بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 9 أبريل 2023

نظرية الأكوان المتعدّدة بين العلم والدين.. (2/2)

 

(اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)

- الروم: 11

من حيث التعريف:

- الأكوان المتوازية (Parallel Universes): تعني السماوات السبعة ومن الأرض مثلهن كما أخبرنا تعالى في الآية 12 من سورة الطلاق، وهي الأكوان التي خلقها الله وتوجد الآن بمفهوم الزمن الكوني القائم، مع ملاحظة أنه تعالى لم يشر في القرآن الكريم إلى أصل المادة التي خلق منها هذه الأكوان، بالرغم من أنه كلّما ذكر مصطلح الخلق في القرآن إلا وأشار إلى المادة التي خلق منها الشيء المذكور. 

- الأكوان المتعدّدة (Multiverse): تعني اختلاف دورات وجود الأكوان بحيث لا تفنى الأكوان السبعة القائمة بانسحاق عظيم يحوّلها إلى غبار ودخّان إلا وتولد سبعة أكوان أخرى جديدة بانفجار عظيم جديد من نقطة مضغوطة في الفضاء الشاسع لتبدأ دورة أخرى كما حصل مع أكواننا الحالية، وهكذا إلى ما لا نهاية.../...

وفي هذا الصدد، روّج علماء في الغرب وخصوصا منهم العاملين في وكالة الفضاء الأمريكية "ناسا" لنظرية مفادها أن هناك أكوان متوازية لكوننا تعتبر صورة طبق الأصل له، بل وفيها نسخ من كل ما هو موجود في كوننا بما في ذلك المخلوقات. 

هذه النظرية تفترض أن الأكوان المتوازية متواجدة الآن، وأنها بدأت من لحظة الانفجار العظيم حيث تشكّلت كلّ مجرّة داخل فقّاعة لتشكل كل فقّاعة كونا قائما بذاته به أرض وسماء مثل ما هو الحال بالنسبة لمجرة درب التبّانة التي تشكّل كوننا.

ومعلوم علميا أن الأشكال الكروية التي خلق الله تعالى بها النجوم والكواكب والأرض داخل كل كون والتي تولّد الزمن بحكم حجمها وسرعة حركاتها هي التي تدلّ على وجود التماثل، لأنه لا يمكن الحديث عن أكوان موازية متماثلة من دون القياس على خصائص كوننا من وجهة نظر منطقيّة، الأمر الذي يجعل الزمن النسبي يختلف من كون إلى آخر وفق نظرية النسبية العامة والخاصة التي قال بها العالم ألفريد أينشتاين. وهذا يعني أن سرعة الضوء المكتشفة حتى الآن تبلغ 300.000 كيلومتر في الثانية، ما يجعل ضوء الشمس يصل إلى الأرض في 8 دقائق فقط برغم بعد الشمس عن الأرض بما يناهز 149.6 مليون كيلومتر.. لكن ومع ذلك فهذه السرعة لا تعتبر سرعة نهائية ما دمنا نجهل بقيّة السرعات في الأكوان الموازية بحكم اختلاف القوانين وأحجام وسرعة مكوّناتها المادّيّة، ونفس الأمر يمكن أن يقال عن سرعة تنقّل ملائكة التدبير بين السماء والأرض كما سبق القول، ناهيك عن سرعة تنقل المخلوقات النارية كالجن، ومثال ذلك نقل عرش بلقيس من اليمن إلى القدس في رمشة عين وفق ما تؤكد الآية 40 من سورة النمل لقوله تعالى: (قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتدّ إليك طرفك). 

والحقيقة أن نظرية الأكوان المتوازية تفترض وجود أكوان متماثلة حددها القرآن في سبعة، في حين أن العلم ومن دون معطيات ثبوتيّة دقيقة روّج لفرضيّة ظنّيّة تقول بوجود أكوان كثيرة لا حصر لها، بحيث يكون لكل كون (مجرّة) مجموعته الخاصة من الأجرام والنجوم والكواكب والأقمار، بالإضافة إلى قوانين فيزيائية مغايرة تختلف من كون لآخر. والقرآن يشير لصحة هذه النظرية لكنه يحدد عدد الأكوان الحالية في سبعة فقط لا غير، كما أنه لا يُستبعد أن تتضمّن هذه الأكوان المتوازية وجود سكّان وحضارات متقدّمة لأنه لا يعقل أن يخلق الله كونا ويتركه فارغا. وقول العلم بوجود أكوان متوازية – دون تحديد عددها - تم التأكد منه من خلال دراسة المعادلات الرياضية والفزيائية المعقدة التي قادت العلماء من أمثال "فريد آدمز" و "غريغ لافلين" من جامعة "ميشيغان" في الولايات المتحدة إلى مثل هذه الخلاصة، ولتأكيد صحة نظريّتهم قاموا بتقسيم المراحل العمرية لكوننا الحالي إلى عصور خمسة   بداية من مرحلة الانفجار العظيم وانتهاء بمرحلة نهاية عمر الكون الافتراضي.

وهناك أطروحات علميّة فزيائية وفلكيّة أخرى استطاعت من خلال مقاربات مغايرة رصد بعض من معالم الحياة في أكوان متوازية بعيدة انطلاقا من بعض المؤشرات الفيزيائية الأولية المكتشفة عن طريق الموجات الضوئية القادمة إلى مجرّتنا "درب التبّانة" من مجرّات بعيدة، الأمر الذي يدلّ على احتمالية وجود الحياة لوجود بعض العناصر الحيوية التي تنتقل مع الموجات الضوئية المتنقّلة عبر الثقوب الدودية كالأكسيجين والهيدروجين والكربون وخلافه.

وفي هذا الصدد يقول العالم الفيزيائي الياباني الشهير "ميشيو كاكو" صاحب نظرية الأوتار الكونية: "العوالم ممكنة ولا متناهية. فالإلكترون لا يوجد في مكان مُحدَّد بل يوجد في كل الأمكنة الممكنة حول نواة الذرة. لكن الكون كان أصغر من الإلكترون عند بداية الانفجار الكبير الذي تشكلت منه الأكوان المتوازية". وإذا صحّت هذه الفرضية فلابد أن الكون يوجد في كل الحالات المختلفة والممكنة، أي في صورة أكوان متوازية ولدت من أكوان سابقة، ما يؤكد بالضرورة فرضية الأكوان المتعدّدة التي تولد وتفنى حسب مراحل زمنيّة محدّدة، وقد يكون لكل كون قوانينه الطبيعية المختلفة عن الكون الذي نعيش فيه حاليا.

ويفسر العالم "لي سمولين" من معھد "بريميتر للفيزياء" هذه النظرية بالقول: - بخلاف الأكوان المتوازية - فإن "الأكوان المتعددة" تمر بمراحل مشابهة لتطور الكائنات الحية، ففي كل مرة يولد فيھا كون من كون آخر، تتغير القوانين الفيزيائية قليلا، لكن أحياناً قد تنشأ أكوان بقوانين فيزيائية عدائية، أو غير صحيحة، فتكون نھايتھا الفناء حيث ينتهي بها المطاف في جوف الثقوب السوداء التي تعمل كمنظفات للأكوان المعطوبة، أي أنها مقبرة الأكوان، وهو ما تؤكده الآية القرآنية الكريمة التي تتحدث عن (الخنّس الجوار الكنّس).. فتأمل هذه الآية الكريمة لتتأكد أن القرآن العظيم لا يمكن أن يكون كلام بشر. 

وفي هذا الصدد قال "ماكولين ساندورا"، وهو عالم أبحاث في معهد "بلو ماربل الفضائي للعلوم": "إن أكبر دليل على وجود أكوان موازية هو وجود الحياة، حياة ذكية بطريقة خاصة تعطي ملاحظات كونية.. ذلك أن بعض جوانب كوننا تبدو خاصة ومهمة لدعم الحياة، مثل طول عمر النجوم ووفرة الكربون وتوافر الضوء من أجل التركيب الضوئي واستقرار النواة المُعقّدة.. لكن كل تلك السمات عادة لا تكون كذلك في حال الكون العشوائي". وهذا صحيح، ما يستبعد مقولة الملحدين والماديين الذي يروجون لفرضية لا أساس علمي أو منطقي لها تقول بأن الكون قد وجد عشوائيا نتيجة الصدفة، ما يؤكد مسلّمة وجود الخالق بشكل حتمي بسبب النظام المعقد الذي تخضع له والذي ينفي فرضية الفوضى بالمطلق.

هذه الفرضية التي قال بها العالم "ماكولين" قادت العلماء إلى البحث عن آثار لتشوهات ناجمة عن تصادم كون مجاور لكوننا، فيما انكب فريق آخر على البحث عن آثار لأجرام قديمة ابتلعتها الثقوب السوداء لمعرفة إن كان عمرها أكبر من عمر كوننا، أي أنها انكمشت قبل الانفجار العظيم.. وهو ما يقودنا إلى دليل علمي غاية في الأهمية يؤكد صحّة نظرية الأكوان المتعدّدة"، وهذا أمر مختلف عن الأكوان الموازية الموجودة حاليا لأنه يطرح فرضية أنه في كل مرّة تصل فيها الأكوان الموازية إلى نهايتها تنكمش فتبتلعها الثقوب السوداء الضخمة الكامنة في مركز كل مجرة، وبعد ذلك يتم خلق أكوان جديدة موازية من انفجار عظيم آخر، لأن "الأكوان المتوازية" هي التي تكون متواجدة في نفس الوقت، أما "الأكوان المتعددة" فتعني الأكوان التي تولد من "انفجار عظيم" بعد "انكماش كبير" يدمر وينهي الأكوان السابقة، أي أن عملية الخلق تأتي بعد عملية التدمير لتبدأ في كل مرة دورة جديدة، وهكذا إلى ما لا نهاية.

العالم "هيو إيفيرت" من جامعة برنستون، حاول من جهته إثبات وجود أكوان موازية من خلال الفيزياء الكمّيّة بطرح السؤال التالي:

- لماذا الأجسام الكمّيّة تتصرف بعشوائية؟ ...

الجواب العلمي يقول: "أن السبب يكمن في أن الفوتون يتصرّف كجسم حينا وكموجة حينا آخر، وهذا يشبه أن تكون أنت بوضعك الحالي ثم تتحول بلحظة إلى ضوء متى شئت. فاستنتج النظرية التالية: "أنه يوجد أكوان متوازية، تشبه كوننا. هذه الأكوان متفرعة منا، وكوننا متفرع أيضاً من أكوان أخرى. وهذا سبب تغير حالة الفوتون، حيث أنه يتصرف طبقاً لوضعيته في كون ما خلال هذه الأكوان المتوازية، وعلى هذا الأساس فتاريخنا له نهايات مختلفة".

وبذلك تلتقي نظرية العالم "هيو إيفيرت" مع تفسير ابن عباس للآية 12 من سورة الطلاق وفق الحديث المشهور بشكل دقيق، ما يؤكد أن لا علاقة للأمر بالصدفة بل بما أودع الله تعالى في الفوتون من خصائص عجيبة يتصرّف بفضلها حينا كموجة ضوء ويتصرّف حينا آخر كجسم الأمر الذي جعل نظرية النسبية تخضع لتصرفاته كما قال أينشتاين. 

وعلى هذا الأساس نستطيع القول من دون أن يعارضنا العلم ولا أن يكذّبنا الدين، أن فلسطين قد تكون في كون آخر غير محتلة واليهود والمسلمين والمسيحيين يعيشون فيها بسلام، والأندلس عربية، ونبلاء قريش لم يتولّوا الخلافة بعد وفاة الرسول بل تولاها الإمام علي كرّم الله وجهه، ومعركة صفين لم تحدث، ولا مجزرة الطفّ وكربلاء وقعت، وفقهاء بنو أميّة لم يكتبوا الحديث ولا ظهر شيىء اسمه المذاهب، وهكذا... أي أن الحوادث التاريخية لا تشبه بعضها وأن الشخص يعيش سبع حيوات مختلفة في الأكوان السبعة القائمة، وعندما يحدث أن يعيش ظرفا أو لحظة مشابهة لما تعيشه احدى نسخه الأخرى يحدث التلاقي في ثواني قصرية جدا كالوميض (البرق الخاطف)، فيعتقد الإنسان أنه عاش الموقف أو الواقعة من قبل، أو أنه يعرف المكان الذي لم يزره آنفا أو الشخص الذي رآه لأول مرة دون أن يكون قد التقى به ولو مرة واحدة في حياته. وهذه هي النظرية الأقرب إلى تصديق ما عاشه وخبره الجميع تحت مسمّى ظاهرة "سبق الرؤية" أو "سبق المعرفة" المعبّر عنها بـ (Déjà Vu).

والحقيقة أنه لا يوجد تفسير علمي لظاهرة «سبق الرؤية" أو سبق المعرفة" التي حيرت العلماء إلى يوم الناس هذا، وقد حاول العديد من علماء النفس وعلماء بيولوجيا الدماغ والأعصاب تفسير الظاهرة علميا لكنهم لم يصلوا إلى نظرية نهائية قاطعة حاسمة تفسر هذه الظاهرة الغريبة بشكل علمي مقبول. فمنهم من عزاها إلى خلل مؤقت يدوم لثواني في الإشارات الكهرومغناطيسية التي ترسل الصور إلى الذاكرة وتحللها لمعرفة إن كان ما يراه الإنسان قد سبق وأن خزّنته الذاكرة من قبل، لأن ذاكرة الإنسان تخزن كل شيء مرّ بها ولا تمحوه أبدا بل قد يُنسى مؤقّتا فقط إلى أن يتذكره الإنسان. والظاهرة تحدث عندما يقع تأخير مدته أجزاء من الثانية بين ما تعرفه الذاكرة الواقعة في المنطقة الحوفية الخلفية للدماغ وما يُحلّله الأخير حين تصل المعلومة إلى منطقة الإدراك التي تقع في القشرة الدماغية الأمامية (الناصية) في جزء من الثانية. 

أما التفسير الثاني فقال به علماء "البارا بسيكولوجي" أو ما يعرف بالأمور الخارقة للطبيعة كما سماها العالم "سيمون فرويد"، ويفسرها بأنها أحداث ووقائع وأشخاص سبق وأن رأيناهم في أحلامنا وسجلتهم الذاكرة، وعندما يرى الإنسان شخصا لأول مرة ويعتقد لوهلة أنه يعرفه فمرد ذلك أن منطقة الإدراك تستدعي صورته المستمدة من الحلم والمخزّنة في الذاكرة. ولأنه حلم فالمخ يدرك بعد وهلة أنه لم يسبق له أن عرف الشخص أو المكان أو عاش الموقف على أرض الواقع من قبل. لكن مثل هذا القول الذي حاول من خلاله فرويد إثبات صحة نظرية، لا يصمد أمام طبيعة عمل الذاكرة التي لا تُخزّن إلا ما رأته حقيقة على أرض الواقع لا في الحلم، لأن الدماغ لا يختلق صورا لم يسبق له أن رآها ولا أحداثا لم يسبق له أن عاشها، لأن ذلك من مجال ملكة الخيال لا عمل الذاكرة التي تشبه ذاكرة الكمبيوتر لا تخزن إلا ما يرسل إليها من صور وأحداث، ما يجعل نظرية فرويد نظرية خاطئة من أساسها. 

أما التفسير الديني، فقد عرفت الديانة "البرهمية" عند الهندوس هذه الظاهرة قديما وفسّروها بتناسخ الأرواح في سبعة أدوار إلى أن تتطهّر فتحصل على السعادة. وقد سبق الحديث عن هذا المعتقد في مبحث بعنوان "العناصر الدخيلة على التصوف الإسلامي" نشر على هذا الموقع لمن أراد العودة إليه.

أما من وجهة نظر التصوف الإسلامي، فلم يسبق لصوفي أن تحدث عن هذه الظاهرة بالتحديد، لأن الصوفي الواصل الذي طهّر بالمجاهدة قلبه يستطيع أن يرى الشخص قبل لقائه ويعيش الحدث قبل وقوعه أو أثناء وقوعه في مكان أو عالم بعيد عنه دون مشاهدته حضوريا. هؤلاء الصوفية يُسمّون "الملاثمية" (أي العارفين بالله الواصلين الذين يرتدون القميص الصوفي السرّي أو الخرقة بالتعبير العام المتعارف عليه)، هؤلاء وفق ما يؤكد ابن عربي وغيره من كبار الصوفية، باستطاعتهم استحضار أرواح الملائكة لمساعدتهم على ذلك، لإيمانهم العميق بأن الله سخر كل ما في هذا الكون لخدمة الإنسان وفق ما يؤكد القرآن ذلك، وجعل الملائكة والشياطين يسجدون لآدم كرمز للطاعة والعمل بالأمر الإلهي ليكونوا في خدمته، كما حصل مع النبي سليمان، وكما حصل مع بعض اليهود ببابل الذين سخّروا الملكين "هاروت وماروت" ليعلموهم أسرار السحر الأسود فاستعملوه في التفريق بين المرء وزوجه كما يقول تعالى في قرآنه.  

- لكن، إذا كان العلم والدين يتوافقان حول حقيقة وجود أكوان موازية في نفس الوقت باعتبارها ناجمة جميعها من الانفجار العظيم، فما الدليل إذن على وجود دورات مختلفة لأكوان موازية في أزمنة مختلفة بحيث ما تنتهي دورة بـ "انكماش عظيم" إلا لتبدأ أخرى بـ "انفجار عظيم"؟ ... 

قد يكون من الصعوبة بمكان إن لم تكن من الاستحالة الجواب على هذا السؤال بالمنطق العلمي ما دام العلماء لم يجدوا حتّى الآن آثارا لأكوان قديمة دمّرت وابتلعتها الثقوب السوداء، وبالتالي، فنظريات العلم حول هذا الموضوع تظل مجرد افتراضات لا ترقى إلى مستوى الحقيقة المقبولة علميّا.. لكننا من جهة أخرى نعلم أيضا أن تاريخ العلوم هو تاريخ أخطاء العلوم كما تقول الفلسفة الحديثة، ما يحتّم علينا العودة إلى كتاب الله لمعرفة ما إن كانت قضية الأكوان المتعدّدة تعتبر من الحقائق الدينية، خصوصا إذا علما أن التحدي الذي يرفعه القرآن في وجه المشككين لا يتعلق بالأسلوب كما فهم ذلك فقهاء القشور فحسب، بل وبالمعنى والمصداق أيضا.

يقول تعالى في محكم التنزيل:

- (هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيىء عليم) الحديد: 3.

وهذا يعني أن الله الذي لا يحده مكان ولا يسري عليه زمان يُعرّف بنفسه فيقول إنه الأول من دون بداية، والأخر من دون نهاية، والظاهر من دون بطون، والباطن من دون ظهور. وهذا يعني، أن من يفترض أن الأكوان المتوازية التي خلقها الله بسماواتها وأراضيها قد خلقها لأول مرة وأنها ستنتهي بعد فنائها، فهو لا يعرف الله، وذنبه أنه وبسبب الجهل يُقيّد قدرة الله ويختزلها في زمن كوني يمتد من بداية الكون إلى نهايته، وكأن الله تعالى هو الطبيعة كما قال الفيلسوف الفرنسي "فولتير"، فإذا دمّرت الطبيعة وتحوّلت إلى عدم انتهى الله سبحانه وتعالى عما يصف الجاهلون.

كما أن فقهاء السنة والجماعة وعلى رأسهم ابن القيم تلميذ ابن تيميّة وبسبب جهله لطبيعة الله ذهب حد القول إن الله "قديم" (بدائع الفوائد: 284/1)، وعندما عاب عليه ابن عربي هذا الوصف بقوله "إن الله لا يتصف بالقدم الذي يحيل على مفهوم الزمن"، عاد فأوضح أن "القديم ليس إسما من أسماء الله الحسنى، ولا صفة من صفاته، وإنما يجوز إطلاقه على الله تعالى في مقام الإخبار عنه، لا مقام التسمية والوصف". وهذا لعمري ذنب أكبر من عذر، لأنه لا يمكن وصف الله بما لا يليق بجلاله انطلاقا من مفاهيم بشرية قاصرة، بل يجب التمسّك بما وصف الله به نفسه فقط.


نظرية بدأ وإعادة الخلق في القرآن الكريم

إن الذين يعتقدون أن الله لم يخلق قبل كوننا هذا كونا يذكر ولن يخلق بعد فنائه كونا آخر لا يعرفون الله، ويدّعون من حيث يدرون أو لا يدرون أن الله قبل خلق هذا الكون لم يكن يفعل شيئا يذكر، وأنه بعد القيامة سيستقيل من عمله لأنه لن يعود هناك حاجة لتدخّله.

هذا الكلام هو محض افتراء على الله لأنه تعالى لم يأتي عليه حدث ولا "فاصلة كونية" واحدة (بمعنى حدث زمني كوني) لم يكن موجودا فيها، وكما كان دائما لا يزال وسيظل كذلك إلى الأبد وفق ما يعطيه مفهوم الأول بلا بداية والآخر بلا نهاية (الحديد: 3)، وقول الرسول عليه السلام: "كان الله ولا شيىء معه وكما كان لا يزال"، يدلّ على أنه سبحانه وتعالى غني عن العالمين ووجوده ليس مشروطا بشيء على الإطلاق وفق ما يعطيه مفهوم الأحاديّة في مقام الألوهية بخلاف مقام الربوبية لأن وجود الرّبّ مشروطّ بوجود المربوب كما سبق القول. لذلك قال عن نفسه تعالى: (يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) الرحمن: 29، ولأن الله تعالى غير مُتزمّن، أي أنه لا يسري عليه زمان كما هو ثابت في عقيدة التوحيد، وبالتالي، فإن اليوم بالمفهوم القرآني يرمز إلى الحدث الكوني العظيم، كأن تقول يوم الدنيا، أو يوم تأتي الساعة، أو يوم الدين، وسؤاله من قبل من خلق في السماوات والأرض لا ينقطع من حدث إلى آخر ما دامت عمليّة الخلق لا تنتهي إلا لتبدأ أخرى في إشارة إلى السماوات والأرض ومن فيهن. 

وبالتالي، فما دام أن لكونا هذا بداية ونهاية أخبر القرآن الكريم بها، فحتما لن يكون الكون الأول ولا الأخير، بدليل قوله تعالى:

- (يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ) إبراهيم: 48.

وتعتبر هذه الآية كما العديد من غيرها دليل على أن الله تعالى بعد أن يفني السماوات والأرض التي تشكل الأكوان المتوازية حاليا، سيبدلهم حتما بسماوات وأراض أخرى لتبدأ دورة جديدة من الابتلاء في الوقت الذي يبرز من انتهت دورتهم أمام الواحد القهّار للمساءلة والحساب وتقرير المصير إما إلى جنة النعيم أو عذاب الجحيم على أرض منبسطة وغير متحرّكة حيث ينتفي الزمان لتعيش المخلوقات الحياة الأبدية. لهذا السبب جاء اسم الأرض في هذه الآية الكريمة بالمفرد للدلالة على أرض المحشر التي سيبرز فيها الخلق، فيما جاءت السماوات بالجمع في إشارة إلى السماوات السبعة (الأكوان المتوازية) بحيث يكون في كل سماء أرضها، وهذا هو معنى أنه يبدأ الخلق ثم يعيده، فكما بدأ الخلق المادي للسماوات والأرض ومن فيهنّ قبل الأكوان المتوازية الحالية المنظورة فسيعيدها تعالى كما كان في دورات متعاقبة سابقة لا يعرف عددها ولا بداية أولاها ولا نهاية آخرها. وهذا لعمري هو المعنى الذي يعطيه قوله تعالى (كل يوم هو في شأن)، لأن "الشأن" في مستوى الألوهيّة يعني "الخلق" فيما "التدبير" يكون من مستوى الرّبوبيّة وفق ما تفيد يذلك الآيات القرآنية.

يقول تعالى: (يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ) الأنبياء: 104.

لقد جاءت الكتب هنا بمعنى الصحف التي تشمل كل واحدة منها سنن وقوانين الخلق التي أودعها تعالى في كل مخلوقاته بالحق بدليل قوله تعالى: - (إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَاّ) الزلزلة: من 1 إلى 5. وبهذا المعنى، فكل مخلوق مهما اختلفت ماهيته ونوعه وطبيعته وقوته أو ضعفه، إلا ويحمل في ذاته قانون نهايته (كتابه الخاص). وطيّ السجل للكتب يعني نهاية الدور المُقدّر الذي خلقت السماوات والأرض من أجله فتطوى كل الكتب الخاصّة المتضمنة في سجلها العام، لتبدأ عمليّة انكماش عظيم تؤدي إلى إعادة الكون إلى حالته الأولى التي كان عليها في عالم الغيب قبل الانفجار والتمدد الذي أدى إلى ما هو عليه الكون من تضخّم منظور لقوله تعالى: (وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) الذاريات: 47، تليها بعد ذلك عملية انفجار عظيم تعيد الكون إلى الحالة المنظورة التي كان عليها قبل الانسحاق العظيم لقوله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا ۖ وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ۖ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ) الأنبياء: 30... وهكذا دور بعد دور إلى ما لا نهاية. وهذا هو معنى قوله تعالى: (وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) الزمر: 67، أي بقدرته وجبروته ولا علاقة للمعنى المجازي الذي تحيل عليه كلمة "يمينه" بالتجسيد الذي هو ضرب من ضروب الشرك الغليظ.

والحقيقة أن عودة الكون بانسحاق عظيم إلى الحالة التي كان عليها قبل الانفجار العظيم يؤكد انتفاء مفهوم العدم، وهو المصطلح الذي لا وجود له في القرآن الكريم، بدليل أن الله تعالى لم يذكر المادة التي خلق منها الكون ما يؤكد أنه لم يخلقه من عدم، ذلك أنها (أي المادة) كانت موجودة كنقطة متناهية الصغر في مكان ما في الغيب، والانفجار العظيم صدر عنها كما هو مؤكّد علميّا من الناحية النظريّة، في حين ذكر ذلك تعالى بالنسبة لبقية المخلوقات التي أوجدها بعد خلق الكون وقال أنه خلقها من ماء والبشر من طين والجن من نار والملائكة من نور وهكذا...

ولتأكيد مدى صحة نظرية بدأ الخلق وإعادته القرآنية، اقترح فريق من علماء الفيزياء من مركز الفيزياء الفلكية في جامعة "هارفارد" اختبارا لمعرفة ما إذا كانت هذه النظريّة خاطئة أم صحيحة. ويتمثل هذا الاختبار في البحث بأرجاء الكون عن وجود أثر لـ "الساعة القياسية البدائية" وهي عبارة عن جسيمات ثقيلة افترضت وجودها النظريات التي تقول بوجود كون سابق لكوننا.

ويشرح العلماء الذين شاركوا في الدراسة هذه الفكرة بالقول: "إذا كان الكون البدائي موجودا قبل كوننا - حسب نظرية الارتداد الكبير أو الانسحاق العظيم - فإن فهمنا الحالي للفيزياء يشير إلى وجود جسيمات ضخمة كانت ستتأرجح وفق ترددات منتظمة مثل بندول الساعة. وكانت اهتزازات هذه "الساعات القياسية البدائية" قد أدت إلى حدوث اضطرابات طفيفة في كثافة المادة من حولها على مستويات ضيقة تحولت إلى نواة لهياكل (أجرام) في كوننا الحالي بعد توسعه"، غير أن مثل هذه الملاحظات ليست كافية بعد للجزم بصحة النظرية علميّا على الأقل، لكن في حال تم العثور مستقبلا على نمط من الإشارات الواضحة الصادرة عن الساعة القياسية البدائية، فسيعني ذلك أن كونا بدائيا كان موجودا من قبل، وأدت عملية انكماشه لارتداد كبير نشأ على إثره كوننا الحالي قبل نحو 13.8 مليار عام بانفجار عظيم.

والحقيقة أن العلماء لم ولن يعثروا على مثل هذه الإشارات لجسيمات تتأرجح في الفضاء لكون سابق، لأن الله تعالى عندما يطوي السماوات والأرض كطي السجل لا يترك أثرا لكون سابق، والأثر الوحيد الذي قد يدل على وجود كون سابق هو بالبحث داخل الثقوب السوداء التي تعتبر مقابر الأجرام والنجوم والكواكب، وهذا أمر شبه مستحيل بسبب الجاذبية العظيمة التي تعمل بها هذه الثقوب والتي تعطيها القدرة على ابتلاع مجرة تضم أكثر من 300 مليار كوكب ونجم، ويوجد اليوم كما هو ثابت من الاكتشافات الفيزيائية والفلكية يقب أسود ضخم في مركز كل مجرة من الأكوان السبعة المنظورة، وهي ثقوب سوداء مبرمجة للعمل حال يحين موعد الأمر الذي أوحي لها بالقوة التي أودعت فيها من قبل خالقها جلّ جلاله.

- يقول تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) الروم: 27.

وواضح من خلال هذه الآية الكريمة المعنى الذي يفيد أن قضية بدأ الخلق وإعادته أمر هيّن سهل على الله الذي لا حدّود لقدرته ولا يعجزه شيء في الوجود على الإطلاق، وكونه تعالى أشار إلى خلق السماوات والأرض كمثل أعلى، فمعنى ذلك أنه فعل ذلك أكثر من مرّة، وأن استعمال السماوات والأرض كمثل يوضّح للمشكّكين قدرة الله العظيمة التي لا يحدها إدراك.

وكثيرة هي الآيات التي تتحدّث عن بدأ الخلق وإعادته ممّا لا يسع المقام لذكرها هنا، ولعل أبرزها قوله تعالى:

- (إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ) البروج: 13. 

- (اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) الروم: 11

انتهــــى.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق