بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 6 سبتمبر 2022

ســـؤال الحياة والموت والبعث (4/1)

 

(كل نفس ذائقة الموت ثم الينا ترجعون)

- العنكبوت: 57 -

تمهيـــد

سؤال الحياة والموت والبعث من الأسئلة الوجودية التي حيرت العقول قديما وحديثا، فلطالما تساءل الإنسان عن سبب قدومه إلى الدنيا، عن سر وجوده، وعن المصير الذي ينتظره بعد الموت. لكن لا جواب.. فلا الفلسفة قدمت له الجواب المنطقي ما دامت تشتغل على ما يسمى بالعلم الظني الذي يعتمد الفرضيات الفكرية. ولا العلوم التجريبية قدمت له الجواب الصحيح لأن الغيب ليس مجالا في متناولها. ولا تفاسير الفقهاء وفّرت له الجواب الشافي الذي يقبله العقل ويطمئن له القلب ما دامت قد ركّزت في أدبياتها على التراث التوراتي وأقوال السلف التي فسرت الظواهر الغيبية بالعجائبي والغرائبي والأسطوري الذي لا يقبله عقل ولا يرتاح له قلب.../... 

والواقع أننا لا نملك مرجعا موثوقا به يمكن الركون إليه لمعرفة ما هو محجوب عنّا في عالم الغيب غير ما ورد في القرآن الكريم. وطبيعي والحال هذه ألا نصل إلى معرفة الحقيقة من دون قراءة مركّزة لآيات الذكر الحكيم، لاستنباط مفاهيم جديد مغايرة للمعهود، تعيد تأثيث العقل الجمعي للأمة بمعتقدات صحيحة، مع التسليم بأن المُحدّد للمعنى في النهاية هو عامل الإيمان الذي يعتبر ما جاء في القرآن الكريم عين الحق لقوله تعالى: (وبالحق أنزلناه وبالحق نزل) الإسراء: 105. لأنه إذا كان الدال هو الله، فإن المدلول في مجال الغيبيات لا يمكن أن يكون له مصداق على أرض الواقع إلا بعد الموت حين يحصل للإنسان اليقين لقوله تعالى: (واعبد ربّك حتى يأتيك اليقين) الجر: 99، أي حتى ترى الحقيقة بعد الموت رؤية العين. لذلك فنحن لا نملك من سبيل للحصول على بعض من هذا اليقين قبل الموت إلا بتدبّر القرآن الكريم لقوله تعالى: (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها) محمد: 24، عسى أن يوحي الله لنا من المعاني ما يشفي الغليل من خلال قذف نور الحقيقة كالوميض في الروع، وذلك لقوله تعالى: (ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل ربي زدني علما) طه: 114. 

والتركيز على تدبّر القرآن الكريم لا يمنع من الاستعانة بالعلوم والمعارف الحديثة للكشف عن معاني بعض ممّا ورد فيها بشأن موضوعات البحث، ما دامت كلمات الله هي بالمحصلة أفعال يؤكدها الواقع لقوله تعالى: (وتمّت كلمت ربّك صدقا وعدلا) الأنعام: 115، وما دام التاريخ البشري هو مرآة يُرى على ضوء أحداثه مدى صحّة بعض ممّا ورد في التنزيل من وقائع.. وهي جملة أدوات من بين غيرها اعتمدتها المناهج العلمية والموضوعية الحديثة لاستجلاء بعض من المعاني الباطنية التي تتستر وراء رداء الظاهر من الكلمات. 

ولأن القرآن كلام الله الحق كما سبقت الإشارة فقد نزل بالحق لقوله تعالى في سياق آخر: (ذلك بأن الله نزّل الكتاب بالحق) البقرة: 176، وبالتالي، فلا مناص من تدبّر هذا الكتاب تدبّرا فكريا عميقا بدل هجره لحساب المرويات من التراث، خصوصا وأن الله يُؤكّد بما لا يدع مجالا للشك أن القرآن لم يفرّط في شيء، وجاء تبيانا لكل شيء، وفيه تفصيل كل شيء، ووصفه تعالى بأنه كتاب أُحكمت آياته ثم فصّلت من لدن خبير حكيم، ما يعني أن الآيات المحكمات هي عين الحق المُتضمّن في أم الكتاب، فيما المتشابهات لا يمكن فهمها إلا بإرجاع معانيها إلى المحكمات بآليات التأويل الباطني لا التفسير الظاهري. 

وعلى هذا الأساس يتساءل الحق سبحانه فيقول: (ومن أصدق من الله حديثا) النساء: 87. ويقول أيضا: (فبأي حديث بعده يؤمنون) الأعراف: 185، وقوله أيضا: (تبك آيات الله نتلوها عليك بالحق فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون) الجاثية: 6. في إشارة إلى ضرورة التمسك بالحقائق الواردة في القرآن بدل الاستناد إلى مرويات الفقهاء والشيوخ لما قد يشوبها من زور وتحريف وتحوير كما هو حاصل للأسف في التراث. 

هذا هو الصراط المستقيم الذي حثّ على اتّباعه الدين القويم، ولا علاقة له بالصراط الذي روّج له فقهاء الرسوم واستقر في الوعي الجمعي للأمة لعصور ودهور، من كونه طريقا أرفع من الخيط وأحدّ من السيف يمرّ عليه الإنسان فوق جهنم يوم القيامة، هذا هراء ومحض افتراء.. الصراط المستقيم وفق ما يفهم من حديث الله هو القرآن الكريم الذي يهدي إلى الطريق القويم الموصل إلى رضا الله، فمن آمن بآياته وعمل بمقتضاها كان على صراط مستقيم، ومن تركها وراء ظهره وآمن بأقوال فقهاء القشور وعمل بها كان على ضلال مبين. بدليل قوله تعالى لرسوله الكريم: (فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم) الزخرف: 43. وقوله لعباده في الآية 2 من سورة الأعراف: (اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون)، وواضح أن ما أزل إلى الناس من ربهم هو الذكر الحكيم والذي لا علاقة له بالضلال المسمى بالسنة التي ابتدعها الفقهاء وجعلوها بديلا عن دين السماء. 

إن التغيّر النوعي الذي يمكن أن يأتي به هذا النوع الجديد من القراءة للنص القرآني، لا يقاس بالذكاء بقدر ما يستند إلى الجهد والتأمل ودقة الاستنتاج، مع مراعاة عامل الإيمان بالثوابت من جهة، وعامل الحرية بلا قيود ولا حدود عند الانفتاح على الأسئلة الحقيقية المسكوت عنها من جهة ثانية، وهي الأسئلة التي أغفلها التراث لأسباب سياسية وإيديولوجية، هدفها إخضاع الإنسان المسلم لسلطة الإقطاع عن طريق تدجين عقله وسجنه في معتقل الطائفة أو المذهب، مع الحرص الشديد على تقييد حرية التفكير لديه، وسلب إرادته، وضبط سلوكه، ليكون كل مسار حياته جامدا وخاضعا بأدق التفاصيل إلى سُنّة الفقهاء، ضدا في سنة الله التي يُعتبر التطوّر والتبدّل والتغيّر هو الثابت الأساس فيها. 

إن أكبر جريمة ارتكبها تحالف الإقطاع وفقهاء القشور في حق الإنسان المسلم عبر التاريخ هي تعطيل ملكة التفكير لديه، هذا علما أن تجربة الإنسان في الحياة الدنيا تعتمد أساسا على حرية التفكير والإرادة التي وهبهما له الله تعالى وكرّمه بسببهما على سائر المخلوقات بما في ذلك الملائكة عندما أعلنه كائن أخلاقي قابل للتعلم والتحسن والتطور من جهة، وكائن حر له أن يختار بين الهدى والضلال من جهة ثانية. هذا في حين أن الملائكة كائنات معصومة لا تملك حرية التفكير والإرادة ولا حريّة الاختيار، لأنها خُلقت حصريا لتفعل ما تأمر به ولا تعصى لله أمرا، لذلك فهي خارج نطاق المساءلة والمحاسبة يوم القيامة، بخلاف الجن والإنس الذين سيسألون يوم الدين عن أعمالهم بحكم المسؤولية المنوطة بهم.

سؤال الحياة والموت

لا موت من دون حياة، ولا حياة من دون موت.. هذا ما يؤكده القرآن في أكثر من آية. لكن الغريب أن الله تحدث عن خلق الموت قبل الحياة خلافا للثابت في الوعي الجمعي للناس حيث يأتي الموت بعد الحياة، لقوله تعالى: (الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيّكم أحسن عملا) الملك: 2. فتقديم الموت على الحياة من حيث الخلق له معنى دقيق يفيد أن حياة الإنسان خلال التجربة الأرضية تولّدت من موت سابق حصل في عالم الدر والأنوار العلوية وفق ما يستفاد من آية الميثاق لقوله تعالى: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين) الأعراف: 172.

فالله سبحانه وتعالى يُذكّرنا في هذه الآية الكريمة بقيامة أولى جرت في حضرته قبل خلق الإنسان على الشكل الذي أصبح عليه في الأرض، حيث (أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم)، أي أخد النفوس من سلالات بني آدم جميعا قبل أن تستقر في الأجسام لتخوض تجربة الحياة الدنيا، ما يعني أن النفس هي أول ما خلق الله قبل الأجسام وقبل نفخ الروح فيها، وكان ذلك من أجل غاية واحدة تمثل سر الحق في الخلق، ألا وهي الإعتراف بربوبية الله للعباد والقبول بعبادته طوعا أو كرها، ولذلك خلقهم لقوله تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) الذاريات: 56. وواضح أن خلق الجن كان سابقا لخلق الإنس، وواضح أيضا أن الله قبل الخلق كان معروفا لنفسه فقط ووجوده لم يكن بشرط شيئ على الإطلاق، بخلاف اسم الرب الذي لا يكون ربا إلا بشرط وجود المربوب، أي بوجود المخلوقات التي بها أصبح ربا معروفا لهم. 

ويفهم من آية الميثاق أن شرط خروج الإنسان من ظلمة العدم إلى نور الوجود جعله الله في البدء طوعا لمن عاين الحقيقة والحق حضورا، وقبل اختيارا بأن يشهد أمام الله على نفسه، لا على الله، لأن الله سبحانه وتعالى لا يقبل أن يُشهد عليه، وهو على كل شيء شهيد، خصوصا إذا علمنا أن كلمة الشهادة أصلها من المشاهدة، لذلك لا تجوز الشهادة بالسمع لا شرعا ولا قانونا.. وعلى هذا الأساس سألهم تعالى وهم بين يديه: (ألست بربكم؟).. فما أراد الله أن يشهدوا به على أنفسهم، هو الاعتراف حضوريا بربوبيته لهم. قالوا: (بلى شهدنا) فحقت كلمة ربّك لتبدأ دورة الموت والحياة ثم الموت والبعث فحياة الخلود. 

والسبب كما أوضح تعالى في قرآنه يكمن في حرصه على اختبار صدق شهادة عباده، ليعلم الذين صدقوا من الكاذبين، وحتى يكون الامتحان في مستوى التحدي، عرض الأمانة على الأنفس، وجعل الفتنة سلاح الاختبار لقوله تعالى: (أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون) العنكبوت: 2. ولجهل الإنسان وظلمه قبل بحمل الأمانة لقوله تعالى: (إنّا عرضنا الأمانة على السماوات والارض والجبال فأبين ان يحملنها وأشفقن منها وحملها الانسان انه كان ظلوما جهولا) الأحزاب: 72. والأمانة أمانات - أيا ما كانت مالا أو غيره – في التعريف اللغوي هي شيء يودع عند الغير لحيافظ عليه ثم يرده إلى من أودعه، أما أعظمها فهي الروح التي هي من نفس الله الأقدس التي لا يملك الإنسان حق التفريط فيها لقوله تعالى: (فإذا سوّيته ونفخت فيه من روحي) الحجر: 29 وص:72، وبمعنى آخر هي الحياة التي أودعها تعالى في الإنسان ليخوض تجربته الأرضية بفضلها ثم يستردها صاحبها عند ممات العبد، وللعامة مقولة مشهورة تخبر عن حقيقة هذه الأمانة عند الموت ومفادها: "لقد أخذ صاحب الأمانة أمانته" في إشارة مضمرة إلى الروح. 

وحيث أن الأمر كذلك فقد جعل الله قتل النفس بغير حق من الكبائر وتأتي في المرتبة الثانية بعد الشرك في الوصايا العشر، ولقيمة النفس عند الله قال تعالى، (من قتل نفسا بغير نفس فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا) المائدة: 32، كما حرّم على الإنسان قتل نفسه واعتبر من يقوم بهذه الفعلة الشنيعة من الكافرين بسبب يأسه من رحمة الله لقوله تعالى: (ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما * ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه نارا وكان ذلك على الله يسيرا) النساء: 29 – 30. وبالتالي، فواهب أمانة الروح للإنسان هو الله تعالى، وهو وحده من له حق استرجاع أمانته بمعرفته ووفق الأجل المقدر. 

هذا الكلام يعني أن الله تعالى، وبعد الانفجار العظيم الأول الذي أوجد عنه السماوات والأرض ففتقهما بعد أن كانتا رتقا (إن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيئ حي) الأنبياء: 30، أحدث انفجارا عظيما ثانيا تناثرت به النفس الواحدة إلى أنفس كثيرة بعدد الخلق لقوله تعالى: (يا أيها الناس اتقوا ربّكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منها رجالا كثيرا ونساء) النساء: 1. أي أن الله بث النفس الواحدة إلى جزيئات شكلت  كائنات مستقلة من نور، فأودع فيها الفطرة (فطرة الله التي فطر الناس عليها) الروم: 30، وميزان العقل لتمييز الحق من الباطل والهدى من الضلال والخطأ من الصواب (والسماء رفعها ووضع الميزان * ألاّ تطغوا في الميزان * وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان) الرحمن: 7 – 8 – 9، ولا علاقة بالميزان المذكور همنا بأداة الكيل كما ذهب إلى ذلك البعض بل بالعقل وفق ما يعطيه سياق الاية، وذلك لتكون كل نفس بفضل العقل في الحياة الدنيا على بيّنة ممّا سبق وأن شهدت به على نفسها حضوريا أمام ربها، ومسؤولة عن أمانة الروح التي أودعها الله فيها، لتحاسب في النهاية على كل خياراتها وقراراتها ونتائج أعمالها، ما دام الأصل في الإنسان هو حرية الإرادة، وإلا لا معنى لمحاسبة على أفعال لا يكون الإنسان مسؤولا عنها. 

وحتى لا ينسى الإنسان ميثاقه مع ربه وعهده بقبول الأمانة خلال التجربة الأرضية فيكون من الغافلين، بعث الله الرسل من رحمته بعباده، ليُذكّروا الناس بما التزموا به، فلا تكون لهم بعد ذلك من حجّة على الله يوم القيامة لقوله تعالى: (رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجّة بعد الرسل) النساء: 165.

وحيث أن النفس هي التي تخوض التجربة الأرضية وتعود إلى ربها للمسائلة والمحاسة فإنها كائن خالد لا يموت، أما قوله تعالى: (كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون) العنكبوت: 57. فمعناه أن النفس قبل أن ترحل إلى عالم البرزخ وتعود لربها كما تؤكد الآية ستذوق طعم الموت، والذوق بحد ذاته لا يمثل فناءا وخروجا من الوجود بل هو مجرد مرحلة وسيطة وضرورية للإنتقال من عالم الملك إلى عالم الملكوت، بدليل أن النفس ساعة تذوق الموت لا تموت ما دامت ترى الملائكة والحقيقة الربانية الموعودة التي لم تكن تراها في الحياة الدنيا، فتدرك برؤية العين صدق وعد ربها، وهو الأمر الذي لا يعيشه ويشعر به إلا المحتضر لكنه لا يستطيع الإخبار عنه. 

ففي اللحظة التي تذوق فيها النفس طعم الموت ينتهي الزمن الأرضي المُقدّر بالنسبة لها ويبدأ الزمن القدساني الذي يمثل لها الحياة الأبدية في المدى اللامتناهي. وديل ذلك، أن النفوس قبل قدومها إلى الدنيا تكون موجودة في البرزخ تنتظر دورها لتخوض تجربتها ويعلم الله صدق ما وعدت به ربها في عالم الذر عندما شهدت بربوبيته لها. وحسب الدور يبعث الله كل نفس لتسكن في الجسد الخاص المقدّر لها، وتخوض تجربتها الأرضية في المكان والزمان المحددان لها لقوله تعالى: (وهو الذي أنشاكم من نفس واحدة فمستقر و مستودع قد فصّلنا الآيات لقوم يفقهون) الأنعام: 98. فالمستقر هو الموطن الأرضي الذي ستعيش فيه تجربتها لقوله تعالى: (ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين).  أما المستودع، فهو الجسم أو (القالب) الذي أودعت فيه النفس، والذي تنتهي صلاحيته بانتهاء التجربة الأرضية وفق تقدير العلي العليم الذي جعل لكل أجل كتاب، يقول تعالى:  (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين) هود: 6. وهذا يعني أن جيلنا الحالي كان في البوزخ ينتظر عندما كان جيل فجر الإسلام يخوض تجربته الأرضية، وأن جيل فرعون زمن موسى انتقل إلى عالم البرزخ بعد أن أحيانا الله نحن اليوم لنعيش تجربتنا الخاصة، وهكذا.. في تعاقب مستمر للأقوام والأجيال، بعضها يخلف بعض في الأرض إلى أن تقوم الساعة لقوله تعالى: (أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله قليلا ما تذكرون) النمل: 62.

نخلص مما سلف، إلى أن النفس وإن كانت تتسم بالقدم إلا أنها محدثة من حيث الخلق، لكنها خالدة بعده، منها من ستعيش الخلود بعد البعث إلى ما شاء الله، ومنها من ستعيش الأبدية ما دامت السماوات والأرض، والموت بالنسبة لها هو مجرد سبات تنتقل بعده من عالم إلى آخر، لأنها خُلقت في عالم الدر فأماتها الله الميتتة الأولى بعد الشهادة، ثم أحياها حين أودعها في القالب المادي الذي قدره لها لتعيش فيه تجربة الحياة الدنيا، ثم أماتها ليحييها يوم القيامة في خلق جديد لتلقى حساب أعمالها (كل نفس بما كسبت رهينة). وما يؤكد هذه الحقيقة قوله تعالى: (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون) البقرة: 28. وهو ما سيدركه الكافرون بعد الموت بقولهم يوم البعث: (قالوا ربنا أمتنا إثنتين وأحييتنا إثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل) غافر: 11. فهيهات ثم هيهات أن يتحقق لهم ذلك، وقد سبق أنهم لا يرجعون.

إذا فهمنا هذا فهمنا معنى الموت في القرآن الكريم، وفصلناه عن معنى فناء الجسم، لأن عمر الجسم لا يتجاوز مدة التجربة الأرضية، فيما النفس تنتقل من عالم فاني إلى عالم باقي دائم لتحل يوم البعث من جديد في جسم من خلق جديد كما يؤكد تعالى في قرآنه، وذلك بسبب اختلاف شروط وظروف العيش بين الحياة الدنيا والحياة الآخرة الأمر الذي لا يصلح معه جسم الدنيا للحياة ألاخرة، لقوله تعالى: (أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد) ق: 15. ذلك أنه بتبدّل الأرض  غير الأرض والسماوات تختلف حكما ظروف الحياة ما يتطلب جسما من خلق جديد يشبه الجسم الأول من حيث الصورة لكنه يختلف عنه من حيث الطبيعة، لأن من أبرز شروط حياة الخلود، أن يكون الجسم قويا كاملا من غير عيوب، لا يهرم، ولا يمرض، ولا يفنى أبدا. 

- والسؤال الذي يطرح بالمناسبة هو: هل الخلق الجديد يعني بعث الإنسان على  الشكل الذي كان عليه في الحياة الدنيا؟ 

الجواب نجده في رده تعالى على من يجادل في قدرته بغير علم لقوله: (وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم) يس: 78. فجاء جواب الحق لرسوله الكريم ليبلّغه للمشككين: (قل يحييها الذي أنشأها أول مرّة وهو بكل خلق عليم) الآية 79 من نفس السورة، ليؤكد سبحانه وتعالى علمه بكل تفصيل مهما بلغت دقته، ثم قطع الشك باليقين بقوله: (أو ليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم وهو الخلاق العليم) الآية 81 من نفس السورة. والمثل يعني لغة الشبه والشبيه، الأمر الذي يفيد أن الإنسان يوم البعث لن يكون على نفس الشكل الذي كان عليه في الحياة الدنيا، بل على صورة تشبهه، لكن بمقومات جديدة ومختلفة تناسب حياة الخلود، أي بصورة شبيهة لما كان عليه في الحياة الدنيا لكنها مختلفة من حيث العمر لأن الله سيبعث الناس شبابا، ومغايرة من حيث الطبيعة لا نقص ولا عيب فيها، وهذا الخلق الجديد لا يعجز الله تعالى، بل هو أهون عليه من خلق السّماوات والأرض كما أوضح الحقّ في الآية 81 من نفس السورة.

يتبـــــــع.....


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق