بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 12 سبتمبر 2022

ســـؤال الحياة والموت والبعث (4/2)

 

(ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير)

آل عمران: 28

ماهيـــة المـــوت

منذ ولادته تبدأ رحلة الإنسان مع الموت، دون أن يدرك أن وجوده مجرد وهم، وأن لا مكان له في الحياة الدنيا إلا كذكرى حزينة في قلوب مُحبّيه، ومن لا يدرك معنى المحبّة لا يستطيع فهم معنى الموت، وبكاء الجاهل على من يحب يعني أمر من إثنين: إما أنه يرفض ما كتبه القدر على جبينه، أو أنه يريد كتابة قدره بيده، وهذا مستحيل.. أما المؤمن بالبعث، فيعلم علم اليقين أن الموت ليس النهاية بل فقط البداية لحياة الخلود.. لذلك قال تعالى في الآية 2 من سورة الملك أنه خلق الموت قبل الحياة، ما يؤكد أن الحياة عنصر كامن في طبيعة الموت نفسها، وأن الموت مجرد انتقال من عالم إلى آخر مختلف جملة وتفصيلا.../...

ومرد ذلك بالمفهوم البيولوجي، أن الإنسان في حالة هدم وبناء يومي، فكل يوم تموت ملايين الخلايا في جسد الإنسان وتولد ملايين أخرى من دون أن تخرج التي تموت من الوجود إلى العدم بمفهوم الفناء، بل فقط تتحوّل إلى عناصر مجهرية أخرى كما تؤكد النظريات العلمية الحديثة، وهذا هو معنى أن الحياة جزء لا يتجزأ من الموت لقوله تعالى (يخرج الحي من الميت ويحرج الميت من الحي ويحيي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون) الروم: 19. وهي الآية التي تكررت بصيغ مختلفة في السور التالية: (آل عمران: 27 - الأنعام: 95 - ويونس: 31).

أما بالمفهوم الصوفي، فالموت هو مرحلة تسبق التحول إلى خلق جديد ما دام الله كل يوم هو في خلق جديد كما يقول عن نفسه، فيما الحياة مجرد ابتلاء كما أوضح تعالى في محكم التنزيل، ما دام الإنسان يتعلم ما يجب فعله في الأوقات الصعبة، لكنه للأسف يجهل ما عليه عمله في الأوقات الجميلة، لذلك يعيش في حرب مفتوحة مع نفسه لا تنتهي إلا بانتهاء العمر المقدّرّ له عيشه.. 

قد يفقد الإنسان حبيبا فيعوضه الله بآخر، لكنه لن يهبه عمرا جديدا ليعيش معه ما افتقده من لحظات جميلة مع الحبيب الأول. وكم هي قاسية هذه الدنيا التي تجعل الصديق يغدر بصديقه، والحبيب يخون حبيبه، والأخ يكسر أخاه.. وفي النهاية يرحل الإنسان تاركا خلفه أهله، وماله، وصيته، ولا يحمل معه إلى العالم الآخر إلا أعماله. 

من هنا أهمية ترويض النفس ليعيش الإنسان السعادة الحقيقية في كنف الله، لأن النفس هي البوابة الوحيدة التي يستخدمها الشيطان لإغواء الإنسان، فمن جاهد نفسه هزم الشيطان وقبيله بشكل مسبّق، وسدّ عليهم باب الغواية، وعطّل أسلحتهم الفتّاكة، وأفشل حيلهم الخبيثة.. ممّا يجعل جهاد النفس في مقدمة مراتب الجهاد، والانتصار في جهاد النفس يجعل الانتصار في بقية مراتب الجهاد أمرا ميسورا بفضل نور الهداية الذي يقذفه الله في روع من يسعى في طريق الخلاص الأبدي. أما من انهزم أمام نفسه وانساق وراء جشعه فيتحوّل قلبه حكما إلى عرش للشيطان ومرتع للظلام والضلال. وبالتالي، فإذا لم يكن الإنسان مبتهجا بالطاعة والعبادة فسيعيش العمر مّيتا قبل الموت بدليل قوله تعالى: (أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون) الأنعام: 122. لذلك يعتبر الصوفية أن من عاش في كنف الله عاش حيّا بنوره، ينعم برحمته إلى أن يُبشّره ملاك الموت بنهاية أجله، وحلول وقت رحيله ليعيش الأبدية في جنة الله التي عرضها السماوات والأرض. وبذلك يتحول الموت بالنسبة للمؤمن إلى عرس بهيج تقيمه الملائكة، وإن كان أهله يعيشون الحزن عليه بسبب الفراق، لأنهم لا يشعرون بما هو فيه من بهجة وغبطة وسرور بما رأى من خيرات ربه وموفور فضله. 

ولأن الموت حق، فعلى الإنسان أن يموت قبل الموت للهروب من جلبة حياة الدنيا الغدّارة التي كلّما تعلّق بها الإنسان إلا وتركته دون شفقة في حسرته يعيش الندم والألم، فكل لحظة يعيشها الإنسان في محطته الأرضية إلا وتقربه من الآخرة من حيث لا يشعر، فما فائدة التفاخر والتباهي والسعي وراء الشهوات والرغبات والنزوات العابرة؟

على الإنسان أن يفكر في حفر قبره كلما شغله التفكير في جشعه، لأن الموت سيكون في النهاية جدارا بينه وبين رغباته، وسدا بينه وبين أحبائه. لا مهرب للإنسان من الموت، الموت سيجده أينما كان وأينما حل وارتحل، لقوله تعالى: (أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في برود مشيّدة) النساء: 78.

صحيح أن لا أحد يغادر هذه الدنيا قبل أن ينال نصيبه المُقدّر له دون زيادة أو نقصان، لكن من مات ورحل لم يضع، ولم يذهب، لأن بداخل الكون قيامة دائما، قيامة لا تنتهي إلا لتبدأ أخرى. لاحظ أن البذرة اليابسة التي يعتبرها الإنسان حبة ميّتة من حيث الظاهر تكون حية من حيث الباطن، لأنك إذا دفنتها في التراب ورويتها بالماء ستنفلق لتخرج منها نبتة الحياة فتطفو نحو النور على السطح، كذلك هو الإنسان بعد الموت، يدفن تحت الترى، لكن حين يحين الوقت ينتفض نحو النور ليولد من جديد في خلق جديد، لذلك قال تعالى: (والله أنبتكم من الأرض نباتا) نوح: 17.

وبالمناسبة، أذكر فيما أذكر من لحظات التجلّي أنني كنت جالسا أتأمّل السماء ذات عصر فوق سطح منزلي، فإذا بي أرى نفسي أُدفن في قبر مجهول وأنا في كامل وعيي.. فتحت أعيني فلم أرى إلا الظلام الدامس في التراب الأسود.. فجأة خرجت من القبر روحا وجسدا كشبح مخترقا الحواجز، لأجد نفسي أسبح في النور متجها نحو السماء الصافية الزرقاء، ونسيم عليل بعطر جميل يداعب وجهي، فانتابتني الغبطة والسرور، وحين عدت إلى رشدي أيقنت أن الله أنعم عليّ برؤية ما يحدث للمؤمن بعد الموت في لحظة يقين، لكني لا أعلم حتى الآن بماذا يشعر الإنسان لحظة يذوق طعم الموت.

والحقيقة أن لا شيء كما يبدو من حيث الظاهر ما دام القدر يعمل بشكل خفيّ من الباطن، وأننا لا نلحظ خلال الزمن الوهمي المُسمّى بالحياة بأن عقارب الساعة تدور بشكل عكسي تماما.. فكل سنة، وكل شهر، وكل يوم، وكل ساعة، وكل دقيقة، وكل ثانية، بل ومع كل نفس يقترب الإنسان من مصيره المحتوم للعودة من حيث أتى، ملبيا نداء آدم للعودة إلى الجنة.. ومرد ذلك أن لكل أجل كتاب كما يقول تعالى في محكم التنزيل، والأجل هو وحده يحمي الإنسان من الموت، ما دام لا أحد يموت قبل أجله. 

لهذا السبب يعتبر سؤال الحياة والموت والبعث، من الأسئلة الصعبة التي أرٌقت الإنسان في مختلف الدهور والعصور، وسيظل الأمر كذلك إلى أن يذوق الإنسان طعم الموت فيُبعث من جديد، ليرى بأم العين في عالم الغيب ما كان مخفيا عنه في عالم الشهادة، فيأتيه اليقين لقوله تعالى (واعبد ربك حتى يأتيك اليقين) الحجر: 99. واليقين المقصود هنا هو ساعة الحقيقة عندما يحتضر الإنسان وتزفه الملائكة إلى عالم الملكوت فيرى بعين الحقيقة ما كان مخفيا عنه في عالم الملك، ويكتشف فجأة أن الحياة الدنيا لم تكن سوى وهم وسراب، في حين أن الحياة الآخرة هي الحياة الحقيقية لقوله تعالى: (وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون) العنكبوت: 64.  

ولأن الحياة الدنيا في حقيقة الأمر ليست سوى حلم أو كابوس يعيشه الإنسان نائما لسنوات معدودات بالحساب الأرضي، في حين أنها في حساب الله لا تعدو عن كونها ثواني.. فوحده الذكر يمثل للإنسان فرصة جميلة ليعيش عمرا سعيدا ثاني. وبهذا المعنى الذي يتوافق مع الثابت من الدين، فإن الموت يشبه لحظة الاستيقاظ من النوم لقول الرسول الأعظم عليه السلام: (الناس نيام فإذا ماتوا استفاقوا). إنها لعمري الحقيقة الوحيدة التي يؤمن بها الناس جميعا بغض النظر عن معتقداتهم (كفار ومؤمنين)، لكنهم يبتعدون عن التفكير فيها بسبب ما تُولّده في أنفسهم من خوف وآلام ليستطيعوا الاستمرار في الحياة. إلاّ أنه مهما انغمس الإنسان في طوفان ُمتع الدنيا إلاّ وصدمته حادثة موت أحد الأحبة لتذكره بسؤال الوجود والمصير، فيكتشف فجأة، أن القيمة الحقيقية لا تكمن فيما يعيشه في هذه الدنيا، بل فيما هو غائب عنه في الحياة الأخرى.. لذلك قال نبي الله نوح عليه السلام لملك الموت عندما سأله عن الدنيا بعد أن عاش فيها زهاء ألف عام: "الدنيا تشبه دار له بابان، دخلت من أحدهما وخرجت من الآخر". أما عن الوقت الذي يقضيه الإنسان في الدنيا بغض النظر عن عدد السنين التي قدر له العيش فيها، فقد قدّره الله تعالى بمفهوم الزمن القدساني وكأنه ساعة من نهار قضاها الناس يتعارفون بينهم لقوله تعالى: (ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من نهار يتعارفون بينهم) يونس: 45.

أما القلق من الموت فمرده سوء فهم الإنسان للحياة نفسها، للغاية من وجوده، لحقيقة كيانه، وللقيود الموضوعة على إرادته وحرية اختياره.. وكثير منا يتساءل باستغراب: هل لنا من الأمر من شيء؟ فيجيب الوحي بشكل قاطع: قل الأمر كله لله وليس لكم من الأمر من شيء (آل عمران: 154).. إنه الجبر بمفهومه الغليظ، والحرية ليست مطلقة بل مقيّدة بالنظر إلى الحدود الضيقة المسموح للإنسان التحرك فيها، هكذا يعمل القدر، ولذلك قال العارفون بالله: "إن سبل ربك لا يعلمها إلا هو". ولذلك قال الرسول عليه السلام (شيّبتني هود وأخواتها) في إشارة إلى سور القرآن من هود وما بعدها، لأنه كان يقوم بالعمل بنيّة صادقة صالحة متوقعا نتيجة إيجابية يجزى عليها، لكنه لم يكن يعلم إن كان عمله سيصادف مشيئة الله أم يخالفها، ما دام الأمر كله لله الماسك بناصية المخلوقات جميعا لقوله تعالى على لسان رسوله الكريم: (إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا وهو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم) هود: 6، وقوله أيضا بشأن مشيئته السّارية بالحق في الخلق: (وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين) التكوير: 29.

ولفهم معنى المشيئة الإلهية وحدود حرية الإنسان، وجب التذكير بأن كل ما هو موجود في الوجود موجود بمشيئة الله ولا يمكن لشيء أن يوجد من خارج مشيئته الأمر الذي يلغي عامل الصدفة بالمطلق، لكن هذا لا يعني أن كل ما يحدث للإنسان يحدث بشكل جبري مُسبّق، وإن كان هذا الحدوث لا يخرج عن علم الله العظيم، لكنه حتما لا يحدث من خارج تصرف الإنسان ومسؤوليته عن أفعاله وما كسبت يداه لقوله تعالى: (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير) الشورى: 30. بمعنى أن كل ما يحدث يخضع لسنن وقوانين صارمة ومحدّدة مسبّقا وفق مبدأ السبب والنتيجة.. ومثال ذلك الأمراض، فالإنسان لا يمكن أن يصاب إلا بمرض من الأمراض التي خلقها الله، ولا يمكن لمرض أن يوجد من خارج القائمة التي وضعها الله لعباده، هذا مستحيل والاعتقاد به يعد شركا بالمفهوم الغليظ. أما حرية الإنسان فتضيق أو تتسع حسب تقدمه في مجال العلوم واتخاذه من الاحتياطات اللازمة لتجنب الأمراض والأوبئة، والفرق واضح بين ما عرفته البشرية قديما من أوبئة بسبب الجهل في التعامل معها (الطاعون أو الموت الأسود نموذجا)، وكيف نجحت في تجنب معظمها اليوم بفضل العلوم والمعرفة التي أدت إلى تحسن الأوضاع المعيشية والصحية للإنسان عموما. ما يؤكد أن النتائج مرتبطة بمقدماتها ولا تأتي من فراغ كما يقول ابن رشد. فعدم معرفة سبب الإصابة بمرض عضال اليوم مثلا، لا يعني استحالة تجنبه أو علاجه بل يعني أن الانسان لم يصل بعد لمعرفة طبيعته وأسبابه، وظهور وباء جديد لا يعني أنه لم يكن موجودا من قبل بل فقط لم تتوفر الأسباب الموجبة والظروف الموضوعية لظهوره، ومعلوم أن الله ما خلق من داء إلا وخلق له دواء، ومعلوم أيضا أن الإنسان مهما بلغ من علم ومعرفة لا يستطيع أن يخلق ذبابة فأحرى كائنا يتمتع بالحياة كالفيروس مثلا، يقول تعالى في هذا الصدد: (ولله جنود السماوات والأرض وكان الله عزيزا حكيما) الفتح: 4. ويقول أيضا: (وما يعلم جنود ربك إلا هو) المدثر: 31. 

من جهة أخرى، وبسبب آفة الجهل، كثير من الناس يعتقدون أنهم قدموا إلى الدنيا من دون إرادتهم، وأن ما يعانونه من آلام في تجربتهم الأرضية مقدّر لهم، وكأن الشقاء هو ثمن الخلاص في الآخرة. هذا اعتقاد خاطئ يكشف عن مدى غباء الإنسان وجهله بنفسه، وبربه، وبقدرته على تغيير قدره دون تغيير قضاء الله الذي هو بأمر "كن" لا يتبدّل ولا يتحوّل، فالقدر يمكن تغييره من خلال الأخذ بالأسباب كلّما لازم الإنسان شجرة المعرفة التي تكمن سعادة الدنيا وخلاص الآخرة في فاكهتها الطيّبة، بخلاف القضاء المبرم الذي لا راد له. لذلك أمر الله تعالى الإنسان في أول آية من أول سورة نزلت من القرآن الكريم بالقراءة. والقراءة لا تعني التلاوة للتبرّك فقط كما يفعل عامة المسلمين، بل تعني التعلّم في مدرسة الله وعلى يده، والتدبّر في ملكه لحصول المعرفة الحقيقية بما حوته آياته من رموز وإشارات، وما تضمّنه الكون من قوانين وسنن تجري مجرى الحق في الخلق، ومنها يكتشف الإنسان ما ينفعه بسلطان العلم، الأمر الذي يساعده على التقدم والتطور وتغيير حياته دائما نحو الأفضل ليعيش السعادة في الدنيا ويضمن الخلاص في الأخرة. 

لكن الصعوبة تكمن في المتناقضات التي تؤثث كل جوانب حياة الإنسان باعتبارها من المقومات الأصيلة التي تحكم التجربة الأرضية، ما دام أن الإنسان بانتمائه في أصل تكوينه إلى عالمين متباعدين – عالم النور (الروح) من جهة، وعالم الظل (الطين) من جهة أخرى – فتراه حينا يتسامى بالتقوى نحو ملكوت السماء ليتحوّل إلى ملاك يطير بغير أجنحة في عالم النور والجمال.. ثم تراه تارة أخرى بدافع الغرائز ينزل إلى الدرك الأسفل فإذا هو في وحل طين الشهوات لا يختلف عن الحيوان، بل قد يكون أدنى منه درجة بسبب جهالته التي تؤدي به إلى السباحة المُتسكّعة في الظلام.

لا غرو أن الموت هو الحقيقة الوحيدة التي تُذكّر الإنسان بأن لا مفر له من الله إلا إليه، وأنه يعيش أسيرا في الحياة، كراكب البحر إذا نجا من الغرق فلن يسلم من الخوف.. لأن الخوف يرافق الإنسان في كل محطات حياته، إذا أمن الجوع لا يأمن المرض، وإذا أمن المرض لا يأمن الشيخوخة كما يقول الصوفية.. وفي الشيخوخة عجز، وضعف، وأوجاع.. لقوله تعالى: (والله خلقكم ثم يتوفّاكم ومنكم من يردّ إلى أرذل العمر لكي لا يعلم بعد علم شيئا) النحل: 70. وبذلك يكون الموت هو الفاجعة الكبرى التي تأتي من غير استئذان لتنتزع الإنسان من أحبائه، وآماله، وأحلامه، وأوهامه، فتعيد جسده (القالب) إلى التراب حيث ينتمي، وتعيد روحه (الطاقة = نور الحياة) إلى صاحبها الذي أودعها أمانة عنده، وتعود نفسه (أناته الذاتية المكونة من عقل وقلب وفؤاد) إلى البرزخ المقدر لها السكون فيه في انتظار البعث للمساءلة التي تنتهي بالجزاء أو العقاب حسب جنس العمل.

وبالرغم من أن الله كرّم آدم على كل المخلوقات بما في ذلك الملائكة الذين أمرهم بالسجود له، بمعنى الخضوع له لتكون الملائكة في خدمته من الباطن بما يتوافق مع مشيئة الله (الركوع يعني التصديق، والسجود يعني الطاعة بالمفهوم القرآني)، إلاّ أنّه وبسبب جهله وظلمه وجشعه، عصى ربه حين أكل من شجرة المعرفة المحرمة في الجنة اعتقادا منه أن فاكهتها ستحوّله إلى ملاك طاهر أو كائن خالد وفق ما أوهمه الشيطان.. فعاقبه الله على عصيانه بطرده من النعيم، وجعل عقابه من نفس جنس المعصية، أي أن يبذل الجهد والمجاهدة في الحياة الدنيا ليحصل على المعرفة الحقيقية فيسترد بنور الله ما ضاع منه من سعادة، ما دام قد سرق فاكهة المعرفة من الشجرة المحرمة في الجنة حين أراد اكتشاف سر الأسرار واللغز الخفيّ من غير جهد أو مجاهدة كما يقول الصوفي الكبير مولانا جلال الدين الرومي. 

ورغم الخطيئة الأولى، إلا أن الله تعالى برحمته غفر للإنسان ووهبه العقل والقلب والكتاب لينيروا له سبل النجاة من ظلمات الفتن ومنزلقات الحيرة والضلال التي تُعمّر الفؤاد فتعترض طريقه في الحياة.. العقل ليكون بمثابة الميزان الذي يُميّز به بين الخطأ والصواب، والقلب ليكون بمثابة خزّان الفطرة التي تساعده على معرفة طريق الهداية من الضلال ضدا في ما يحثه عليه الفؤاد من شهوات باعتباره موطن الغرائز والهوى، والكتاب باعتباره دستور الحياة ومرجع الحقائق الدينية والأخلاقية التي تساعد الإنسان على الاستقامة وبناء مجتمل فاضل.. وجعل حياته مجموعة تجارب ليتعلم منها كيف يميّز بين الصواب والخطأ، وبهذا المعنى يتميز الإنسان عن باقي المخلوقات بأنه كائن أخلاقي، يستطيع بحرية الإرادة المحدودة التي منحت له أن يختار بين الخير والشر، بين الصواب والخطأ، بين الهدى والضلال.. لذلك، فلا غرابة أن يكون أكثر الناس معرفة بالصواب هم من ارتكبوا الكثير من الأخطاء، ولو شاء ربك لجعل في الأرض ملائكة لا يخطؤون، ولو كان البشر معصومين لا يذنبون لأفناهم تعالى جميعا واستبدلهم بمخلوقات تُخطئ وتعصى ثم تستغفر وتتوب وفق الحديث القدسي المشهور، ومعلوم أن خير التّوّابين عند الله الخطّائين.. فسبحان الله ما أرحمه، ما أعظمه، وما أجمله.

وبالمناسبة تحضرني حكاية اعتراف غريب لأول ملياردير في التاريخ الأمريكي جون روكفيلر الذي أسس ثروة تقدر بأكثر من 340 مليار دولار. حين سئل ذات يوم عن سر تحوله إلى أكبر أغنياء العالم وتأسيسه لشركة "ستاندرد أويل" سنة 1870 بأوهايو في سن الشباب، فقال: أنا أنتمي لعائلة قروية فقيرة ومتدينة، كان كل حلمي في طفولتي أن أحصل على دراجة هوائية، ولأن والدي كان فقيرا فقد كنت أدعو الله في كل ليلة أن يحقق حلمي لكن دون جدوى، وفي يوم من الأيام سرقت دراجة، وبدأت ببيع الحلوى وتربية الديوك وبيعها، فكونت ثروة صغيرة بدأت بها حياتي، وسر نجاحي يكمن في أنني فهمت أن مشيئة الله لا تعمل بالدعاء فقط، وأن أحب العباد عند الله المذنب التائب، ولو كان الله يريد في الأرض قديسين لأنزل إليها الملائكة.. هذه المعرفة هي التي غيّرت حياتي فأصبحت ما أنا عليه. 

وفي هذا الصدد يقول الصوفي الكبير مولانا جلال الدين الرومي صاحب قواعد العشق الإلهي في قصيدة شهيرة ما معناه: لقد كان آدم سعيدا في الجنة قبل أن تدخل المعرفة في وجوده، وتسكن كيانه، فما أن اتصلت به، واستقرت فيه، نظر، فعرف أنه عريان، فشعر بالحسرة والألم، وأدرك أن طريق الخلاص يكمن في صبر أغوار المعرفة للنجاة من ظلمات بحر الدنيا المتلاطم بأمواج الضلال إلى شاطئ الجنة حيث النور والسلام والسعادة والأمان، والوصول إلى بر الأمان لا يكون من دون خوض تجربة تحدي الأمواج العاتية التي تعترض سبيل الإنسان في بحر الحياة بقوة وإصرار، الأمر الذي يتطلب حكما معرفة فن الإبحار.

وبهذا المعنى، لا يعدو الموت عن كونه مجرد قنطرة يعبر منها الإنسان من محطة الدنيا إلى محطة الآخرة بعد أن يحصل على المعرفة، أي أنه يعبر من عالم الثنائيات والأضداد والتناقضات إلى عالم الأحدية والتناغم والانسجام والسلام.. فبفضل الموت البيولوجي تنتهي حياة الجسد الذي يتحول إلى تراب، في حين تعود الروح إلى صاحبها الذي صدرت عنه، فيما تستقر النفس في عالم البرزخ في انتظار البعث والحساب.. إنها لحظة تحرّر فارقة في حياة هذا المخلوق الضعيف المسمى بالإنسان، والقلق من الموت مردّه سوء فهمنا لما هو مادي ظاهر وما هو جوهر باطن، أي لما هو فان وما هو خالد، وبمعنى أكثر دقة: - بين ما نلحظه بحواسنا في عالم الشهادة فنقول عنه أنه موجود.. – وبين ما هو غائب عنا في عالم الملكوت فيبدو لنا أنه غير موجود.. لأنه إذا كانت معرفة كل ما هو ظاهر من مجال العقل وتتم عن طريق الحواس، فإن معرفة كل ما هو باطن هي حكما من مجال القلب، وبالتالي لا يمكن معرفة بعض من أسرار هذا الباطن إلا بنور الله الذي يفتح به على من يشاء من عباده لقوله تعالى: (أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك زُيّن للكافرين ما كانوا يعملون) الأنعام: 122، والعقدة تكمن في أنه لا يمكن فهم الحياة والموت إلا إذا استطعنا فك معادلة "الله – الإنسان – العالم" من خلال شيفرة العشق الإلهي، الأمر الذي يتطلب الكثير من العطاء لوجه الخالق دون انتظار العوض من المخلوق.

القرآن من جهته يشير إلى هذه الحقيقة من خلال معادلة تبدو بسيطة من حيث الظاهر، لكنها شديدة التعقيد من حيث الباطن. فالله تعالى يقول: (هو الأول والآخر والظاهر والباطن) الحديد: 3. أي أنه أول من دون بداية، وآخر من دون نهاية، وظاهر من دون حضور، وباطن من دون غياب.. وفي ظل هذه المعادلة العجيبة يتساءل الإنسان باستغراب عن محله من الإعراب.. هل هو وسيط بين الله والعالم كما يبدو الأمر في المعادلة الثلاثية السالفة الذكر وأنه مطالب بتغيير العالم؟ أم أنه مجرد أداة يستعملها الله لتدبير شؤون العالم بالحق، وأنه مطالب فقط بفهم العالم كما أراده الله أن يكون دون السعي وراء وهم تغييره، بل فقط العمل على نفاذ مشيئته بالنية الطيبة والعمل الصالح دون الاهتمام بالنتائج؟

وسبب ذلك يكمن في أن هذه الصفات الأربعة (الأول - الآخر - الظاهر - الباطن) التي تفرّد الله تعالى بها، لا مظروفية لها من حيث الزمان والمكان، لأن الله محيط بكل شيء، لا يسري عليه زمان ولا يحده مكان.. خصوصا وأننا نعلم اليوم بفضل آخر نظريات فيزياء الكوسموس، أن الزمن بدأ بالانفجار الكبير الذي نتج عنه تمدد الكون الحالي، سواء كحدث هذا الانفجار لأول مرة أم حصل بعد انكماش كون سابق حسب نظرية الانكماش العظيم الجديدة التي يسعى العلماء إلى إثبات صحتها من خلال اكتشاف آثار الكون القديم بعد الانفجار العظيم  في الثقوب السوداء التي تعتبر بحق مقبرة الكواكب والنجوم والأجرام، وأن هذا الزمن كما هو معلوم يختلف بين الأرض والكواكب التي تنتمي إلى المجموعة الشمسية في درب التبانة مثلا، وذلك حسب حجم ودوران كل كوكب حول نفسه وحول الشمس، ولا نتحدث عن الكواكب والنجوم في المجموعات الأخرى التي تنتمي لمجرات السماوات العلى وتحتاج لقياسات فيزيائية فلكية مستحيلة بأدوات ومقاييس علماء الأرض الحالية. وبرغم هذه النسبية، إلا أن كل ما يجري في الكون الشاسع بسماواته السبعة يجري بالنسبة لله حاضرا دون ماضي ولا مستقبل، هناك فقط "الآن" بمفهوم المدى اللامتناهي، ما دام الله خارج عن حدود المكان ومتحرر من قيود الزمن.. لذلك تتحدث آخر النظريات الفيزيائية عن انتفاء الزمن (التاريخ الموجز للزمن، للعالم ستيفن هوكينغ صاحب نظرية الانفجار العظيم ونظرية الثقوب السوداء). وقبله قال العالم أينشتاين صاحب النظرية النسبية العامة والخاصة، بأن الزمن مجرد ظاهرة نسبيّة مرتبطة بوجود المكان، لأنه عندما ينتهي الكون تنتهي الحركة فينتهي المكان والزمان معا. هكذا بدأ الأمر أول مرة قبل الانفجار العظيم، وهكذا سيكون في نهاية الزمن الكوني عند النفخة الأولى لقوله تعالى: (ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون) الزمر: 68. فعند النفخة الأولى سيكون الفناء ونهاية الكون لقوله تعالى: (كل من عليها فان * ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام) الرحمن: 26 – 27. وعند النفخة الثانية سيعيد الله خلق كل شيء من جديد بما في ذلك السماوات والأرض والجنة والنار، فيكون البعث لقوله تعالى: (يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار) ابراهيم: 48. وقوله: (الله يبدأ الخلق ثم يعيده ثم إليه ترجعون) الروم: 11.

وعودة إلى تفسير معنى قوله تعالى في تعريف نفسه: (هو الأول والآخر والظاهر والباطن)، لا يسعنا إلا أن نستند إلى ما قاله الرسول الأعظم عليه السلام حين سُئل أين كان ربنا قبل الخلق؟ فقال: (كان في عماء ليس فوقه هواء وليس تحته هواء). وواضح أن المقصود بالعماء بالمفهوم الأنطولوجي (الوجودي) هو مرتبة الأحديّة قبل خلق السماوات والأرض حيث لا حركة إلا السكون. أما بالمفهوم اللاهوتي فيعني الفضاء الخالي والمظلم قبل تشكل الكون وفق ما ورد في الإصحاح الأول من سفر التكوين عند اليهود. أما عدم وجود الهواء فسببه عدم وجود الكواكب والأجرام كما هو واضح، لأن الهواء لا يكون إلا نتيجة الحركة الدائرية للأجسام، ومنها يتولّد الزمن. لكنه (أي الرسول) حين سُئل عن ربنا كيف كان؟ وكيف هو الآن؟ قال: (كان ولا شيء معه وهو الآن كما كان لا يزال). وهذا يعني أن لا شيء تغيّر بالنسبة لله، لأنه لا يحده مكان ولا يسري عليه زمان كما سبق القول، فما حدث هو أن الله كان ظاهرا لنفسه قبل الخلق ولا شيئ معه، وعندما خلق الخلق أصبح الخلق ظاهرا والله باطنا لا يرى بسبب طبيعته الفريدة. وهذا لا يعني أنه أصبح للخلق وجود ثاني مستقل عن الله، لأن من يعتقد بذلك يسقط في الشرك الغليظ من حيث يدري أو لا يدري، ما دام لا شيء يوجد مع الله أو من خارجه لا قبل الخلق ولا بعده، وهذا هو معنى الأحديّة في الإسلام، والكثرة مجرد وهم. 

والمفارقة تكمن في السر من وراء ذلك، لأنه عندما يدرك الإنسان بفضل الخيال الخلاق الذي يميّزه عن بقية المخلوقات أن الظاهر مجرد وهم وأن الباطن هو عين الحقيقة، حينها، وحينها فقط، ستتغيّر لديه كل القناعات الخاطئة التي ترسّخت في ذهنه نتيجة النفايات الثقافية التي زرعها فقهاء الرسوم في عقله عبر التاريخ.

وإذا كانت معرفة الظاهر المنظور هي من وظيفة العقل ويعبر عنها بالتفسير، فإن معرفة الباطن اللامرئي هي من مجال القلب، والتي يمكن إدراكها إلا بالتأويل الذي خص به تعالى الراسخون في العلم الذي يعرفون الفرق القائم بين المحكم والمتشابه في التنزيل. لكن ليس كل شيء يدرك بالتأويل، فهناك حقائق وأسرار تتعلق بالغيب لا يعلمها إلا الله تعالى دون سواه، وتأويلها يبقى سر لا يُكشف للإنسان إلا بعد موته، لذلك قال تعالى في مخاطبة المكذبين بالدين: (هل ينظرون إلاّ تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق) الأعراف: 53. أي أن التأويل يكون برد الكلام إلى معناه الأول، أو كما يقول علماء المنطق، أن يكون لدلالة الخطاب مصداق عملي يؤكد صحته الواقع. والمصداق الواقعي لكلام الله وفق الآية السالفة الذكر، سيكون في عالم الغيب بعد الموت كما هو واضح. لذاك، فإن ثاني شرط للإيمان وضعه الحق سبحانه بعد الإيمان به، هو الإيمان بالغيب، لقوله تعالى: (الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون) البقرة: 3.

وطبيعي أن يكون الأمر كذلك، لأن قضية الموت والبعث والخلود، هي من القضايا الغيبية التي ليس بالإمكان معرفتها دون مشاهدة عينيّة، وهو أمر مستحيل في الحياة الدنيا، وكل محاولة لفهم بعض من أسرارها عن طريق الاستنتاج الموضوعي، لا بد وأن تستند إلى أصلين: 

- ما وصل إليه العلم الحديث من نتائج حول طبيعة المادة ومفهوم الزمن.

- ما ورد في كتاب الله الحكيم من رموز وإشارات تتطلب التدبّر لفك ألغازها وفهم معانيها الظاهرة والباطنة بين المحكم والمتشابه، خصوصا ما له علاقة بطبيعة الله ذاتا وموضوعا، وماهية النور، والجسم، والنفس، والروح، والعقل، والقلب والفؤاد، وظاهرة الموت، وكيف يكون البعث والإحياء وفق ظروف العالم الآخر التي تتطلب بنية مغايرة سماها تعالى في محكم التنزيل بـ "خلق جديد".

وبالمحصلة تتم مقارنة نتائج الأصلين ببعضها، للبناء عليهما في عملية الاستنتاج الموضوعي لمعرفة بعض من أوجه الحقيقة وليس الحقيقة كلها، لأن السعي وراء معرفة الحقيقة لهو أنبل من الحقيقة نفسها كما تقول القاعدة الفلسفية الحديثة. ومن نافلة القول التأكيد على أن الحقيقة تظل دائما وأبدا مفهوما نسبيا غامضا وملتبسا نظرا لاختلاف مجالاتها وتنوعها واختلاف أوجهها ومظاهرها بين ما هو عقلي موضوعي وما هو حدسي غيبي، الأمر الذي يتطلب دائما وأبدا مراجعة المعرفة المكتسبة بآليات النقد العقلي لإعادة بناء الذات حسب الحاجة والمنفعة مع مراعات الجانب الأخلاقي، ما يستوجب التقيّد بقواعد المنهج من جهة، ومقتضيات الإيمان من جهة ثانية.. لكن دون الجزم بأن ما سيصل إليه الإنسان من معرفة هو عين الحقيقة، لأن الاستنباط بالبداهة العقلية نفسها قاعدة نسبية تختلف باختلاف طرق الاستنتاج بين نور العقل ونور الحدس، بين ما هو نظري وما هو تجريبي، الأمر الذي يجعل من تطابق الفكر والواقع أمرا شديد التعقيد، خصوصا حين يتحوّل كل استثناء إلى قاعدة مستقلة قائمة بذاتها كما حدث في علم اللغة. غير أن الحقيقة لا تكون حقيقة إلا إذا كانت تعبر عن قيمة مكتسبة، بحيث لا يتعارض طابعها العملي النفعي مع القيم الأخلاقية السائدة، كي لا يكون للتصور النفعي البراغماتي مفعول سلبي في حياة الناس يبعدهم عن الغاية الحقيقية من خوضهم للتجربة الدنيوية وفق ما يقتضيه التصور الديني الذي يعتبر الحقيقة قيمة أخلاقية على أساسها تحدد المصالح العامة والمنافع الخاصة. وهنا يكمن الفرق بين التصور الإسلامي الذي لا يأخذ بالحقيقة إلا إذا تمت مراعات الجانب الأخلاقي من جهة، والتصور الغربي الذي يغفل عامل الإيمان ويأخذ بالعامل النفعي ما دام الواقع هو الذي ينتج الحقيقة وفق ما يزعم المنهج البراغماتي في عصر ما بعد الحداثة.

يتبـــع...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق