن) وكتب أهل الكتاب ليست علاقة مطابقة، بل هي علاقة شراكة، فجميع هذه الكتب منزلة ومتفرعة من أصل واحد هو "أم الكتاب"، وتعدد النسخ بسبب تعدد الأمم وتعاقبها عبر مختلف الأزمنة يجعل ما يصلح في بعض التفاصيل لقوم في زمان لا يصلح بالضرورة لأقوام آخرين في أزمنة أخرى مغايرة بحكم سنن التطور والتغيّر والتبدّل. وبالتالي، فالفروق على مستوى الطقوس والأحكام من رسالة إلى أخرى، لا يجعل الشرائع مختلفة على مستوى الأخلاق والمقاصد والغايات، فالله تعالى منزّه عن العبث.

إلا أن التطور الذي تحدث عنه الجابري كما تؤكد ذلك الحقائق التاريخية، لا يعني الرقيّ نحو الأحسن مع الأسف، لأن التحريف الذي طرأ على شريعة موسى عليه السلام من قبل أحبار اليهود باسم "السنة" تحديدا، هو الذي جعل الله يبعث برسوله عيسى عليه السلام ليصحح ما أحدثه الكهنوت من تخريب في الدين، ونفس الشيء يقال عن شريعة عيسى الذي ظل يتحدث على لسان ارجال الدين لفترة طويلة بعد وفاته، فبعث الله برسوله محمد صلى الله عليه وسلم ليصحح ما طال الإنجيل من تزوير، وحيث أن من كان يقوم بالتحريف هم رجال الدين الأوصياء على العقيدة، فقد قرر تعالى وضع حد نهائي لهذا العبث، فوضع بين أيدي الناس نسخة نهائية منقحة جامعة ونهائية مأخوذة من "أم الكتاب" سماها القرآن، جمع فيها أصول الشريعة كلها، لتكون الفرقان بين الحق والباطل، وليكون بمقدور الناس العودة إليها في كل وقت وحين لاستيضاح ما استشكل عليهم من أمور دينهم ودنياهم، وأعلن بشكل صريح لا لبس فيه أن لا وصاية لأحد على عقول الناس وقلوبهم، وأن الله حرم كل وساطة بينه وبين عباده، فلا كهنوت في الإسلام بعد القرآن.










ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق