بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 11 يناير 2019

جدل حول جمع وترتيب القرآن الكريم (4/2)



الجمع الأول للقرآن
يعتبر مصحف الإمام علي كرم الله وجهه أول مجهود جمع فردي تم للقرآن الكريم في مصحف واحد بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم.  ونظرا إلى أن هذا العمل لم يكن بطلب رسمي من السلطة التي تولت الحكم في حينه، بل تم بقرار أحادي ومجهود فردي من الإمام تنفيذا لوصية الرسول الكريم وفق ما تذكر المراجع الشيعية، فإن طائفة من فقهاء السنة تصنف عمل الإمام علي من نفس صنف المصاحف الفردية التي عرفت وقتئذ، كمصحف ابن مسعود ومصحف أبيّ ابن كعب ومصحف أبو موسى الأشعري ومصحف ابن العباس ... / ...

لكن الملاحظ أنه وباستثناء مصحف الإمام علي عليه السلام الذي كان منظما وفق ترتيب النزول، فان مصاحف الصحابة الأربعة المذكورة أعلاه، كانت على عكس ذلك، منظمة وفق ترتيب القراءة المعهودة زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو نفس الترتيب الذي اتبع في مصحف عثمان الذي نقرأه اليوم باستثناء بعض الاختلافات البسيطة التي سنأتي على ذكرها لاحقا.

وتعتبر نفس المصادر، أن جمع الخليفة أبو بكر الصديق رضي الله عنه، هو أول جمع للآيات في السور عرفه التاريخ الإسلامي، لكن من دون ترتيب للسور في مصحف جامع كما حدث زمن الخليفة الثالث، الأمر الذي اعتبره المأرخون عملا جماعيا قامت به جهة رسمية شرعية. لكن أغلبية المهتمين بعلوم القرآن، يعتبرون مصحف علي أول عملية جمع كامل للقرآن الكريم في مصحف واحد منظم، وتأتي بعدها عملية الجمع الثانية التي تمت زمن الخليفة الأول، أما الجمع الثالث والأخير، والذي عرف بعملية (توحيد المصاحف)، فهو الجمع الرسمي المعروف بمصحف عثمان والمتفق عليه من قبل كافة المسلمين بمختلف تياراتهم ومدارسهم ومذاهبهم وفرقهم.

ومعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم بعد هجرته إلى المدينة المنورة، كلف جمعا هاما من أصحابه، بالاهتمام بالقرآن الكريم، وذلك لجهة تلاوته وحفظه وتدوينه، وعرفت هذه الفئة في حينه بـ "جمّاع القرآن"، بمعني أنهم كانوا يجمعون آي القرآن في قلوبهم ويدوّنونها (ينسخونها) في الرقاع وغيرها من المواد التي كانت تستخدم للكتابة في ذلك الزمان، لكن من دون ترتيب يذكر للسور، وهو أمر طبيعي ما دام الوحي لم يكن قد اكتمل بعد. 

ويذكر ابن النديم تحت عنوان: "جمّاع القرآن على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم" مجموعة من المشتغلين على القرآن الكريم وعلى رأسهم الإمام علي ابن أبي طالب. كما وتأكد العديد من المصادر، أن الآيات القرآنية حال نزولها على الرسول الكريم، كانت تحفظ عن ظهر قلب، وتسجل في المواد الأولية من قبل الكتبة المكلفين بذلك، مع مراعاة موضع كل آية في السورة المناسبة لها بعد اكتمالها وفق ما جاءت به تعليمات الرسول بتوفيق من الله عبر الملك جبريل، ولم يكن لأحد من الصحابة حرية الاجتهاد في مثل هذا الأمر الإلهي الجليل. ومن أشهر الأحاديث النبوية التي تأكد الأمر بكتابة القرآن والنهي عن كتابة غيره، الحديث الشريف الذي رواه مسلم في صحيحه (كتاب الزهد والرقائق – باب حكم كتابة العلم: 4/2298 – حديث رقم: 3004) ونصه: (لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه). وهو الحديث الذي اعتبره أهل السنة والجماعة خاص بمرحلة التنزيل، وأنه لا يعني عدم كتابة الحديث ما دام الرسول وفق حديث آخر غريب قد سمح بذلك، في تناقض صارخ بين النهي والإباحة.

الجمع الثاني للقرآن
رفضت السلطة الشرعية التي قامت بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم اعتماد مصحف علي عليه السلام كمرجع إمام للمسلمين كافة، لاعتبارات منهجية وفق وجهة النظر الرسمية، وهي اعتبارات لا علاقة لها بالسياسة كما ذهب إلى ذلك د. محمد العروي في كتابه "الإصلاح والسنة" بزعمه أن جمع القرآن بعد وفاة الرسول تم لخدمة أهداف نبلاء قريش، ولا علاقة لها أيضا بالصراع السني الشيعي الذي لم يكن قد ظهر بعد، ولا بشخص الإمام علي الذي كان محل تقدير واحترام من صحابة رسول الله كافة. 

وبالرغم من أن الفئة المناصرة لولاية عليّ عليه السلام، اعتبرت رفض اعتماد مصحفه من قبل السلطة القائمة زمن عثمان بمثابة تفريط لا مبرر له في مصحف جامع أعده الإمام تنفيذا لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل وفاته، إلا أن الآثار تذكر في هذا الصدد، أن الصحابة الكرام كانوا على بّينة من رغبة الرسول في تجميع آي القرآن الكريم وسوره في مكان واحد،  بدل تركه مفرقا متناثرا في أكثر من مكان، ووضعه بالتالي في إمام جامع يكون بمثابة المرجع الأساس لجميع المسلمين، الشيء الذي يسهّل حفظه من جهة، ويساعد على قراءته بنفس الترتيب المتواتر من جهة ثانية.

 كما أن مثل هذا العمل الشاق والضخم، كان يقتضي من الناحية المنهجية، إشراك أكبر عدد من الحفاظ والمدونين المسلمين في عملية الجمع، للتأكد من أنه لم تطرأ على نصوص القرآن الكريم زيادات أو نقصان، ولم تصب آياته بتغيير أو تحريف، مثل ما وقع مع الكتب السماوية السابقة كالتوراة والإنجيل عندما خضعت لعبث الأحبار وأهواء الرهبان، فجاءت حُبلي بالاختلافات والتناقضات. وعلى هذا الأساس، يعتبر جمع الخليفة أبو بكر الصديق رضي الله عنه، أول جمع رسمي للصحف من القراطيس التي كتبت عليها آيات القرآن منظمة في سورها، لكن من دون ترتيب للسور نفسها، لا على أساس ترتيب النزول ولا على أساس معيار الطول والقصر أو ترتيب التلاوة.

وبغض النظر عن قيمة مصحف الإمام علي رضي الله عنه لجهة أنه تضمن التأويل بالإضافة إلى التنزيل، الأمر الذي يطرح أكثر من سؤال لجهة القول بأن القرآن يعتبر نصا مفتوحا لا يقبل تقييد آياته بمعاني محددة تجعل منه نصا مغلقا غير يصلح لكل زمان ومكان، فلا يمكن بالتالي تقييد معناه بأسباب النزول أو غيرها من الاعتبارات التي تكتسي طابعا زمنيا ظرفيا. غير أن خاصية ترتيب القرآن وفق مسار التكوين وأسباب النزول بغرض المساعدة على الفهم، تجعل من مصحف الإمام علي عملا متفردا غريبا وأوّلا من نوعه، إلاّ أن ضياعه في ظروف غامضة ولأسباب مجهولة، لم يمكّن الباحثين من الاستفادة من محتوياته.

أما ما يقال من أن قرار جمع القرآن في أصله، أملته اكراهات الواقع المتمثلة في موت حفاظه أثناء الحروب اللاحقة كما ذهب إلى ذلك بعض المؤرخين، حيث تذكرت بعض المراجع أنه مات حوالي سبعين حافظا في معركة اليمامة، في حين ادّعت مراجع أخرى أن عدد القتلى من الحفاظ بلغ في نفس المعركة أزيد من أربعة مائة حافظ، وهي أرقام جد متباعدة يستحيل التثبت منها، ناهيك عن القبول بحجة أن موت الحفاظ في المعارك من شأنه أن يترتب عنه ضياع القرآن الكريم كما برر ذلك فقهاء السنة والجماعة في مروياتهم، خاصة وأن الثابت من السيرة، أن الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته، كلّف نفرا من الكتاب بتدوين الوحي أوّلا بأول، فكيف يمكن أن تضيع إذن بعض من آياته بموت حفاظه؟

إن مثل هذا الزعم الذي يتكرر في العديد من كتب التراث، لا يمكن القبول به من الناحية المنطقية، بالرغم من تسليمنا بأن البيئة العربية العامة زمن الرسالة، كان يغلب عليها، والي حدّ ما، طابع الأمّيّة الكتابية، وتتميّز أساسا بخاصية الثقافة الشفهية النقلية.  ومرد ذلك، أن مهمة جمع القرآن في حد ذاتها، ليست عملية يسيرة يمكن أن توكل للعامة من المسلمين اعتمادا فقط على ما تختزله الذاكرة الحافظة من آيات متفرقة وسور غير مكتملة، بل تعتبر مهمة عسيرة ليست باليسيرة، بدليل أن من قام بها في الواقع، هم ثلة قليلة من خاصة الصحابة الذين بلغوا مستويات راقية في حفظ وجمع القرآن، والذين تم اختيارهم لهذا العمل الملحمي وفق مواصفات صارمة. 

 وبالرغم مما يمكن أن يقال من نقد حول مسألة تولية أبو بكر الصديق رضي الله عنه الخلافة، وما أثير حولها من جدل بشأن الشرعية الدينية والسياسية معا لهذا التعيين، علما بأن مسألة اختيار الرسول مسألة دينية من اختصاص السماء ولا دخل لأهل الأرض بها، وبالتالي، فلا يصح تعيين خليفة يقوم مقام رسول الله بعد اكتمال الرسالة بنص القرآن، وهي الإشكالية التي تمت معالجتها زمن الخليفة عمر رضي الله عنه، حيث استبدلت التسمية من "خليفة رسول الله" إلى "أمير المؤمنين". وأهمية هذا الطرح تكمن في السؤال الديني والسياسي الذي فرض نفسه حينها، بسبب الفراغ الذي خلفه انتقال الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم إلى جوار ربه على مستوى القيادة. ومرد ذلك، أن أحدا لم يناقش مسألة الحكم في حياته، كما أنه صلى الله عليه وسلم لم يوجّه أصحابه إلى طبيعة النظام الذي يجب اعتماده، لإدراكه أن القرآن الكريم قد حدد الأسس والمبادئ والآليات التي يجب العودة إليها سواء فيما يتعلق بالمسألة الدينية أو السياسية، ما دامت مسألة الحكم تخضع لظروف المكان والزمان وشورى المسلمين، ولا يمكن أن يتصور عاقل أن إقامة الدين تتطلب بالضرورة إقامة دولة إسلامية، وهو أمر مستحيل نظرا لاختلاف الأمم والشعوب والقبائل وتفرقها على امتداد جغرافية العالم، خصوصا وأن الدين إيمان ذاتي، في حين أن الدولة كيان معنوي.
   
وفي هذه الفترة المبكرة ما بعد الرسالة، كان السؤال المركزي الذي يتمحور حوله الشأن الديني والسياسي هو مبدأ الشورى بالمفهوم القرآني، وضرورة أن تشمل كل المسلمين الذين يعتبرون معنيين مباشرة بالأمر الإلهي باعتباره فرض عين لا فرض كفاية، وبالتالي، مكلفين شرعا باختيار من ينوب عنهم ويقوم مقامهم في تنظيم شؤون دينهم ودنياهم. وتجاهل الجواب عن هذا السؤال هو الذي أدى لما عرفه تاريخ المسلمين من كوارث.

ومهما قيل حول هذا الأمر، فلا ينكر جمهور أهل السنة والجماعة أن الخليفة الأول كان صادقا تقيّا، وفي مستوى حمل أمانة المسؤولية التي أنيطت به، تشفع له في ذلك صداقته الطويلة مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وثقة هذا الأخير به ومصاحبته له لزمن ليس باليسير. كما أنه كان شديد الفطنة مُتّقد الذكاء، الشيء الذي ساعده على اكتساب خبرة رجل الدولة القوي بسرعة كبيرة، رغم قصر مدة حكمه. ويشهد له التاريخ إجمالا، أنه كان في مستوى القرارات الصعبة التي اتخذها أثناء فترة حكمه. إلا أن بعضا من تلك القرارات لم تكن ذات شعبية أو حتي شرعية دينية واضحة، وان كانت تكتسي المشروعية السياسية، كقضية محاربة الممتنعين عن دفع الزكاة مثلا، بمبرر غريب يفيد أن الأصل الذي اعتمده في حربه تلك، يقوم علي حديث يرويه أبو هريرة ونصه: "لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستخلف أبو بكر من بعده، وكفر من كفر من العرب، وأنكر بعضهم الزكاة، عزم أبو بكر على قتالهم، فقال عمر بن الخطاب لأبي بكر: كيف نقاتل الناس، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلك: (أمرت أن أقاتل الناس حتي يقولوا لا اله إلا الله، فمن قال لا اله إلا الله فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله"، فقال أبو بكر: والله لاقتلنّ من فرق بين الصلاة والزكاة، فان الزكاة حق المال، والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدّونه إلى رسول الله لقاتلتهم على منعه، فقال عمر: فو الله ما هو إلا أن رأيت الله عز وجل قد شرح صدر أبي بكر للقتال، فعرفت أنه الحق" (صحيح البخاري، كتاب الزكاة، باب وجوب الزكاة، رقم: 1335-  2/507 ).  وفي رواية أخري من حديث ابن عمر: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم، وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله عز وجل". وهو الحديث الذي يتعارض جملة وتفصيلا مع نصوص صريحة من القرآن الكريم، لأن العصيان هنا يتعلق بأمر تكليفي يخضع لحرية الإنسان واختياره، ما يؤكد أنه حديث مدسوس، لأن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يستحيل أن يشرّع ما لم ينزل الله به من سلطان، خصوصا ما يتعلق باستباحة دم مسلم لا لشيء سوى لأنه رفض الامتثال لدفع الزكاة.

والمفارقة أن هناك الكثير من الأحاديث التي تناقض هذا التوجّه، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن طارق ابن أشيم الأشجعي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من وحد الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله عز وجل). وغيره كثير مما يفيد حرمة دم من شهد ألا إله إلا الله حتى ولو لم يلتزم بطقوس العبادات واعتبر مسلما عاصيا فإنه لا يُكفّر ولا يُحارب، وهذا ما يقول به من يرفضون من أهل السنة والجماعة تكفير داعش والجدماعات الإرهبية التي عثتت قتلا في العباد وفسادا في الأرض ،  بحجة أنهم مسلمون يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.  

إن مثل هذا القرار الخطير الذي اتخذه الخليفة الأول لقتال من رفضوا دفع الزكاة بدعوى أنهم ارتدوا عن الإسلام، فسميّت هذه المجازر من قبل فقهاء القشور بـ"حروب الردة" لإضفاء الشرعية الدينية على قرار سياسي مناقض لصريح نصوص القرآن ولما يعتقدون به من أصول مذهبهم، وبغض النظر عن صحة السند الذي يعتمد غالبا في القبول بالأحاديث من دون مراعاة للمحتوي لجهة تطابقه مع النص القرآني من حيث الحكم أو المدلول، فإن حديث أبو هريرة السالف الذكر يتعارض نصا ومضمونا مع أصول الإسلام ومبادئه السمحة، التي ترفض الإكراه الديني بالذات تحت أية ذريعة من الذرائع، وذلك بنصوص صريحة من الكتاب تفيد أنه لا إكراه في الدين، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إن الله غني عن العالمين.

وبالتالي، لا يوجد في الدين ما يبرر اللجوء إلى القوة والقهر والقتل لإجبار الناس على الايمان، فأحرى إجبارهم على الصلاة أو الزكاة أو غيرهما من التكاليف الشرعية، وكل قول بخلاف ذلك، يتعارض مع أهم أصل في هذا الدين، ألا وهو مبدأ "الحرية" الذي كرم الله به الإنسان وجعله مبدأ مقدسا، وعاتب رسوله الكريم بشأنه لقوله تعلى: (أأنت تكره الناس على أن يكونوا مؤمنين). إن مثل هذه الأحاديث المشبوهة هي التي تضفي المصداقية على طروحات من يتهمون الإسلام بأنه دين عنف وإكراه وقتل.  

والحقيقة أن التراث الإسلامي بما حواه من سلبيات تسيئ إلى الدين وتنفّر منه، لا يزال إلى اليوم تراثا محجوبا، لا يهتم به إلا القلة من الباحثين الشجعان، كما أنه ولأسباب سياسية وإيديولوجية واضحة لا علاقة لها بالدين، لم يُعطى هذا التراث حقه من القراءة النقدية الموضوعية، لتفكيكه وتحليله وتنقيته من سيل الترهات والتناقضات الغريبة التي يزخر بها بالمقارنة مع كلام الله الذي يعلو ولا يُعلي عليه.

إن القبول بشرعية الحكم الذي اعتمده الخليفة أبو بكر رضي الله عنه في محاربته للممتنعين عن دفع الزكاة، يطعن في الصميم المبدأ القائل بأن "الإسلام شريعة سمحاء"، وقس على ذلك ما يقال عن شرعية الإرهاب من قبل السلفية التكفيرية اليوم. من هنا، لا يسعنا إلا الاستنتاج بأن قرار الخليفة الأول كان قرارا سياسيا لا علاقة له بالدين من قريب أو بعيد، وذلك مصداقا لقول القائل: "ما سلّ سيف للقتال على مر العصور إلا كان بسبب السلطة". هذه هي الحقيقة العارية التي نتجنب النظر إليها بالعين المجردة، لأنه لو لم يكن هذا صحيحا، فلماذا إذن لم يحارب أبو بكر من ارتدوا عن الدين بإعلانهم الكفر جهارا نهارا ، وهو نقض لميثاق الله أخطر بكثير من عصيان أمر من أوامر التكليف؟ ولماذا لم يحارب من تركوا الصلاة أيضا، ما دام أنه أكد في حديثه لعمر المذكور أعلاه، عدم التفريق بين تارك الصلاة والممتنع عن دفع الزكاة؟

إن عدم طرح الخليفة الأول هذا القرار الخطير للاستفتاء على القراء والكتاب والصحابة الذين عايشوا تجربة التنزيل، عطّل مبدأ الشورى الذي أوصى به النبي صلى الله عليه وسلم حين حث أصحابه على عرض الأمر للعالمين كلما استجد بهم طارئ في الدين، وفتح بالتالي الباب واسعا لاستئثار الحاكم بالقرار، تمثل ذلك في قضية القضايا المسكوت عنها، والمتعلقة باستخلاف عمر ابن الخطاب رضي الله عنه من بعده، الأمر الذي اعتبر من الناحية الشرعية خرقا واضحا لقاعدة الشورى الملزمة للمسلمين بنص القرآن، والتي استبدلها عمر بقاعدة "أهل الحل والعقد" لشرعة الخلافة في نبلاء قريش دون غيرهم من المسلمين. نقول هذا بغض النظر عن شخصية الفاروق عمر رضي الله عنه الذي عرف باستقامته وورعه ويشهد له العدو قبل الصديق بالنزاهة والصرامة حتى صار مضربا للأمثال في إقامة العدل والرحمة بالمستضعفين. لأن المسألة بالنهاية، لها علاقة بإقرار مبدأ عام في الحكم، كانت من نتيجته أن اكتوي المسلمون بناره عبر العصور وذاقوا من ألوان الظلم وأصناف الاستبداد ما يخجل المرء من تصنيفه في خانة "الحكم الاسلامي". ومرد ذلك تغييب مؤسسة الشورى واستبدالها بمؤسسة الحاكم بأمر الله لا بتفويض من الناس. وهذا هو خط الانحراف الأول الذي نتج عنه ظهور الخوارج والفرق المنشقة على الشرعية السياسية القائمة بنفس سلاح الدين عبر العصور والدهور.

وفي هذه المرحلة المبكرة جدا من تاريخ المسلمين تداخل الديني في السياسي، بحكم أن الدولة الفتية وما تلاها من أنظمة حكم أسرية إقطاعية عبر التاريخ، حافظت بالضرورة على تطبيق قسم من الشريعة لضمان نوع من الشرعية الدينية برغم كل مظاهر الإستبداد، وبذلك أصبح تطبيق الشريعة ملازما للسياسة، وحوّل الدولة المستبدة إلى دولة إسلامية، بالرغم من اعتمادها أساسا على العصبية والقوة لتدوم وتستمر، إلا أنها كانت دائما تضفي الشرعية الدينية على تصارفاتها القمعية تجاه المعارضين والمخالفين على حد سواء.

أما قرار الخليفة الأول القاضي بجمع القرآن الكريم، فقد جاء نتيجة لوعيه بما يستلزمه وضعه الديني ومسؤوليته السياسية الجديدة، باعتباره إماما وحاكما وقائدا حاملا لراية الإسلام ومؤتمنا على شؤون المسلمين، وبذلك يكون هو المكلف شرعا بحراسة مقدسات الأمة والسهر على جمع المسلمين حول حبل الله المتين المتمثل في قرآنه الكريم. وهذا هو سبب رفض اعتماد مصحف علي رضي الله عنه كإمام جامع، باعتبار أن الإمام هو شخص من الرعية، لا يتحمل أية مسؤولية رسمية من جهة، وباعتبار أن ما قام به من جمع للقرآن، لا يعدو أن يكون عملا فرديا اختلط فيه التنزيل بالتأويل كما سبقت الإشارة، الشيء الذي لا يجعل من جمع الخليفة الأول عملا مؤسساتيا، من جهة أخري.

وعليه، فقد كلّف الخليفة أبو بكر الصديق رضي الله عنه، الصحابي الجليل زيد ابن ثابت بمهمة جمع القرآن الكريم، فقام هذا الأخير بمباشرة عمله على رأس لجنة ضمت خمسة وعشرون نفرا من الصحابة الأنصار دون المهاجرين لأسباب مجهولة، بالرغم من أن الخليفة الأول كان من المهاجرين. ويقال إن هذه اللجنة كانت تجتمع في المسجد كل يوم، وتبحث ما يتقدم به كل شخص من مواد كتبت عليها آيات وسور القرآن، ولم تكن تقبل أي صحيفة من أي شخص ادعي أنها تتضمن الوحي إلا بعد أن يأتي بشاهدين يؤكدان أمامها أن ما يدعيه هو فعلا من القرآن. ومثل هذه الواقعة، تشكك في مصداقية الادعاء القائل بأن القرآن كان محفوظا كله في صدور المؤمنين زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، لأنه لو كان الأمر كذلك لما وضع معيار الشاهدين، خاصة وأن المسلمين كانوا حديثي العهد بالتنزيل.  ويقال كذلك، أن اللجنة استثنت من هذه القاعدة الصارمة الصحابي خزيمة ابن جابر، عندما قدم أمامها آخر الآيتين من سورة براءة، وذلك من دون أن يضطر لتقديم الشاهدين، نظرا لمعرفة أعضاء اللجنة بصدقه، والثقة التي كان يحظى بها من قبل الرسول الكريم. لكن السؤال الذي يطرح نفسه بالمناسبة، إذا كان أعضاء هذه اللجنة من القراء الذين يحفظون القرآن وكانوا مكلفين بكتابته من قبل الرسول، فلمذا تم اعتماد معيار الشاهدين في قضية تهم المسلمين كافة؟

ومهما يكن من أمر، فبهذه الطريقة، استطاع زيد ابن ثابت أن يجمع آيات وسور القرآن في صحف معدودة، رتبت على شكل مجموعات مكتملة، وتم وضعها في صندوق لحفظها من الضياع.  ولهذا السبب بالذات، لا يعتبر العمل الذي قام به الخليفة الأول مصحفا، بل تجميعا لصحف نسخت فيها آيات القرآن وسوره.  يقول المحاسبي في هذا الصدد ما مفاده، إن القرآن كان مفرقا في قطع من خشب وعظام، وأمر أبو بكر الصديق بجمع كل هذه القطع المتفرقة، ثم قام بربطها بحبل لكيلا تضيع أية قطعة منها.  ويقول ابن حجر، أن الفرق بين الصحف التي جمعها زيد ابن ثابت والمصحف، هو أن الصحف هي فقط المواد التي كانت مدونة عليها الآيات، والتي أمر الخليفة الأول بجمعها كل حسب السورة التي تنتمي إليها، وبذلك تمت لأول مرة عملية تجميع الآيات مرتبة في السور، لكن لم تكن السور تخضع لأي ترتيب يذكر كما هو الأمر بالنسبة للترتيب الذي اعتمد في عهد عثمان لاحقا، والذي أصبح يعرف بمصحف عثمان.

وقد ظلت الصحف التي جمعها زيد ابن ثابت في حوزة الخليفة أبو بكر إلى أن أودعها هذا الأخير في عهدة حفصة، على أساس أن تقوم بتسليمها للخليفة عمر ابن الخطاب بعد توليته رسميا خليفة للمسلمين وفق ما تذكر بعض الروايات، ما يؤشر إلى أن أمر توارث الخلافة بين نبلاء قريش كان أمرا محسوما ومخطط له من دون شورى ولا من يحزنون. ويحكى أيضا أنه في الوقت الذي تم فيه إيداع هذه الصحف لدى حفصة، قام الخليفة الثالث باستعارتها مؤقتا لمقارنتها مع نسخة المصحف التي كانت في حوزته، ثم أعادها لصاحبتها. وبعد وفاة حفصة، قام مروان الذي عينه معاوية ابن سفيان واليا على المدينة، بطلب هذه الصحف من بيت حفصة، ثم دمرها بالكامل.

ويلاحظ في مثل هذه الروايات المختلفة، اعتماد أصحابها لمنهج السرد والتبرير، بدل النقد وتوخي الدقة في تقصي الحقائق، نظرا لتعارضها في جوانب كثيرة منها مع سياق الأحداث التاريخية. فمثلا، لا يعرف السبب الحقيقي الذي دفع الخليفة الأول إلى انتقاء أعضاء اللجنة الخمسة والعشرون كلهم من الأنصار حصريا دون المهاجرين بالرغم من أن أبو بكر نفسه كان من المهاجرين كما سبق القول، علما أن قرآن مكة الذي يشكل ثلثي المصحف من حيث عدد الآيات لم يشهد نزوله الأنصار،  ومعلوم أن فئة المهادرين هي التي عاشت تفاعلات الرسالة بين السماء والأرض لفترة دامت ثلاثة عشر سنة كاملة. كما أن حفصة بنت الخليفة الأول، لم تُسلّم الصحف التي أودعها لديها والدها إلى الخليفة عمر كما ذكرت الروايات في تبريراتها لهذه الواقعة في حينه، والتي تبيّن بوضوح، أن مصحف أبو بكر تحوّل إلى ملكية خاصة بدل أن يوضع في خزانة المسلمين باعتباره من الممتلكات العامة.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق