بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 23 سبتمبر 2022

كيف يخطئ المسلمون بجهل في حق الله؟

 

(فبدّل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم)

البقرة: 59

اعتاد المسلمون عند ذكر النبي أن يرددوا عبارة "صلى الله عليه وسلم تسليما"، دون فهم لمعناها الدقيق، بالرغم مما يمثله الشق الثاني من العبارة من قول منكر وإساءة قبيحة لا تليق بالله جل جلاله.. ومردّ الإشكال يعود للفهم الخاطئ لأمر الله القائل: (إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما) الأحزاب: 56.../...

وواضح أن الخطاب في الآية الكريمة موجّه بصفة خاصة للمؤمنين بالنبيّ محمد عليه السلام، وليس المسلمين عامة نظرا لأن لفظ المسلم طبقا للمفهوم القرآني ينطبق على كل الأمم والأنبياء والرسل الذين بعثهم الله من نوح صعودا إلى محمد هبوطا عليهم السلام جميعا. كما أن الله تعالى استعمل في الآية الكريمة لفظ نبي بدل رسول، لأن النبي محمد كما هو شأن كل نبي بعثه الله إلى قومه خاصة، فيما الرسول بعثه تعالى رحمة للعالمين بسبب ما يحمله من رسالة لقوله تعالى: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) الأنبياء: 107.

وكون الله تعالى يطالب في الآية الكريمة المؤمنين من قوم محمد بالصلاة على النبي والتسليم له تسليما، فذلك لا يعني بحال من الأحوال أن يعكس المؤمنون الصورة فيطالبون الله بفعل ذلك من خلال قولهم "اللهم صلى على النبي وسلّم تسليما"، لأنه إذا كان تعالى قد أخبرنا أنه وملائكته يصلون على النبي إلا أنه لم يقل إنه وملائكته "يسلمون له تسليما" لما يحمله مثل هذا القول من معنى لا يليق في حق الله سبحانه وتعالى. ومثال ذلك أمر موسى قومه بأن يدخلوا الأرض المقدسة التي كتبها الله لهم وأن لا يرتدّوا على أدبارهم في القتال فينقلبوا خاسرين، فكان جوابهم: (قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا – في إشارة إلى قوم جبّارين يقطنون فلسطين - فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) المائدة: 24. 

وهذا ما يفعله المسلمون بالضبط، اقتداء بسنة اليهود، فبدل أن يصلوا هم على النبي ويسلموا له تسليما امتثالا لأمره تعالى، أي يقيمون الصلة معه عبر الوحي زمن النبوة ويسلموا له بصحة وصدق ما جاء به من عند ربه، تجدهم يطلبون من الله أن يفعل ذلك بدلا عنهم، وهذا هو عين الجهل.

لأنه إذا كانت الصلاة في القرآن تعني الصلة مع الله والنبي والمؤمنين والناس أجمعين امتثالا لنظام كوني بديع فرض الله سننه وقوانينه لصلاح الحياة الدنيا وضمان الخلاص في الآخرة، فإن إقامة هذه الصلة لا تكون إلا بإقامة القرآن الذي أوحى به تعالى لنبّيه الكريم وجعله قانونا أسمى يحكم العلاقات بين المؤمنين في المجتمع. فالصلة مع الله لا تكون إلا عن طريق الذكر الحكيم، ما دام تعالى وبواسطة ملائكته سبق وأن أقام هذه الصلة مع نبيه حين أوحى إليه التنزيل، فتحوّل النبي عليه السلام بفضل الوحي إلى قرآن يمشي على الأرض، سواء بحفاظه على الأمانة، أو حكمه بالعدل بين الناس، أو تعامله بالأخلاق الحميدة، لدرجة أن الله تعالى شهد له بأنه على خلق عظيم. وهذا هو معنى إقامة الصلاة بالمفهوم الديني (أي إقامة القرآن)، ليكون المؤمن في الحياة الدنيا على صراط مستقيم، لما دامت غاية الدين وهدف التنزيل هو إصلاح حياة الناس لإقامة مجتمع الفضيلة، ولا يمكن أن يقوم مثل هذا المجتمع الصالح إلا بإقامة القرآن، أي توطيد الصلة مع الله والتعامل مع عباده بما ورد في الذكر الحكيم، الأمر الذي يتطلب  الإيمان والتسليم والتطبيق، وبمعنى أكثر دقة: تحويل الكلمة إلى فعل.

ويتبيّن من معاني المصطلحات القرآنية الواردة في الآية الكريمة السالفة الذكر وفق المنهج اللفظي التحليلي ما يلي:

- أن الصلاة تعني إقامة الصلة عن طريق الذكر الحكيم والدعاء طلبا للمغفرة والرحمة، ويخاطب بها الفرد والجماعة مع مراعاة السياق، لأن المعنى محكوم دائما بالمبنى وفق المنطق اللغوي الدلالي، والصلاة بهذا المعنى ليست صيغة لغوية تقال فحسب، بل فعل له مصداق على أرض الواقع، لأنها طقوس عملية تُؤدى لله تعالى، ما دامت الغاية من خلق الجن والإنس هي العبادة كما يقول الحق في قرآنه.

- أن الإقامة هي غير القيام، لأن الإقامة التي يتحدث عنها القرآن تعني إقامة المجتمع الفاضل على هدي تعاليم القرآن لا القيام والقعود كما فهمها العامة واختصروها في الصلاة الحركية دون سواها، خصوصا في مجال العلاقات والعمل الصالح الذي ينفع الناس.

- أن السلام يعني التحية وهي الصيغة المذكورة في أكثر من آية في القرآن الكريم كقوله تعالى في حق الأنبياء: (سلام على إبراهيم) الصافات: 109، وقوله: (سلام على موسى وهارون) الصافات: 120، وقوله: (سلام على آل ياسين) الصافات: 130، وتبادل السلام بين نبي الله إبراهيم والملائكة لقوله: (ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام...) هود: 69 وكقوله لرسوله محمد عليه السلام: (وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة... إلى فإنه غفور رحيم) الأنعام: 54، وكقوله لأصحاب الجنة: (ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون) الأعراف: 46، وقوله بالمسبة لأصحاب الجنة: (دعواهم فيها سبحانه اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين) يونس:10، وكتحية الله للصابرين الذيم فازوا بالخلاص في الآخرة لقوله: (سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار) الرعد: 24. وتحية الملائكة للطيبين لقوله تعالى: (الذين توفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون... وغيرها كثير.

- أما التسليم المذكور في الآية موضوع البحث، فيعني القبول والطاعة والاستسلام بعد التصديق والإيمان. ومثال ذلك قوله تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) النساء: 65. والمعنى واضح، ذلك أن المؤمنين وبخلاف المنافقين يُحكّموا الرسول استنادا إلى ما ورد في التنزيل فيما اختلفوا فيه وينصاعون لحكمه ويسلموا تسليما دون شك أو تردد. وهذا هو معنى أمر الله تعالى للمؤمنين بأن يصلوا على النبي ويسلوا له تسليما حسب المعنى الذي يعطيه سياق الآية 56 من سورة الأحزاب.

- ودليل ما سلف، أن التسليم مرتبط أساسا بالإيمان، أي بالتصديق والقبول، خصوصا عندما يؤكد المدلول صحة الدال كما يقول المناطقة، كقوله تعالى: (ولمّا رأى المؤمنون الاحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا ايمانا وتسليما) الأحزاب: 22.

- ودليل أن الصلاة تعني إقامة القرآن قوله تعالى: (هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور وكان بالمؤمنين رحيما) وبخلاف الملائكة، لا يعقل أن يكون الله يدعو للمؤمنين بالمغفرة والرحمة ما دام هو صاحب الأمر يغفر لمن يشاء ويرحم من يشاء. وبالتالي، فإخراج المؤمنين من الظلمات إلى النور يكون من خلال الوحي الذي وصفه الله بـ "النور"، وهذا النور لا يوحيه الله لعباده بشكل مباشر بل تكون الصلة بهم من خلال الملائكة، سواء كانوا رسلا أو أنبياء أو بشر أو غيرهم من المخلوقات.

- أما صلاة النبي على المؤمنين في حياته فقد وصفها تعالى بأنها سكن لهم لقوله: (خذ من أموالهم صدقة تطهّرهم وتزكّيهم وصلّ عليهم إن صلاتك سكن لهم والله سميع عليم) التوبة: 103. وقد جاءت بمعنى الدعاء وطلب المغفرة والرحمة للمؤمنين لينزل الله عليهم السكينة لأنه سميع الدعاء عليم بما يختلج في صدور المؤمنين. ودليل ذلك أيضا قوله تعالى لنبيه الكريم: (ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون) التوبة: 84. وواضح أن المقصود بالخطاب هو النبي عليه السلام في حياته لأنه بعد موته لا يعقل أن يصلي على أحد أو يقف على قبره، لأن الصلاة في الآية الكريمة وردت بمعنى الدعاء، أي طلب المغفرة والرحمة للعبد من ربه وقد استثنى الله من ذلك من كفر بالله ورسوله ومات وهو فاسق.

- هذا في حين أن صلاة الله على المؤمنين هي استجابة وليست طلب كما هو الحال في دعاء الرسول أو دعاء الملائكة أو العباد عموما نظرا للفرق القائم بين من لا يملك ‘لا الطلب ومن بيده الاستجابة، وذلك لقوله تعالى: (أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون) البقرة: 157. فالصلوات من الله في الآية هي غير الرحمة لأن الأولى وردت بصيغة الجمع في حين أن الثانية وردت بصيغة المفرد. ومعنى المعنى أن صلة الله المتكررة بعباده المؤمنين من خلال إقامتهم للقرآن بتنفيذ ما ورد فيه من تعاليم في كل وقت وحين، الأمر الذي تكون معه الرحمة مستحقة. ولا يمكن أن تكون رحمة الله لعباده مطلقة كما يعتقد البعض مستشهدين في ذلك من خارج السياق بقوله تعالى: (ورحمتي وسعت كل شيء)، ما دامت نفس اشتملت على شروط محددة لنيل الرحمة، بدليل قوله تعالى: (ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون) الأعراف: 156. وبالتالي فالرحمة هنا لا تكون إلا نتيجة تقديم العمل الصالح، أي أنها لا تكون إلا مصداقا له. وبهذا المعنى، فالصلاة من الله هي انعطاف إلى العبد الصالح بالرحمة، أما من الملائكة فتكون انعطافا منهم إلى الإنسان بالتوسط له عند الله، والرحمة وفق المفهوم القرآني هي العطية الإلهية المطلقة التي يعمل على نيلها المؤمن نظرا لسعتها وشمولها، لقوله تعالى: (وما كان عطاء ربك محظورا) الإسراء - 20، من هنا ورد جمع الصلاة وإفراد الرحمة في مبنى الآية.

ويفهم مما سلف، أن الصلاة هي علاقة تفاعلية أفقية وعمودية بين الله ورسوله والمؤمن الذي لا يكون مؤمنا إلا إذا صدّق بما جاء في الرسالة وسلم به جملة وتفصيلا وأقام على أساسه الصلة مع ربه ورسوله والمؤمنين خاصة والناس عامة، وهذه الصلة تكون من خلال إقامة القرآن لتوفير الشروط الضرورية لإقامة الحياة الكريمة في الدنيا والخلاص في الآخرة. 

وبالنتيجة، فقول الإنسان " صلى الله عليه وسلم" تفيد أن الله هو الذي "يصلي على النبي"، أي يقيم الصلة معه بالوحي عن طريق الملائكة كما يستفاد من نص وسياق الآية موضوع البحث، أما قولك: و"يسلم تسليما"، فمعناه أن الله يصدق رسوله ويطيعه ويسلم له بما جاء به في الرسالة، وهو قول منكر يلامس الكفر إذا قيل عن قصد، أما إذا قيل عن جهل أو خطأ فلا ذنب لقائله وعليه الاستغفار، لتصحيح فهمه وتقويم قوله وتحسين عمله ليستحق الرحمة من ربه استنادا إلى أمره تعالى لعباده بتدبّر القرآن وعدم تركه وراء ظهورهم مهجورا واتباع فقهاء القشور بدل ذلك، حتى لا يتبرّأ منهم الرسول يوم القيامة لقوله تعالى: (وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا) الفرقان: 30.

وسنعود لهذا الموضوع بتفصيل إن شاء الله عند معالجة مفهوم الصلاة في القرآن الكريم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق