بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 2 يوليو 2023

الفرق بين الأجل الموقوف والأجل المحتوم..

 

(قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ)

  - السجدة: 11 -

كثيرة هي الأسئلة التي تثار حول قضيّة الأجل، خصوصا عندما يلاحظ الإنسان موت طفل صغير بسبب مرض عضال ولمّا يحظى بفرصته كاملة في الحياة، ونفس الأمر يقال أيضا عن شاب في مقتبل العمر قُتل بفعل فاعل فتحطّمت أحلامه على صخرة الأجل الذي لا يرحم، والأمثلة أكثر من أن تحصى من واقعنا المعاش.. والسؤال هو: - هل الأجل قضاء أم قدر؟.../...

يخبرنا القرآن الكريم أن الأجل هو الأجل لقوله تعالى: (إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ) يونس: 49. وهذا صحيح لا غبار عليه، لكن السؤال هو عن مفهوم هذا الأجل، خصوصا إذا علمنا أن الله تعالى تحدث في التنزيل الحكيم عن أجلين: "أجل موقوف" و "أجل مسمّى" لقوله تعالى: (ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ) الأنعام: 2. 

فما الفرق بين الأجلين؟..

الأجل الموقوف

الأجل الموقوف وفق ما يستفاد من الذكر الحكيم هو الأجل غير القطعي أو الأجل غير المسمّى الذي جعل الله فيه قابلية التقديم والتأخير. أي أنه الأجل الذي يفترض أن تحلّ فيه ساعة الموت إذا لم يطرأ عارض أو مانع يحول دون استفاء الإنسان لأجله المقدّر، ومثال ذلك أن حصول الموت قبل الأجل المحتوم يكون عادة موقوفا على سبب من الأسباب الموجبة كالقتل العمد أو الحدث الفجائي أو المرض العظال، لكنه قد لا يحدث لمانع يحول دون وقوعه في الأجل الموقوف، كأن يحول الله بين القاتل والمستهدف بالقتل فلا تحدث الجريمة، أو أن يؤخر الله العبد فلا يركب الطيّارة أو القطار أو السيّارة التي يكون مقدّرا لها أن تتعرّض لحادث مميت، أو أن يصاب طفل بمرض عضال لكن يسارع والده لمعالجته فيشفى ولا يقع الموت في الأجل الموقوف.

 ولعل في قصة قتل العبد الصالح للطفل في سورة الكهف المثال الواضح على حكمة الله من ذلك.

وبهذا المعنى، فإن الأجل الموقوف هو المدّة الزمنيّة الذي قدّر للإنسان العيش فيها بشرط عدم حصول ما يمنع ذلك، وهذا النوع من الأجل يخضع للقدر الذي يتبدّل ويتغيّر عند الأخذ بالأسباب والدعاء، مثله مثل الرزق الذي يخضع هو أيضا للسّعي والتوكّل على الله.

الأجل المحتوم:

الأجل المحتوم بتعبير القرآن هو "الأجل المسمّى"، أي الأجل الذي لا يتخلّف ولا يتغيّر ولا يتبدّل ولا يطرأ عليه تقديم أو تأخير لسبب من الأسباب لأنه يدخل ضمن موجبات القضاء التي هي بأم كن، ومن كان بأمر كن فلا راد له نزرا لطبيعة هذا الأمر القطعي الحاسم.

وبغض النظر عمّا ذهب إليه التراثيون قديما سواء من أهل النقل أو أهل العقل حول علاقة الأجل المحتوم بعلم الله الأزلي بتعبير أهل السنة، أو علم الله القديم بتعبير المعتزلة، فالأمر يتعلّق حتما بحكم قطعي مكتوب ينتهي به أجل الإنسان بشكل حتمي سواء تأخر هذا الأجل أو تقدّم بحكم الأسباب التي هي من مجال التقدير والقدر.

  •  الحكمة من وجود الأجلين:

لا شك أن لله حكمة بالغة في كل شيء ومن ذلك مسألة الأجل الموقوف والأجل المحتوم. فلو علم الإنسان أن هناك فقط أجل محتوم يحل بأي عارض يطرأ على الإنسان في حياته كالمرض مثلا، وأن سعي الإنسان للشفاء منه أمر عبثي ميؤوس منه لأن كل من يمرض يموتن فلن تجد إنسانا على وجه الأرض يتعلّق بأمل الشفاء والسّعي وراء اكتشاف أسباب الداء والبحث له عن دواء. وكذلك الأمر بالنسبة للرزق، فقن خلق فقيرا محكوم عليه أن يعيش كذلك أبد الدهر فلماذا سيتعب نفسه بالسعي لرزق لن يصله مهما عمل وجد واجتهد؟.. وهذا يعني أن الحياة ستكون ذات طبيعة عبثية لا معنى لها وأن الإنسان لن يجتهد لابتكار وسائل الحماية من نائبات الدهر وكوارث الطبيعة ما دام يعلم مسبّقا أنه معرّض للموت عند حصولها وأن لا فائدة من الحماية منها.

وهذا هو معنى قوله تعالى: (يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ ۖ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ)، ومعنى ذلك أن الله بتدبيره لشؤون عباده يمحو من أقدارهم ما يشاء ويثبّت وعنده أم الكتاب الذي يسجّل فيه كل كبيرة وصغيرة، سواء تعلّق الأمر بالأجل الموقوف أو الرزق أو غيرهما، باستثناء الهدى والضلال، وهو موضوع سيأتي تفصيل القول فيه في مبحث مستقل لأهميته بل وخطورته، نظرا لما يثيره من شبهات حول مبدأ العدل الإلهي بين القائلين بحرية الاختيار كالمعتزلة والشيعة من جهة.. والقائلين بالجبر بمفهومه الغليظ بحيث ذهب الأشاعرة وأهل السنّة والجماعة حدّ القول بأنّ الله سبحانه وتعالى عمّا يصف الجاهلون، قد سبق وأن كتب مصير عباده في علمه الأزلي قبل أن يخضعهم للتّجربة الأرضية، فقضى عليهم بأن يكونوا إما سعداء أو أشقياء، وهذا لعمري قمّة العبث.

ولو كان الإيمان بالجبر بمفهومه الغليظ من أركان الإسلام بالمعنى الذي ذهب إليه التراثيون، لأصبح العيش ضرب من العبث، ولعمّ الشر والفساد وانعدم الخير وانقطع السّعي في الأرض، والله تعالى يقول لعباده من باب العبرة والموعظة:

-   (قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) الأنعام: 11. 

- (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ) الأعراف: 96.

فبالسير في الأرض يكتشف الإنسان ما أصاب الأمم السابقة من عاقبة نتيجة لتكذيبهم لآيات الله وعدم أخذهم بسننه، وبالإيمان بالله وتقواه يفتح الله على عباده بركات من السّماء والأرض ليعيشوا عمرا جميلا مفعما بالأمن والسلام والنعيم المقيم في جنّة الدّنيا قبل جنّة الآخرة.

وهناك ذليل من القرآن تدحض نظرية الجبر بمفهومه الغليظ وتنتصر لمبدأ الإرادة وحرّية الاختيار في مجال الإيمان لقوله تعالى:

- (فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَىٰ حِينٍ) يونس: 98.

ومن الواضح أن عدم إيمان القرية هو الذي أوجب سخط الله وغضبه عليها فاستحقت بذلك ما حلّ بها من عقاب، إلا قوم يونس الذين اعتبروا بما وقع لأهل القرية من عذاب فآمنوا فنفعهم إيمانهم ومتّعهم ربّهم بالأمن والسلام والرّزق الطيب الوفير إلى حين حلول أجلهم المحتوم لقوله تعالى: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ) الأعراف: 34.

وهذا هو عين العدل الإلهي الذي يرتاح له العقل ويطمئن له القلب، وهذا الارتياح العقلي والاطمئنان القلبي لن يتأتّيا للمسلمين في عصرنا المنحطّ هذا إلاّ إذا آمنوا بالله حقا وأدركوا حقيقة واقعهم البئيس والأسباب التي أدّت إليه، وقرّروا بشجاعة تغييره جذريّا انطلاقا من تصحيح مفاهيمهم الدينية والدنيوية من كتاب الله بدل كتب فقهاء الجهل والضلال.

ذلك أن الله لا يغيّر ما بقوم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق