بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 11 أبريل 2023

الفرق بين الخلود والأبديّة بعد الموت.. (2/1)

 

(وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)

- العنكبوت: 64 -

تمهيـــد:

هناك اعتقاد روّج له السّلفيوّن مفاده أن الإنسان بعد الموت تذهب روحه إلى البرزخ في انتظار البعث والحساب للجزاء أو الثواب يوم القيامة، وأن الميّت المُؤمن لا يشعر بالزمن في قبره، تماما كما هو الحال بالنسبة للنائم الذي يستيقظ ولا يعرف كم من الوقت استغرق نومه. أما الكافر فيُعذّب في قبره بسبب ما اقترفه من ظلم في حق نفسه ومن جرائم في حق غيره، فيتمنّى لو يُسمح له بالعودة إلى الحياة الدنيا ليتدارك ما فاته من توبة وعمل صالح، لكن دون جدوى ما دام قد سبق أمر الله "بأنهم لا يرجعون".../...

والسّلفيّون عموما يعتقدون بوجود نعيم القبر وعذابه، فيقولون مثلا، إن المؤمن تنعم روحه في البرزخ وينال جسده بعض النعيم في القبر، أما الكافر فروحه تُعرض على النار لتنال نصيبها من العذاب في البرزخ فيما يتعذب الجسد في القبر، ولتأكيد فكرة وجود عذاب القبر يستشهدون بالآية رقم: 46 من سورة غافر لقوله تعالى: (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ). 

كما أن هناك عديد التُراثيّين من أهل السّنّة والجماعة يروّجون لفكرة أن جميع البشر سيمرّون فوق النار يوم القيامة على صراط مستقيم أحدّ من السّيف وأرقّ من الشّعرة، ويستشهدون على ذلك بقوله تعالى في الآية 66 من سورة مريم: (وإنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا) مريم: 71. وقوله أيضا: (وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَٰكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) السجدة: 13. هذا بالرغم من أن الصراط المستقيم يقال للطريق الموصل إلى الله الذي يتبعه الإنسان في الدنيا ويتمثّل أساسا في القرآن، وبالتالي فلا علاقة له بحدّ السّيف ولا برقّة الشّعرة. 

أمّا ما قيل عن ورود النار في الآيتين السّالفتين فلا يشمل العموم لقوله تعالى في الآية 66 من سورة مريم: (وإن منكم) أي ليس كلّكم، بل فقط الكافرين منكم الذين حادوا في الحياة الدنيا عن الصراط المستقيم، لأنه إذا كان مفتاح الفهم في الآية الكريمة هي كلمة "ورد" فإن بقيّة الآيات التي ورد فيها هذا المصطلح في القرآن الكريم تعني التخصيص لا التعميل لقوله تعالى: (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَٰرِدُونَ) الأنبياء: 98. وقوله تعالى في شأن فرعون: (يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ ۖ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ) هود 98. وبالتالي، فإن كانت الآية 66 من سورة مريم من المحكمات لما جاء فيها من تعميم التبس فهمه على المفسّرين، فإن منهج تفسير القرآن بالقرآن يهدينا للمعنى الحقيقي المقصود بالخطاب الإلهي من خلال البحث عن الآيات المشابهات بواسطة الكلمات المفتاح المشتركة بينها، أي "النار" و "ورد"، ليتبيّن أن الله تعالى لم يقصد ورود المؤمنين والكافرين على النار سواء في الآية 66 من سورة مريم كما زعم المفسّرون القدماء، بدليل أنه في الآيتين 98 من سورة الأنبياء أشار إلى المشركين الذين يعبدون غير الله، وفي الآية 98 من سورة هود أشار إلى فرعون وقومه.

أما قوله تعالى: (وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَٰكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) السجدة: 13، فلا يعني أيضا العالمين بل فقط من حق عليهم القول أي الحكم، لأن الخطاب هنا موجّه لرسوله الكريم محمد عليه السلام، يخبره من خلاله بقراره القطعيّ بملأ جهنّم بالمشركين من قومه وغيرهم من أهل الكفر والمعاصي سواء أكانوا من الجنّة أم من النّاس أجمعين، وأجمعين تشمل المشركين والكفّار في كل مكان وزمان سواء قبل محمد عليه السلام أو بعده. 

وخلاصة القول، أن هناك إصرار عجيب من قبل السّلفيّين خاصّة (إلا من رحم الله) على إشاعة الكذب على الله ورسوله عليه السلام، لزرع الرعب في قلوب الناس من خلال تصوير الرحمن وكأنه كائن مخيف لا يرحم، همّه الإمعان في تعذيب عباده الأموات بالنار، والاستمتاع بمعاناة عباده الأحياء مع الخوف والقلق. وبمثل هذا الإرهاب الفكري الذي يزخر به إسلامهم المُزوّر، نجحوا أيّما نجاح في تنصيب أنفسهم حرّاسا للعقيدة، فحوّلوا الأغبياء الذين صدّقوهم إلى كائنات مسحورة، بلا عقل، أضلّ من الأنعام، فاقدة للحرية والإرادة، معميّة البصر، مطموسة البصيرة.

ولأن الله تعالى لا يحاسب أحدا بذنوب غيره، فإن اتّباع الناس لدين السّلفيّين وسُنّة التراثيّين بدل دين الله وشريعة السماء لن يعفيهم من المسؤولية أمام الله يوم الحساب، ولن تُنقذهم شفاعة كائن من كان حتى لو كان الرسول عليه السلام من المصير الذي ينتظرهم، ذلك أن الله لم يُنزّل الكتاب للفقهاء خاصّة بل للناس كافّة لقوله تعالى عن خطابه الكريم (هَٰذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ) آل عمران: 138، ومعنى ذلك، أنه ليس بخطاب جديد بل قد خلت سنّة الأولين فسيروا في الأرض فانظروا كيف كانت عاقبة المكذّبين وعاقبة من أعرضوا على رسالات السماء واتّبعوا سنن الإباء والأجداد، فلا عذر لأحد إن هو هجر الوحي واتّبع تراث السّلف لقوله تعالى: (قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ فِي النَّارِ ۖ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا ۖ حَتَّىٰ إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَٰؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ النَّارِ ۖ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَٰكِن لَّا تَعْلَمُونَ) الأعراف: 38. 

هذه الآية الكريمة تفيد أن مصير المُفترين على الله يوم القيامة لن يختلف عن مصير أتباعهم الذين كذّبوا بآياته وصدّقوا ما روّج له السلف غير الصالح من أضاليل، بحيث سينالون مثلهم ضعف العذاب، ومن جهلهم أنّهم لا يعلمون ذلك قبل موتهم، لأن العلم بالشيء لا يكون بالانصياع الأعمى لمن نصّبوا أنفسهم حرّاسا للعقيدة، بل يكون باليقظة من حياة الغفلة وتنمية الإدراك بولوج مدرسة الله ليتعلّم الإنسان على يد المعلّم الأكبر من كتابه حقيقة دينه وما ينفعه في دنياه وآخرته بدل اتباع غيره من الأولياء لقوله تعالى: (اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ ۗ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ) الأعراف: 3... أليس الله هو من علّم بالقلم علّم الإنسان ما لا يعلم من خلال الوحي الذي لم ينقطع بين السماء والأرض ولن ينقطع إلى أن تقوم السّاعة ما دام الله تعالى يوحي للنحل والنمل والحجر والشجر والبشر؟ وهو تعالى القائل عن قرآنه: (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ) القيامة: من 16 إلى 19. ما يفيد أنه هو من سيبيّن للباحث عن الحقيقة معاني آياته، وذلك عن طريق الوحي لقوله: (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ) طه: 114. وعليه فيجب أن يكون الإنسان أعمى البصر والبصيرة ليدير ظهره للمعلّم الأكبر ويسعى لمعرفة الحقيقة من شيوخ يدّعون أنّهم علماء فيما ليس لهم من العلم إلا التّسمية.

والحقيقة أن هناك إسلامان: إسلام القرآن وإسلام المجتمع، وهذا الأخير هو مُجرّد نسخة مزوّرة عن إسلام القرآن، ابتدعها رجال الدين منذ عصر بني أمية على الأقل. بدليل أنه في الموضوع الذي نحن بصدده، كلّما حاولنا فهم عقيدة الناس من طريقة تفكيرهم وما استقرّ في وعيهم الجمعي من مُسلّمات توارثوها من ثقافة القبور، إلا واكتشفنا أن هناك سوء فهم كبير لمصير الإنسان بعد الموت وطبيعة العوالم التي سينتقل إليها.

وبمقارنة ما روّج له التراث عن الإسلام من أضاليل باسم سُنّة ابتدعها رجال الدين ونسبوها لرسول الله وهو منها براء من جهة، وما جاء به القرآن الكريم من حقائق لا يضحضها الباطل من حيث أتى من جهة ثانية.. نكتشف حجم الخلط الفظيع الذي لدى الناس حول المفاهيم الدينية، وسببه الأساس كما هو معلوم هجران المسلمين لكتاب الله والركون إلى ما أنتجه الشيوخ من موروث أصبح كجدار يريد أن ينقضّ، وقد آن الأوان للحسم معه لاستحالة إقامته من خلال ترميمه، بسبب أن لا علاقة له بالقرآن من حيث المضمون، ولا بالرسول الكريم من حيث التشريع، لأن الأمر بالنهاية يتعلق بإسلام مزوّر، لا يقبله عقل ولا يرتاح له قلب لما يحمله من تناقض حد التعارض في الأحكام ومزالق شركيّة في المفاهيم، خصوصا إذا علمنا أن التشريع مجال من اختصاص الله تعالى لا يشاركه فيه أحد من البشر حتّى لو كان نبيّا أو رسولا. هذا علما أنه عزّ وجلّ لم يبعث رسوله بقرآنه للشّيوخ خاصّة بل للناس كافّة حتى لا يتحوّل الدين إلى كهنوت كما حصل مع اليهودية والمسيحية اللّتان طالهما التزوير بسبب ما ابتدعه حاخامات اليهود ورجال الدين المسيحيين من سنّة نسبوها لرسلهم. وكون الله تعالى أنزل القرآن وتعهّد بحفظه فليقطع الطريق بذلك عن تجار الدين حتّى لا يُضلّون الناس بأحاديث مبتدعة، ودليل ذلك قوله تعالى: (تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ ۖ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ) الجاثية: 6. 

لذلك، وقبل الخوض في موضوع "الفرق بين الخلود والأبديّة بعد الموت" أو "أسرار الحياة بعد الموت" لإعادة الأمل لقلوب المؤمنين من عباد الله الطيّبين، سيكون من المفيد تصحيح بعض المفاهيم الدينية انطلاقا من القرآن الكريم والعلم، نظرا لأن معاني عديد الكلمات تختلف من حيث المفهوم القرآني والعلمي مع المعنى اللغوي والدلالة الاصطلاحية التراثية.

من حيث المفاهيم:  

البرزخ ليس عالما قائما بذاته بين الحياة الدنيا والحياة الآخرة، بل هو مجرد حاجز بين عالمين، عالم الشهادة وعالم الغيب، مثله مثل سور يحجب عالم الملك عن عالم الملكوت. وبالتالي، فالحياة بعد الموت لا تكون في البرزخ كما روّج لذلك البعض، بل في "عالم الذّرّ" المحجوب عنّا بستار البرزخ، وهو عالم لا مكان فيه للقبور ولا للأجساد الميّتة، بل فقط للنفوس، حيث تعيش فيه الخلود بلا إرادة تسمح لها بالتصرّف على هواها كما كان حالها في الحياة الدنيا، لأن قانون عالم الملكوت يختلف كلّيا عن قانون عالم الملك. 

وسُمّي بعالم "الذر" لاشتقاق المصطلح من "الذرّة" التي تعتبر أصغر وحدة خلقها الله على شكل خليّة تحمل في نواتها جسيّم له طاقة من نور تتحوّل إلى مادّة حينا وطيف ضوئي أحيانا وفق ما هو ثابت علميّا من ملاحظة تصرف الفوتون. وبهذا المعنى، فتحوّل النفس بعد الموت إلى ذرّة مردّه أن الله تعالى حين أراد خلق الأنفس قبل الأجسام، أخبرنا أنه أقام قيامة أولى أحضر فيها كل الأنفس البشرية من أوّل الخليقة إلى آخرها من دون أجسام، أي أنه حشر أنفس البشريّة جمعاء في حضرته على شكل ذرّات من نور قبل خلق أجسامهم المادية، فأشهدهم على أنفسهم لقوله:

- (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ) الأعراف: 172.

ومعلوم أن مصطلح "ذُرِّيَّتَهُمْ" الوارد في الآية الكريمة أعلاه هو أيضا مشتق من الجذر "ذرّة"، ونفس الشيء يقال كذلك عن النفس التي خلقها الله تعالى من "ذرّة" كما يوضّح القرآن، أي من خلية أولى انقسمت ثم تكاثرت فانتشرت لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً) النساء: 1. والبث يعني الانتشار في الأرض. ويشار إلى أنه لا وجود في ذلك لتعارض يذكر بين العلم والدين، بل هناك تطابق تام.  

ذلك لأن "الذّرّة" بالتّعريف العلمي هي الخليّة التي تحتوي في نواتها على الصبغيات التي توجد فيها الجينات الوراثية التي تنتقل من كائن بشري إلى آخر، بالإضافة إلى شيفرة الغرائز الطبيعيّة المشتركة بين جميع المخلوقات، وشيفرة الفطرة التي كتبها تعالى في سجلّ تكوينها مباشرة بعد أن أدت النفوس شهادتها حضوريا أمام الله حيث اعترفت بربوبيته لها وفق ما تؤكده الآية 172 من سورة الأعراف، وهو الأمر الذي يفهم منه أن النفس خلقها الله قبل الجسد وجعل لها قلب تعقل به لقوله تعالى: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا) الحج: 46، وجعل لها أيضا فؤاد (المخّ) الذي هو بمثابة كومبيوتر تميّز به الأشياء عن طريق الحواس التي توجد جميعها في الرأس من سمع وبصر وغيرهما، فيحلّل المخّ المعلومات ثم يمدّها للنفس التي تتخذ القرار في نهاية الأمر، لقوله تعالى: (قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۖ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ) الملك: 23. وبفضل ما وهبها الله تعالى من أدوات وقدرات أصبحت النفس الواعية والمسؤولة أمام الله، وما كان ينقصها هي الروح (أي الطاقة) التي تبث فيها الحياة لتتمكّن من التصرّف بحرّيّة والاختيار بإرادة بمُجرّد أن تحلّ في الجسد المادي، وللإشارة فإن الروح ليست من مكونات الإنسان بل من أمر الله تعالى ولا سلطة للإنسان عليها.

لهذا السبب تحديدا لم يأمر تعالى رسوله والمؤمنين من بعده بأن يشهدوا أنه "لا إله إلا الله"، لأنهم سبق وأن شهدوا بذلك قبل مجيئهم إلى الحياة الدنيا وفق ما تؤكّده الآية 172 من سورة الأعراف من جهة، ولأن الشهادة من حيث المصداقيّة لا تكون بالغيب من جهة ثانية. وباتّباعهم لما جاء به الرسول الخاتم عليه السلام يكونون قد تجنّبوا الغفلة التي حذّر منها تعالى في آية الميثاق المذكورة أعلاه. 

والذين يتحجّجون بقوله تعالى: (شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) آل عمران: 18، إنما يلوون عنق الحقيقة بنوع من التّعسّف في التفسير لإخضاع المعنى لما استقرّ في أذهانهم من مفهوم خاطئ حول الشهادة، فالله في هذه الآية الكريمة شهد بنفسه وليس على نفسه أنه قائم بالقسط، أي بالعدل، واستدلّ على ذلك بشهادة الملائكة أيضا بالإضافة إلى العلماء خاصّة منهم الذين يدرسون كتاب الله ويعلمون علم اليقين أن ما جاء فيه هو الحق من الله وأن الله ليس بظلاّم للعبيد. ولو كانت هذه الشهادة تعني الإقرار بوجود الله وحدانيته لذكر الرسل والأنبياء مع شهادته وشهادة الملائكة بدل العلماء، وكونه لم يفعل فذلك يعني أن الشهادة هنا لا علاقة لها به بل بعدله، ولو كانت تتعلق به لما صحّت، لأن الشهادة الصحيحة لا بد فيها من العلم بالمشهود به، بمعنى أن الشاهد لا بد أن يكون عالماً بمضمون شهادته، وإلا فإن الشهادة بجهل فيما يشهد به لا تصح، ما يعني أن العلماء لا يمكنهم إلا أن يشهدوا بعدل الله بما علموه من أحكام تضمنتها آيات التشريع في القرآن الكريم.

ومردّ ذلك، أن الشهادة لا تقام إلا حضوريا، شريطة أن يكون صاحبها قد عاين الحادثة التي سيشهد بوقوعها وفق ما يعطيه المفهوم اللغوي والقانوني والديني لمصطلح الشهادة، بحيث لا تقبل شهادة بالسماع أو بالإخبار ممّن لم يحضر بنفسه الواقعة ورأى الحادثة بأمّ العين، وحتى لا يتحجّج الإنسان يوم القيامة بنسيانه لشهادته أمام ربّه، بعث تعالى الرّسل ليقطع الطريق على الناس من كل جهة لقوله: (رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) النساء: 165. وبهذا المعنى، فرسالة السماء جاءت لتذكير الناس بشهادتهم أمام الله بربوبيته لهم، وتبشير من يعمل بمقتضاها بالخير والأمن والطمأنينة والرضى في الحياة الدنيا ونعيم الجنة في الآخرة، وإنذار من يغفل عنها بالقلق والشك والحيرة والضّيق في الحياة الدنيا والعذاب الهون في الآخرة. 

من هنا يفهم سبب عدم طلب الله تعالى من عباده بأن يشهدوا بربوبيته لهم في فاتحة الكتاب، بل طلب منهم أن يقولوا (الحمد لله ربّ العالمين) لتذكيرهم بميثاقهم مع ربّهم وطلب العون منه ليهديهم صراطه المستقيم حتّى لا يكونوا من المغضوب عليهم ولا الضالين في الدنيا فيخسروا أنفسهم في الآخرة. ولو يعلم الإنسان سّرّ التسبيح الذي يحمله قول (الحمد لله رب العالمين) لما طلب من الله شيئا، ولأكثر في صلاته ودعائه وتسبيحه من حمد الله وشكره حتى يرضى، فإذا رضي الله على عبده أغدق عليه خير الدنيا وضمن له نعيم الاخرة.

ويشار بالمناسبة إلى أن القرآن لا وجود فيه لشيء اسمه "الشهيد" كما يفهمه الناس من ثقافة القبور، بمعنى أن الذي يموت في سبيل الله لا يعتبره الله شهيدا بل مُضحّيا بنفسه في سبيله فخصّ له تعالى مصيرا مميّزا عنده كما سيأتي تبيان ذلك في سياق هذا المبحث. ذلك لأن الشاهد المشتقّ من "الشهادة" كما سبق وأن شرحنا مفهوم المصطلح أعلاه، هو من سيختاره تعالى من بين عباده المُتّقين الذين يجاهدون بالقرآن لنشر كلمة الله بالحق بين الخلق، والشهداء بالمفهوم القرآني هم من سيبعثهم الله من أمة محمد عليه السلام يوم القيامة ليشهدوا على عصرهم وقومهم ويكون الرسول شهيدا عليهم جميعا من أول الأمة إلى آخرها، وهنا أيضا يأخذ مصطلح "شهيد" نفس معنى "شاهد" كما هو واضح من الآية الكريمة التالية: (وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَٰكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ۗ) البقرة: 143. وشهادة الرسول ستكون على من بلّغ رسالة ربّه المتمثلة في القرآن، ذلك أن كل من تدبّر القرآن وبلّغ ما فتح الله عليه من فهم إلى الناس إلا واعتبر رسولا يستحقّ شهادة الرسول الخاتم محمد عليه السلام يوم القيامة. أما بالنسبة لمن تركوا القرآن وراء ظهورهم واتّبعوا سنّة السّلف الذي لم يكن كلّه صالحا، فسيشهد فيهم الرسول عليه السلام بقوله: (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا) الفرقان: 30. (فتأمّل...)

وحيث أن الله تعالى يقول: (مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍۢ وَٰحِدَةٍ) لقمان: 28، الأمر الذي يؤكّد بما لا يدع مجالا للشك مرة أخرى، أن أول ما خلق الله تعالى هي النفس التي جعل لها موعدا بالدّور لتحلّ في الجسد المقدّر لها خوض التجربة الدنيوية فيه لقوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ ۗ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ) الأنعام: 98، بمعنى أن كل نفس ستنزل للحياة الدنيا بالدور والأجل، ونزولها سيكون أولا في الرحم "المستقرّ" الذي سيتشكّل فيه جسدها المُعبّر عنه بـ "المستودع" بلغة القرآن، والذي عند اكتماله سيتحوّل إلى جسم ينبض بالحياة مُؤهّلا لمساعدة النّفس على خوض تجربتها الدنيوية في العمر المقدّر لها ثم العودة بعد ذلك إلى ربّها لتقدّم له الحساب على ما اكتسبته في حياتها. 

وبالتالي، فكما خُلقت النفس من ذرّة فكذلك ستغادر عالم الملك لتعود إلى عالم الملكوت كذرّة حيث ستعيش حياة الخلود في النعيم المعنوي أو العذاب المعنوي من دون جسم في انتظار البعث والحشر والحساب النهائي يوم القيامة، حينها وحينها فقط سيُلبسها ربُّها جسمها الجديد الذي يصلح لأن تعيش فيه الأبديّة في النعيم المقيم أو العذاب الدائم، وهو بالقطع مختلف عن جسم الدنيا لأن من خصائصه المميّزة أنه لا يمرض، ولا يشيخ، ولا يموت، ولا يتحلّل، بل ولا يتعب ولا ينام أيضا لعدم وجود حركة تولّد الزمان في الدار الآخرة بعد القيامة كما هو الحال مع تعاقب الليل والنهار في الحياة الدنيا، ما دام الناس سيكونون في الحياة الآخرة في فضاء مختلف ينتفي فيه الزمان كما عرفوه في الحياة الدنيا، وهذا هو معنى الأبديّة.

أمّا بالنسبة للفرق بين الخلود والأبدية، فالخلود هو المرحلة التي ستعيش فيها النفس حياة ثانية في عالم ما وراء البرزخ إلى يوم البعث، أي أنها مرحلة محدودة تدوم ما دامت السماوات والأرض فقط، لتنتهي حتما بالنفخة الأولى في السور حيث يحل الفناء بكل شيء ولا يبقى إلا وجه ربّك ذو الجلال والإكرام.. أما الأبدية فتعني المدى السرمدي اللامتناهي حيث ينتفي الزمن الكوني فلا يوجد لا ماضي ولا مستقبل بل فقط الآن، أو إن شئت قلت اليوم المستمر من دون تعاقب اللّيل والنّهار، ويبدأ مباشرة بعد الحساب يوم القيامة في أرض جديدة، الجنة فيها بعرض السماوات والأرض كما أخبرنا تعالى في قرآنه.  

ومعلوم أن اليوم عند الله لا يقاس بالزمن النسبي، بل بالحادثة الفيزيائية لقوله تعالى "يوم تقوم الساعة" و"يوم البعث" و"يوم الدين" و"يوم القيامة" وقس على ذلك ما ذكره في التنزيل الحكيم عن أيّام الحادثات الفيزيائية الكبرى التي لا تخضع للزمن بالمقياس البشري الأرضي ولا الكوني، ومثال ذلك قوله: (وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا) الحاقة: 6 – 7. وقوله في نفس الواقعة: (إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ) القمر: 19. 

والحقيقة أنه لا وجود للتناقض أو الاختلاف بين الآيتين إلا بالنسبة لمن يبحث عن المعنى من ظاهر الكلام دون أن يكلّف نفسه عناء التدبّر بالغوص في الباطن حيث جواهر المعاني، ذلك أنه في الآية الأولى ذكر تعالى أن الريح الصرصر العاتية التي أهلكت قوم عاد استمرّت سبع ليال وثمانية أيام بمفهوم الزمن النسبي الأرضي، أما في الآية الثانية فيقول أن الأمر يتعلّق بنفس الريح الصرصر العاتية التي أهلكت قوم عاد في يوم واحد بمفهوم الزمن القدساني، ما يعني أن الواقعة بالنسبة للناس تقاس بالأيام والليالي، أما بالنسبة لله فتقاس بالحادثة الفيزيائية بغض النظر عن مدتها، لذلك قال أنه كان "يوم نحس" ثم أضاف إليه كلمة "مستمر" التي تعني الاستغراق في الزمن النسبي دون أن يحدد مدته التي لا تعني الله في شيىء، مثلها مثل كل الأحداث التاريخية التي ذكرها الله في كتابه فلم يشر إلى أزمنة وقوعها بل اكتفى فقط بالتركيز على الموعظة التي يمكن استخراجها منها، ومردّ ذلك، أن القرآن الكريم لا يهتم بكرونولجيا الأحداث، لذلك تجد مثلا النبي محمد أو عيسى أو موسى أو إبراهيم وغيرهم مذكورين في أكثر من آية وسورة في سياقات مختلفة دون ترتيب منطقي، ما يجعل المتدبّر للقرآن يجمع كل الآيات التي تتحدث عن نفس الموضوع ليستطيع رؤية الصورة الكلية فيفهم المراد من خطاب الله على الوجه الأصح ما دام القرآن يفسّر بعضه بعضا، بدل التركيز على الصورة الجزئية كما كان يفعل فقهاء الرسوم، وعندما لم يفهموا المراد من بعض الآيات لجأوا  إلى ثرات اليهود عساه يساعدهم في فهم ما استعصى عليهم، وهذا هو السبب الذي جعل تفاسيرهم تطفح بالعجائبي والغرائبي أو ما يسمّى بالإسرائيليات، لدرجة أنهم عند حديثهم مثلا عن عذاب الجسد في القبر، تجاهلوا أن الجسد من دون نفس لا يشعر ولا يحسّ، بل ولا يصمد في القبر أكثر من سنة ونصف إلى سنتين ليتحلّل ويندثر فلا يبقى منه إلا الهيكل العظمي الذي يحتاج لأربعين سنة على أقل تقدير ليتحوّل هو بدوره إلى تراب.. فعن أي عذاب في القبر يتحدث المفترون؟.. والمصيبة أنّهم ولإقناع الجهلة من الناس يزعمون أن عذاب القبر يدخل في باب "المعلوم من الدين بالضرورة"، لأن الرسول عليه السلام حدث به حسب البخاري ومسلم وغيره، وقال "إن الحمار والكلب يسمعون عذاب الميت في قبره". وبمثل هكذا زعم يسيئون من حيث يدرون أو لا يدرون لله ويكذبون على رسوله، لهم من الله ما يستحقّون.

يتبـــع...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق