بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 25 أبريل 2022

الفرق بين الزمـن الكوني والزمن القدساني (2/2)

 

الزمن القدساني مدى سرمدي ليس له بداية ولا نهاية

مفهوم الزمنى القدساني

الزمن القدساني فمفهوم مجازي للإشارة إلى المدى اللامتناهي حيث ينتفي الزمن بالشكل الذي اعتدنا عليه في الحياة الدنيا.. إنه عالم الخلود والأبدية. هذا العالم حيث الجنة والنار لم يخلقه الله بعد قياسا بالزمن الكوني النسبي، لكن ذلك لا يعني أن الزمن القدساني غير موجود ما دام هناك فضاء ما وراء البزخ حيث تعيش الملائكة، وفيه تستقر الأنفس في الأجداث في انتظار البعث، وما دام القرآن كما سبقت الإشارة يتحدث عن تبدّل السماوات غير السماوات والأرض غير الأرض بعد النفخة الأولى في الصور، وتسمى "نفخة الفزع" أو "نفخة الصعق" إيذانا بقدوم الساعة التي على إثرها يحدث الانفجار العظيم الثاني، فتنشق السماء، وتنفطر، وتُطوى السماوات كطي السجل للكتاب، وتزلزل الجبال فتنسف وتصبح كالعهن المنفوش، فيموت الناس والملائكة والمخلوقات جميعا ولا يبقى إلا وجه ربك ذو الجلال والإكرام.../...

هذه الأحداث الكونية العظيمة هي الفاصلة الفيزيائية بين نهاية الحياة الدنيا وبداية الحياة الآخرة التي يبعث الله فيها الأنفس كنفس واحدة ليقضي بينها بالعدل عند النفخة الثانية، فيُعطى كل إنسان صحف أعماله، وينال على ضوئها الجزاء أو العقاب الذي يستحقه وفقا لما ما قدّمت يداه في الحياة الدنيا، لقوله تعالى: (كل نفس بما كسبت رهينة) المدثر: 38. 

والسؤال الذي يطرح بالمناسبة هو: - ما الفرق بين الزمن الكوني والزمن القدساني؟

الواضح أن الفرق يكمن في الجمل الفيزيائية التي هي عبارة عن حقب تاريخية معيّنة بالنسبة للأحداث الأرضية والكونية بالمعنى الأفقي، الكمي، الكرونولوجي، والظاهري من جهة.. ومراحل ما فوق تاريخية بالمعنى العمودي، النوعي، الداخلي، والباطني المحجوب.

هذا الكلام يمكن فهمه في إطار الآيات القرآنية التي تتحدث عن خلق السماوات والأرض والأحداث الكونية الكبرى التي جرت قبل خلق الإنسان، والتي يختلف حساب تاريخها القدساني عن حساب التاريخ الأرضي النسبي المختلف أيضا عن التاريخ الكوني.. كما يمكن فهمها في إطار ما يتحدث عنه القرآن من أحداث ما وراء تاريخية ستمهد لقيام الساعة، وكذا ما سيحدث يوم البعث، يوم يتحدد مصير كل إنسان إما إلا السعادة الأبدية أو الخلود في الشقاء.

ويمكن فهم ذلك أيضا في إطار الفلسفة النبوية التي ترفض التاريخانية بالمفهوم الغربي الذي لا يعترف بالأحداث إلا حسب تراتبيتها الكرونولوجية وعلاقتها بالشروط التاريخية والزمنية كما هي من الناحية الواقعية على الأرض من جهة، والوقائع ما فوق تاريخية التي حدثت في الفضاءات الروحانية أو ما يسمى بعالم الدّر والأنوار العلوية من جهة أخرى.. وهو ما يقودنا حكما إلى تصنيف الأحداث إلى نوعين: أحداث تاريخية تدخل في مجال الظاهر.. وأحداث فوق تاريخية تدخل في مجال الباطن.

 

ولعل أول من فرّق بين الزمنين بالمفهوم الواقعي الظاهر والمفهوم الغيبي الباطن هم الإسماعلية الذين قالوا بأن الحقائق الأبدية المتخفّية في الباطن تمثل الرسالة الحقيقية المشتركة بين اليهودية والمسيحية والإسلام، وأنه تم حجب هذه الحقيقة عن الديانة التوحيدية الإبراهيمية من قبل الفقهاء، بالرغم من تركيز القرآن عليها من ناحية العقيدة التوحيدية الواحدة، وحديثه عن شرائع ظاهرية مختلفة حسبما تقتضيه الظروف المُتغيّرة لقوله تعالى: (وأنزلنا اليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما انزل الله ولا تتبع اهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما اتاكم فاستبقوا الخيرات الى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون) المائدة: 48.

هذا النظام الفكري المعرفي الذي طوّره الإسماعيليون يتوافق ما الحقائق القرآنية لأنه يتميّز بالشمولية ويقوم على مكوّنين رئيسيين هما: التاريخ الدوري للوحي، والعقيدة الكونية مع مفهوم الخلاص الأساسي فيها. وهو ما يقود الباحث عن الحقيقة كما يقول هنري كوربان في تعليقه على ذلك، إلى البحث عن المعنى الحقيقي للنصوص القرآنية في أم الكتاب، أي بإعادة ظاهر الآيات كما وردت في القرآن الكريم إلى معناها الباطني الذي يوجد في أم الكتاب من خلال التأويل، لأن أم الكتاب هي "الكلمة الإلهية المستورة تحت غطاء الظاهر" لقوله تعالى: (هو الذي انزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب واخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله الا الله والراسخون في العلم يقولون امنا به كل من عند ربنا وما يذكر الا اولوا الالباب) آل عمران: 7. 

وواضح أن ما تضمنه القرآن الكريم من آيات محكمات مصدرها أم الكتاب كما يؤكد تعالى، أما المتشابهات فلا يمكن فهمها إلا بإعادتها إلى أصلها الأول وفق المنهجية التي أوصى بها تعالى في قرآنه، أي إلى الآيات المحكمات بدل تأويلها بما لا تحتمل ابتغاء الفتنة، وبالتالي، فالتأويل لا ينفع بين المتشابهات بل يعمل به بين المتشابه والمحكم، لكن هناك صعوبة في معرفة الآيات المحكمات من المتشابهات كما يشهد بذلك تاريخ الكلام بين المعتزلة والأشاعرة، لذلك أشار تعالى إلى أن الراسخون في العلم وحدهم لهم القدرة على فهم الظاهر والباطن لإيمانهم أنهما من عند الله وأنه لا يمكن تفسير الظاهر بمعزل عن الباطن كما يفعل فقهاء الرسوم. وهذا يعني أن الراسخون في العلم لا يكتفون بالوعي لكل ما هو تاريخي، بل يحوّلون هذا الوعي لما يوجد ما وراء التاريخ، أي يحوّلون المعرفة من وعي تاريخي ظاهري إلى وعي باطني ينتمي إلى المجال القدساني، أو بمعنى آخر تحويل الوعي من الواقعة التاريخية المجردة إلى فلسفة التاريخ لاستنباط الحكمة الكامنة فيها.

يشرح هنري كوربان في مؤلفه تاريخ الفلسفة الإسلامية هذا الأمر بالقول: "هذه الوقائع لها حقيقة الأحداث التي تحدث في التاريخ بالمعنى العادي. وهي في المقابل ليست وقائع تتمتع بعينية العالم والأشخاص الطبيعيين الذين يملؤون كتب التاريخ.. لكنها وقائع روحانية بالمعنى الدقيق للكلمة تكتمل فيما وراء التاريخ". أي أن الأمر لا يتعلق بما يحدث في عالم "الملك فحسب" بل له ارتباط وثيق بوقائع أخرى لا تُرى إنجازها واكتمالها إلا على الأرض السماوية أو ما يعرف بـ "عالم الملكوت"، وهو العالم الحقيقي والواقعي للروح كما رسمه فلاسفة الإشراق في مؤلفاتهم، ويقصد بذلك تلك "التمثلات المنظمة في فكرة دور الولاية والنبوة" كما صاغها الفكر الاثنا عشري عموما وقبله الفكر الإسماعيلي على وجه الخصوص استنادا إلى الفلسفة النبوية كما وضع أسسها العلمية الإمام علي كرم الله وجهه.

فبالنسبة للفكر الإسماعيلي، تتمثل المهمة الأساسية لمفهوم التاريخ القدساني في فهم مدى استقلالية هذا التاريخ السماوي عن مفهوم التاريخ الأرضي العادي، الأمر الذي يميّز الوقائع الروحانية التي تقع داخل "الحادث الديني" عن كل ما يسجل تاريخيا عن هذا الحادث في إطار المؤسسات اللاهوتية، وهي دعوة صريحة للخروج من التاريخانية الإنسانية المريضة إلى عالم التاريخ القدساني "الماورائي"، ما دام ما يحدث في هذا الـ "ما وراء التاريخ" هو الذي يحدد مسار الأحداث، ما يؤكد أن الله تعالى هو صانع التاريخ وموجهه الوجهة التي يرضاها.. وهذا هو معنى قوله تعالى: (ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها) هود: 56، وقوله أيضا: (وما تشاؤون إلا أن يشاء الله) الإنسان: 30. ولهذا السبب كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (شيّبتني هود وأخواتها)، لأنه كان يقوم بالعمل ولا يعرف إن كانت نتائجه من حيث الواقع ستوافق مشيئة الله فينال رضاه أم لا، الأمر الذي يؤكد أن من يتحكّم في صنع الأحداث والتاريخ ليس الإنسان بأفعاله بل الله بمشيئته.

إن الفكرة الأساسية التي تقوم عليها الفلسفة النبويّة وفق العرفان الإسماعيلي هي "الغربة" وليس الخلاص من الخطيئة الأولى كما تقول العقيدة الكنسية، لأن المشكلة الأساسية للإنسان تكمن في الوعي بأسباب غربته ووسائل عودته إلى منزلته الأولى كما خلقه الله في عالم الدر والأنوار العلوية قبل قدومه لخوض التجربة الأرضية وفق ما يستفاد من آية الميثاق (الأعراف: 172).. 

يقول هنري كوربان في هذا الصدد: "إن الذين لا يريدون هذه العودة، أولئك يقبعون في هاوية بلا أمل. ولكن الذين يبحثون عن الطريق سيجدونه في العرفان، في اكتشاف المعنى المستور للإيحاءات النبوية، في التأويل الذي يحكم ولادتهم الروحانية". 

وهي دعوة صريحة للمعرفة من خلال ولوج عالم باطن الوحي من بوابة ظاهره، والفلسفة النبوية بشكل خاص، تمنح الباحث عن الحقيقة فرصة الانتقال بين هذين العالمين: عالم الظاهر وعالم الباطن، وسر انتقال الروح من عالم الملك إلى عالم الملكوت.

أما الفرق بين الزمن الدنيوي والزمن القدساني فمن الاستحالة قياسه، لذلك أورد تعالى بعض الأمثلة في القرآن الكريم من باب تقريب المعنى، وهي أمثلة تتحدث عن العمر الذي قضاه الإنسان في الدنيا مقارنة بالوعي الذهني للزمن يوم بعثه. يقول تعالى في هذا الصدد:

- (َيَتخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا – أي عشرة أيام -، نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا) طه: 103- 104. 

- (قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ، قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ) المؤمنون: 112 - 113 

- (يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا.. كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا) النازعات: 42-46

يفهم من الآية الأولى أن الفئة الأولى من البشر سيتهيأ لها يوم البعث أنها عاشت في الحياة الدنيا 10 أيام، غير أن أمثلهم طريقة وفق القرآن، كان الأقرب إلى الحقيقة حين قال: "إن لبثتم إلا يوما"، ما يعني أن الحياة الدنيا مهما طال عمر الإنسان فيها لا تعدو عن كونها يوم واحد فقط لا غير.

أما الآية الثانية فتتحدث عن أقوام عاشوا أقل من قوم آدم ونوح فبدى لهم أنهم قضوا في الحياة الدنيا يوما أو بعض يوم. 

أما الآية الثالثة فيفهم منها أن هناك من الأقوام من عاشوا أقل من الفئة الثانية، فتهيأ لهم يوم البعث أن ما عاشوه في الحياة الدنيا لا يعدو عن كونه عشيّة أو ضحاها.

وبموازاة هذه الفئات الثلاثة، هناك فئة رابعة عاشت في المرحلة الأخيرة من عمر البشر على الأرض، فبدى لها أن أمد الحياة في الدنيا لم يكن سوى ساعة مقارنة بالزمن القدساني يوم البعث.. ومثال ذلك قوله تعالى:

- (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ) الأحقاف: 35

- (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ) يونس: 45

- (ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون، وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) الروم: 55 – 56

وواضح أن الذي يثير الانتباه في الآيات السالفات هي العلاقة التي يقيمها الحق سبحانه وتعالى بين الزمن الدنيوي والزمن القدساني، وذلك من خلال المعاني التالية:

- المعنى الأول: أن الحياة الدنيا وإن طال أمد عيش الإنسان فيها لا تعدو عن كونها يوم فقط لا غير مقارنة بالزمن القدساني حسب الإدراك الذهني للإنسان يوم البعث.

- المعنى الثاني: أن من عاش في الحياة الدنيا مئات السنين سواء من الفئة الأولى أو الثانية من البشر سيدرك يوم البعث أن ما عاشه حقّا لم يتجاوز بعض يوم أي بضع ساعات من اليوم فقط. 

- المعنى الثالث: أن الذي عاش أقل من مائة سنة من الفئة المتأخرة من البشر سيدرك يوم البعث أن عمره الحقيقي بمفهوم الزمن القدساني لم يتجاوز ساعة من نهار.

والعجيب أن ما يستفاد من كل هذه الأزمنة مجتمعة، أن الحياة الدنيا في تقدير الخالق مجرد يوم ينتهي بالفناء، وأن الحياة الآخرة في تقدير العليم الحكيم هي أيضا مجرد يوم لكنه يوم أبدي وسرمدي لا نهاية له.

مما سلف نخلص إلى أن هذا التقدير القرآني للزمن، وإن بدى مستحيل القياس الفيزيائي، إلا أنه يشير إلى حقيقة واضحة جليّة مؤداها، أن الحياة الدنيا باختلاف العمر الذي يعيشه الإنسان فيها (1.000 عام أو 70 عاما) لا تعدو مقارنة بالزمن القدساني أن تكون يوما أو بعض يوم (عشية وضحاها) بالنسبة لمن عاشوا مئات السنين، وساعة بالنسبة لمن لم يتجاوز متوسط عمرهم 70 سنة. أما اليوم في الزمن القدساني فسرمدي وأبدي، وعليه يقاس حينها الزمن الدنيوي بالإدراك الذهني فقط لا بالحساب الفيزيائي لانتفاء الزمن بالمفهوم الكوني. 

وعلى هذا الأساس نستطيع القول إن الإنسان خلال مساره الوجودي يعيش يومان، يوم في الحياة الدنيا ينتهي بالموت خلال ساعات أو ساعة، ويوم في الحياة الآخرة لا نهاية له أبد الآبدين، وهذا هو معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم "الناس نيام فإذا ماتوا استفاقوا". 

أما أين سيعيش الإنسان أبديّته باعتباره كائن خالد؟.. فالأمر متروك لإرادته وحرية اختياره خلال مرحلة التجربة الدنيوية، أي أن الإنسان أُعطي مهلة تفكير قصيرة جدا ليقرر المصير الذي سينتهي إليه بعد موته.. إما السعادة وإما الشقاء. 

وعلى هذا الأساس هل يمكن الجزم مع الفيزيائيين بأن الزمن هو مجرد وهم بسبب عدم وجود الوقت نظرا لعدم وجود حجم للكون يمكن القياس عليه حسب نظرية النسبية الخاصة التي قال بها العالم آينشتاين؟

الصوفية من جهتهم، وقبل آينشتاين، اعتبروا الوقت مجرد وهم لأنه من نسج خيال الإنسان، وهو ما أكدته الفلسفة الحديثة حين قالت بأن الوقت هو مجرد تصور ذهني لا حقيقة له، وأن والسّرّ يكمن في الخيال.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق