بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 13 أبريل 2023

الفرق بين الخلود والأبديّة بعد الموت.. (2/2)

 

(وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)

- العنكبوت: 64 -

ماذا يحدث للإنسان ساعة موته؟

يقول تعالى في هذا الصدد: (اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) الزمر: 42. ويفهم من ذلك أن الموت بالمفهوم القرآني يعني مفارقة النفس للجسد، أي أنّ النّفس كلّما نام الإنسان إلاّ وغادرت الجسد لتلتقي بالنّفوس في عوالم أخرى لا يعلم مكانها وابعادها إلا الله، وهذا ما يتذكّره الإنسان من الحلم، حيث يفهم منه أنه التقى بأحبائه من الموتى أو غيرهم من الأحياء فكلّمهم وعرف شيئا عن أحوالهم، ما يؤكّد وجود أكوان متوازية لا تلجها النّفس إلا من خلال الحلم الذي هو أقوى من المعرفة.../...

 وفي ظاهرة الحلم إشارة مخفيّة تفيد أن الله سيجمع الأنفس بعد موتها لتظل في عالم البرزخ إلى يوم القيامة، فتلتقي النفوس الطّيّبة مع أهلها وأحبائها وأصدقائها لقوله تعالى: (اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ ۗ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا) النساء: 87. وقد أخطأ من قال من المفسّرين بأن "الله سيجمع الناس يوم القيامة"، لأنه تجاهل ما يعطيه حرف الجر "إلى" في الآية الكريمة من معنى لا يفيد الجمع "يوم القيامة" بل قبل ذلك ليدوم "إلى يوم القيامة"، بمعنى أن الجمع سيكون بعد الموت في الحياة البرزخيّة وسيستمر "إلى يوم القيامة"، لأنه إذا كان تعالى قد أراد المعنى الذي أشار إليه المفسّرون القدماء لقال: (الله لا إله إلا هو ليجمعنّكم يوم القيامة)، ما يؤكد وجود فرق واضح بين المعنيين. ودليل ذلك قوله تعالى في آية أخرى: (رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَّا رَيْبَ فِيهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ) آل عمران: 9. ففي هذه الآية أشار تعالى إلى الهدف مباشرة بقوله على لسان من توجّهوا إليه بالدّعاء من عباده الصالحين: "ليوم القيامة"، ثم أضافوا: "إنك لا تخلف الميعاد"، ما يعني بما لا يدع مجالا للتأويل أن الجمع سيكون ميعاده يوم القيامة بالتحديد، والحديث هنا عن الجمع في المحشر ساعة الحساب، وهو بخلاف المعنى المقصود بـ "الجمع" في الآية الأولى لقوله: "إلى يوم القيامة" أي أن الجمع الذي يتحدث عنه سيستغرق من ساعة الموت إلى يوم القيامة.  

وعودة إلى الآية 42 من سورة الزمر، فأما النّفس التي حلّ أجلها كما تقول الآية الكريمة فتغادر بعد أن تدرك أن الروح التي كانت تمدّها بالطاقة وتسمح لها بالتصرف في الجسد بإرادتها قد أمسكها صاحبها فانتهى بذلك زمن ابتلائها وحان وقت حسابها والله سريع الحساب كما يقول عن نفسه.

في هذه الحالة، فالنفس وبعد أن تذوق طعم الموت لا تموت، بل فقط تفقد إرادة التحكم في الجسد الذي كانت تعيش فيه، فتستلمها الملائكة لترافقها إلى ملاذها الأخير حيث تُوفّى كل نفس ما كسبت فلا تظلم فتيلا لقوله تعالى: (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ۖ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) البقرة: 281. وهذا هو معنى قوله تعالى (الله يتوفّى الأنفس) أي أنه يوفّي كلّ نفس حقّها.

وبالتالي، فالنفس لا تموت، بل تصاب بغيبوبة جزئية ساعة الاحتضار نتيجة سكرة الموت التي تفقدها إرادة التحكّم في جسدها دون وعيها، وقد جاء في محكم التنزيل عديد الآيات توضّح بشكل لا لبس فيه ما ينتظر الإنسان من حقائق ساعة الموت منها: 

- قوله تعالى للمحتضر الكافر الطي كان يكذّب بالدين: (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ۖ ذَٰلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ) ق: 19، أي أن سكرة الموت جاءت للمحتضر الكافر باليقين الذي كان يحيد عنه في الحياة الدنيا، فأصبح يراه ماثلا أمامه لا لبس فيه ولا مجال لنكرانه بتكذيبه.

- وقوله أيضا: (لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) ق: 22. وكشف الغطاء يتيح للمحتضر الكافر رؤية مصيره ماثلا أمام عينيه بنظرة حادّة تُظهر له اليقين الذي كان يفتقده في حياته بسبب غفلته وتعنّته وتكبّره.. بعد ذلك تخرج نفسه من الجسد كالشبح لتُساق من قبل الملائكة بسرعة أكبر من سرعة الضوء إلى عالم ما وراء البرزخ حيث تعيش ما تستحقّه من جزاء.

- وقوله تعالى: (كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ ۜ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ) القيامة: من 26 إلى 30. والتفاف الساق بالساق لا يعني التفاف سيقان الميّت حول بعضها كالحبل، بل هو تعبير مجازي يفيد اختلاط ساق المُحتضر الذي ينازع ليُفارق الدنيا مع ساق الملاك الذين يتحضّر ليسوق نفسه إلى ربّها.

- وقوله سبحانه: (قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) السجدة: 11. ويستفاد من هذه الآية الكريمة أن الله تعالى قد أوكل لكلّ نفس ملاكا رئيسا يتوفّاها، قد يكون ملاك الرحمة أو ملاك العذاب، وهذا هو معنى يتوفّاها، أي يسوق النفس التي حان أجلها بمعيّة فريقه المساعد إلى المصير الذي تستحقه في عالم ما وراء البرزخ.

- وقوله عزّ وجلّ: (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ ۖ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ) الأنعام: 61. هذه الآية الكريمة تؤكد ما ذهبنا إليه في الآية السالفة التي ذكر فيها تعالى ملك الموت بصيغة المفرد، فيما هنا ذكر ملائكة الموت بصيغة الجمع، ذلك أن الله القاهر فوق عباده، وكما سبق وأن أرسل على الإنسان ملائكة حفظة يحفظون عليه عمله ورزقه وأجله في الحياة الدنيا، ها هو يرسل عليه رسلا من الملائكة على شكل فريق برئيس يقودهم ليستلموا من المحتضر نفسه ويوفّونها حقها في الحياة البرزخيّة دون تفريط.

ووفق الذكر الحكيم، فكل نفس تغادر هذا العالم مؤمنة كانت أم كافرة إلا وأخبرتها الملائكة بمصيرها. وبذلك، فالسؤال الحقيقي الذي يجب أن يطرحه الإنسان، ليس إن كانت هناك حياة بعد الموت، بل هل كان الإنسان حيّا فعلا قبل أن يموت؟.. ذلك أن حياته البرزخيّة تعتمد بالأساس على نوع الجواب الذي لديه عن هذا السؤال ما دامت نفسه هي من ستعرض عليها حينها شريط الأعمال التي اكتسبتها في الحياة الدنيا خيرا كانت أم شرّا، وبهذا المعنى فالإنسان الذي عاش ميّتا وهو يحسب أنه كان حيّا سيكره هذه اللحظة، أما الإنسان الذي عاش حيّا في كنف الله فسيفرح بها لقوله تعالى: 

- (أَوَمَن كَانَ مَيۡتٗا فَأَحۡيَيۡنَٰهُ وَجَعَلۡنَا لَهُۥ نُورٗا يَمۡشِي بِهِۦ فِي ٱلنَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُۥ فِي ٱلظُّلُمَٰتِ لَيۡسَ بِخَارِجٖ مِّنۡهَاۚ كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلۡكَٰفِرِينَ مَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ) الأنعام: 122. 

وينقسم الناس مباشرة بعد الموت إلى فئات حسب تصنيف الملائكة لهم من استقراء سجل الأعمال الذي على أساسها يتحدد مصير كل إنسان في الحياة البرزخية الثانية المسمّاة بحياة الخلود قبل الحياة الأبدية النهائية التي تأتي بعد يوم القيامة وفق ما يستفاد من مختلف آيات الذكر الحكيم:

ودليل ذلك من القرآن الكريم يكون كالتالي:

أولا: دليل وجود حياة برزخيّة ثانية قبل القيامة:

انتقال النفس للعيش في عالم ما وراء البرزخ دليل على أن النفس ذات طبيعة خالدة لا تموت لقوله تعالى في وصف حالة الكافر المكذب بالدين بعد أن رأى الحقيقة بأمّ العين:

- (حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ ۚ كَلَّا ۚ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا ۖ وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ) المؤمنون: 99 – 100. وهذا دليل على أن نفس الكافر حين تنتقل إلى عالم ما وراء البرزخ بعد الموت وترى العذاب المعنوي الذي ستقضي فيه حياتها الثانية إلى يوم البعث، تطلب الرّجعة إلى الدنيا لعلّها تعمل صالحا فتنفق كل ما تركته وراءها في الخير عسى أن يغيّر ذلك مصيرها، لكن هيهات، لأن النفس التي لم تؤمن بالغيب إبّان تجربتها الدنيويّة لا يقبل منها إيمان، ذلك أن الإيمان الذي يحصل بيقين نتيجة معاينة الحقيقة بعد الموت لا يقبله الله. ويشار إلى أن طلب النفس رجوعها إلى الدنيا دليل قاطع على أن الساعة لم تقم بعد وأن ما تركته وراءها لا يزال موجودا، ممّا يدلّ على أنها تعيش مصيرها السّيّء في حياتها البرزخية الثانية قبل يوم القيامة.

- يقول تعالى: (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ۖ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) البقرة 28.

وهي الآية التي سبق وأن شرحناها في الجزء الأول من هذا المبحث، تؤكد أيضا وجود حياة ثانية بعد الحياة الدنيا تسمّى "الحياة البرزخية"، والتي كلمّا ذكرها تعالى وصفها بأنها "حياة الخلود"، أي الحياة التي تنتهي بمجرد قيام الساعة لتبدأ الحياة الأبدية. 

ومعنى الخلود المكوث في مكان دون استمرار، أي البقاء من وقت معيّن إلى آخر مُحدّد حيث تنتهي مد’ الخلود، فيما الأبديّة تعني الدّوام من وقت معيّن إلى ما لا نهاية. وبالتالي، فالخلود يكون محكوم ببُعد الزمن، فيما الأبديّة تكون منفلتة من عقال الزمن.

وهو ما يتبيّن بوضوح من نص الآية الكريمة السّالفة، أن الأمر يؤكّد وجود موتتين وحياتين قبل القيامة، ويقصد بذلك: 

موتتين: موتة بعد الحياة الدنيا، وموتة بعد الحياة البرزخية الثانية وتكون عند النفخة الأولى في الصور إيذانا بقيام الساعة أي الفناء لتنتهي مرحلة الخلود. 

حياتين: مرّة في الحياة الدنيا الأولى، ومرّة في الحياة البرزخيّة الثانية، أي قبل الحياة النهائية الأبدية بعد يوم القيامة لتبدأ الحياة الأبديّة كما سبق القول، بدليل أنه حين حسم الله مصير النفوس بشكل نهائي في الجحيم الأبدي بعد يوم القيامة استعطفوا ربّهم بالقول: (قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَىٰ خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ) غافر: 11. ما يدلّ على أن استعطافهم هذا جاء بعد يوم القيامة، أي بعد أن حسم مصيرهم النهائي بالعذاب الأبدي نفسا وجسما في المدى اللامتناهي حيث تنعدم فرص الانعتاق.


ثانيا: دليل وجود أجداث للنفس في الحياة البرزخيّة:

ليس كل الأموات سينتهي بهم المطاف إلى الأجداث، بل فقط فئة من الناس من الذين لم يرتكبوا في حياتهم جرما في حق الناس، ولم يكتسبوا خيرا يشفع لهم للتنعّم في الحياة البرزخيّة، هؤلاء لم يفيدوا أنفسهم ولا أفادوا غيرهم من المخلوقات خلال تجربتهم الدنيويّة، لكنهم ظلموا أنفسهم بشركهم وكفرهم، وبالتالي، فسيكون مصير أنفسهم الرقاد في الأجداث إلى يوم القيامة.

والحقيقة أن هناك خلط وقع فيه المفسرون حيث اعتبروا الأجداث بنفس معنى القبور، وهذا غير صحيح بالمطلق لأن القرآن لا يقبل الترادف ما دام الله تعالى لا يستعمل مصطلح واحد بمعنيين مختلفين، بل يزن كلماته بميزان الذهب، وبذلك فالقبور وفق ما يفهم من كتاب الله هي مدافن الأجساد فقط دون النفوس، وهذه القبور سيكون مصيرها الفناء في النهاية لانتهاء صلاحيتها بانتهاء الحياة الدنيا ما دامت لا تصلح للحياة الأبديّة في الآخرة، لذلك سيبعثرها الله تعالى حين تقوم الساعة لتُصهر مُكوّناتها وتتلاشا مع بقيّة مكونات الأرض لقوله تعالى: (إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ * وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ * وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ) الانفطار: من 1 إلى 4. ومعلوم أن هذه الأحداث الكبرى التي ستأتي مباشرة بعد النفخة الأولى في الصّور، إنّما تدلّ على الفناء عند قيام الساعة، بحيث لا يبقى إلا وجه ربّك ذو الجلال والإكرام، وبالتالي، فالذين فسّروا بعثرة القبور بخروج الموتى أحياء قد جانبوا الصواب لسببين:

o السبب الأول: أن الأمر يتعلق هنا بالفناء لا بالانبعاث الذي لا يكون إلا بعد أن يبدّل الله الأرض غير الأرض والسماوات وينفخ الملاك في الصّور النفخة الثانية إيذانا بقيام القيامة، وبالتالي، فمن ناحية عقليّة ومنطقيّة، لا علاقة لأجساد الدنيا الفانية بأجساد الآخرة الأبديّة التي تتطلب مقوّمات مختلفة نظرا لاختلاف ظروف وشروط الحياة الأبديّة كما يستنتج من آيات الذكر الحكيم لقوه تعالى على سبيل المثال لا الحصر: (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ) التكوير: 7، وهي الآية التي فسرها البعض خطأ بقولهم أنها تعني اقتران الرجل الصالح بالصالح والطالح بالطالح والكافر بالشيطان، بل ومنهم من قال تزويجها بالحور العين، هذا في حين أن الأمر يتعلق هنا بأحداث الساعة الكبرى استعدادا للحشر يوم القيامة، وبالتالي، لمم ينتهي بعد الحساب للحديث عن تزويج النفس في الجنّة أو النار. وبالتالي، فالآية الكريمة تفيد وفق ما يعطيه السياق تزويج الأنفس بأجسامها الجديدة التي ستحشر بها لتعيش بعد القيامة حياتها الأبدية حسب المصير المخصص لها، خصوصا وأن القرآن الكريم يؤكد أن النفس قد عاشت حياتها البرزخية الثانية من دون جسم، وأنه بقيام الساعة آن أوان تزويجها بجسدها الجديد الذي لا يمرض ولا يشيخ ولا يموت لتعيش به الأبدية بعد القيامة. 

o السبب الثاني: أن قبور الدنيا لا تضم أجساد جميع الأموات، لأن هناك من يُحرق، وهناك من يغرق وتأكل جسده أسماك البحر، وهناك من يقتل وتأكل جسده الوحوش أو الطيور الكواسر... وهكذا، وبالتالي، فكيف يفهم أن بعثرة ما في القبور تعني بعث الأجساد التي تحولّت إلى تراب وبعثر ذاك التراب وصهر مع الحمم وتحول إلى دخاّن؟.. أي أنه عاد كما بدأ أول مرة بعد الانفجار العظيم حين كانت السماء دخان ولم يكن هناك وجود للمادة ولا للحياة. ودليل أن بعثرة ما في القبور لا تعني بعث الأجساد الدنيويّة القديمة قوله تعالى في أحداث الساعة: (فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ) الرحمن: 37، أي إذا انفطرت السماء وسارت أبوابا وتحوّل لونها بسبب الانفجارات العظيمة في الكون إلى دخان أحمر كلون الورد من فرط الحرارة وتبخّر المواد.

وهذا بالضبط هو ما يعطي للأجداث معنى وجودها بدل القبور، باعتبارها (أي الأجداث) مراقد للنفوس فقط، أي النفوس التي لم تحظى بالحياة البرزخية الثانية سواء من أصحاب الجنة أو أصحاب النار. وهي التي سيبعثها تعالى من مرقدها فوق السّاهرة، أي فوق رمال بيضاء يوم المحشر لقوله تعالى: (فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ * فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ) النازعات: 13 – 14. والزجرة هنا هي نفخ الملاك إسرافيل في الصور النفخة الثانية إيذانا بقيام الساعة.

أما الآيات التي ورد فيها ذكر الأجداث وليس القبور في القرآن الكريم فثلاثة: 

- (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ) يس: 51. 

- (خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ) القمر: 7

- (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَىٰ نُصُبٍ يُوفِضُونَ) المعارج: 43.

وهي جميعها تدلّ على أن الأنفس هي من ستنهض من الأجداث مباشرة بعد أن تنتهي أحداث الساعة ويُبدّل الله الأرض غير الأرض والسماوات، وهو الأمر الذي قد يستغرق مليارات السنين، بدليل أن الأمر لو كان يتعلّق ببعث الأجساد من القبور كما ذهب إلى ذلك المفسرون القدماء لما استعمل تعالى في الآيات السالفة مفردات من قبيل "إلى ربّهم ينسلون" و "جراد منتشر" و " إلى نصب يوفضون". هذه المصطلحات جميعها تدلّ على أن من سينسلون من الأجداث هي نفوس الكفّار دون المؤمنين بدليل قوله تعالى: (قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا ۜ ۗ هَٰذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَٰنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) يس: 52. 

وهذا دليل على قضاء نفوس هذه الفئة من الكفّار لحياتهم البرزخيّة الثانية نياما في الأجداث، ولو كانوا يُعذّبون في قبورهم كما قال بذلك المفسّرون السّلفيون لشعروا بذلك وذكروه عند استيقاظهم، لكن تساؤلهم عمّن أيقضهم من مرقدهم دليل على أنهم كانوا نياما لا يشعرون، فمرّ عليهم الزمان كما لو كان ساعة من نهار، لقوله تعالى على لسانهم: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ ۚ كَذَٰلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ) الروم: 55. وهذا دليل قاطع على عدم شعورهم لا بالوقت ولا بالعذاب سواء في الأجداث بالنسبة للنفوس أو في القبور بالنسبة للأجساد، وهو ما يؤكده تعالى على لسان أهل العلم والإيمان بقوله في الآية التي تليها مباشرة: (وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَىٰ يَوْمِ الْبَعْثِ ۖ فَهَٰذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَٰكِنَّكُمْ كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) الروم: 56. فتصوّر أن يوم البعث سيأتي بعد فناء هذا الكون وإنشاء كون آخر لقوله تعالى: (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ ۖ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ) أبراهيم: 48، وهي عمليّة لا يعلم مداها إلا الله تعالى، لكن قياسا بما نعلم، فإن نشأة وتطوّر كوننا هذا منذ لحظة الانفجار العظيم وإلى اليوم تطلب أزيد من 13.7 مليار سنة.. (فتأمّل). 

كما أن قوله تعالى (كأنّهم جراد منتشر) في الآية 7 من سورة القمر يدل على أن الأمر يتعلق بالأنفس دون الأجساد، لأن الأنفس باستطاعتها التحليق والطيران مثل الجراد بخلاف الأجسام البشرية الدنيويّة.. أقول الدنيويّة لأن لا أحد يعلم بالضبط خاصّيات ومميّزات الأجسام الأخروية التي سيُزوّج تعالى الأنفس بها يوم المحشر، خصوصا أنفس المؤمنين لمعرفة إن كانت ستتمتّع بالقدرة على تحدّي الجاذبية بالطيران والمشي فوق الماء، ما دام أن الأرض في الآخرة ستكون مسطحة لا مكوّرة، ما يعني أنّها ستكون ساكنة بلا حركة ولا مدار، وفي غياب الزمن تنتفي الجاذبية بالضرورة، أي أن عالم الآخرة بما أنه من عالم الملكوت فسيخضع حكما لقوانين خاصة مختلفة عن تلك التي أودها تعالى في عالم الملك.

أما قوله تعالى في الآية: (كأنهم إلى نصب يوفضون) فتدلّ على المشركين تحديدا، والذين سينهضون من مراقدهم سراعا وكأنهم يتوجّهون إلى النصب التي كانوا يعبدونها في الحياة الدنيا، وهذا من باب التشبيه ليس إلا، أي إلى حجارة طويلة تسمّى النصب كان المشركون يقدّسونها كأرباب زمن الجاهليّة لتقرّبهم زلفى إلى الله كما يقول تعالى في محكم التنزيل، وهذا هو سبب استعمال الله تعالى لعبارة "إلى ربّهم ينسلون"، أي إلى ربّهم الذي كانوا يعبدونه في الحياة الدنيا وليس إلى ربّ العلمين الذي هو الله.

أمّا الذين سيكون مصير أنفسهم الرقود في الأجداث بعد الموت دون أن تكون لهم حياة ثانية في البرزخ فهم الذين قال فيهم تعالى: 

- (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ ۖ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ۚ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ۚ فَأُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) النساء: 97.

هذه الآية الكريمة تتحدث عن حوار يدور بين الملائكة والظالمين لأنفسهم مباشرة ساعة الاحتضار وليس في القبر، فيسألونهم "فيم كنتم؟"، فيكون جوابهم أنهم كانوا قلّة مستضعفين وأن الطغاة الظالمين أجبروهم على الكفر ولم يسمحوا لهم بالإيمان، لكن عذرهم هذا مرفوض ما دامت حجّة الملائكة أقوى من حجّتهم لقولهم: "ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها؟". وبعد أن يُرفض عذرهم تخبرهم الملائكة بأن مأواهم سيكون جهنّم يوم القيامة، وفي انتظار ذلك تودع أنفسهم في الأجداث التي هي عبارة عن قبور خاصة بالأنفس كما سبق القول في انتظار البعث، ما دام تعالى لم يشر في الآية الكريمة إلى أنهم سيعذّبون في الحياة البرزخية مباشرة بعد الموت كما هو حال من سيأتي ذكرهم. ومعلوم أن مصطلح ظالمي أنفسهم يعني الشرك تحديدا لقوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ ۖ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) لقمان: 13.


ثالثا: دليل وجود عذاب ساعة الاحتضار.

- يقول تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى ۙ الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَىٰ لَهُمْ * ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ ۖ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ * فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ * ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ) محمد: من 25 إلى 28.

في هذه الآيات الكريمة يُخبر تعالى عن المنافقين الذي ارتدّوا عن الدين بعد أن أملى لهم الشيطان الكفر فقالوا للمؤمنين أنهم سيطيعونهم في بعض الأمر دون كلّه، هؤلاء يعلم الله أسرارهم لذلك بعث تعالى الملائكة ساعة احتضارهم ليُعذّبوهم جسديّا بضرب وجوههم وأدبارهم وهم يُخرجون أنفسهم، ليبلّغوهم سخط الله بعد أن كرهوا رضوانه فأحبط ما عملوا من خير في الحياة الدنيا. هذه الفئة لم يذكر الله شيئا عن العذاب المعنوي الذي سيصيب نفوسها في الحياة البرزخية، ما يُؤشّر إلى أن أنفسهم سيكون مصيرها الأجداث في انتظار الحساب الأكبر ليتحدد عقابهم النهائي يوم القيامة، ومردّ ذلك أن ما عملوا من عمل صالح قبل ارتدادهم وإن كان الله قد أحبطه، إلا أنه لم يشأ أن يُعذّب نفوسهم في الحياة البرزخية لاعتبارات يعلمها هو دون سواه.


رابعا: دليل وجود عذاب ساعة الاحتضار وفي الحياة البرزخيّة.

- يقول تعالى: (وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا ۙ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ) الأنفال: 50.

هذه الآية تؤكّد وجود عذاب معنوي وجسدي سيتعرّض له الكافرون ساعة احتضارهم وحين تقبض الملائكة أرواحهم  وتخرج نفوسهم وهي تضرب وجوهم وأدبارهم، وضرب الملائكة لهم هو عين العذاب لأنه لا يشبه ضرب البشر، ومن ثم تُساق أنفسهم إلى الحياة البرزخية حيث تذوق العذاب المعنوي إلى يوم القيامة، لأن قوله (وذوقوا عذاب الحريق) يحيل على أنه مضاف إلى عذاب ضرب الوجوه والأدبار عند الاحتضار ساعة قبض الروح وإخراج النفس، أما عذاب الحريق فلا يكون تذوّقه من قبل النفس دون الجسد إلاّ في الحياة البرزخية مباشرة بعد الموت حيث توجد النار، فتذوق النفس طعم عذابها قبل ان تدخل النار بجسدها بعد الحساب الأكبر يوم القيامة.

- يقول تعالى: (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ ۚ أُولَٰئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَابِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ۖ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ) الأعراف: 36 – 37.

والحديث في الآية 36 من سورة الأعراف أعلاه هو عن الخلود في النار بالنسبة للمكذبين بآيات الله، أي المكوث مؤقتا في العذاب المعنوي النفسي دون الجسدي في النار إلى أن تقوم الساعة. بدليل أن الله تعالى في الآية 37 التي تليها يتحدث عن لحظة مجيء الملائكة لقبض أرواحهم وإخراج أنفسهم من أجسامهم، فيسألونهم لماذا كانوا يدعون من دون الله، فيردّون بأنهم ضلّوا عن السبيل وشهدوا على أنفسهم بأنهم كافرين وبالتالي، استحقوا ما أعد الله لهم من مصير سيّئ وعذاب مهين.

لكن هناك حالات خاصة تحدّث عنها القرآن تفيد بأن أصحابها وإن لم يعذبوا ساعة موتهم من قبل الملائكة إلا أنهم سيخلدون في العذاب المهين في الحياة البرزخية الثانية، ذلك لأن موتهم لم يكن طبيعيا بل ماتوا غرقا وفي ذلك أيضا نوع من الألم الشديد الذي يرقى لمستوى العذاب النفسي، ويتعلق الأمر بقوم نوح وآل فرعون:

- يقول تعالى في شأن قوم نوح: (مِّمَّا خَطِيٓـَٰٔتِهِمْ أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَارًا فَلَمْ يَجِدُواْ لَهُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ أَنصَارًا) نوح: 25.

وسبب ما حصل لهم يعود لكونهم عصوا الله وكذّبوا نوح عليه السلام، فدعا عليهم ربّه كي لا يترك على الأرض كافرا أو فاجرا أو متكبّرا، ولا صنما قائما كسُواع ويغُوث ويعُوق ونشرا، وهذه أسماء لرجال صالحين من ذريّة آدم ماتوا فأملى الشيطان لقوم نوح بإقامة أصنام لهم وعبادتهم، وبذلك استحقّوا الموت غرقا والعذاب في النار مباشرة بعد صعود الأنفس إلى عالم ما وراء البرزخ ليعيشوا الخلود في عذاب الهون إلى أن تقوم الساعة.

- يقول تعالى في شأن آل فرعون: (فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا ۖ وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا ۖ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ) غافر: 45 – 46.

الحديث في مطلع الآية هو عن رجل قبطيّ مؤمن من آل فرعون غير إسرائيلي، قال كلمة الحق وأيّد موسى في دعوته، فكاد له فرعون وأراد قتله فنجّاه الله مع موسى وأغرق فرعون وقومه في النهر، ومباشرة بعد ذلك أدخل نفوسهم إلى النار يعرضون عليها غدوّا وعشيّا. وهذا دليل على أنهم يتعذبون في البرزخ العذاب النفسي المعنوي دون الجسدي والدنيا لا زالت قائمة لذكره تعالى "الغدوّ والعشيّ" ما يفيد الزمن الدنيوي لتعاقب اللّيل والنهار، ويوم تقوم السّاعة، أي بعد انتهاء أمد الحياة الدنيا، سيأمر تعالى الملائكة بأن يدخلوا آل فرعون أشدّ العذاب الأبديّ النفسي والجسدي معا.


خامسا: دليل دخول المؤمنين إلى الجنّة مباشرة بعد الموت.

- يقول تعالى: (ٱلَّذِينَ تَتَوَفَّىٰهُمُ ٱلْمَلَٰٓئِكَةُ طَيِّبِينَ ۙ يَقُولُونَ سَلَٰمٌ عَلَيْكُمُ ٱدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) النحل: 32.

في هذه الآية الجميلة، يخبرنا ربّ العزة أن الذين تتوفّاهم الملائكة طيّبين، أي مؤمنين وقلوبهم طاهرة من الشرك صافية من أدران الكفر، سيكون مصيرها الجنة مباشرة بعد الموت، والحديث هنا عن الأنفس دون الأجسام، ما يعني أن أنفس المؤمنين ستعيش الخلود في الحياة البرزخيّة تنعم فيها معنويّا بما أعد لها ربّها من خيرات لا تشبه ما استمتعت به في الحياة الدنيا. ويشار هنا إلى أنه كلّما ورد اسم "الجنّة" معرّفا بـ "ال" في القرآن الكريم إلا وأشار إلى الجنّة البرزخيّة بعد الموت لا جنة الآخرة بعد القيامة، ومردّ ذلك أن الجنة بالتعريف تشبه إلى حد بعيد محطة انتظار يقضي فيها المؤمن الزمن الفاصل بين وفاته وقيام الساعة، أما بعد القيامة فهناك عديد أنواع ومراتب الجنّات ذكرها الله تعالى بأسمائها وبيّن شروط استحقاق كلّ منها، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون. وبالتالي، فكل مؤمن حينها سيدخل جنّة يستحقُّها ويتبوّأ فيها المرتبة التي تليق بما قدمه من أعمال في الحياة الدنيا، ولا أحد يدخل الجنة ليخلد فيها في الحياة البرزخية ولا ليعيش الحياة الأبدية في جنة ما بعد القيامة إلا بالعمل الصالح، لقوله تعالى في الآية أعلاه: (ادخلوا الجنّة بما كنتم تعملون) وليس "بما كنتم تقولون".  

- ويقول تعالى: (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ ۖ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) يس: 26 – 27.

الحديث هنا هو عن حالة خاصة تتعلّق برجل سمع رسالات الرسل فآمن بها وجاء يسعى بسرعة من أقصى المدينة لينصح قومه بأن يتّبعوا المرسلين الذين لا يسألونهم أجرا ولا أي غرض من أغراض الدنيا الفانية، عساهم يهتدون لما فيه خير آخرتهم، لكنهم رفضوا نصيحته فقتلوه، فحملت الملائكة نفسه الطيّبة إلى عالم ما وراء البرزخ وقالت لها: "ادخل الجنة بما غفر الله لك"، فتمنى لو أن قومه يعلمون بما غفر له ربّه وجعله من المكرمين، وهذا دليل على أن النفس لا تموت بعد الموت بل فقط تذوق طعم الموت وتبقى حيّة، ودليل أيضا على أن دخول هذا الرجل الصالح الجنة العامّة كان في البرزخ قبل يوم القيامة وليس بعدها، أي مباشرة بعد الموت ما دام قومه الذين رغب في أن يعلموا أن الله غفر له وأكرمه كانوا ساعة مقتله لا يزالون على قيد الحياة في الدنيا. 

وهنا لا بدّ من توضيح أمر غاية في الأهمية بالمناسبة، فالرجل الصالح الوارد ذكره في الآية السالفة، وبالرغم من أنه قُتل في سبيل الله إلا أنه تعالى لم يصفه بـ "الشهيد"، وهذا لا ينفي أن يجعله الله تعالى يوم القيامة "شاهدا" على قومه من باب إقامة الحجة عليهم. والحقيقة أنه لا يعرف من هو هذا الرجل ولا في أي زمان عاش بالتحديد، لذلك فضّل بعضهم تسميته بـ "رجل ياسين" نسبة لذكره تعالى في سورة ياسين. وتبقى الإشارة من باب التّأكيد مرّة أخرى، إلى أن ورود "الجّنّة" في الآية الكريمة بـ (أل) التعريف يؤكد ما ذهبنا إليه من أن الأمر يتعلّق بالجنة العامّة في حياة الخلود البرزخية التي تشبه أرض شاسعة تكون بمثابة محطّة أولى يجتمع فيها المؤمنون الأوّلون والأخرون بالدّور، ويتعرّفّون فيها على بعضهم البعض، وينعمون فيها بما تكرّم عليهم ربّهم بمعيّة الناجين من أحبائهم وأصدقائهم إلى أن تقوم السّاعة. 

- يقول تعالى: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) آل عمران: 169 - 170 - 171.

هذه أيضا من الحلالات الخاصة مثلها مثل "رجل ياسين" الذي تحدثنا عنه آنفا، يخبر فيها الله تعالى بأن الذين قُتلوا في سبيله ليسوا أموات كما قد يعتقد البعض، بل أحياء عند ربّهم يُرزقون، فرحين بما أتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم بأن لا خوف عليهم، لأن الموت في سبيل الله نعمة عظيمة لن يضيع الله أجر صاحبها. وهذه الآية أيضا دليل قاطع على وجود حياة برزخية ثانية يعيش فيها المؤمن الخلود في كنف الله ونعيمه قبل الحياة الأبدية يوم القيامة.


سادسا: هل هناك من سيدخل جنة النعيم دون حساب أبد الآبدين؟

السلفيون والتراثيون عموما يروّجون لفكرة أن هناك من سيدخل جنّة النعيم دون حساب يوم الدين ليعيش فيها أبد الأبدين، مستدلّين في ذلك ببعض الآيات القرآنية من خارج السياق، ومنها على سبيل المثال قوله تعالى:

- (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي) الفجر: من 27 إلى 30.

غير أن هذه الآيات الكريمة وردت مباشرة بعد ذكره تعالى للقوم الكافرين من الآية 24 إلى 26 من نفس سورة الفجر لقوله: (یَقُولُ یَـٰلَیۡتَنِی قَدَّمۡتُ لِحَیَاتِی * فَیَوۡمَىِٕذ لَّا یُعَذِّبُ عَذَابَهُۥۤ أَحَد * وَلَا یُوثِقُ وَثَاقَهُۥۤ أَحَد). والإشارة إلى "يومئذ" تفيد حتما يوم القيامة بدليل قوله تعالى في الآية 22 من نفس السورة: (وَجَآءَ رَبُّكَ وَٱلۡمَلَكُ صَفّٗا صَفّٗا)، وبالتالي فالحساب والخطاب يشمل في السورة الكفار والمؤمنين كل حسب المصير الذي سينتهي إليه على ضوء ما قدّمه من أعمال في الحياة الدنيا.

ويشار إلى أنه كلّما ذكر تعالى الخلود في الجنة دون الأبد إلا وقصد الجنّة العامّة خلال الحياة الثانية في البرزخ، وكلّما ذكر المكوث في الجنّة أبدا إلا وأشار المعنى إلى المصير النهائي بعد يوم القيامة.

ووفق ما يستفاد من آيات الذكر الحكيم، فأنه وبعد انتهاء زمن الخلود في الحياة الأبدية وقيام الساعة، تحشر كل النفوس دون استثناء بما في ذلك نفوس الملحدين والمشركين والكفار والمنافقين والأنبياء والشهداء والصالحين وعامّة المؤمنين والمسلمين الأولين والآخرين، ليتم حساب كل أمة بحضور رسولها أو نبيّها على ما قدّمته في حياتها، لينتهي المصير بكل نفس إلى النار أو الجنة حيث تعيش حياتها الأبدية في المقام وحسب الدّرجة التي تستحقها.     

وسنتناول في فرصة أخرى بحول الله استنادا إلى التنزيل الحكيم دون غيره من المرويات، أسماء الجنات ودرجاتها ومن يستحق دخولها وما أعد الله لعباده فيها من نعم ومكارم ممّا لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على بال بشر.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق