بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 22 سبتمبر 2022

ســـؤال الحياة والموت والبعث (4/4)


(ما خلقكم ولا بعثكم الا كنفس واحدة)

لقمان:28

الموت بالمفهوم الديني

من وجهة نظر الدين، وكما سبقت الإشارة في الأجزاء الثلاثة السالفة، لا يعتبر الموت النهاية بل فقط البداية لحياة الخلود، بمعنى أن الموت هو مجرد نهاية لدورة الحياة الدنيا الفانية وبداية لدورة الحياة الآخرة الأبدية.. ولولا الولادة لما كان هناك موت، وكما لا يشعر الإنسان بولادته فهو حتما لن يشعر بموته ما دام الموت يشبه النوم لقوله تعالى: (وهو الذي يتوفّاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنّهار ثم يبعثكم فيه ليُقضى أجل مسمّى ثم إليه مرجعكم ثم ينبّئكم بما كنتم تعملون) الأنعام: 60. لذلك يعتبر الخوف من الموت أشد رعبا من الموت نفسه، أما الألم الذي يرافق موت المريض فمرده علة المرض لا ظاهرة الموت.../...

هذا فيما يعتبر الحزن أقسى أنواع الشقاء الذي يحل بالإنسان، ومعناه أن يصعد الإنسان إلى قمّة الألم الذي لا يطاق بسبب الفراق، ولا يشعر الإنسان بحقيقة هذا الألم إلا عندما يدمع القلب لا العين، ذلك أن الحزن هو صراع داخلي يحث الإنسان على معرفة الحقيقة بين صخب الأصوات التي تتعالى في الأعماق.

يعيش الإنسان الحزن وحيدا مثله مثل الإحساس بالألم الذي لا يمكن أن يتقاسمه مع غيره حتى لو كان أقرب الناس إليه، لأن الإحساس بالألم هو أحساس فردي يدفع الإنسان لأن يغوص في أكثر الزوايا المظلمة في أعماق نفسه، فيبدأ الاحتراق في القلب ليُؤجّج نارا تدلّه على طريق الخلاص.. لا أحد ينير طريق الإنسان سوى نور الجحيم المشتعلة في الصدر، فمنها يتعلّم الإنسان كيف يبتسم للقدر وروحه تحترق من الألم من دون أن يستطيع الشكوى أو البكاء، وهذا هو قمّة الاستسلام.

وحده الزمن هو الذي يساعد الإنسان على الهروب من عجزه أمام الحزن والألم، الزمن هو من يُعلّم الإنسان كيف يترك نفسه لنفسه عندما يأتي المصاب فيضرب الإنسان بالأحب إلى قلبه من دون أن يستطيع فعل شيء سوى أن يحزن ويتألم وهو مشلول الإرادة، مقيّد اليدين، عاجز عن الفعل.

هذا العجز هو الذي يساعد الإنسان على التذكّر بأنه في النهاية مجرد إنسان ضعيف لا قدرة له أمام ظاهرة الموت التي تحل به ولا يستطيع فعل شيء سوى التسليم والقبول بخشوع، أو الغضب الذي لا يغيّر من الواقع شيئا بقدر ما يقود الإنسان إلى الكدر والإثم بجهالة، ما دام الإنسان خلق من عجل (الأنبياء: 37)، وما دام قد مضى حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا (الإنسان: 1)، وبالتالي فالإنسان لا يستطيع أن يدرك أنه مجرد إنسان إلا إذا ذاق مرارة الحزن ولوعة الألم.. لهذا يقول الصوفية أن على الإنسان أن يموت قبل الموت ليعرف حقيقة نفسه، ومن لا يعرف نفسه لا يمكن أن يعرف ربّه كما قال الرسول الأعظم عليه السلام في حديث مشهور يقول: "من عرف نفسه فقد عرف ربّه".

والموت أنواع، فالإنسان قد يموت كل يوم من خوفه، ويموت بالتأكيد كل ليلة أثناء نومه كما أكد تعالى في محكم التنزيل، والفرق بينهما أنه في الأولى يعيش الحيرة والقلق، أما في الثانية فلا يشعر بالموت بل يعتقد أنه كان سائحا متسكعا في عالم الأحلام، لكنه لا يموت إلا مرّة واحدة بانقضاء أجله فتذوق نفسه حينها طعم الموت ويأتيه اليقين لقوله تعالى (واعبد ربّك حتى يأتيك اليقين) الحجر: 99، لكن حين يموت أعز أحبائه إلى قلبه، حينها، وحينها فقط، يذوق طعم الحزن الحقيقي الذي يعتصر قلبه، هذا فيما حبيبه المفارق إذا كان مؤمنا مرضيّا عنه يشعر بالفرحة بسبب البشارة التي تلقاها من الملائكة ساعة احتضاره، والغبطة بقرب لقاء محبوبه الذي هو ربّه، لكنّه لا يستطيع أن يخبر عن ذلك لأن لسانه معقود، وحدها قسمات وجهه تحكي عن حاله لمن يفقه قراءة الاشارات.. هذا التواصل بين عالم الملك وعالم الملكوت لا يفهم لغته إلا من وهبه الله القدرة على ذلك، لأن الأمر يتعلق بلغة إشارية لا تشبه في شيء اللغات البشريّة المستعملة في مواقع التواصل الاجتماعي والتي هي عبارة عن مقابر جماعيّة يدفن فيها الناس العاديين طاقاتهم الحسّيّة بدل أن يصرفوها فيما يعود عليهم وعلى مجتمعاتهم بالنفع فينالوا رضا الله.

هناك من الناس من يموت آلاف المرات في حياته من جبنه وخوفه كما يقول وليامس شكسبير، وهي المقولة التي نسبت خطأ إلى نيلسون منديلا.. ومن الناس من يموت مرة واحدة من شجاعته وتضحيته كما هو حال المقاتل في سبيل الله والمدافع عن وطنه وعرضه وأرضه وماله وشرفه. والحقيقة أن الموت الحقيقي هو هروب الروح من سجن الجسد المظلم نحو الحرية في كنف الله.

والحقيقة، أن الموت وحده من يُشعر الإنسان عند الاحتضار بأنه ولد وحيدا وعاش وحيدا في مواجهة قدره وسيرحل وحيدا ليواجه مصيره، وأن القوة التي كان يشعر بها بين الأحبة والأصدقاء قبل حلول الأجل لم تكن سوى سراب سرعان ما تلاشى أمام جبروت الموت، ليصطدم المسافر في نهاية رحلته بالأسئلة الحقيقية التي تؤرّقه فلا يجد لها جوابا، وحده من يمتلك البصيرة يرى بنور الله الجواب الكامن في بنية السؤال، ومفاده: "هنا الباقية.. فماذا قدّمت لنفسك في الفانية؟" 

عندما أنزل الله تعالى على رسوله الآية التي تقول (ورحمتي وسعت كل شيء) الأعراف: 156، قال الشيطان "أنا من ضمن كل شيء"، لأن الشيطان لم يشرك بالله بل فقط عصاه مثل ما عصاه آدم حين أكل من شجرة المعرفة بحثا عن الخلود.. فأنزل الله بعدها (فسأكتبها للذين يتّقون ويؤتون الزكاة والذين بآياتنا يؤمنون) نفس الآية، وبالتالي لم تعد الرحمة مطلقة كما اعتقد الشيطان ومعه عديد رجال الدين، بل أصبحت الرحمة مشروطة بالتقوى والعمل الصالح النابع من الإيمان بما ورد في كتاب الله من آيات بيّنات وفق ما تفصح عن ذلك الآية الكريمة بجلاء، ففهم الذين يخافون الله أن الطريق إلى الجنة مفروشة بالأشواك. 

ولعله بسبب الخوف من الموت عصى آدم أمر ربه في البداية، فأكل من شجرة المعرفة اعتقادا منه أن فاكهتها ستضمن له الخلود وفق ما أوهمه الشيطان، ما يفصح ضمنيّا عن حقيقة مُؤدّاها، أن آدم كان مدركا لحقيقة الموت، لأن الله لم يخلقه بعصا سحرية بسرعة البرق، بل اصطفاه من بين البشر البدائي الذي كان يسفك الدماء ويفسد في الأرض بعد أن اكتمل نموّه، فجعله خليفة لهذه المخلوقات المتوحشّة التي أبادها الله، وليس خليفة لله كما روّج لذلك فقهاء القشور، لأن الحي الحاضر القائم على ملكه في وكل وقت وحين لا يحتاج لمن يخلفه، ووهبه تعالى الحريّة وإرادة الاختيار في حدود، وعلّمه الأسماء كلّها فحوّله إلى إنسان أخلاقيّ ذو ضمير يحاسبه، الأمر الذي يؤكد أن دافع آدم لأكل الفاكهة المحرمة هو الخوف من الفناء والسعي لنيل حياة الخلود، وهي نظرة قاصرة تنمّ عن عدم إدراك آدم في حينه لأهمية الروح والنفس، بخلاف الجسم الذي مآله الاندثار والتحول. وهذا هو معنى الأعراف.

فالأعراف معناها أن تعرف، لقول الرسول الأعظم: "من عمل بما يعلم ورّثه الله ما لا يعلم" فيصل بالتالي إلى المعرفة التي هي أسمى من العلم، وهذا ما سعى آدم للحصول عليه بأكله من الشجرة المحرّمة، أي المعرفة المجانية من دون تعب، فعاقبه الله من نفس جنس المعصية حين أنزله إلى الأرض ليعيش تجربة الحيرة والقلق والخوف والحزن والألم وهو يسعى للفهم ومعرفة الحقيقة كما يقول مولانا جلال الدين الرومي صاحب المثنوية وأربعينية العشق الإلهي، فكان قدر آدم أن  يشقى وهو يتعلّم من أحزانه وفشله وعجزه وجهله والمصائب التي تحل عليه خلال رحلة حياته، وبمعنى آخر، أن يتعلّم من تجربته الخاصة ليكتشف طريق الخلاص بنفسه، من نفسه، ولنفسه.

وهذا يعني أن الشجرة التي أكل منها آدم وحواء في الجنة هي شجرة المعرفة، وبسبب ذلك بدت لهما سوءاتهما فطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة كما جاء في الآية 22 من سورة الأعراف، أي أن المعرفة الحقيقية التي سعى إليها آدم لا يمكن أن يكتسبها من دون نور الله الذي يحفر المعاني في قلب من يشاء من عباده، ومن يسعى للحصول على المعرفة الحقيقية من ظاهر النص (الشجرة) إنما يتعلق بالشكل بدل الجوهر، ذلك أن نور الله بالنسبة لقلب الإنسان هو كالماء بالنسبة للشجرة، يمثل أكسير حياتها وسرّ عطائها، لأن الشجرة التي ينقطع عنها الماء لا تستطيع أن تعطي أكلها، فتتحوّل إلى هيكل جاف ينخره الدود من الداخل لينتهي بها المطاف إلى الموت والسقوط لتتحوّل في النهاية إلى غبار كما كانت قبل الوجود، وكذلك ومثال الإنسان الجاهل الذي لا يُشعّ قلبه بنور الحب، فتراه من قبحه يسعى جاهدا لإسماع صوته عبر قوله: "أنا" و "لي" و "من أجلي" و "بسببي" وما إلى ذلك من عبارات التكبّر والغرور.. لذلك قال العارفون بالله: "لا يُؤكل العسل مع القبيح، أمّا مع الجميل فيُؤكل الحجر".

وفي القرآن، شبّه تعالى الأعراف بسور يفصل بين الجنة والنار، سور من قبله العذاب وباطنه فيه الرحمة، وهذا تشبيه مجازي ينطبق وحال العارف العاشق الهائم في لله، هذا الإنسان الجميل سيكون يوم المحشر في موقع وسط بين الجنة والنار، يعرف بنور الله أصحاب النار ويعرف أصحاب الجنة بمجرد النظر إلى وجوههم، وسيظل على هذا الحال إلى ما شاء الله لأنه لا يهاب العذاب ولا يطمع في النعيم، ومثال ذلك ما قالته رابعة العدوية: "يا ربي إني لا أعبدك خوفا من نارك ولا طمعا في جنتك، بل حبا فيك". ذلك أن غاية الإنسان العارف هي الوصال بتعبير الصوفية أو وجه الله بتعبير العامة، وحاله يكون على الدوام كحال العاشق المجنون لا يعرف سرّه إلا الله.. هذا هو الوضع الذي كان يعيشه الحلاج والصوفية الذين دفعوا أرواحهم ثمنا للعشق الإلهي، إنه وضع وسط من حيث الظاهر، لا يعرف الذين لا يعلمون إن كان عقابا لمن يقف في الأعراف أم مكافأة له.

أما الموت وفق الرؤية القرآنية فلا يطال الروح، بل فقط الجسد كما هو معلوم، لأن الروح نفخة إلهية وأمانة مقدسة أودعها الله من نفسه الأقدس في الإنسان، في حين أن الجسد وإن كان يموت إلاّ أنه لا يفنى، بل فقط يتحوّل كيميائيا من مادة إلى أخرى إلى ما لا نهاية دون أن يخرج من الوجود إلى العدم.. أما الموت الحقيقي فلا يعدو عن كونه مجرد شعور يطال النفس لتدرك أن ساعة لقاء ربها قد حانت، وقد ربط الله تعالى الموت بالنفس في محكم تنزيله لقوله: (وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا) آل عمران: 145. 

أمّا سكرة الموت كما في مخاطبته تعالى للكافر بقوله: (وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد) ق: 19. فهي تشبه الهلوسة حيث ينفتح العقل على عوالم الغيب ليبدو للكافر ما كان ينكره في الحياة الدنيا جاثما أمام أعينه بغير حجاب، يراه على حقيقته بيقين شبهه تعالى بقوله: (لقد كنت في غفلة عن هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد) ق: 22.

طقوس الدفن عند الشعوب

إن هاجس المجهول الكامن وراء الموت في عالم الغيب هو الذي يفسر لنا اختلاف طرق الدفن عند الشعوب، فعلم الإنتربولوجيا الذي يعنى بدراسة العرق البشري وكل ما يتعلق بسلوكيات المجتمعات عبر التاريخ، قدّم لنا دراسات قيمة في مجال طقوس الدفن عند مختلف شعوب العالم. والظاهرة العامة المشتركة بين كل هذه القبائل والشعوب قديما وحديثا تكمن في الاعتقاد بوجود قوة غيبيّة تتحكّم في الظواهر الطبيعية، وبأن الموت حدث جلل، وأن الخوف من المجهول القابع وراء الموت هو الذي دفع البشر إلى ابتداع طرق مختلفة للدفن لها علاقة بالاعتقاد بوجود حياة أخرى بعد الموت، الأمر الذي يؤكد بما لا يدع مجالا للشلك أن الدين، بحكم الفطرة التي فطر الله الإنسان عليها، كان، ولا يزال، وسيضل، الشغل الشاغل للإنسان، إلى أن تقوم الساعة.

وعلى سبيل المثال لا الحصر:

- ففي حقبة ما قبل التاريخ، وتحديدا ما قبل عصر الجنة واصطفاء الله تعالى لـ "آدم" الإنسان العاقل (هومو سابينس)، كان هناك ألف ألف آدم كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك، وهو الجنس البشري البدائي الذي اكتشفه علماء الإنتربولوجيا وسموه "النياندرتال" الذي كان يشبه إلى حد بعيد نوع من أنواع القردة، من دون أن يعني ذلك أنه من سلالة هذا الحيوان. حينها كان البشر في العصر الحجري وما قبله، أول من صدموا بظاهرة الموت، وأول من بادروا إلى دفن الأموات بصحبة طقوس ابتكروها، وكانوا مرعوبين من الموت وفقدان الأحبة دون أن يدركوا لماذا يموت الإنسان خارج دائرة الصراع من أجل البقاء حيث يمكن أن يسقط بين أنياب وحش مفترس أثناء الصيد، أو ضحية لكارثة طبيعية أو حادث فجائي، أو صراع من أجل السيطرة والبقاء. 

وما نعرفه اليوم عن تلك الحقب هو أن البشر كانوا يضعون في قبور ذويهم من الأموات، عدداً من الأدوات والأسلحة البدائية والملابس والأطعمة الضرورية للاستمرار في " رحلة ما بعد الموت"، لمساعدتهم على اجتياز مغامراتهم الغامضة والخوض في اللغز الكبير الذي ينتظرهم فيما وراء جدار الحياة. وكان ذلك بمثابة تجسيد لأمل ميتافيزيقي. وقد تم اكتشاف آثار تدل على ذلك في مغارات منتشرة في ربوع أوروبا وآسيا. ولكن علماء الانثروبولوجيا لا يعرفون الكثير عن أساطير إنسان النياندرتال. ومن الواضح أن هؤلاء البشر الأوائل صمموا أو ابتكروا نظاماً معيناً من المعتقدات يوفر لهم نوعاً من الاطمئنان والسكينة يحميهم من الظواهر الطبيعية المخيفة، ويساعدهم على تجاوز ظاهرة الخوف من الموت من خلال الإعتقاد بوجود حياة أخرى بعده. وهذا يعني أنهم توصلوا إلى أن عالمهم ليس عبثي أو فوضوي، بل هو عالم محكوم بقوى غيبية غير مرئية، منظمة، حيث يمكنهم، بطريقة ما، وببعض الممارسات، التعرّف عليها، وربّما تطويعها لخدمتهم. واعتقدوا أنه يمكن أن يناشدوا تلك القوى عن طريق ممارسات تدل على خضوعهم وانصياعهم لها كتقديم القرابين، حيث تم العثور على آثار لتلك الطقوس في الكهوف والمغارات المكتشفة مؤخراً ويعود تاريخها إلى 250 ألف سنة قبل الميلاد، في حين أن آدم أو الإنسان العاقل طرد من الجنة قبل أزيد قليلا من 7 ألف سنة فقط. 

ما سبق يؤكد بما لا يدع مجالا للشك، بأن خوف البشر في العصور البدائية الأولى قبل آدم الإنسان العاقل عليه السلام من ظواهر الطبيعة الغامضة ومن الغيب الكامن وراء الموت، جعلهم يبحثون عن حلول مبتدعة بحكم الفطرة، وهي معتقدات بدائية أصبحنا نسميها اليوم "خرافات" و "أساطير الأولين".

أما بعد آدم الإنسان العاقل (هومو سابينس)، فيخبرنا التاريخ البشري أن هناك العديد من الظواهر المتعلقة بطقوس الموت، منها:

- أن الفراعنة مثلا كانوا يحنطون جثتهم بعد الموت استعدادا لرحلة تقودهم إلى العيش في حياة أخرى من خلال عبور واد الموت المظلم بقارب معد خصيصا لذلك. 

- وأن البوذيين يحملون جثت موتاهم إلى قمم الجبال فيقومون بتقطيعها إلى أجزاء لتأكلها الطيور الكاسرة، وخاصة النسور التي تأكل حتى العظام، اعتقادا منهم بأنها ستحملها في تحليقها إلى أعالي السماء لتعيش حياة أخرى. 

- أما الهندوس فيكرمون موتاهم بالحرق بعد غسل الجثة بماء الورد وتزينها بالزهور، ثم يلقون برمادها فوق مياه نهر الغانج المقدس اعتقادا منهم بتناسخ الأرواح، أي بانتقال الروح من جسد إلى آخر حتى تتطهر وتعيش الأبدية في سعادة. والغريب أن بعض القبائل الهندية تدفن الزوجة حية مع زوجها الميت لترافقه في الحياة الأخرى ولا يكون لرجل آخر نصيب منها بعد زوجها.

- وفي إندونيسيا هناك قبائل تصنع لموتاها تماثيل من حجر تأخذ شكل الموتى، ولا يتم دفن الجثث تحتها إلا بعد مرور عشر سنوات يعتبرونها مرحلة التطهير في طقوس مهيبة تقدم فيها لحوم الخنازير قربانا.

- كما أن هناك بعض القبائل الوثنية الأسيوية التي لا تزال تضع موتاها تحت الأشجار وتتركها فريسة للحيوانات الكاسرة، وعند انتهاء الوليمة يتم ربط عظام الميت إلى الشجرة ليظل هناك إلى الأبد.

- وفي بعض الجزر الاستوائية الإفريقية في الكاميرون وكينيا، هناك قبائل من آكلي لحوم البشر يقومون بقتل الجد أو الجدة عند بلوغهم من العمر عتيّا (برضاهم)، ويقدمون لحومهم لأسرهم والمقربين منهم على شكل وليمة من باب الاحترام والتبجيل حسب مكا جرت به العادة.

- وفي مدغشقر يتم دفن الميت تسعة أشهر في التراب، ثم يقومون باستخراج رفاته وتغيير أكفانه ليظل وسط أهله 3 أشهر قبل أن يعاد دفنه مرة أخرة، وتتكرر العملية على نفس الشكل كل سنة.

أما بالنسبة لأتباع الديانة التوحيدية باختلاف شرائعهم ومناهجهم، فمنهم من يقوم بالدفن في التابوت بالنسبة للمسيحية اعتقادا منهم بقيامة الهالك مع قيامة المسيح عليه السلام عند عودته إلى الأرض في آخر الزمان، ويتم دفن الميت في القبر ليلامس جسده التراب عند اليهود والمسلمين.

وتجدر الإشارة برغم ما يبدو في الأمر من غرابة، إلى أن الدفن عند المسلمين ليس مرتبطا بقضية البعث تحديدا، بل بحفظ الجثة من عبث الطيور الجارحة والحيوانات المفترسة من جهة، وحفاظا على الصحة العامة لما قد تفرزه من تلوث وأمراض نتيجة تحللها بفعل الحرارة. ذلك أن الجثة في الإسلام لا تعدو عن كونها مستودع (قالب) يجب أن يعود إلى أصله الذي خلق منه، ما دامت النفس هي التي تبعث في الحياة الأخرى بخلق جديد يُناسب شروط وظروف حياة الخلود. فلا الشيخ يبعث شيخا ولا من به علّة أو عالة يبعث عليلا أو ناقصا، بل يبعث الناس جميعا في عز شبابهم وقوّتهم بقدرات جسديّة وعقلية هائلة. ومعلوم أن الرسول عليه السلام، ومن باب البسط، كان قد أجاب امرأة مُسنّة سألته إن كان الله سيدخلها الجنة فقال ما معناه أن الله لا يدخل العجائز الجنة، فاستاءت من إجابته وحزنت، لكنه سرعان ما أوضح لها أن الله سيبعثها في عز شبابها وجمالها وقوّتها، فارتاح قلبها وابتسمت من الغبطة والسرور. 

ومهما يكن من أمر، فأصل الدفن في المعتقدات التوحيدية ومنها الإسلام على وجه الخصوص، له علاقة بقصة ابني آدم قابيل وهابل، حيث وقف قابل حائرا بعد قتل أخيه يفكر فيما يصنع بجثته (سوءته)، فبعث الله له غرابا تعلم منه طريقة الدفن وفق ما ورد في نص الآيتين 30 و31 من سورة المائدة لقوله تعالى في محكم كتابه: (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ * فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ ۚ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي ۖ فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ).

وتفصح هذه الواقعة عن حقيقة أساسية مفادها، أن سبب الدفن مرده إلى ظهور ما أسماه القرآن بـ "السوءة"، والتي اعتبرها الفقهاء رديفا للعورة، وقد استعمل القرآن هذا المصطلح للدلالة على الجسم البشري عموما عندما عرض واقعة غواية الشيطان لآدم وحواء، وذلك لقوله تعالى: (فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين) الأعراف: 22. ونفس المصطلح ورد في الآية 22 من نفس السورة حيث قال تعالى: (فدلاّهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وناداهما ربهما ألم انهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين). وتُوضّح الآية 26 من سورة الأعراف أن المقصود بالسوءة هو الجسد البشري عموما لقوله تعالى: (يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون)، وجاء اللباس هنا بمفهوم الستر، والريش بمفهوم الزينة، ومنذ إذن والإنسان يصنع لباسه من الصوف والجلد والوبر والريش وخلافه... وأول نبي كان خياطا هو النبي إدريس عليه السلام، كما أنه كان مخططا معماريا، يكتب على الرمل والحجر، وهو أول من خطط لبناء البيوت والمدن القديمة. ويسمى بالنبي "شيت" كما جاء في تاريخ الأديان وكتابات الصابئة، ومعنى "شيت": "البديل"، أي الولد الذي عوّض الله به آدم لفقدانه ولده هابل. وورد هذا الاسم أيضا في حديث منسوب للرسول عليه السلام، وكان إدريس صدٌيقا رفعه الله مقاما عليا كما أكد تعالى في محكم التنزيل، وقد عاش في الفترة ما بين آدم ونوح عليهما السلام جميعا.

الفرق بين القبر والجدث

وردت مفردة الأجداث بالجمع في ثلاث آيات قرآنية هي:

- (ونفح في الصور فإذا هم من الأجداث ينسلون) يس: 51.

- (خشعا أبصارهم يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر) القمر: 7.

- (يوم يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون) المعارج: 43.

والحقيقة أن هناك العديد من الكتابات التي تحدثت عن القبر والجدث، حاول بعضها التمييز بينهما من حيث المعنى دون أن يوضّحوا الفرق بينهما بالدقة المطلوبة، وقد زعم بعضهم أن الله تعالى عندما تحدث عن البعث استعمل مصطلح الأجداث بدل القبور، وهو زعم لا أساس له، لأن الله تعالى استعمل أيضا مصطلح القبور عند الحديث عن البعث في الآية 7 من سورة الحج بقوله: (وإن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور). 

ويشار إلى أن التفاسير التي تزخر بها المكتبات الإسلامية لم تفرق بين القبر والجدث من حيث المعنى واعتبرتهما شيئا واحدا.

لكن ومن باب التحليل المنطقي، يفهم من عديد الآيات القرآنية أن القبر هو موطن الجسد الذي يتحول إلى تراب فيعود لأصله، فيما الجدث هو موطن النفس في عالم ما وراء البرزخ ما دامت النفس تغادر الجسد عند موتها لتستقر في عالم خاص بها في انتظار البعث، وبذلك يكون لكل من النفس والجسد موطن خاص به لاختلاف طبيعة كل منهما.

وعلى أساس صعوبة تصور إمكانية بعث من في القبور بسبب اختلاف مآل الجثث، طرح هؤلاء ما اعتبروه معضلة البعث، متسائلين عن مصير من مات وأُقبر مقارنة بمصير من مات حرقا أو غرقا أو أكلت جثته الوحوش والجوارح.. وهو تساؤل في غير محله لأنه لا يفرق بين مصير الجسد ومصير النفس ويجعله مصيرا واحدا والله تعالى يقول (ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة) لقمان: 28، فتحدّث عن النفس دون الجسد، وسبب ذلك أن النفس واحدة لا تتبدّل ولا تتغيّر، فيما الجسد يتبدّل من حيث الهيئة لكنه لا يتغيّر من حيث طبيعته الترابية بين الدنيا والآخرة، وأن كان الجسد في الآخرة سيكون غير الجسد في الدنيا لاختلاف ظروف وشروط العيش في الأبدية مقارنة بحياة الدنيا الفانية، وبالتالي يتضح الفرق بينهما جليا من خلال ما يلي:

- السبب الأول: أن مفهوم فعل "أقبره" اصطلاحا، لا يعني بالضرورة الحفرة التي دفن فيها الميت. بل يعني الطريقة التي تم بها التخلص من الجثة (السوءة). وسواء كان ذلك عن طريق الدفن أو الحرق أو الغرق أو تقطيع الجثة وتقديمها كوليمة للكواسر أو قربانا لأهل الميت، فإن المادة المكونة للجسد لا تفنى وتخرج من الوجود إلى العدم كما سبق القول، بل فقط تتحول لتعود إلى طبيعتها الأولى.. وبالتالي، فالتساؤل المطروح حول هذه المسألة لا يعجز الله تعالى لقوله: (أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد) ق:15. والمعنى واضح، ما يؤكد أن من حاول التفريق بين طرق الدفن بعد الموت، من حيث يدري أو لا يدري، يكون كمن وضع قدرة الله سبحانه وتعالى على إعادة الإحياء موضع شك متجاهلا الخلق الأول، نعوذ بالله من أن نسقط في مثل هذا الفخ. ودليل ذلك قوله تعالى (أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور) العاديات 9. والبعثرة هنا معناها تناثر الرفات في اتجاهات مختلفة واختلاطه بالتراب بشكل يصعب على العقل تصور كيفية إعادته إلى حالته الأولى. وللشاعر أبو العلاء المعري قصيدة رائعة بهذا المعنى جاء في بعض أبياتها:

تعب كلها الحياة فما أعجب إلا من راغب في ازدياد

صاح هذي قبورنا تملأ الرحب فأين القبور من عهد عاد

خفًف الوطء ما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد

سر إن اسطعت في الهواء رويدا لا اختيالا على رفاة العباد

رب لحد قد صار لحدا مرارا ضاحكا من تزاحم الأضداد

- السبب الثاني: ويتعلق الأمر بمفهوم القبر لغة، بحيث تجمع القواميس العربية على أنه المكان الذي يدفن فيه الميت، وتعني الكلمة مواراة الجثة عن الأنظار حفظا لها من عبث الطيور الجارحة والحيوانات المفترسة، بحيث يتم تغطيها بالتراب من جميع الجوانب. وأقبره تعني ستره ووراه عن الأنظار، وهو معنى مأخوذ من اللغة العبرية والسٌريانيٌة القديمة. واستعمال القرآن لكلمة القبر حينا والجدث أحيانا لا يعني أن لهما نفس المعنى، لأن القبر هو مكان دفن جثة الميتة في التراب (أي في الأرض) كما سبقت الإشارة، فيما الجدث هو المكان الذي تقيم فيه النفس في البرزخ (عالم الملكوت) في انتظار البعث لقوله تعالى (ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة) لقمان 28. وهو ما يؤكد قدرة الله تعالى على البعث وإعادة الخلق في شكل جديد، أي أن يبعث النفس في جسد جديد لا يبلى ولا يشيخ ولا يفنى في الحياة الأخرى، خصوصا ونحن نعلم أنه تعالى لا تعجزه كثرة ولا اختلاف في طريقة الموت والدفن ولا في شكل الخلق يوم البعث، لأن قدرته مطلقة. 

أما الحياة في البرزخ فتختلف حسب المصير الذي تستحقه كل نفس وفق ما يستفاد مما جاء في القرآن، وتعيش هذه النفوس في سبات عميق لكن في حركة دائمة مثلها مثل فراشة تحوم حول النور بالتعبير الصوفي، أو حياة الإلكترون الذي يدور حول نواة الخلية دون سكون بالتعبير العلمي في انتظار البعث وحلولها في جسد جديد يلائم ظروف وشروط حياة الخلود كما سبق القول، لكن الأمر يختلف باختلاف مصير كل نفس على حدة: 

- فهناك نفوس تظل حيّة تُرزق بجوار ربها كحال الشهداء الذين قُتلوا في سبيل الله لقوله تعالى: (ولا تحسبنّ الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون) آل عمران: 169.

- وهناك نفوس تُعذب وتعرض على النار بالغدو والعشية ويوم تقوم الساعة كما هو حال آل فرعون مثلا لقوله تعالى: (النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة ادخلوا آل فرعون أشدّ العذاب) غافر: 46، وذكر الله للغدو والعشي يحيل على استمرار الزمان بحكم حركة الكواكب والأجرام والأرض قبل تدميرهم وخلق غيرهم لقوله تعالى: (يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار) إبراهيم: 48. وهذا لا علاقة له بعذاب القبر لأن من تعرض على النار بالغدو والعشيّ هي النفس لا الجسد الذي أقبر في التراب أو الذي غرق في البحر.

- وهناك نفوس نائمة فاقدة للوعي في انتظار الخروج يوم القيامة كما هو حال بقية الخلق لقوله تعالى: (ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم) يونس: 45. مع وجود فارق بين نفس المؤمن ونفس الكافر، ذلك أن نفس المؤمن كما يقول عليه السلام، تكون كنسمة تسبح في النور في عالم البرزخ إلى يوم البعث والحديث هنا هو عن دوران الإلكترون حول نواة الخلية في عالم البرزخ إلى يوم البعث. في حين أن نفس الكافر تعرض على النار بعد الموت وتسكن في أسفل سافلين في جحيم الأرض إلى يوم يبعثون وليس في عالم البرزخ.

ودليل أن النفس تعيش في عالم البرزخ بعد الموت ما قاله النبي عليه السلام، من أنه إذا مات أحدكم عرض عليه مقعده من الجنة أو النار، وأن الأنفس تعيش الانتظار في فضاء البرزخ، وهي لا ترتبط بالجسم ولا علاقة لها بطريقة التخلص من الجثة. ويستفاد من هذا الحديث أنه لا توجد صلة بين نفس الميت والقبر أو بينها وبين مصير الجسد بعد الموت، بل ستعود كما أتت من قبل إلى مستقرها الذي هو الموطن الذي عاشت فيه ومستودعها الذي هو الجسد الذي سكنت فيه لقوله تعالى: (وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون) الأنعام: 98، وبالتالي، فكما بث أنفس الخلق من نفس واحدة وجعل لكل نفس مستقر ومستودع في الحياة الدنيا حسب الدور، فكذلك حين البعث سيبعث الله الناس كنفس واحدة ويبثها إلى أنفس بعدد الخلائق لتلقى كل واحدة مصيرها على أساس ما قدمته في حياتها الأولى لقوله تعالى: (ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة إن الله سميع بصير) لقمان: 28.  

ويشار وفق ما يفهم من القرآن الكريم أن الأنفس بعد انتهاء أجلها لا تتحد في نفس واحدة قبل البعث، بل تنتقل لمُستقرها في عالم البرزخ كل حسب المصير الذي ينتظرها، فمنها من تعيش النعيم في أعلى عليّين مع الأنبياء والشهداء والصالحين من عباد الله المقربين كأنفس الشهداء، ومنها من تعيش العذاب في أسفل سافلين كأنفس الطغاة والمفسدين من المشركين والمنافقين، ومنها من تظل في سبات عميق في انتظار الخروج يوم ينفخ النفخة الثانية في الصور من الناس العاديين مؤمنين وكافرين.

ويفهم مما سلف أن الموت هنا لا يعني الفناء والخروج من الوجود بقدر ما يعني انتهاء الحياة الدنيا وانتقال النفس إلى البرزخ في انتظار البعث لتعيش حياة أخرى أبدية مختلفة جملة وتفصيلا عن الحياة الأولى. أما الروح فخالدة بطبعها لا تموت لأنها من نفس الله الأقدس، بل فقط تفارق الجسد حين ينتهي أجله، لتلحق بصاحبها الذي صدرت عنه، لذلك يقول العامة عند موت الإنسان "لقد أخذ صاحب الأمانة أمانته" في إشارة إلى الروح التي هي طاقة من نور أودعها الله في الإنسان ليعيش تجربة الحياة الدنيا.

المصيـــر بعـــد البعـــث

وفق ما ورد في القرآن الكريم، يفترق الناس يوم القيامة إلى طوائف ثلاثة:

- طائفة المقربين الذين يقول عنهم تعالى: (فأما إذا كان من المُقرّبين * فروح وريحان وجنة نعيم) الواقعة: 88 – 89. وجنة النعيم هي أعلى مراتب الجنان على الإطلاق.

- طائفة المؤمنين من أصحاب اليمين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، والذين يُبلّغهم الله سلام إخوانهم المؤمنين لقوله تعالى: (وأما إذا كان من أصحاب اليمين * فسلام لك من أصحاب اليمين) الواقعة: 90 – 91. ويسكنون في مراتب الجنان كل حسب ما قدمه من صالح الأعمال في الحياة الدنيا.

- طائفة المكذبين الضالين الذي يقول عنهم تعالى: (وأما إذا كان من المكذبين الضالين * فنزل من حميم * وتصلية جحيم * إن هذا لهو حق اليقين) الواقعة: من 92 إلى 95. وكما هو الحال بالنسبة للجنة فللنار مراتب أيضا أسفلها خصصت للمنافقين، وللجحيم كما للجنة سبعة أبواب كل باب من جزئين كما ورد في الذكر الحكيم. 

فسبحان الله العظيم الذي اقتضت مشيئته أن يكون الطريق إلى الجنة محفوفا بالمكاره، فيما الطريق إلى النار محفوفا بالشهوات، الأمر الذي دفع جبريل عليه السلام وفق الحديث القدسي المشهور ليقول للحق في شأن الجنة: "وعزتك لقد خفت ألا يدخلها أحد". ويقول في شأن النار: "وعزتك لقد خشيت ألا ينجو منها أحد". وهذه هي حقيقة الاختبار الذي على الإنسان اجتيازه في الحياة الدنيا ليتحدّد مصيره في الآخرة، وليس له فرصة ثانية للعودة إلى الدنيا لتصحيح المسار، إنها فرصة واحدة إذا اغتنمها نجى، وإذا فرّط بها هلك، لقوله تعالى: (حتى إذا جاء أحدهم الموت قال ربّ ارجعون * لعلّي أعمل صالحا فيما تركت كلاّ إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون) المؤمنون: 100 - 101. فهيهات ثم هيهات، لقد قُضي الأمر وانتهى المسير، وتحدّد المصير، وانقطعت الصلة بالدنيا، وأغلقت باب السماء، وأسدل الستار بين الإنسان والعالم الأول، ليعيش فيما وراء البرزخ زمن الانتظار إلى يوم يبعثون بمفهوم الزمن القدساني. 

وبهذا المعنى، فالموت هو فقط نهاية الطور الأول من النشأة الإنسانية وبداية طور جديد مختلف كليا عن الأول، حيث ينعم المؤمن بحياة حقيقية وجديدة من دون نواقص، أو تناقضات، من دون حزن أو ألم، من دون خوف أو قلق، في مقام الجمال والكمال. أمّا الأمل الذي يعيشه الإنسان في الدنيا فلا يعدو عن كونه وهما وسرابا، مردّه إما الجهل أو حب الدنيا والتعلّق بزخرفها.

ولعل حب الدنيا هو المرض العضال الذي يصيب قلب الإنسان الغافل، فيما الحقيقة أن لا علاج له إلا بالإيمان، لأن به يحصل اليقين بحقيقة الدنيا وحقيقة الآخرة، فيدرك الإنسان وهم الدنيا وجمال الآخرة، ويصل إلى قناعة مُؤدّاها أن متاع الدنيا مقارنة بمتاع الآخرة قليل (التوبة: 38).

أما السر في تجاوز الخوف من الموت فيكمن في حب الله، لأن من أحب الله أحب لقائه ولم يتملّكه الخوف من الموت، ذاك أن المؤمن إذا بُشّر برحمة الله وتيقّن برضوانه أدرك أن الله أحبه فرغب في لقائه، ولا يهمُّه بعد ذلك موت ولا فراق، بدليل ما قاله الرسول عليه السلام حين سئل عن الموت: (قلنا يا رسول الله كلنا يكره الموت، قال: ليس ذلك كراهية الموت، ولكن المؤمن إذا حُضر جاءه البشير من الله فليس شيء أحب إليه من أن يكون قد لقي الله فأحب الله لقاءه، وإن الفاجر – أو الكافر – إذا حُضر جاءه ما هو صائر إليه من الشر، فكره لقاء الله وكره الله لقائه) رواه الإمام أحمد والنسائي بإسناد صحيح. وبهذا المعنى الذي أوضحه الرسول الأعظم عليه السلام، فالخوف لا يكون من الموت بحد ذاته،، بل من المجهول القابع ورائه. بدليل أن المؤمن حين يأتيه ملك الموت ليأخذ نفسه يقول له: (يا أيتها النفس المطمئنّة * ارجعي إلى ربك راضية مرضية * فادخلي في عبادي * وادخلي جنتي) الفجر: من 27 إلى 30. وبالتالي، فالمؤمن ساعة الموت يكون هادئا مطمئنا لا يشعر بألم الموت بقدر ما يشعر بلذة اللقاء بسبب ما بشّرته به ملائكة الرحمة من نعيم دائم مقيم ينتظره في حياته التالية. 

أما الكافر، والمقصود به عموما كل من خان العهد والميثاق مع الله فأنكر وجوده جملة وتفصيلا.. أو من أشرك به وزعم أن له ندا أو أندادا، ومن شرّع للعباد ما لم ينزل به الله من سلطان.. أو من ترك كتاب الله وراء ظهره وأعرض عن الذكر واتّبع الكهنوت.. أو جعل لله من عباده جزءا فخرّق له البنين من البشر والبنات من الملائكة.. أو من ارتد عن دينه بعد إسلامه ولم يتب عن قريب قبل موته.. أو من اتخذ النفاق وسيلة للغدر والخداع وأيقظ نار الفتن في الآمنين المسالمين.. هؤلاء الكفرة المشركين والظلمة والمنافقين الذين افتروا على الله الكذب وكذّبوا بآياته، وصفهم تعالى لحظة احتضارهم بقوله: (ولو ترى إذ الظالمون في غمرة الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون) الأنعام: 93. والاشارة هنا إلى حالة الذل والخزي عند سؤال الملائكة لهم فلا يجدون لما فعلوا جوابا، فيتلقون التوبيخ واللعنة من ملائكة العذاب الذين يبشرونهم بسخط الله وغضبه وما أعد لهم من عذاب عظيم، فيعلمون مكانتهم من النار ويدعون بالويل والثبور وعظائم الأمور فلا من يغيثهم، يطلبون الرجعة ليعملوا صالحا فيما تركوا في الدنيا، فيناديهم الملك من السماء "إنكم لكاذبون". ثم تبدأ ملائكة العذاب بضربهم بالمقامع على وجوههم وأدبارهم، وهو ضرب فوق تصور البشر وطاقة تحمّل الإنسان يرقى لمستوى العذاب الحارق كما أوضح تعالى في قوله: (ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق) الأنفال: 50. بعدها تنزع أرواحهم من أجسادهم كما تقطّع العروق والأعصاب وتفصل اللحم عن العظم، ويشبه ذلك نزع غصن الشوك من كومة الصوف، وبموازاة ذلك تناديهم الملائكة بأقبح الأسماء، وتكون لهم رائحة أنتن من رائحة الجيفة، فتغلق أبواب السماء في وجههم، ويُمثّل لهم عملهم الخبيث في أسوء صورة ليبشرهم بما ينتظرهم من مصير أسود حالك يوم القيامة لا مفر لهم منه. وفي النهاية تفتح لهم أبواب الجحيم ليعلموا مقامهم.. يقول تعالى في هذا الصدد: (ولو ترى إذ وُقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نُردّ ولا نُكذّب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين * بل بدا لهم ما كانوا يُخفون من قبل ولو رُدّوا لعادوا لما نُهوا عنه وإنهم لكاذبون) الأنعام: 27 - 28.

انتهـــى.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق