بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 20 يوليو 2023

التخاطر والاستبصار بين العلم والدين (2/2)

 

(بَلِ الْإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ)

- القيامة: 14 -

الاستبصار من وجهة نظر القرآن:

الاستبصار من جذر "بصر"، والبصيرة تعني لغة النظر النافذ والفطنة المتّقدة إما عن علم أو عن خبرة، أما من وجهة النظر الدينية فتعني قوّة الإدراك الناجم عن العقيدة الصادقة التي يفهم بها المؤمن القضايا المعنوية غير المحسوسة بنور القلب، وجاءت كلمة "بصائر" كصفة لكتب الله المنزلة باعتبارها هدى ورحمة تخرج الناس من الظلمات إلى النور ليميزوا بها بين الحق والباطل، بين الهدى والضلال. وجاءت أيضا بمعنى العبرة والموعظة في قصص الأمم الغابرة (الأحزاب). أما كلمة "بصيرة" فجاءت بمعنى الجوارح التي ستكون شاهدة على الإنسان يوم القيامة لقوله تعالى في الآية 14 من سورة القيامة: (بَلِ الْإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ) وواضح أن استعمال الله تعالى للكلمة بصيغة المؤنث هو للدلالة على الجوارح التي ستشهد على الإنسان من خارج إرادته وقدرته على التحكّم في أعضائه كما كان يفعل في الحياة الدنيا.../...  

واستعمل القرآن الكريم مصطلح "الاستبصار" في سورة العنكبوت الآية 38 لقوله: (وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ ۖ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ)، فقوله كانوا "مستبصرين" تفيد أنهم كانوا مدركين للحق عارفين بالباطل بعد أن تلقوا من ربّهم بصائر الهدى من قبل، لكنهم اختاروا سبيل الضلال والفسوق والعصيان فدمّرهم تعالى عندما اختاروا سبيل الشيطان بديلا عن سبيل الله، وللتوضيح، فمفردة "السبيل" في القرآن الكريم تفيد حكما "حرّية الاختيار" التي تخضع لإرادة الإنسان في الحياة الدنيا.

ومن يتدبّر المعنى القرآني لمصطلح "الاستبصار" باختلاف صياغاته يكتشف بالبديهة العلاقة الوطيدة القائمة بين الوحي والبصيرة، ذلك أن البصيرة النافذة التي تتمتّع بالقدرة على إدراك الظواهر غير المحسوسة تتفاعل بشكل وطيد مع ما يقذفه تعالى في روع المؤمن الصالح من حقائق لدنيّة عبر وحي المعاني كلما أكثر العابد من قراءة القرآن (القراءة تعني التدبّر للفهم والتعلّم وليس التلاوة لكسب الأجر فحسب) لقوله تعالى: (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ) طه: 114. ما يعني أن من سيوحي المعاني الباطنة للمعتكف على تدبّر القرآن في مدرسة الله هو الله نفسه، أي المعلم الأكبر الذي علّم الإنسان ما لم يعلم، خصوصا إذا علمنا أن لكل إنسان حاجته الخاصة من القرآن والتي لا يعرفها إلا الله سبحانه فيفتح على من يشاء من عباده بالفهم الذي يقتنع به ويستريح له كل حسب حاجته ومستواه، وكأن القرآن مرآة تعكس الصورة النفسيّة الفريدة لكل من يتقرب بقراءته إلى خالقه.

وللإشارة فقد وردت كلمة "بصائر" و"بصيرة" في القرآن الكريم في: (سورة الجاثية الآية: 20 - وسورة الأنعام الآية: 104 – وسورة الإسراء الآية: 102 – وسورة القصص الآية: 43) - وسورة يوسف الآية: 108 – وسورة القيامة الآية: 14).

وحقيقة الأمر أن الاستبصار كرامة عظيمة يجريها الله تعالى على يد من يشاء من عباده الصالحين، إما تأييدا له في قضيّة، أو إعانة له على عمل، أو إخراجا له من ضيق، أو تخفيفا له من معاناة، أو تثبيتا له في موقف، أو نصرا له في جهاد، أو دعما له في مجاهدة.. 

والاستبصار نوعان: حسّي ومعنويّ:

الاستبصار الحسّي: وهو الذي يهبه الله تعالى لعباده المقرّبين من خلال الإلهام الذي يمكّن العبد من رؤية الأشياء كما هي على حقيقتها لا كما تبدو للعيان، وقد تكون هذه الأشياء من عالم الملك أو عالم الملكوت:

- أ. عالم الملك: لقوله تعالى: (أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك زيّن للكافرين ما كانوا يعملون﴾ الأنعام: 122. والإنسان يكون ميّتا قبل الهُدى يهيم على وجهه في بحر الضلال، لكن وبمجرد أن يؤمن ويخوض مغامرة البحث عن الحقيقة بلا حدود ولا قيود في سعيه الدؤوب لبلوغ درجة اليقين، إلاّ ويتحوّل إلى كائن أخلاقي على بصيرة من أمره، يرى بنور الله ما لا يراه غيره من الناس العاديين، فيستقيم كما أُمره تعالى أن يستقيم، ومن ثم يُيسّر له سبل السعادة في الحياة الدنيا والنعيم الدائم المقيم في الآخرة بشقّيها: جنّة الخلود البرزخيّة بعد الموت (جنّة المأوى)، وجنّة النعيم الأبدية بعد القيامة (كل حسب ما قدّم من أعمال صالحة في الحياة الدنيا).

- ب. عالم الملكوت: هناك عديد الآيات التي تدلّ دلالة قطعيّة على أن الغيب من علم الله وحده دون سواه، هذا أمر لا نقاش فيه، لأنه تعالى بيده مفاتيح الغيب لا يعلمه إلا هو، وأنه لا يُطلع على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول وفق الاستثناء المذكور في الآية. ويستفاد من التنزيل الحكيم  أن هناك نوعان من الغيب، غيب لا يكشف عنه تعالى لأحد كالمتعلق بأحداث الكون الكبرى من قيام الساعة والقيامة وما يدور في السماوات والأرض من خبايا لقوله تعالى: (قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله) النمل: 65، وقوله: (وعنده مفاتيح الغيب لا يعلمها إلا هو) الأنعام: 59، وهذا الأمر لا يقتصر على البشر فحسب بل حتى شياطين الجن لا يعلمون الغيب لقوله تعالى في موت نبيه سليمان عليه السلام: (فلما قضينا عليه الموت ما دلّهم على موته إلاّ دابّة الأرض تأكل من منساته فلمّا خرّ تبيّنت الجنّ أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين) سبأ: 14.

لكن هناك نوع آخر من الغيب يتعلق بحادثات وقعت في الماضي البعيد على الأرض كقضيّة أهل الكهف وذو القرنين وغيرهما مما ورد ذكره في القرآن الكريم، بالإضافة لأنواع أخرى من الغيب تتعلّق بتحقّق أمر الله بشأن بعض القضايا التي سبق وأن صدر بشأنها حكم قطعي لكن تنفيذه أخّر لأجل مسمّى. هذا النوع من الغيب هو الذي يخبر به تعالى أنبياءه ومن يشاء من عباده، وذلك من خلال الرؤى التي تحتاج إلى تأويل لفهم حقيقتها، ومثال ذلك رؤية خليل الله إبراهيم وهو يذبح أبنه، ورؤية فرعون مصر لسبع بقرات عجاف يأكلن سبع بقرات سمان زمن يوسف عليه السلام. وهذا هو معنى قوله تعالى: (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول) والرسول هو من يكلّف بحمل الرسالة سواء تعلّق الأمر بشريعة أو غيرها، وسواء أكان مؤمنا صالحا أم غير ذلك. وللتوضيح، فإن علم الغيب المنفي معرفته عن عباده جل جلاله هو ما كان للشخص لذاته، كأن يدّعي أحد من البشر أن ما علمه بالغيب هو بقدرته ومن ذاته دون واسطة من الله، هذا مستحيل ويعتبر محض كفر، وبالتالي فما يتعلّق بالدلالة المستفادة من مجموع الآيات التي تتحدث عن الغيب في القرآن الكريم، هو أن الله تعالى وحده دون سواه له القدرة على معرفة الغيب، وليس لهذه القاعدة من استثناء، وهو وحده أيضا من يُطلع على غيبه من ارتضى من رسول بغض النظر عن الكفر والإيمان كما حدث مع فرعون مصر، أو كما حدث مع الخضر عليه السلام في سورة الكهف، ومثال ذلك علم تفسير الرؤى المستقبلية الذي وهبه تعالى لنبيه الكريم يوسف عليه السلام وغيره، ذلك أن مصطلح "رسول" في الآية السالفة الذكر لا يعني حصريا من بعثه الله بشريعة السماء كما قد يعتقد البعض، بل قد يكون نبيّا أو وليّا أو رجلا صالحا  اختاره تعالى مبعوثا لقومه وأيده بكرامات فأطلعه على بعض الغيب بوحي منه ليحصل على البشارة أو اليقين أو ليبلّغ ما علم لأهله أو قومه دعما لمصداقيته وصدق رسالته. 

الاستبصار المعنويّ: ويتمثل في التحلّي بالثقة في النفس، والثبات على الموقف، والروح العالية، والإرادة الصّلبة، والضمير الحيّ، والصبر على المشاق، والتصرّف بأخلاق ومسؤولية، والعطاء دون انتظار المقابل.. وهذه جميعها من سمات الاستبصار المعنوي، يهبه الله لمن يكون إيمانه إيمانا قويّا فتراه يُؤثر الدار الأخرة على الحياة الدنيا.

ولا تحصل مثل هذه الكرامات للعبد المؤمن الصالح بفضل المجاهدة الذاتية فحسب وإن كانت هذه الوسيلة مُتطلّبة بالضرورة، بل لا بدّ من واسطة تتمثل في مشيئة الله وقدرته، ولا دخل للشيطان بها لأنه ليس له سلطان على عباد الله الصالحين كما يؤكد تعالى في قرآنه، كما أنه ليس في الكرامات تجاوز لحدود الله تعالى، بل هي ثمرة من ثمار التصديق والطاعة والمحبة والتوكّل التي يقابلها تعالى بالكشف عبر قذف ما يشاء من حقائق في روع العبد الصالح. 

والكرامات هي غير المعجزات التي خص بها تعالى رسله الكرام كإبراهيم وعيسى وموسى وغيرهم من المبعوثين إلى أقوامهم عليهم السلام جميعا تأييدا لهم في رسالاتهم، لأن المعجزات وبخلاف الكرامات من طبيعتها خرق العادات والسنن والقوانين الكونية، فيما الكرامات هي غير ذلك.

ومختصر الكلام، أن الاستبصار هو ما يقع في النفوس من إلهام وكشف ونحو ذلك من علامات يكون مصدرها روحيّا فيسمّى كرامة من الله، لأن الله تعالى لا يوحي لعباده بشكل مباشر بما في ذلك الرُّسل والأنبياء، بل يوحي دائما بواسطة أو من وراء حجاب كما يؤكد في قرآنه.

والاستبصار عموما هو كرامة ربّانية يقيس العبد بها مدى قربه من الله، فيتيقّن أن الله أحبّه فاصطفاه وجعله من عباده الصالحين المنعمين في الدنيا والآخرة جزاء له على صدق إيمانه وإخلاصه في عمل وما قدّمه من جهد ومجاهدة في طريق الهدى، فيبعث له تعالى برسائل تحمل مضامين غيبيّة برؤى مشفّرة يحتاج فهمها إلى تأويل ليس في متناول الجميع بل فقط "الرّاسخون في العلم" الذين وهبهم تعالى أسرار كشف رموز العلم اللّدني هم من يستطيعون فهمها بشكل صحيح.

وتعتبر الكرامات من علامات الرضا المتبادل، رضا العبد بمعبوده، ورضا المعبود عن عبده، ولعلّ أهمّ ميزة الرضا أنه يوقظ في الإنسان خاصّيّة الضّمير الذي يحوّل النفس من النفس الأمارة بالسوء إلى النفس اللّوامة لينتهي بها المطاف بالتدريج إلى أن تصبح نفسا مطمئنة بالإيمان راضية بما قسّم لها ربّها وخصّها به، مرضية عنها، تعيش السلام والاطمئنان في ظل اليقين بوعد ربّها، فيكون مصيرها الخلاص في الآخرة لقوله تعالى: (يا أيتها النفس المطمئنة * ارجعي إلى ربّك راضية مرضيّة * فادخلي في عبادي * وادخلي جنّتي) الفجر: من 27 إلى 30. 

كما أن الرضا هو ثمرة من ثمرات الحب الصادق بامتياز والذي يعتبر جوهر عقيدة التوحيد، لأن الحب في الإسلام مرتبط بحب الله وحب خلقه، فيما الحب في المسيحية وفق العقيدة الكنسية مرتبط بحب المسيح عليه السلام، وبالتالي، فمن لا يُحب الله ويحب في الله وفق العقيدة الإسلامية لا يمكن أن يكون من عباد الله المُقرّبين، ذلك أن المحبة هي أعلى مرتبة في مقامات التوحيد، وتكاد تلامس العشق الذي هو مقام من مقامات الخلّة التي تعني الذوبان في المحبوب كفراشة تحوم حول نور الشمعة لينتهي بها المطاف بالاحتراق في بهائه، فيصبح كيانها والنور شيئا واحدا من دون أن يعني ذلك الاتحاد أو الحلول بالمفهوم الكنسي، لأن غير الموجود كالإنسان لا يمكن أن يتّحد أو يحلّ في الله الواجب الوجود وحده دون سواه من دون شرط شيء على الإطلاق. وبذلك تحصل المعرفة الباطنية العميقة في النهاية، وحقيقتها الغامضة لا يدركها العامة من الناس لأنها من مجال الذوق الرفيع، تجعل العبد المُحبّ يسبح في نور الله إلى أن يصل ذروة نشوة العاشق، فيحسّ أن روحه ونفسه وبدنه تجمّعوا في نقطة ضوء واحدة على باب الله الأعظم الذي لا يلجه إلا الملائكة والأنبياء والرسل الكرام ومن اصطفاهم تعالى من عباده المخلصين.

وعند هذا المستوى الذي يحصل للعابد المتشبّع بالمحبة الربّانية، يفتح الله على من يشاء من أوليائه ببعض من نور علمه رويدا رويدا وعلى فترات، فيكون هذا الفتح على شكل إشارات كالوميض (البرق) تُقذف في الروع، فيطّلع العابد بفضلها وبلغة الرمز والإشارة بدل صريح العبارة على سرّ من أسرار الوجود، فيشعر العاشق فجأة أنه يعيش الجنة في الدنيا قبل الآخرة من شدّة الغبطة والسرور، يغمره السلام، وتفيض نفسه بالاطمئنان، وينبض قلبه بحتميات اليقين.. وهذا أقصى ما تتحمّله اللغة البشريّة للتعبير عن الحال، لأن الكلمات تبقى قاصرة، فيما المشاهدات الربّانية تكون دائما حُبلى بظلال المعاني الجميلة الساحرة التي تعجز اللغة عن وصفها.

ولعلّ سرّ نيل رضا الله يكمن في معادلة تبدو بسيطة في ظاهرة لكنها معقّدة في باطنها، ومُؤدّاها، معرفة العبد بضعفه وفقره وعجزه، وقبوله بما يجري به قضاء الله في حقّه خيره وشرّه، ورضا الله عن عبده الذي يؤتمر بأمره وينتهي بنهيه لا يتبع في ذلك شيخا ولا فقيها ولا وليّا سوى ما أنزل الله في كتابه، فيوحي له تعالى من المعاني ما يطّلع بها على حقيقة ظاهر الأمور في عالم الملك، ويفتح بصيرته على بعض من أسرار الباطن وعوالم الملكوت التي لا يراها المؤمن العادي إلا بعد موته، لقوله تعالى: (وكتاب مسطور في رق منشور) الطور: 2 – 3، فالرق هو مطلق ما يكتب فيه من ورق وخلافه في إشارة إلى رسالات السماء من صحف ومزامير وتوراة وانجيل وقرآن، فيما الكتاب المسطور هو اللوح المحفوظ المعبّر عنه بأم الكتاب الذي أخذت منه كل رسالات السماء المكتوبة وآيات الخلق المرسومة كصور مبثوثة في الكون. 

الاستبصار: من وحي تجربتي الشخصيّة:

لأن الاستبصار كرامة عظيمة يخص بها الله تعالى من يشاء من عباده كما سبق القول، خصوصا أهل الذكر والتسبيح والعمل الصالح الذي ينفع الناس.. ولأنه نعمة من نعم الله الكبرى التي لا يجوز سترها لما تمثّله من حجّة على صحّة النهج وموعظة حسنة على وجوب التمسّك بكتاب الله دون سواه، فإن كشفها للعموم يكون من باب الشكر الجميل لقوله تعالى في محكم التنزيل: (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّث) الضحى: 11.. وبالتالي، فإن ما حدث معي من كرامات ربّانية كثمرة للتدبّر الدؤوب لآيات الذكر الحكيم والمجاهدة التي خضتها في مجال تصحيح المفاهيم الدينية لأكثر من ربع قرن تمسّكت فيها بكتاب الله كالماسك على الجمر بفضل وهداية ونعمة من الله، لم تقتصر على رؤية الرسول عليه السلام مرّتين فحسب، بل تجاوزت ذلك إلى أمور غيبيّة جميلة، وهذه الكرامات حصلت معي بالترتيب التالي والله على ما أقول شهيد:

- الكرامة الأولى: كانت من خلال رحلة معراج لم أسعى إليه لكنه حصل بقوّة خارقة مُخيفة، ومُلخّص الحكاية أني كنت أقرأ القرآن عصر أحد أشهر رمضان، فإذا بمقعدي يهتز من تحتي، وإذا بي أرتفع روحا ونفسا وجسدا كالشبح من مكاني نحو سقف بيتي لأخرقه في رحلة عروج إلى السماء.. فانتابني رعب شديد، وتملكني خوف لم أشعر به قطّ في حياتي، لأنني أدركت أن من شروط العروج طلب وجه الله دون سواه، وأنه في كل سماء من العجائب والغرائب والمغريات ما لا تستطيع نفسي عليه صبرا، فينتهي بي المطاف بالفناء احتراقا وعدم عودتي إلى بيتي، وما أن شعرت بقرب خرق سقف غرفتي حتى ناديت ربي من أعماق أعماقي راجيا إياه أن يرحم ضعفي ويُؤجل رحلة معراجي إلى وقت آخر أكون فيه أكثر استعدادا.. فجأة استجاب ربي لرجائي فسقطت على مقعدي كمن يخرّ على الأرض من مكان عال، فأدركت وأنا أرتجف بشدّة حجم ضعفي، ودرجة خوفي، ومرتبة جهلي، ووهم تشبتي بهذه الدنيا الفانية، والمهم من كل هذا وذاك أنني أيقنت أن الله لم يخلق السماوات والأرض والإنسان عبثا، وندمت على ما ضاع من عمري من أوقات لم أنعم فيها بتدبر آيات ربي سواء في القرآن أو الكون أو في نفسي.   

- الكرامة الثانية: كانت من خلال التواصل عبر التّخاطر الروحي والذهني مع زعيم المقاومة سماحة السيد حسن نصر الله في لبنان، مكّنتني من خلال حرب تموز 2006 ضد "إسرائيل" من قراءة ما يجول في عقله عن بعد، والكتابة عنه قبل أن يفصح هو عن ذلك في خطبه المتلفزة، الأمر الذي أثار استغراب جمهور حزب الله وعديد الأكاديميين العرب في المشرق العربي سواء في لبنان أو العراق أو سوريا بل وحتى في إيران، حيث اعتقد العديد منهم أنني شيعي ومُقرّب من سماحته فيما الحقيقة هي غير ذلك. وقبل أن تحصل هذه الكرامة العجيبة كان الله قد مهّد لها بثلاث رؤى تواجدتُ فيها بقدرة قادر مع سماحة السيد في أماكن مختلفة وأزمنة متقاربة: 

الرؤية الأولى: كنا جالسين معا في حديقة إحدى المدن الساحلية المغربية ليلة صيف دافئة نأكل التفاح رمز المحبة، لأنها الفاكهة التي أكل منها آدم عليه السلام سعيا وراء الخلود فتسبب فعله هذا بطرده من الجنة ليعاني في الأرض آلام المحبة، فكانت إشارة إلى أن الشجرة التي أكل منها آدم ما هي في حقيقة الأمر سوى شجرة المعرفة التي تُغذي التّوق والشوق في رحلة العودة مرّة أخرى إلى الجنة تلبية لنداء آدم بعد تجربة المعاناة مع جحيم العشق في الدنيا، وهذا أمر لا علاقة له بالتمذهب من قريب أو بعيد.

الرؤية الثانية: من خلال إهداء الله لي لكبش عظيم نزل من السماء ولم أرى مثله في حياتي قطّ، فكانت إشارة مفادها أن النجاح في تجربة المحبّة لاستحقاق الجنة لا يكون إلا بالجهاد والتضحية في سبيل الله بما يعنيه ذلك من عطاء دون انتظار العوض من مخلوق كائن من كان. ومنذ إذن وأنا أجاهد في سبيل الله بكلمة الحق لقوله تعالى (وجاهدهم به جهادا كبيرا) في إشارة إلى القرآن، وكنت كلّما نشرت مقالا إلا وأصيب به عديد المتعطّشين إلى المعرفة في العالم العربي والإسلامي، فأساهم بذلك في كيّ الوعي الجمعي للأمة، بيد أن من كان يجاهد بالبندقية ضد "إسرائيل" على سبيل المثال، كان لا يصيب بالرصاصة إلا عدوا واحدا، وهو ما اعترف به سماحة السيد حسن نصر الله مؤيدا هذه الحقيقة تصديقا لقول الرسول الأعظم عليه السلام: "مداد العلماء مُرجّح في ميزان الله يوم القيامة على دم الشهداء"، مع ضرورة التفريق بين العالم المُجتهد والفقيه المُقلّد، وبقولي هذا أنا لا أدعي انتسابي لفصيلة العلماء، بل أعتبر نفسي تلميذا في مدرسة الله إلى أن ألقاه.

الرؤية الثالثة: من خلال تواجدي في أوّل مسجد بناه رسول الله بمعية حسن نصر الله جنبا إلى جنب في مقدّم الحضور، فطلب مني أن أُحدّث الناس بما أعرف، فقلت: أن لا معنى لرحلة الإنسان في الدنيا إذا لم يكن هدفها الأول والأخير همّ المعرفة، ما دام الله قد عاقب آدم من نفس جنس المعصية، وأن لا معنى لخوض الإنسان التجربة الأرضية إذا لم يكن سلاحه التضحية بلا حدود والعطاء بسخاء، وأن سرّ الوجود يكمن في المحبة، ومن يخلو قلبه من المحبّة لا يستطيع أن يعرف نفسه ولا ربّه، وهذه هي حقيقة الحق في الخلق إلى أن تقوم الساعة، علمها من علمها وجهلها من جهلها.

وبالرؤى الثلاثة السابقة أكون قد ختمت رحلة المعرفة البشرية، من مغامرة المحبة المتمثلة في تفاحة آدم، مرورا بروح التضحية المتمثلة في كبش إبراهيم، وانتهاء بخلاصة التجربة الإنسانية في مسجد خاتم الرسل والأنبياء محمد عليه السلام والمتمثلة في سرّ المحبة العظيم.

بعدها انقطعت خيوط التخاطر بيني وبين السيد حسن نصر الله التي كانت قائمة إبّان حرب تموز 2006 وما بعدها، خصوصا بعد أن علمت أنه وحزبه تحوّلا إلى مجرّد أداة في خدمة أهداف إيران الجيوسياسية في المنطقة العربية وشمال إفريقيا، فمن كان يدعو للوحدة العربية والإسلامية، ويستنكر انتفاضة ساكنة القبائل الجزائرية للمطالبة بتقرير مصيرها، أصبح يُدرّب عصابة مرتزقة البوليساريو على حرب العصابات ويحرّضهم على الانفصال عن المغرب، وكأن ما حدث في المشرق لم يكن كافيا للموعظة فتطلب الأمر نقل الخراب والحرب والتقسيم إلى دول المغرب العربي الآمنة لمساندة الجزائر في سعيها الخبيث لخدمة أهداف الطغمة العسكريّة الحاكمة.. فكانت القطيعة النهائية.

ثم مضى زمن ليس بالقصير أحسست خلاله بالقلق، ولم أعد أعرف إن كان ربي قد أقالني وتخلّى عني، وإن كان ما كنت أكتبه يدخل في باب الهدى، خصوصا وأني كنت في الكثير من كتاباتي أصطدم مع الفقهاء فيما ذهبوا إليه مقارنة بما فهمت من التنزيل الحكيم.. والحقيقة أن ربي لم يقلني طويلا لنفسي أعمهُ في لُجّة حيرتي وعتمات قلقي، فكانت الرؤية الجميلة التي أنارت بصيرتي وجعلتني أتشبت بقوة بما آمنت به خلافا لما روّج له الفقهاء واعتقد بصحّته كثير ممّن يصنّفون في خانة المُسلمين بالوراثة، دون أن يدركوا حجم الجهل الذي يعمهون فيه، والذي بلغ مرتبة الشرك بمهمومه الغليظ نعوذ بالله منه، فكانت الكرامة الثالثة.

- الكرامة الثالثة: ذات يوم حصل ما لم أكن أتوقعه حتى في الأحلام.. كانت فرحتي جميلة بشكل لا يوصف حين أدركت أن الرسول الأعظم عليه السلام زارني في وحدتي دون استئذان، اقتحم عليّ عالمي الساكن بحضوره الكريم في ظل الغياب.. ومن دون أن يُقدّم لنفسه عرفته بوحي من الله، وأحسست في أعماق أعماقي أنّي أعرفه منذ القدم، وأن الغريب الوحيد بيننا هو الشيطان الذي لا يستطيع تقمّص شخصيته عليه السلام، فزاد يقيني بحضوره، وتضاعف إيماني بحلول رحمة الله المتمثلة في وعد الخلاص في الآخرة بسبب هذه الزيارة المباركة التي تعدّ بشارة جميلة لا يحظى بها إلا عباد الله المقرّبين.. وبالمناسبة، وبلا مُقدّمات، دار بيننا الحوار التالي من دون أن تفارق الدهشة أعيني ومن دون أن تغادر البسمة الهادئة اللطيفة محيّاه الجميل:

- قلت: السلام عليك يا رسول الله

- قال: وعليك السلام ورحمة الله.. كيف هو حال أمتي؟

- قلت: في أسوء حال يا رسول الله؟

- قال: والسبب في رأيك؟

- قلت: الفقهاء.. الفقهاء إلا من رحم الله يا رسول الله.

- قال: صحيح.. هؤلاء يتعاملون مع تعاليم الدين وفق متوالية هندسية تحوّل المعنى الأصلي إلى ظلال من المعاني الفرعيّة الكثيرة التي تبعد الناس عن حبل الله.

لم أفهم بادئ الأمر ما أراد قوله عليه السلام بـ"المتوالية الهندسية" وعلاقتها بالدين، لكنني تذكّرت بعد حين مطالعاتي لنظريات علم الديموغرافيا واهتمامي باستراتيجيات التنمية في العالم العربي، والتي تقوم على أساس نظريات التوازن بين الزيادة السكانية من جهة، والموارد الطبيعية المتاحة والممكنة من جهة أخرى، فتذكرت ما قاله ابن خلدون في القرن الرابع عشر حول النمو السكاني وعلاقته بمستوى الحضارة، وما توصّل إليه الباحث الإنجليزي الشهير توماس مالتوس (1766م – 1834م) من نظريات علمية حول ديناميكا العلاقة بين تطوّر عدد السكان وتطوّر كمّيّة الإنتاج، مُدخلا بذلك ولأول مرة في التاريخ عنصري الزمن والحركة في دراسة الفعاليات الاقتصادية، الأمر الذي جعلها من صميم السياسة الاقتصادية كما تطوّرت لاحقا لتشكل علم خاص أصبح يعرف اليوم بعلم السُّكّان والتّنمية. 

وخلاصة النظرية أن موارد العالم تتطور وفق المتوالية الحسابية التالية: 1 – 2 – 3 – 4 – 5 – 6... وهكذا. أما النمو السكاني فيتزايد وفق المتوالية الهندسية التالية: 1 – 2 – 4 – 8 – 16 – 32... وهكذا.

ومعنى المعنى في حال تطبيق المتوالية الهندسية السّكانيّة على الدين، نكون أمام عملية تفريخ للفتاوى بمعامل الضعف في كل مرّة، الأمر الذي أنتج كمّا هائلا من الاجتهادات المختلفة والمتناقضة، بل والمتعارضة في جوانب كثيرة منها مع القرآن الكريم، تفوق في حجمها ما أنتجه حاخامات اليهود ونسبوه لتوراة موسى عليه السلام، وما أنتجه كهنة النصارى ونسبوه لإنجيل عيسى عليه السلام، وبذلك لم يختلف نهج شيوخ هذه الأمة عن نهج حاخامات اليهود ورجال الدين النصارى، بحيث أصبح لهم هم أيضا سنّتهم التي استبدلت شريعة السّماء بشريعة الفقهاء.

هذا علما أن الغاية من حفظ الله تعالى للقرآن الكريم هو قطع الطريق على كل من يرغب في التطاول على دين السماء ليستبدل سنّة الله بسنّة نسبوها إلى الأنبياء والأنبياء منها براء. وإذا كنّا نشهد اليوم تكرارا لنفس الصورة في التراث الإسلامي، فإن مصير هذا الواقع أن يتغيّر بنور الله الذي بدأ فجره يبزغ بفضل ثلة من الباحثين الشجعان الذين قرّروا القيام بثورة دينية هادئة تعيد تحديد المفاهيم الإسلامية الصحيحة على ضوء القرآن للكشف عمّا علق بالدين الإسلامي السمح الجميل من شوائب، فوصمهم فقهاء الجهل والضلال بالقرآنيين، وكأن القرآني هو اسم قدحي لباحث اختار الخروج عن سنّة الجماعة التي يعتبرونها أوثق في أمور الدين ممّا أنزله الله من حقائق، ما داموا قد طعنوا في القرآن بقولهم أنه ناقص غير مكتمل من دون سنّة، وأن السنّة هي أيضا وحي قد ألغى عديد الآيات القرآنية بدعوى الناسخ والمنسوخ وفق عقيدتهم المحرّفة.  

ولا أخفيكم بالمناسبة، أنني ولفترة من الوقت عشت صراعا نفسيا مُحتدما بين ما كنت اعتقده من الثوابت الدينية بحكم الوراثة وما ترسخ في ذهني من منتوج الثقافة المكتسبة من التراث من جهة، وبين ما فهمته من القرآن الكريم بفضل الله الذي كافئني على مغامراتي المتمرّدة التي لامست حدود المسكوت عنه والمحرّم الخوض فيه، وتجاوزت بذلك عقبة الحديث المنسوب للرسول عليه السلام والذي يقول "لا تجتمع أمتي على ضلال"، وهو الحديث الذي يحتجّ به فقهاء القشور للقول بأن ما آمنت به الأمة طيلة قرون من ممارسة الإسلام من التراث بدل القرآن لا يمكن أن يكون إلا دليل على الحق والصواب.. (هكذا). 

وللحقيقة والحق أقول، إنه حديث صادم ومخيف بالنسبة لمن يعتقد بصحّة سنّة الفقهاء، لكنّه ليس كذلك بالنسبة لمن يعتقد بصحّة سنّة الله في الخلق، ما دام أن إخضاع الحديث المذكور للتحليل بالمنطق العقلي البسيط، سيكشف للمتدبّر العاقل أن التسليم بصحّته يعني أن الإسلام فيه اختلاف كثير، وأن هذا الاختلاف لا يمكن أن يكون من عند الله، وبالتالي وجوب التفريق بين إسلام القرآن وإسلام التراث. 

وهنا المعضلة التي لم أجد لها سبيلا يحرّرني ممّا كنت فيه من قلق سوى خطاب الله تعالى الذي يُثبّت به قلوب المؤمنين لقوله: (يا أيها الذين آمنوا عليكم بأنفسكم لا يضرّكم من ضلّ إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون) المائدة: 105، والغريب أن هذه الآية الكريمة وردت في سياق يوضح المقصود منها بشكل لا لبس فيه، حيث سبقتها الآية: 104 من نفس السورة التي تقول: (وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون)، وهذا يعني أن الإيمان لا يكون باتباع سنّة الجماعة، وأن اتباع الرسول يعني اتباع التعاليم التي جاءت في الرسالة التي هي القرآن لما يعطيه مصطلح "الرسول" من دلالة دقيقة لا علاقة لها بالسنة بقدر ما تعني رسالة السماء، والسنة لا تعني الالتزام بطريقة الآباء والأجداد لأن الهدى لا يكون إلا بالاعتصام بحبل الله المتمثل في القرآن الكريم دون سواه، وأن الطريق إلى الله هي بعدد أنفاس الخلائق، وأن النجاة لا تكون إلا إذا عمل الإنسان على خلاص نفسه باجتهاده ومجاهدته، ما دام القرآن خطاب الله للناس كافة، والدين لا يكون دينا إذا لم يُؤسس على الفهم الصحيح الذي يولّد القناعة الذاتية من دون وساطة، وهذا هو معنى قوله تعالى (عليكم بأنفسكم لا يضرّكم من ضلّ إذا اهتديتم)، والهدى لا يكون إلا بالتعلم في مدرسة الله وعلى يده من خلال تدبّر القرآن، ما دام تعالى قد تكفّل ببيانه وفق ما يستفاد من الآية 19 من سورة القيامة (إنا علينا بيانه)، وما دام الحق يوضح هذه الحقيقة بما لا يدع مجالا للشك بقوله: (فتعالى الملك الحق ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل ربي زدني علما) طه: 114. 

وبالتالي، ففهم القرآن لا يكون بتفسير من الفقهاء وإلا لأصبح القرآن نصا مغلقا غير صالح لكل مكان وزمان، بل يكون من خلال وحي المعنى من الله لعباده كل حسب حاجته واجتهاده كما تؤكد الآية 114 من سورة طه، ما دام تعالى هو المعلم الأكبر الذي علّم الإنسان بالقلم علّمه ما لم يعلم، وما دام الوحي لم ينقطع بين السماء والأرض بانقطاع الرسالات، لأن الله يوحي في كل وقت وحين للنمل والنحل والشجر والبشر والحجر إلى أن تقوم الساعة، وهذا هو معنى أن الله حي لا يموت، وأنه تبارك وتعالى قيّوم في ملكه يتفاعل مع مخلوقاته ويتجاوب مع عباده في كل زمان ومكان دون وسيط.

- الكرامة الرابعة: ذات عصر يوم صيف جميل، وبينما كنت جالسا فوق سطح منزلي أتأمّل تخلّل زرقة البحر مع زرقة السماء في الأفق البعيد، غبت عن الوعي للحظات، فرأيت نفسي ميّتا أدفن في قبري، فتحت عيني فجأة، فإذا بي لا أرى غير التراب الأسود.. وفي لمح البصر وجدت نفسي أخرج من قبري كطيف غير مرئي أسبح في النور محلّقا نحو الفضاء البعيد، وكانت نسمات عطر جميل تداعب وجهي، والغبطة تجتاح كياني وكأنني مسافر إلى موطني الأصلي، إلى العالم الأبدي الذي جئت منه.. فجأة استفقت من غفوتي، ففهمت أن الله أكرمني بأن أراني ما سيحدث لي بعد الموت والدفن، لكنني لم أشعر بلحظة مفارقة نفسي لجسدي ولا بسكرات الموت التي لا تحصل إلا للمريض أو الكافر الذي يعذب ساعة خروج نفسه من قبل الملائكة، وكأن الموت بالنسبة للمؤمن يشبه إلى حد بعيد النوم كما قال عنه تعالى في محكم التنزيل، ولسوء حظي لم أُكمل معراج صعودي إلى السماء لمعرفة المكان الذي خصّه الله لي في عالم ما وراء البرزخ.. ولو كان حدث لما كنت عدت إلى هذه الدنيا لأعيش تغريبتي من جديد.  

- الكرامة الخامسة: حصلت معي قبل كتابة هذا المبحث بأسابيع قليلة، حيث زارني الرسول الأعظم عليه السلام للمرة الثانية، وكنت كعادتي قد انتهيت من قراءة ما تيسّر من الذكر الحكيم، وأنهيت وردي اليومي من التسبيح، وصليت صلاة الفجر.. وبعد أن استلقيت في فراشي لأستريح قليلا قبل طلوع الشمس، حصلت الرؤيا التي لم أكن أتوقّعها.. إذ رأيت رسول الله عليه السلام ومعه ثلّة من المؤمنين في مكان مُشرق من عالم ما وراء  البرزخ بلباس ابيض، غير أني لم أعرف من مرافقيه الكثر أحدا، لأنهم لعمري من زمان غير زماننا، فدار بيننا الحديث التالي:

- قلت: السلام عليك يا رسول الله

- قال: وعليك السلام ورحمة الله

- سألت: هل يصلك منا السلام يا رسول الله؟

- أجاب: نعم يصلني.

- سألت: وهل ترانا يا رسول الله؟

- أجاب: نعم أراكم

فهمت من هذه الرؤيا أن المكان هو أرض في عالم ما وراء البرزخ بسبب لون الثياب البيضاء التي كان يلبسها الرسول ومن معه، ولون الأرض أيضا الذي كان أبيضا يميل إلى الحمرة قليلا كما ورد وصفه في القرآن بـ "الساهرة"، وحديث الرسول الأعظم الذي قال: "يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء". وبدليل أيضا أنها أرض مسطوحة لا جبال ولا أنهار ولا شعاب ولا أشجار ولا مباني ولا علم فيها لأحد، فأدركت أن الله تعالى سيحشرني يوم البعث مع الرسول الأكرم عليه السلام، ففرحت فرحا شديدا واطمأن قلبي حين أحسست في أعماق نفسي أنني على هدى بفضل من ربّي.  

وتيقّنت أن السلام الذي ابعثه له مائة مرة في اليوم وألف مرة بعد مغرب شمس كل خميس يصله كما قال، بدليل أيضا أن الله تعالى أمرنا أن نُصلي عليه ونسلّم تسليما، ما يؤكد أن صلتنا به لا تكون إلا من خلال الرسالة التي جاء بها (أي القرآن) الذي تقرّبنا تلاوته بانتظام إلى الله، وأن السلام الذي نبعثه له توصله له الملائكة في حينه. وأنّه عليه السلام على اطّلاع تام على أحوال أمّته بإذن من الله الذي سخّر الملائكة لخدمته، الأمر الذي يفسّر كيف أنه سيكون شهيدا علينا يوم القيامة لما تتطلّبه الشهادة من معرفة دقيقة بأحوال من سيشهد عليهم أمام الله.

وهنا لا بد من توضيح أمرين يكتسيان أهمية خاصة لهما علاقة بصحّة العقيدة من عدمها:

الأمر الأول: قضيّة السّلام: لا خلاف حول تحيّة السّلام الذي نبعثها لنبينا ولكافة الأنبياء والرسل الكرام ما دام القرآن قد أمرنا بذلك لقوله تعالى: (سلام قولا من رب رحيم) يس: 58، وقوله: (سلام على نوح في العالمين) الصافات: 79. وقوله: (سلام على إبراهيم) الصافات: 109. وقوله: (سلام على موسى وهارون) الصافات: 120. وقوله: (سلام على آل ياسين) الصافات: 130. وقوله: (وسلام على المرسلين) الصافات: 181.. وغيرها كثير من الآيات التي تؤكد على أن السلام هو تحيّة الإسلام ليس في الدنيا فحسب بل وفي الآخرة أيضا بين أهل الجنة لقوله تعالى: (تحيّتهم يوم يلقونه سلام وأعدّ لهم أجرا كريما) الأحزاب: 44. 

أما الرسول الأعظم محمد عليه السلام فقد أمرنا تعالى بأن نصلي عليه ونسلم تسليما لقوله تعالى: (إن الله وملائكته يصلّون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلّوا عليه وسلّموا تسليما) الأحزاب: 56. وهنا تكمن معضلة الفهم..

ذلك أن المسلمين وبدل أن يُصلّوا على النبي ويُسلّموا تسليما كما أمرهم تعالى يطلبون من الله أن يفعل ذلك بدلا عنهم بقولهم: "اللهم صلي على محمد وسلّم تسليما"، وهو قول منكر خطير على وزن المعنى الذي ورد في الآية 65 من سورة النساء لقوله تعالى: (فلا وربّك لا يؤمنون حتّى يحكّموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا ممّا قضيت ويسلّموا تسليما). والتسليم في الآيتين هو غير السلام الذي يعني التحيّة بل يعني حرفيّا "الاستسلام"، أي القبول والرضوخ دون اعتراض، وبالتالي، فالسؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق هو: كيف يمكن أن يطلب المسلم من الله التسليم والرضوخ لرسوله دون اعتراض؟ ...

نستغفر الله من مثل هذا القول الذي لا ينطق به إلا الجاهلون باللغة العربيّة ومعاني تراكيب مفرداتها، فما بالك إذا كان الفقهاء مجمعون على هذه الصيغة الخطأ وتشجيع الأمة طوال قرون على الإكثار من ترديدها في كل وقت وحين؟.. فهل حقا لم يفهم الفقهاء بالعمق المطلوب الآية التي يطلب فيها الله منا الصلاة والتسليم لنبيّه، وبدل ذلك فعلنا كما فعل بنو إسرائيل مع نبيّهم موسى: (قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون) المائدة: 24.  وهذا هو معنى "اللهم صلي وسلم عليه تسليما" أي أنهم يطلبون من الله أن يصلي على نبيّه ويسلم له تسليما. فيما الله في القرآن قد علّمنا من خلال الآيات المذكورة أعلاه أن نقول سلام على محمد أو سلام على المرسلين كما كان هو الأمر مع نوح وإبراهيم وغيرهما من الرسل والأنبياء، ولعله من الجهل إن لم يكن من الكفر الصريح الطلب من الله أن يرضخ ويستسلم لرسوله وفق ما تعطيه الصياغة الشائعة اليوم بين المسلمين من معنى ما أنزل الله به من سلطان.  

والحقيقة أن الأمر الوارد في الآية 56 من سورة الأحزاب، إنما يتعلق بامتثالنا لتوجيه ربّنا تعالى بأن نصلي على النبي، أي بأن نقيم الاتصال به من خلال ما أتانا به من وحي من الله ونسلّم بالأوامر والنواهي الواردة فيه تسليما بغير رفض أو اعتراض إذا أردنا أن نكون من زمرة المؤمنين. ذلك أن صلاة الله على نبيه من خلال الملائكة تكون من خلال الوحي الذي يوحيه إليه، وصلاتنا عليه تكون من خلال نفس الوحي الذي بلّغنا به بأمانة، لأن الصلاة في القرآن تعني إقامة الصلة، أمّا التسليم فهو القبول والرضا بما جاء به الرسول من عند ربّه، وهو غير السلام الذي يعني التحيّة. 

الأمر الثاني: قضية رؤية الرسول لنا: في هذه المسألة اختلف الفقهاء بين قائل باستحالة أن يقوم عليه السلام بذلك من قبره من جهة، وقائل بإمكانية ذلك لأن أنفس الرسل والأنبياء التي هي أرقى من أنفس الشهداء لا تموت بل تعيش الخلود فرحة مستمتعة بما رزقها الله من فضله في عالم ما وراء البرزخ بدليل قوله تعالى: (ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون) البقرة: 154، وقوله: (ولا تحسبنّ الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون * فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألاّ خوف عليهم ولا هم يحزنون) آل عمران: 169 – 170.

ويفهم من القرآن الكريم أن الموت لا يعني الفناء والخروج من الوجود للعدم، بل يعني فقط نهاية عمر الجسد وتحوّله في قبره إلى أصله الذي جاء منه، أي إلى تراب كما هو معلوم للجميع ومثبت علميا ما دامت المادة لا تفنى بل فقط تتحّل من حالة إلى حالة بحكم التفاعل الكيميائي الذي هو أحد القوانين الإلهية الناظمة لعمل المادة.

هذا في حين أن النفس خالدة لا تفنى وإن كانت تذوق الموت الذي يعني مغادرتها للجسد الفاني والتحاقها بعالم ما وراء البرزخ لتعيش الخلود في النعيم أو العذاب إلى أن تقوم الساعدة لينتهي بها الأمر بعد الحساب إلى الحياة الأبدية بمفهوم المدى اللامتناهي، وهذا هو الفرق بين الخلود والأبدية كما سبق وأن أوضحناه بتفصيل في مبحث سابق. ودليل ذلك قوله تعالى: (كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون) العنكبوت: 57، وقد وردت أيضا بنفس الصيغة في الآية 185 من سورة آل عمران، والآية 35 من سورة الأنبياء. ما يؤكد أن النفس لا تموت بمعنى الفناء والخروج من الوجود كما سبق القول بل فقط تذوق طعم الموت لتنتقل بعده من عالم الملك إلى عالم الملكوت حيث تستقر لتعيش الحياة البرزخيّة في النعيم المقيم أو العذاب المهين في انتظار البعث. 

ويستفاد مما سلف أن الرسول الأعظم لا يوجد في قبره كما روّج لذلك الفقهاء، بل انتقلت نفسه إلى الملأ الأعلى حيث يعيش الخلود في انتظار قيام الساعة شأنه في ذلك شأن كل الأنبياء والرسل والبشر جميعا، وما دامت الملائكة توصل إليه سلام أمته فهو حتما على اطّلاع بما وصلت إليه احوالها من ملائكة الرحمن التي تتكفّل بحمل أوامر الله بين السماء والأرض، وإلا كيف يمكن أن يكون الرسول شهيدا على أمّته في غياب العلم بأحوالها في كل وقت وحين؟.

- الكرامة السادسة: حصلت معي هذا الأسبوع، وتمثلث في المشهد التالي: بينما كنت أقرأ القرآن خلال صلاة المغرب وقبل أن أخرّ على الأرض للسجود إذ بلساني ينعقد، والدموع تنهمر فجأة من عيوني، وتنتاب جسدي قشعريرة رهيبة، فإذا بي أرى رؤية العين المجردة شريكة حياتي رحمها الله تسبح في النور والملائكة تزفّها إلى جنّة المأوى بالزغاريد في عرس بهيج.. فجأة استفقت وأتممت بصعوبة صلاتي، وأدركت أنه لم يكن حلما بل رؤيا حقيقية من خلال مشاهدة عينية أكرمني بها تعالى ليطمئن قلبي على مصير توأم نفسي.. فأيقنت أنها مشاهدة من عالم الخلود ما وراء البرزخ، وقد دامت هذه المرّة أكثر من لحظة الوميض بقليل.. فحمدت الله تعالى وأثنيت عليه، وزادني ذلك إيمانا ويقينا وسلاما وطمأنينة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق