بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 6 أبريل 2023

نظرية الأكوان المتعدّدة بين العلم والدين.. (2/1)

 

(الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن)

 - الطلاق: 12 -

تمهيـــد:

إنها لحقيقة مدهشة أن يكتشف الإنسان في كلّ مرّة يتدبّر فيها القرآن الكريم ما يزخر به هذا الإمام العظيم من مخزون المعاني الجميلة، وكنوز الأسرار البديعة التي لا تنتهي إلا لتبدأ أخرى فيما يشبه السّباحة المُمتعة في بحر بلا شاطئ.. وكأن القرآن الذي وصفه تعالى بقوله: (وكتاب مسطور * في رق منشور) الطور: 2 – 3، ما هو في حقيقة الأمر إلا مرآة تعكس أكثر من صورة للحقيقة الواحدة التي أودعها جلّ جلاله في "اللوح المحفوظ" لقوله: (بل هو قرآن مجيد * في لوح محفوظ) البروج: 21-22.. وهذا هو معنى الواحد الكثير الذي تتجلّى رؤيته للخلق بالحق في أكثر من صورة، والكثير الواحد الذي تعبّر كل صور الوجود مجتمعة عن أحاديته.../...

هل لكل إنسان سبعة توائم يعيشون في سبعة أراضين؟ ... 

سؤال قد يبدو غريبا وفي غير محلّه من وجهة نظر أصحاب العقول الجامدة الذين يختزلون الحقيقة في وجهة نظرهم المغلقة، وهو ما لا يقرّه التنزيل الحكيم الذي يتضمن عديد الإشارات التي تحيل إلى آفاق رحبة من المعاني التي لا يستوعبها العقل الظاهري الذي يتّخذ من القشور مبلغ علمه، الأمر الذي يحتّم علينا تدبّر آيات الله لمعرفة إن كان ما يقوله تعالى عن تعدد الأكوان يفهم منه أيضا وجود توائم لكل منا يعيشون حيوات أخرى في أراض غير الأرض وتحت سماء غير السماء لتكتمل مسيرة تنويرنا وتطهيرنا قبل يوم القيامة رحمة من الله بنا وفق ما يقتضيه علمه ومبدأ عدله.

نقول هذا ما دام العلم أيضا يشير إلى أن التعريف الصوفي الوارد في التمهيد أعلاه لا يتعلّق بالخلق المادي للسماوات والأرض فحسب، بل وينطبق ايضا على الإنسان بسبب تعدد الصور التي ركّبه الله تعالى فيها لقوله: 

- (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَك * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ) الانفطار: 6 – 7 – 8.

وللإشارة، فالآيات 6 و7 من السورة أعلاه وإن كان يقصد بها مراحل خلق الإنسان الثلاثة المتمثلة في: - خلق الجسد من طين. - تسوية النفس التي ستسكنه. - نفخ الروح التي ستبعث فيه الحياة ليكتمل تقويمه. إلا أن الآية 8 من نفس السورة تشير إلى أن الله تعالى له القدرة المطلقة لتركيب الإنسان في الصورة الجسدية التي يشاء، سواء في مرحلة الخلق الأولى أو بعدها، بحيث، ولأسباب تتعلّق بالعدالة الإلهية كما سيأتي توضيح ذلك، قد تتحوّل هذه الصورة الجسدية من بشريّة إلى حيوانية. ودليل ذلك يستنبط من الآيات التالية على سبيل المثال لا الحصر:

- (وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاء إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) النور: 45. 

- (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) الأنعام: 38.

- (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا) الإسراء: 44.

- (وإذا الوحوش حشرت) التكوير: 5.

وعليه، فالآيات الأربعة الواردة أعلاه تفصح عن الحقائق التالية:

أن كل المخلوقات بما في ذلك الإنسان خلق تعالى أجسامها المادّية من ماء وفق ما يؤكد في الآية 38 من سورة الأنعام. أما الأنفس، فبرغم كثرتها إلا أنه تعالى خلقها من نفس واحدة وخلق منها زوجها لقوله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء) النساء: 1. وبذلك، فالله الذي لا يعجزه شيىء في الأرض ولا في السماء يرد على المشركين زعمهم باستحالة بعث الله للأنفس على كثرتها يوم القيامة بقوله: (مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ) لقمان: 28.

أن كل الدواب من غير الإنسان التي وهبها الله الحياة في السماوات والأرض تعبد الله وتسبّح بحمده بسبب الإيمان الذي أودعه في فطرتها والرزق الذي يسره لها لتهدي إليه بغريزتها، وإن كنّا لا نفقه تسبيحها لكننا نشهد على الطريقة التي تكسب بها رزقها، كما أشار تعالى إلى ذلك في الآية 44 من سورة الإسراء. كما ونعلم من خلال تدبّر آيات الذّكر الحكيم أن تسبيح الدّواب يعني السجود، أي الطاعة والخضوع والامتثال لسنن الخلق وقوانين الكون وعدم الخروج عنها.

ويشار هنا إلى أن المفسّرين القدماء اختلفوا في تفسير الآية 38 من سورة الأنعام والآية 5 من سورة التكوير، فذهب معظمهم بما في ذلك حبر أهل السنّة والجماعة وجدّ العبّاسيين "ابن العباس" الذي يعتبر مرجعا في تأويل المستشكل من القرآن الكريم إلى القول: "إنّ كلمة حشرت تعني ماتت"، وهو المعنى الذي لا يتساوق مع السياق ولا يحتمله مصطلح "الحشر" بالمطلق، بسبب أن القرآن لا يقبل الترادف، وبالتالي، لا يمكن لمصطلح قرآني أن يحمل أكثر من معنى لغوي مهما اختلف المبنى، وعلى هذا الأساس فالحشر لا يمكن أن يعني شيئا آخر غير "الجمع يوم البعث" كما يعطي ذلك المصطلح في أصل معناه.

وهو ذات المعنى الذي ذهب إليه ابن جرير الطبري، لكنه مثله مثل بقية المفسّرين انتهى إلى القول أن الدواب سيحشرها الله يوم القيامة ليحاسبها على ما اجترحته من ظلم في حياتها ثم يميتها، وقد برّر ترجيحه لموتها بعد جمعها يوم الحشر لعدم ورود حديث عن النبي عليه السلام يوضّح الهدف من ذلك، ففضل عدم الخوض في الموضوع واستند في تفسيره على ما يعطيه الظاهر من مجاز، الأمر الذي لا يليق به باعتباره ليس مفسّرا عاديا بل أحد كبار العلماء في الفقه والتاريخ وعميد المفسرّين في كل زمان ومكان، ومرجعا للمستشرقين والدارسين للقرآن الكريم من مسلمين وغير مسلمين. واختلافنا مع المعنى الذي ذهب إليه المفسّرون عموما مردّه أن الله تعالى منزّه عن العبث ليحشر الدواب يوم البعث فيحاسبها على ظلمها ثم يميتها والله تعالى يقول إن الدواب هي أيضا تعبد الله وتسبّح بحمده، ووصفها في الآية 38 من سورة الأنعام بأنها أمم أمثالنا.

والسؤال الذي يفرض نفسه في هذا السياق هو:

- إذا كانت الدّواب من طيور وحيوانات باختلاف أنواعها وأشكالها سيحشرها الله يوم القيامة، فهل سيحاسبها على كفرها أو إيمانها وما كسبته في الحياة الدنيا من خير أو شرّ ثم يميتها كما ذهب إلى ذلك عديد المفسرين القدماء، بالرغم من أن الدواب وإن كانت تسبّح لله مثلها مثل كل ما خلق الله في الكون بما في ذلك الجبال والأشجار وغيرها... منعدمة الإرادة وتتصرّف وفق ما تمليه عليها غرائزها البدائية؟

- وأي حساب هذا الذي لا يعرف غير عقاب الحيوانات الظالمة دون أن يفي الحيوانات الطّيبة ثوابها؟.. وما فائدة أن يحيي الله تعالى الدواب الميّتة ليحاسب الظالم منها ثم يميتها ويعيدها إلى التراب؟.. هل يليق هذا التفسير بالعدل الإلهي؟.

شرعية السؤال تأتي من منطلق أنّ الله تعالى وصف الدواب بأنها "أمم" أمثالنا كما سبقت الإشارة، والمثل من حيث الخلق يقتضي التشابه حدّ التّطابق في بعض عناصر التكوين الأساسيّة وإن اختلفت الصّور التي خلقنا الله بها في الحياة الدّنيا.. ذلك لأن الحيوان لا يستطيع العيش إن لم يكن لديه روح تمدّه بالطاقة مثله مثل الإنسان، لأنه لا يمكن الفصل بين الروح والحياة ما دامت الروح هي الطاقة الكهربائية التي تتحكم في عمل الأعضاء الداخلية والخارجية للجسم، لأن الروح وكما هو ثابت تعتبر كمبدأ محرّك لكنه غير متحرّك، بمعنى أن الروح هي الطاقة التي تُحرّك كافة الأعضاء لكنها لا تتحرك من تلقاء نفسها بسبب ما أودع الله فيها من أوامر تحكمها وتنظّم عملها في المدى المقدر لها المكوث فيه في الجسد، وهذا هو معنى قوله تعالى:  (ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربّي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) الإسراء: 85. 

كما أن للحيوان "نفس" باعتبارها موطن الغرائز مثله مثل الإنسان، إلا أن نفس الحيوان تتميّز بأنها نفس حسّيّة لا إدراكيّة لافتقارها لملكة العقل الذي ميّز به الله تعالى الإنسان عن غيره من الدواب. وبالتالي، فلا يعقل أن تكون هناك جنة في الآخرة من دون حيوانات، لأن الحيوانات التي تعرف الله بالفطرة التي أودعها فيها وتُسبّح له في حياتها لا بد وأن تنال جزاء وثواب ما تقترفه في حياتها في حدود ما أودع فيها تعالى من تكليف. ودليل ذلك قوله تعالى: 

- (يوم ندعو كل أناس بإمامهم) الإسراء: 71.

وكون أن الله تعالى ذكر في الآية الكريمة أعلاه مصطلح "إمام" المشتق من "أمم"، فالسؤال الذي يفرض نفسه هنا هو التالي: 

- هل يمكن تمثيل وتشبيه الرسل والأنبياء وأقوامهم بأمم الحيوانات كالبهائم والطيور لقوله تعالى في الآية 38 من سورة الأنعام (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ)؟ .. وهل قوله تعالى: (ثم إلى ربهم يحشرون) ينطبق على الدواب كما على البشر أيضا؟

لا شك في ذلك، وإذا كان الأمر كذلك، فإن ما تعطيه الكلمات من معاني ظاهرية لا بد وأنها تختزن في كيميائها لغزا غريبا لا بد من الوقوف عنده لمحاولة معرفة كنه، وذلك لقوله تعالى:

- (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ) البقرة: 65.

- (فَلَمَّا عَتَوْا عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ) الأعراف: 166.

- (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللَّهِ مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضَلُّ عَن سَوَاء السَّبِيلِ) المائدة: 60.

وعليه، فإذا كانت الآيات الكريمة المذكورة أعلاه تتحدث عن مصير فئة من اليهود، فهذا لا يعني أن جنس اليهود تناسل من القردة والخنازير، لأن الممسوخ هو من مسخه الله فبدّل صورته من الصورة البشريّة التي خلقه عليها أوّل مرّة إلى الصورة الحيوانية التي أراد أن يركبه فيها عقابا له، وبذلك فالله عز وجل لم يجعل لمسخ نسلاً أبدا. وبالتالي، فبخلاف ما ذهب إليه البعض فإن اليهود ليسوا أبناء القردة والخنازير، لأن من مسخهم الله عقابا لهم في الدنيا هم بعض من آبائهم بسبب عصيانهم وطغيانهم وتكبّرهم واستعمالهم للنفاق والمكر والحيل مع الله تعالى ونكثهم لعهدهم مع ربّهم وفسادهم في الأرض.

وطبيعي والحال هذه أن يحشر الله هؤلاء الممسوخين ليحاسبوا الحساب الأكبر يوم القيامة حتى لو ماتوا في الحياة الدنيا على صورة قردة وخنازير، لأن ما تغيّر في حقيقة الأمر هو صورة أجسادهم أي "المستودع" (بلغة القرآن) الذي انتقلت إليه نفوسهم في الحياة الدنيا وماتوا على الهيأة التي مُسخوا عليها، أما النفس فماهيتها لا تتبدّل ما دام الله تعالى قد كلّفها وجعلها مسؤولة أمامه لتقدم له الحساب يوم الدّين.

- فماذا يعني هذا الكلام؟ ...

الحقيقة أنه وفق الآيات السالفة، فالحديث هنا، ومن دون مواربة، هو عن "التقمّص" الذي أيّد حقيقته علماء مسلمون كبار من أمثال ابن سينا، وابن القيّم الجوزية تلميذ ابن تيميّة، والإمام الشعراني، وسعد التفزاني، والإمام أبو حامد الغزالي وغيرهم. و"التقمص" هو الذي قالت به المعتقدات القديمة كـ "البرهمانية" الهندية و "البوذية"، وهو نفس المعتقد الذي تؤمن به أيضا طائفة الموحدين الدروز في لبنان وسوريا وفلسطين المُحتلّة، مع ضرورة التفريق بين "التقمّص" و "الاستنساخ" نظرا للفرق القائم بين المصطلحين، ذلك أن التقمص لا يكون إلا بين البشر من خلال انتقال النفس من جسم آدمي إلى جسم آدمي آخر، فيما التناسخ هو انتقال النفس من جسم آدمي إلى جسم حيواني. لكن هذا المعنى الأخير يختلف في حالة الأكوان المتعددة حيث يصبح التناسخ هو المعنى المناسب لوجود أكثر من صورة لنفس الشخص.

ومعلوم أن الفكرة الأساسية التي يقوم عليها مبدأ التقمّص أو التناسخ، هو تحقيق العدالة الإلهية بالنسبة لما قد يبدو من حيث الظاهر أنه ظلم. فعلى سبيل المثال لا الحصر يقوم أحد المجرمين بقتل طفل بريء فيحرمه من حقّه في عيش تجربته الدنيوية التي خُلق من أجلها بعد أن شهد على نفسه بربوبية الله له في عالم الذر والأنوار العلوية وفق ما تؤكد ذلك آية الميثاق لقوله تعالى: 

- (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ) الأعراف: 172.

والتقمص هو الوسيلة الوحيدة التي تعطي للطفل البريء الذي قتل ظلما وعدوانا إمكانية عيش حياة أخرى يثبت خلالها وفاءه لميثاقه مع ربّه فيُعوّضه فيها تعالى عمّا حرم منه من فرص في الحياة الأولى، ونفس الأمر يقال بالنسبة للمجرم وإن كان في هذه الحالة يتم الحديث عن التناسخ لا التقمص، بحيث يُعطى فرصة أخرى ليعيش في صورة أخرى قد تكون صورة قرد أو خنزير أو غيره ليدفع ثمن جريمته فيتحقق العدل الإلهي في الحياة الدنيا من جهة، ويستحق بذلك رحمة ربّه في الحياة الآخرة من جهة ثانية، ما دام مبدأ العقاب في حياة أخرى يعتبر فرصة ثمينة لتصفير الذنوب قبل القيامة.. خصوصا إذا علمنا أن الحياة الدنيا تعني الحياة الأرضية التي يُعطى فيها الإنسان فرصته الأولى، فيما الحياة الآخرة تعني نهاية دورات الابتلاء (الفرص) وبداية الحياة الأبدية حيث يتحدد المصير إما إلى النعيم أو إلى الجحيم، وبين الحياة الدنيا والحياة الآخرة حيوان (مجموع حياة بلغة القرآن) تحياها النفوس في نفس الدور (الزمن الكوني العام) من خلال سبعة صور متماثلة في الأكوان المتعدّدة التي خلقها الله وجعل لكل أرض سماءها وأخبرنا في الآية 12 من سورة الطلاق أنها سبعة. 

معنى هذا الكلام، أن الإنسان من ساعة خلقه إلى ساعة بعثه سيمر في نفس الوقت بسبعة أدوار عبر التناسخ، بحيث يعيش كل دور بشكل مختلف عن الأدوار الأخرى، فتتوفّر له بذلك 7 فرص ليرقى ويتطوّر بفضلها حتى يبلغ درجة التنوير ويتحوّل إلى إنسان كامل كما أراده الله أن يكون، لقوله تعالى للملائكة الذين استغربوا جعل الله لمن يسفك الدماء ويفسد في الأرض خليفة، فقال لهم: (إنّي أعلم ما لا تعلمون) البقرة: 30. وبذلك أصبح واضحا أن الغاية من تجربة الإنسان الدنيوية تكمن في اكتساب المعرفة لبلوغ التنوير والتطهير.

هذه الحقيقة العجيبة سبق وأن أكّدها ابن العباس بقوله في حديث مشهور رواه أكثر من مصدر نكتفي هنا بذكر ما أورده الطبري في سرحه لقوله تعالى: (وَمِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنَّ) المذكورة في سورة الطلاق: 12 التي انطلقنا منها في هذا المبحث: 

- يقول ابن جرير الطبري في تفسيره: "وخلق من الأرض مثلهنّ لما في كلّ واحدة منهنّ مثل ما في السماوات من الخلق". ويستشهد بجملة أحاديث منها ما حدّثه به عمرو بن عليّ ومحمد بن المثنى، أنّهما رويا عن ثنا محمد بن جعفر، عن ثنا شعبة، عن عمرو بن مرّة، عن أَبي الضحى، عن ابن عباس، أنه قال في شرح قوله تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنَّ﴾ قال عمرو: قال: في كل أرض مثل إبراهيم ونحو ما على الأرض من الخلق. وقال ابن المثنى: في كلّ سماء إبراهيم"، وفي رواية أخرى سأله رجل عن معنى الآية فقال: قد تكفر لو فسّرتها لك، فقال الرجل: أخبرني، فأجابه ابن عباس وقال: سبع أراضين، في كل أرض نبي كنبيّكم، وآدم كآدمكم، ونوح كنوحكم، وإبراهيم كإبراهيمكم، وعيسى كعيسكم إلى أن قال: وابن عبّاس كابن عبّاسكم وهكذا...". رواه البيهقي وغيره.

والحقيقة أنه لا يمكن فهم ما قاله ابن العباس في تأويله الغريب هذا إلا إذا رجعنا إلى ما قاله الشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي عن "الأعيان الثابتة" في "الفتوحات المكيّة". 

تقول الدكتورة سعاد الحكيم أستاذة الفكر الإسلامي والعلوم الصوفية في الجامعة اللبنانية، والتي خصصت الكثير من الوقت والجهد لدراسة فكر محيي الدين ابن عربي في شرحها لنظريته حول "الأعيان الثابتة" ما يلي:

"عبارة (عين ثابتة) مركبة من لفظين: "عين" و "ثبوت"، ويقصد ابن العربي بالعين: الحقيقة والذات أو الماهية كقولك "عين الشيء" أي ماهيته وذاته. أما "الثبوت" فيقصد به: الوجود العقلي أو الذهني" والذي لا يعني الوجود الواقعي والفعلي بالضرورة.

 ومفاد هذا الكلام، أن الأعيان الثابتة هي الصور الأسمائية المتعيّنة في الحضرة الإلهية المسماة بـ "العلمية"، أما الصور التي تظهر بها كمثلات (أي نسخ) في العوالم الخارجية (الأكوان المتعددة) فهي مجرد صور لا حقيقة لها، لأن حقيقة الأشياء كلها توجد في الحضرة العلية لا في عالم المحسوسات الذي تكون فيه معدومة كحقيقة ما دامت لا تمثل إلا صورة أو نسخة من العين الثابتة في علم الله. وقد سبق وأن شرحنا ما يفيد هذا المعنى في بحث بعنوان "حقيقة المادة" نشر على هذا الموقع لمن أراد العودة إليه لمعرفة حقيقة الجدليّة القائمة بين المادة والطاقة بين النشأة والتحوّل.

ويضيف ابن عربي في شرحه لهذه النظرية بالقول، إن "الأعيان الثابتة هي الصور الأسمائية المتعينة في الحضرة العلمية، وتلك الصور فائضة من الذات الإلهية بالفيض الأقدس والتجلي الأول بواسطة الحب الذاتي وطلب مفاتيح الغيب - التي لا يعلمها إلا هو – من حيث ظهورها وكمالها. والفيض الإلهي ينقسم إلى الفيض الأقدس والفيض المقدس:

- الفيض الأقدس: به تحصل الأعيان واستعداداتها الأصلية في العلم الإلهي.

- الفيض المُقدّس: به تحصل تلك الأعيان في الخارج (الأكوان المتوازية) على صورها الجسدية مع لوازمها وتوابعها" (سعاد الحكيم، المعجم الصوفي، الحكمة في حدود الكلمة، الطبعة الأولى – بيروت، دار دندرة للطباعة والنشر: 1981، ص: 831). 

هذا الكلام وفق ما تقول الدكتورة سعاد الحكيم معناه: "أن رؤية ابن عربي للوجود والعدم تتلخص في أن الإنسان له إلى كل من الوجود والعدم وجه، فلا يمكن القول أنه وجد "من عدم مطلق" فهذا محال ما دام أنه موجود كعين ثابتة في الخزائن الرحمانية، أي في علم الله العظيم قبل الخلق، والعدم الثبوتي هو مجرد عدم إمكاني لا عدم محض، وفي ذات الوقت لا يستحيل أن يُنسب الإنسان إلى العدم، ولكنه منسوب إلى ذلك العدم الإمكاني لا المحض، فالعدم الإمكاني عند ابن العربي هو أشبه بحالة وجودية مغايرة للوجود في العالم الذي نحن عليه الآن، فهو الثبوت، أي الأعيان الثابتة المخزونة في علم الله". ويشبه هذا التعريف إلى حد بعيد سيناريو فيلم "ماتريكس".

يقول ابن العربي في هذا الصدد: "ما قال بأن العدم هو الشر إلا من جهل الأمر، إنما ذلك العدم الذي ما فيه عين ولا يجوز على المُتّصف به كون وليس إلا المُحال، فذلك العدم هو الشر المحض على كل حال، وأما العدم الذي يتضمن الأعيان فذلك عدم الإمكان، فهي أعيان تَشهد وتُشهد فهي الشاهد والمشهود في حال العدم والوجود". (الفتوحات المكية، ابن عربي، المجلد الثامن، ص: 126 – 127).

وبقوله هذا يحيلنا ابن عربي إلى معنى ظاهر وآخر باطن، ذلك أن الوجود والعدم مسألة نسبية تطلق على "العين"، وليستا صفتين تتعلّقان بالوجود نفسه ما دام الثبوت أمر وجودي لا عيني فيكون بالتالي نسبي ما دامت الأعيان الثابتة ليست في حقيقة الأمر سوى مرتبة بين الحق في غيبه المطلق، فيما المُثل "النسخ طبق الأصل" هي مجرد فيض إلهي يتجلّى في العالم المحسوس (الأكوان السبعة المتوازية)، وبذلك تكون من ناحية أوّل تنزّل من تنزُّلات الحق من مرتبة بطونه (غيبه) إلى عوالم الظهور، وهذا هو معنى "الفيض الأقدس" الذي يمثل ظهور الحق بنفسه لنفسه من نفسه في صور الأعيان الثابتة. وهي من ناحية ثانية "الصورة" أو "المثل" الثابتة في علم الله المعدوم في العالم الخارجي والذي له الأثر في كل موجود بل هو أصل كل الموجودات. فالله هو الذي يخلق الأشياء ويخرجها من بطونها إلى الظهور، بمعنى، أنه تعالى يخرجها من وجود غيبي لا ندركه إلى وجود محسوس ندركه. وبالتالي فلا وجود لعدم بلغة القرآن الذي استعمل مصطلح "لا شيء" للتعبير عن ما هو غير موجود، ولا وجود أيضا لمصطلح "وجود" في القرآن الكريم لأن لا وجود لموجود في الوجود سوى لله الواجب الوجود وما سواه وهم.

وبذلك يكون ما قاله ابن عباس عن الأراضي السبعة ونسخ الكائنات الموجودة فيها، لا يختلف من حيث الظاهر مع ما قاله ابن عربي في شرحه للفيض الإلهي وطريقة تجليه من خلال الصور من عالم الغيب إلى العوالم المحسوسة أو ما يسمّيها العلم اليوم بـ "العوالم المتعدّدة". 

ويشار إلى أن هذا المعنى لا يخرج عن ظاهرة "التقمّص" أو "الاستنساخ" التي سبق وأن أشرنا إليها، أي تقمّص النفس لأكثر من صورة في العوالم المحسوسة عن طريق استنساخ الأصل من "العين الثابتة"، ما يؤكد وجود أكثر من "مثل" و "صورة" أو "نسخة" تشمل العوالم السبعة جميعها التي خلقها الله تعالى بالحق وسخّرها للإنسان، وهذا هو معنى قوله تعالى:

- (وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِى ٱلْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ ۚ إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَءَايَٰتٍۢ لِّقَوْمٍۢ يَتَفَكَّرُونَ) الجاثية: 13.

وما دام تعالى قد ذكر تسخير السماوات أيضا، فيُفهم من ذلك أنه سخّر كافة الأكوان بما فيها من مجرات وأجرام وشموس وكواكب وأقمار ومخلوقات ومعادن وثمرات وغيرها مما نعلم ولا نعلم للإنسان وفق توازن دقيق لا يعلمه إلا هو، ما يؤكد أن نظرية الأكوان المتعدّدة خلقها الله لحكمة بالغة لا زلنا لا نعلم عنها من الناحية العلمية إلا القليل والقليل جدا فقط. ودليل وجود هذه العوالم المتعدّدة وما فيها من نسخ المخلوقات قوله تعالى:

- (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاء قَدِيرٌ) الشورى: 29.

ويفهم من الآية الكريمة أن هذا الجمع لن يكون إلا يوم البعث لقوله تعالى (وما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة) لقمان: 28. وذلك لما يمثله الخلق من بداية والجمع من نهاية. وقال تعالى إنه يستحيل على الجن والإنس النفاذ إلى الأكوان المتوازية إلا بسلطان لقوله تعالى:

- (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا لا تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ) الرحمن: 33.

وذلك نظرا لما يتطلّبه مثل هذا النفاذ من خلال الانتقال عبر الممرات الدودية من كون إلى آخر من طاقة هائلة تُمكّن المسافر من تجاوز سرعة الضوء كما هو حال ملائكة التدبير لقوله تعالى: 

- (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا) الطلاق: 12.

أما المدة التي يستغرقها نزول وصعود ملائكة التدبير بين الملأ الأعلى والأرض، فقد ذكر تعالى مُدته بمقياس الزمن الأرضي لنكوّن فكرة تقريبيّة عنها، هذا علما أن الملائكة تسافر بين الملأ الأعلى والأرض بسرعة لا يمكن تخيّلها أو قياسها بالحسابات الفلكية المتوفّرة، لكن الله تعالى أعطانا إشارة زمنيّة نفهم بها المسافة بشكل تقريبي لقوله تعالى: 

- (يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاء إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ) السجدة: 5.

وعودة لقضية تعدد المثل والصور بتعدد الأكوان، فالذين يعتقدون بفكرة التقمص يدعمون مذهبهم بالقول، إن ما نراه من ظلم وفقر وجهل وضحايا أمراض وحروب تصيب المستضعفين دون المجرمين قد يبدو للوهلة الأولى ظلم في حقهم والله يقول أنه ليس بظلاّم للعباد، كما أن ما يروّج له فقهاء القشور من أن ذلك يدخل ضمن مقتضيات الابتلاء لا يقبله عقل، لأن المنطق يقول أنه لا يحق أن يعيش إنسان أربع سنوات مثلا ويموت طفلا ليذهب إلى الجنة دون أن يكون له فضل في ذلك ودون أن يعمل مثقال ذرة من خير والله تعالى يقول إن دخول الجنة مرهون بعمل الخير وأن رحمته وإن وسعت كل شيىء إلا أنه لن يكتبها إلا للذين يتّقون ويُزكّون ويُؤمنون بآيات الله (الأعراف: 156) و (غافر: 7). 

وبالتالي، فلا يوجد في القرآن الكريم ما يشير إلى استثناء هؤلاء الأطفال الذين يُقتلون صغارا فيدخلون الجنة دون أن يُقدّموا بين يدي الله ما اكتسبوه في حياتهم الدنيا من أعمال صالحة، ما دام كل ما يحدث للإنسان في الحياة الدنيا وإن كان مُقدّرا في علم الله، إلا أن كسبه يعود على الإنسان نفسه بسبب أنه يتمتّع بالإرادة والإدراك والتمييز وحريّة الاختيار بين الخير والشر، بين الصواب والخطأ، بين الهدى والضلال، بدليل قوله تعالى: (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) الزلزلة: 7 – 8، ولم يذكر في القرآن الكريم من لم يعمل شيئا في دنياه بالمطلق حتى لو مات صغيرا وبريئا، مثل هذه الحالة لا وجود لها في كتاب الله، بدليل ما ورد في سورة الكهف من قتل الرجل الصالح لغلام خشية أن يرهق أبواه المؤمنين طغيانا وكفرا (الكهف: 80).

ويلاحظ بالمناسبة أن الكنيسة الكاثوليكية تؤمن بعقيدة سانت أغوستين الذي قال: "إن أرواح الأطفال الذين يموتون غير معمّدين في الكنيسة تذهب إلى برزخ أبدي يسمى Limbo ولا تدخل ملكوت الرّب". وهذا عين الظلم الذي لا يليق بالله سبحانه وتعالى عمّا يصف الجاهلون.

والحقيقة أن ما ورد في الآية 80 من سورة الكهف يحيل من حيث الظاهر على أن الله تعالى كان يعلم ما سيؤول إليه مصير الغلام عندما يكبر فأمر عبده الصالح بقتله رحمة بأبوية الصالحين حتى لا يرهقهما بما لا يطاق، هذا في حين كان بإمكانه تعالى أن يصلح من أمر هذا الغلام فيغيّر من مصيره وفق ما يتحجّج بذلك بعض الذين لا يعلمون، لأن الأمور في النهاية ليست كما يبدو، والله لا يتدخّل في إرادة الناس خيرا كانت أم شرا كما يعتقد من يقولون بالجبر بمفهومه الغليظ، وإلا لكان من العبث أن يقول تعالى: 

- (وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) آل عمران: 140. 

وغيرها كثير ممّا ينزّه الله عن العبث ويدلّ على أنه لا يعلم المؤمن من الكافر من المنافق من الذي خان عهد الله ونكث ميقاته إلا بعد الابتلاء، وحاشا أن يكون ربّك ظلاّم للعبيد. هذا الكلام يعني أن الله تعالى لا يعلم ما سيحصل لعباده في مستقبلهم بمفهوم زمانهم هم، بل يعلم ما سيحصل لهم من خارج قيد الزمان، أي بمفهوم المدى السّرمدي اللامتناهي في عالم الأبدية حيث ينتفي الزمن فلا وجود فيه لمستقبل بالنسبة لله وكل ما يحصل قد حصل في الماضي وانتهى، وهذا تحديدا هو سبب علم الله به والذي على أساسه دوّنه في أم الكتاب. 

قد يبدو مثل هذا الطرح غريبا لا يستوعبه العقل، وهو بالفعل موضوع معقّد وشائك لكنّه مدهش وممتع حين يدرك سرّه، وسيكون لنا وقفة معه في بحثنا القادم إن شاء الله لمعرفة السّرّ العجيب والجميل الكامن وراء تحدث الله عن يوم القيامة بصيغة الماضي بدل المستقبل الذي لا وجود له في اللغة العربية ولا الإنجليزية كما هو الحال مثلا في اللغة الفرنسيّة.

وعودة لأطروحة المؤمنين بعقيدة التقمّص، وبموازاة مثال الطفل البريء الذي قتل في سن أربع سنوات ودخل الجنة وفق ما يُروّج التراث لذلك بالرغم من أنه لم يقدم بين يدي الله عملا صالحا، نجدهم يقولون نفس الشيء بالنسبة لإنسان عاش في ظروف قاسية وبيئة غير سليمة فتحوّل إلى مُجرم ثم مات لينتهي به المصير إلى الجحيم دون أن يكون قد أتيحت له فرصة المعرفة والتمييز واختيار طريقة عيشه وسلوكه بعد تعلّمه دينه وتعرّفه إلى الله ليهتدي أو لا يهتدي حسب إرادته قبل وقوفه أمام ربّه في المحشر يوم القيامة. ولإثبات صحّة عقيدتهم نجدهم يستشهدون بالآيات التالية:

- (نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ * وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ) الواقعة: 60 – 61 – 62.

- (فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ * عَلَى أَن نُّبَدِّلَ خَيْرًا مِّنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) المعارج: 40 – 41.

ففي الآيات من 60 إلى 62 من سورة الواقعة، يقول تعالى أنه جعل الموت قدرا للإنسان وأنه بعد الموت لا بد من تنشئة جديدة تكون من خلال تبديل في الأمثال - أي في الصور - التي ستسكنها النفوس في الحيوات الأخرى، واستعمال الله تعالى في هذه الآية لحرف "على" يفيد الوجوب بيقين لا الاحتمال. وهو المعنى الذي يقول به المؤمنون بعقيدة التقمّص، فيُؤوّلون الآيات السالفة كالتالي: "ولأن تبديل المُثل (أي الصور) لا يمكن أن يكون إلا بالموت وبالولادة ثانية ثم التنشئة التي لا تكون إلاّ لمن هو طفل، ما يعني العودة إلى الحياة بشكل جديد وبطفولة جديدة، وذلك هو التقمّص، وتنتهي الآية الكريمة بتذكيرهم بالنشأة الأولى" (د محمد خليل الباشا، كتاب: التقمّص وأسرار الحياة والموت، مؤسسة نوفل، 2002، 318 صفحة).

أما في الآيتين 40 و41 من سورة المعارج، وبخلاف قول المؤمنين بعقيدة التقمص من أن الأمر يتمّ من خلال العودة إلى الحياة بعد الموت بشكل جديد وبطفولة جديدة، فإن الله تعالى يوضّح لنا المعنى بشكل دقيق يكشف عن دلالات جديدة تتساوق مع وجود الأكوان المتوازية التي تعني وجود نسخ من البشر متوازية أيضا تعيش في الأراضي السبعة في نفس الوقت حيوات مختلفة، ذلك أن الله تعالى في الآية 40 من نفس السورة اقسم بـ "ربّ المشارق والمغارب" في إشارة إلى تعدد الشموس في الأكوان، وهو بخلاف قوله (ربّ المشرقين وربّ المغربين) الرحمن: 17، حيث المراد بالمشرقين مشرق الصيف ومشرق الشتاء ومغربهما، لأنه بذلك تحصل الفصول وتنتظم الأرزاق، أما الحديث عن مشارق ومغارب بصيغة الجمع فيحيل على الأراضي السبعة التي ذكرها في الآية 12 من سورة الطلاق.

يتبـــع...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق