بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 14 يناير 2019

جدل حول جمع وترتيب القرآن الكريم (4/3)



مصاحف الصحابة
خلال المرحلة التي أعقبت وفاة الرسول (صلى الله عليه وسلم وحتى بداية خلافة عثمان ابن عفان رضي الله عنه، قام بعض الصحابة الكرام بنسخ القرآن لحسابهم الخاص، بحكم احتكاكهم ومعرفتهم بالوحي، من منطلق المرتبة العالية التي وصلوا إليها في اهتمامهم بالقرآن، والتقدير الكبير الذي كانوا يتمتعون به بين المسلمين، وفق ما تذكر السير، وهو ما انعكس إيجابا على أعمالهم، حيث نالت مصاحفهم الكثير من الاهتمام من قبل الأمة على امتداد جغرافية البلاد الإسلامية آنذاك.../ ...

ووفق ما رواه ابن عزيز، فإلى غاية العام 30 من الهجرة، كانت هناك أربع مصاحف تتداول في مختلف الأرجاء: مصحف أبي بن كعب في دمشق، مصحف ابن مسعود في الكوفة، مصحف أبو موسي في البصرة ومصحف المقداد في حمص. فكانت كل جهة تقرأ القرآن وفق المصحف الذي لديها وتعتبره المرجع الإمام في الفصل عند كل اختلاف.
 وبالرغم من أن كل مصحف من المصاحف الأربعة كان يتميز عن غيره ببعض الخصوصيات البسيطة، إلا أن السور كان تخضع لنفس الترتيب التالي:
1 – السبع الطوال (البقرة – آل عمران – النساء – الأعراف – الأنعام – المائدة – يونس).
2 – المئون: وهي السور التي يصل عدد آياتها الي مائة أو أكثر قليلا، وعددها 12 سورة.
3 - المزاني: وهي السور التي يقل عدد آياتها عن مائة، وتبلغ في مجملها عشرون سورة.
4 – الحوا ميم: وهي السور التي تبدأ بالأحرف المتقطعة (حم)، وعددها سبعة سور.
5 – الممتحنات: وهي: الفتح – الحديد – الحشر – السجدة – ق – الطلاق – القلم – الحجرات – الملك – التغابن – المنافقون – الجمعة – الصف – الجن – نوح – المجادلة – الممتحنة – التحريم. 
6 – المفصلات: من سورة الرحمن الي نهاية القرآن.
هذه هي جملة ما ورد في الأثر بالنسبة لمصاحف الصحابة، وتجدر الإشارة إلى أن مصحف ابن مسعود هو الأكثر قربا للتصنيف المفصل أعلاه. أما بالنسبة لبقية المصاحف، فيلاحظ بعض الاختلافات التنظيمية لجهة ترتيب بعض السور بالنسبة للبعض الآخر.  وفيما يلي، نورد بعضا من هذه الخصائص التي تميز مصحف عبد الله ابن مسعود ومصحف أبي ابن كعب على سبيل المثال:

خصائص مصحف عبد الله ابن مسعود:
لم يكن مصحف ابن مسعود يتضمن سورة الفاتحة، ووفق ما يقال، فان هذا الصحابي أنجز مصحفه حتى لا يضيع القرآن، وعدم تضمينه لسورة الفاتحة مرده أنها سورة تتردد على كل لسان 17 مرة أو أكثر في اليوم، فلا تجوز صلاة بدونها، وبالتالي، لا داعي لنسخها في المصحف خوفا من الضياع أو النسيان. هذا بالإضافة إلى أن ابن مسعود كان يؤمن بأن سورة الحمد توازي القرآن كله استنادا إلى قوله تعالى: (ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقران العظيم) الحجر: 87.
كما أن مصحفه لم يكن يتضمن المعوذتان (الناس والفلق)، لاعتقاده بأن هاتين السورتين ليستا في الحقيقة سوي دعاءين للحفظ من السحر ومن العين.
ويختلف مصحف ابن مسعود في الكثير من الآيات مع المصحف الذي نعرفه اليوم (مصحف عثمان) وذلك بسب أن هذا الصحابي، قام بتغيير الكثير من الكلمات القرآنية الأصلية بكلمات مرادفة ومفسرة لها، اعتقادا منه أنه بذلك العمل سيسهل على المسلمين فهم القرآن. لكن مؤلف كتاب " التمهيد " الفقيه المالكي أبو عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر النمري، يري أن مثل هذه التغييرات في الكلمات، كانت تلاحظ فقط عند تلاوة مصحف ابن مسعود، في حين أن ما تضمنه هذا المصحف من نسخ (تدوين) للسور والآيات لم يكن يختلف عن القرآن كما أوحي للرسول صلى الله عليه وسلم في شيء.
غير أنه في حالات كثيرة، كان ابن مسعود يضيف إلى بعض الآيات شروحا على الحواشي في محاولة منه لتبسيط بعض المعاني الشائكة والمستعصية على فهم العامة.

خصائص مصحف أبي ابن كعب:
يحتوي مصحف أبي ابن كعب على 115 سورة بدل 114 سورة التي يتضمنها المصحف الحالي (مصحف عثمان)، ذلك أن هذا الصحابي كان يعتقد أن سورة الفيل وسورة قريش إنما هما في الأصل سورة واحدة فحذف البسملة التي تشكل الفاصلة بينهما. ويلاحظ أن أئمة أهل البيت هم بدورهم يؤكدون ما ذهب إليه أبي ابن كعب من أن الأمر في الحقيقة يتعلق بسورة واحدة. وقالوا كذلك، أن نفس الشيء ينطبق على سورة الضحى وسورة الانشراح، اللتين يُتليان كسورة واحدة يضاف إليها دعاء القنوت. 
يبدأ مصحف أبي ابن كعب بسورة الفاتحة أو (الحمد) وينتهي بالمعوذتين (سورة الفلق وسورة الناس)، وبذلك، فهو لا يختلف عن المصحف الحالي (مصحف عثمان) كثيرا. لكنه في ترتيب السور الطوال، نجد سورة يونس مقدمة على سورة الأنفال بخلاف مصحف عثمان.
وكما هو الأمر بالنسبة لمصحف ابن مسعود، يختلف مصحف أبي بن كعب عن مصحف عثمان في بعض الكلمات التي كان يستعملها كإضافات من باب الشرح والتوضيح، ولا تنتمي إلى التنزيل، كقوله مثلا: (صيام ثلاثة أيام - متتابعات - بعد الحج). فجاءت الإضافات للشرح مميزة عن نص القرآن.      
وأهم ما يمكن أن نخرج به كملاحظة أساسية مشتركة من قراءتنا الخطية لمصاحف الصحابة الأربعة، هي أنهم جميعا لن يعتمدوا ترتيب النزول كما فعل الإمام علي رضي الله عنه، بل يكاد ترتيبهم يطابق ترتيب مصحف عثمان لولا بعض الاختلافات البسيطة التي مست بعض السور لجهة الدمج أو التقديم والتأخير والحذف، لكن مع احترام وحدة واستقلالية كل سورة على حدة، وتوزيعها إلى مجموعات متجانسة وفق معيار الطول والقصر الذي اعتمد لاحقا في مصحف عثمان.  وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على أن الصحابة الكرام الذين عايشوا تجربة الوحي عن قرب، ما كانوا ليخالفوا قراءة النبي صلى الله عليه وسلم للكتاب ويرتبون سوره بخلاف.
ومعلوم أن نزول الوحي مُنجّما في شكل آيات بعضها مكي والآخر مدني في فترات متفاوتة قد يتداخلان أحيانا في نفس السورة، الأمر الذي لا يساعد بحال من الأحوال على ترتيب القرآن وفق أسباب النزل لاستحالة ذلك عمليا، لأن الذي كان ينزل على الرسول صلى الله عليه وسلم هي الآيات المفرقات وليست السور باستثناء القصيرة منها، وهو استثناء لا يمكن الأخذ به قياسا مع بقية سور القرآن وخاصة السور الطوال. وعلى الرغم من أن القرآن المنسوخ في الصحف لم يُجمع في مكان واحد، إلا أن ترتيبه في التلاوة والحفظ لم يتغير منذ عهد الرسالة الي اليوم، لأن ترتيبه كان توفيقيا من الله تعالى عن طريق الملك جبريل عليه السلام، الذي كان يشير على الرسول المتلقي بمواضيع الآيات من السور، وكان يقرأه ما تنزل من القرآن في رمضان، وفي رمضان الأخير من عمره الشريف، أقرأه الروح الأمين القرآن كاملا مرتين، ما يؤكد أن ترتيب السور لم يكن توفيقيا من نبلاء قريش كما زعن عبد الله العروي، بل من السماء مباشرة، وهو ما تأكده الآيات التي استشهدنا بها سابقا في هذا المضمار. وهناك الكثير من الروايات التي تؤكد أن الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته وجماعة القراء والكتاب، كانوا يقرؤون القرآن على نفس الترتيب الذي يبدأ بسورة الفاتحة وينتهي بسورة الناس. ولعل حفظ القرآن في صدور المسلمين في الزمن الذي كان فيه مفرّقا في الصحف على أكثر من موقع، هو الذي ساعد على حفظ ترتيب التلاوة وفق نفس قراءة الرسول الكريم (ص) دون تغيير أو تبديل.
ومن أشهر الحفاظ المهاجرين: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة وسعد وابن مسعود وحذيفة وسالم مولي أبي حذيفة وأبو هريرة و ابن عمر وابن عباس وعمرو بن العاص وابنه عبد الله ومعاوية وابن الزبير وعبد الله بن السائب وعائشة وحفصة وأم سلمة. ومن الأنصار أبي بن كعب ومعاذ ابن جبل وزيد ابن ثابت وأبو الدرداء ومجمع بن حارثة وأنس بن مالك وأبو زيد وهو أحد عمومة أنس.

مصحف علي ابن أبي طالب
يحكي عن الإمام علي رضي الله عنه، وبحكم قرابته وملازمته للرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم منذ طفولته وإلى أن وافته المنية، أنه اشتهر بحضوره الدائم إلى جانبه الشريف في كل الأحداث العامة والخاصة، كبيرها وصغيرها، فلم يكن ليفوته شيء بأهمية الوحي على الإطلاق، وهو الوحيد الذي آثر البقاء إلى جانب جثمانه الطاهر بعد موته، لتحضيره للدفن، على أن يحضر اجتماع ما اصطلح على تسميته في حينه بمجلس الشورى الذي انتظم في سقيفة بني ساعدة بهدف اختيار خليفة يقوم على شؤون المسلمين. وتذكر المرويات أن الإمام علي كرم الله وجهه، كان يأخذ على عاتقه أمانة كتابة الوحي زمن نزوله من دون انقطاع سواء في مكة أو المدينة. وقبل وفاة الرسول، أوصاه صلى الله عليه وسلم بجمع القرآن في إمام جامع وفق ما تذكر بعض مراجع الشيعة. 
هكذا إذن، ومباشرة بعد انتقال صاحب الرسالة الي جوار ربه، انكب الإمام علي كرم الله وجهه على جمع القرآن تنفيذا لوصيته الشريفة، معتبرا هذا العمل من أولويات واجباته. يقول الإمام الطباطبائي في كتابه: (قرآن دار الإسلام)، ما مفاده: أن الإمام علي عليه السلام بحكم احتكاكه المباشر مع الوحي، وتنفيذا لوصية الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، قام بجمع القرآن في إمام وفق ترتيب النزول، وفي مدة لم تتجاوز الستة أشهر، وأنه بعد انتهائه من عمله، حمل القرآن على ظهر جمل، وراح يشهره على الناس. ويذكر ابن عباس في تأويله للآية 16 من سورة القيامة: (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ)، أنه ولهذا السبب بالذات، انتظر الإمام علي حتى اكتمل نزول الوحي قبل أن يقوم بجمعه في إمام.
وتروي بعض المصادر ومنها ما ذكره أبو رافع، أنه بسبب وصية الرسول صلى الله عليه وسلم، قام الإمام علي رضي الله عنه بأخذ كل المواد التي كتبت عليها الآيات الي بيته، وبعد وفاته النبي، اعتكف علي كتابة القرآن في مدة ستة أشهر، إلى أن انتهي من جمع آياته وتنظيم سوره وفق ترتيب النزول، وكان الإمام مُلمّا بمهمته، مدركا لما يجب عليه القيام به. 
ويشرح السيوطي في كتابه (الإتقان في علوم القرآن)، أن أول سورة افتتح بها الإمام علي رضي الله عنه إمامه هي "اقرأ"، وبعدها وضع سورة "المدثر" ثم سورة "ن"، فسورة "المزمل"... وهكذا تباعا... لكن لا أحد ممن تحدثوا عن مصحف الإمام علي تكلم عن استحالة تنظيم آيات وسور القرآن وفق ترتيب النزول من الناحية العملية، نظرا لتداخل الكثير من الآيات المكية والمدنية في نفس السور وبترتيب لا يتساوق مع مسار تكوين الوحي، ومرد ذلك، أن القرآن يتجاهل فكرة الكرونولوجيا الزمنية في تناوله للأحداث، كما وأن الحكمة من ذلك وفق ما يتبيّن من كلام الله، هو عدم ربط الآيات بخصوص السبب بل بعموم اللفظ، حتى لا تفهم على أنها آيات خاصة بزمانها. وعليه، يكون أي عمل يسعي الي تنظيم القرآن وفق ترتيب النزول هو ضرب من العبث الذي لا يؤدي إلى نتيجة تذكر، إن على مستوي المبني أو المعني، وفق ما يرى العديد من المفسرين والباحثين.
ومن الغريب أن يقال من قبل بعض المراجع الشيعية أن قراءة الإمام علي رضي الله عنه كانت مطابقة لقراءة الرسول صلى الله عليه وسلم، ذلك أننا لا نفهم بالضبط ما المقصود بمثل هذا القول، ما دمنا قد أشرنا إلى استحالة توافق ترتيب النزول مع ترتيب قراءة القرآن كما كانت متواترة زمن الرسول، سواء من الناحية النقلية وفق ما لدينا من معطيات تؤكد عكس ذلك، أو من الناحية العقلية التي تتعارض جملة وتفصيلا مع مثل هذا الادعاء.   ويقال كذلك، أن مصحف علي عليه السلام كان يشمل بالإضافة إلى نص القرآن، العديد من الحواشي المفسرة لأسباب نزول آياته وأمكنتها وزمانها بالإضافة إلى أسماء الأشخاص والوقائع التي تناولتها. وفي هذا الإمام الجامع، تم توضيح كل الظواهر العامة المتعلقة بالآيات، بشكل أضفى عليها طابع الشمولية لجهة المعنى، وحررها بالتالي من حدود المكان والزمان وقيود الوقائع والأشخاص، بشكل جرد الآيات من طابع الخصوصية، تلافيا لسوء الفهم.
ويفسر الإمام علي رضي الله عنه الهدف من عمله هذا بقوله: (لقد أتيتكم بالكتاب الذي يتضمن التنزيل والتأويل). وبذلك، يكون الإمام وفق ما أكده هو نفسه ونقلته عديد الروايات الشيعية، قد حرص حرصا فائقا على تنفيذ وصية الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، حيث اجتهد في وضع مصحفه الجامع طبقا لما تعلمه مباشرة من الرسول الطريم، من دون أن ينسى أو يغير شيئا مهما بلغ صغره. لكن المؤسسة الرسمية في ذلك الزمان لم تقبل بعمله، ورفضت اعتماده لأسباب منهجية لا علاقة لها بالخلاف السني الشيعي الذي ظهر بشكل جليّ زمن معاوية.  ونفس الشيء يمكن أن يقال عن مصير هذا المصحف الذي لا أحد البتة يعلم أين انتهي مآله. فبعض المراجع الشيعية، تدّعي أن مصحف علي عليه السلام تم توارثه من قبل الأئمة الكبار، وهو ما لا يوجد تأكيد له. أما ما يقال عن أن نسخا منه توجد في بعض المكتبات والمتاحف، فلم يستطع أن يؤكد أي باحث صدقية هذا الادعاء.
ويشار في هذا الصدد أن لا أحد من المؤمنين اعترض على الترتيب الحالي لآيات وسور القرآن الكريم كما وردتنا في مصحف عثمان، والتي تؤكد الروايات أن الرسول (ص) كان يقرأ القرآن بنفس الترتيب، وأن جبريل عليه السلام كان يستعرض تلاوة القرآن مع الرسول في رمضان، وقبل وفاته، استعرضه مرتين معه على هذا الترتيب..
لكن السؤال يبقى مشروعا إلى غاية معرفة حكمة الله من هذا الترتيب بالضبط. 
وهذا لا يمنعنا من الاستنتاج، أن ترتيب النزول الذي اعتمده الامام علي كرم الله وجهه له فائدته العظيمة، ذلك أن مصحفه كما قال عنه كان يضم "التنزيل والتأويل"، بمعنى أنه وبجانب كل آية كان الإمام يضع على الحواشي أسباب نزولها، الأمر الذي قد يساعد على فهم المراد من خطاب الله من خلال الاستئناس بمثل هذا التأويل الذي يوضح وإلى حد ما، بعض أسباب النزول، ما دام معظم آي القرآن الكريم لم ينزل لأسباب ظرفية (مكانية وزمانية) لمعالجة وقائع وحادثات معيّنة لم تقع زمن الرسالة، ما يجعلنا نخلص إلى القول باستحالة أن يكون الإمام علي رضي الله عنه قد شمل مصحفه أسباب نزول لكل الآيات.
كما أن من سلبيات مثل هذا التأويل، أنه يركز على تفاصيل مناسباتية خاصة على حساب المعنى المطلق العام. وقد ظهر في التاريخ الاسلامي علم جديد سمي بـ "علم المناسبة بين الآيات والسور"، وهو علم له أهميته، وكان من الممكن أن يساعد على فهم الترابط القائم بين الآيات والسور، وبالتالي، اكتشاف العلاقة القائمة بينها وفق هذا الترتيب. غير أن الكتب التي وضعت في هذا العلم قد ضاعت وتم إحراقها. ويقال أيضا، أن هناك مخطوطات ثم العثور عليها، وأن هناك من يقوم اليوم بدراستها. وأهمية هذا العلم أنه عندما يدرس العلاقة بين سورة الفاتحة وما بعدها مثلا، يخلص إلى أن سورة الفاتحة هي بمثابة المفتاح الذي يساعد القارئ على ولوج عالم القرآن الباطن، لما تمثله هذه العلاقة من مضامين جامعة تشير إلى الانسان الذي يخاطب ربه راجيا منه الهداية، وإلى طبيعة الذات الالهية، والصفات التي تتمتع بها، واليوم الآخر، والتشريعات، وأهل الكتاب والمعتقدات القديمة. وسميت بفاتحة الكتاب لأن كل حرف، وكل كلمة في السورة، تفتح للقارئ المتبصّر بابا من العلم والمعرفة المفصلة في الآيات اللاحقة. فإذا أخذت مثلا كلمتي "المغضوب عليهم" و"الضالين" الواردتان في نهاية السورة، فستكتشف أن نفس السورة لم توضح من هم. لكن في سورة "البقرة" التالية يكتشف القارء أنها مخصصة في معظمها لـ "المغضوب عليهم" الذين عرفهم الله بأنهم اليهود. وفي السورة الثالثة التي تحمل اسم "آل عمران" وفق ترتيب مصحف عثمان، ستكتشف أن الحديث فيها جاء مخصصا لموضوع النصارى الذين ضلوا وقالوا إن المسيح ابن الله، ولذلك وصفهم الله في الفاتحة بـ "الضالين". وهذا نموذج بسيط مما يتناوله منهج هذا العلم.
والذين يتهمون المسلمين اليوم بكراهية الآخر المختلف ويطالبونهم بإعادة قراءة الفاتحة بفهم إنساني متسامح جديد، إنما يريدون تغيير المراد من كلام الله ليتوافق مع ما تهوى أنفسهم. لأن الأمر بالنهاية لا علاقة له بالحب والكراهية، بل بوصف الله تعالى لنوعين من عباده من باب الموعظة: النوع الأول اشتهر بقتل الأنبياء وتزوير كلام الله فغضب عليه، وهم اليهود (مع استثناء المتقين منهم). والنوع الثاني ضل عن السبيل حين اعتبر المسيح ابن مريم عليه السلام ابن الله (مع استثناء المهتدين منهم). وهذا لا يخوّل لمسلم محاربتهم من أجل عقيدتهم بالمطلق، لأنهم أحرار في أن يؤمنوا أو ينقضوا عهد الله وميثاقه. والغاية من ذكرهم هو تحذير المؤمنين من الحذر حذوهم، مع ترك أمرهم لله، ووجوب احترامهم ومعاملتهم المعاملة الإنسانية التي تليق بتكريم الله لهم مثلهم مثل بقية الخلق. وهو ما ترجمه الإمام عليه السلام بقوله (الناس صنوان: أخ لك في الدين أو أخ لك في الخلق).

الجمع الثالث للقرآن
وهو الجمع المسمى في التراث بـ "الجمع العثماني"، وقصته معروفة، وسببه ما راعه بعد أن أبلغه الصحابي الجليل حذيفة بت اليمان من التباين القائم بين المسلمين في قراءة القرآن، بين أهل العراق وأهل الشام وأهل مصر وغيرهم بسبب مصاحف الصحابة التي وصل عددهم إلى سبعة وفق ما تذكر المراجع التاريخية، خصوصا وبعد وصل هذا التباين إلى معسكرات القتال خلال فتوحات آسيا (أرمينية وأذربيجان). وخوفا ممّا قد يؤدي له هذا التباين من اختلاف فخلاف وصراع بين المسلمين، قرر الخليفة الثالث إنهاء هذا الوضع الشاذ بتجميع آيات وسور القرآن الكريم في مصحف إمام يكون مرجعا لكل المسلمين في الأرض.
شكل الخليفة عثمان رضي الله عنه لجنة رباعية يرأسها زيد بن ثابت الأنصاري الذي عرف بأنه كان أكتب الناس للقرآن، وضم إليها عبد الله بن الزبير الأسدي، وسعيد بن العاص الأموي، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي. فجمعوا المصاحف والرقاع من كل بيت بما في ذلك مصحف حفصة ومصاحف الصحابة الأربعة التي كانت متداولة حينها في الأمصار، وقامت اللجنة بمقارنتها بعضها ببعض ومراجعتها على ضوء ما استقر في صدور الحفاظ، فجاء العمل كاملا مكتملا وبتوافق أهل الاختصاص من الصحابة الكرام.
وكان هذا العمل بحق وفق ما يجمع على ذلك المؤرخون، أول إمام جامع للقرآن بين دفتين في تاريخ الإسلام، وضع في دار الخلافة وسيمي بـ "المصحف العثماني" تيمنا باسم الخليفة عثمان، ونسخت منه 7 نسخ وزعت على مصر والبصرة والكوفة ومكة والمدينة واليمن والشام، وفق ما ذكر ابن كثير في (البداية والنهاية)، ولم يذكر العراق.
وميزة مصحف عثمان أن الرجل وضع حدا لما ظهر من خلال حول قراءة القرآن كل جهة بلهجتها المحلية لجهة النطق ببعض الحروف، ومثال ذلك كلمة "التابوه" التي صححتها لجنة عثمان بـ "التابوت"، و"الصراط" بالصاد بدل السين، وفق ما درجت عليه لهجة قريش، و"حتى" التي كانت تنطق "عتى" فصححها عثمان. وحروف أخرى من هذا القبيل. وكان ذلك بناء على رسالة سبق لعمر البن الخطاب رضي الله عنه أن كتبها لابن مسعود بمناسبة خلاف نشب حول قراءة الأحرف جاء فيها: "أما بعد فإن الله أنزل القرآن بلسان قريش فإذا أتاك كتابي هذا فأقرئ الناس بلغة قريش ولا تقرئهم بلغة هذيل، والسلام". وبذلك اعتمد الخليفة الثالث توجيه الخليفة الثاني لابن مسعود بشأن قراءة القرآن بلغة قريش التي نزل بها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق