بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 10 يناير 2019

جدل حول جمع وترتيب القرآن الكريم (4/1)



يعرف الجمع في اللغة بأنه جمع الشيء عن تفرّقه: (جمع، يجمع، جمعا، وجمعه، وأجمعه)، واستجمع ماء النهر: أي اجتمع فيه الماء من كل موضع. وفي لسان العرب مادة: (جمع) (1/498)، فُسّر قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أوتيت جوامع الكلم) الذي رواه مسلم في صحيحه في كتاب المساجد ومواضع الصلاة تحت رقم: (533) - 1/371، بأنه كان يتكلم بجوامع الكلم، بمعني أنه كان كثير المعاني قليل الألفاظ ... / ...

أما في الاصطلاح، فكلمة جمع القرآن يراد بها جمع آياته في السور التي تنتسب إليها، وجمع السور كلها في إمام جامع لحفظ كلام الله من التحريف أو الضياع والنسيان، كما حصل مع الكتب السماوية السابقة. وما يؤكد هذا المعنى قوله تعالى: (إن علينا جمعه وقرآنه * فإذا قرأناه فاتبع قرآنه) سورة القيامة: 17 - 18.  وحول تفسير هذه الآيات، ذكر القرطبي في الجامع لأحكام القرآن، أن ٱبن عباس شرح: ( وقرآنه ) أي وقراءته عليك. وقال ابن كثير في تفسيره: (إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ) أي في صدرك، (وقرآنه) أي أن تقرأه، (فَإِذَا قَرَأْنَـٰهُ) أي إذا تلاه عليك الملك عن الله تعالى (فَٱتَّبِعْ قُرْءَانَهُ) أي فاستمع له، ثم اقرأه كما أقرأك إياه. وهو ما يفيد صراحة أن الله سبحانه هو الذي تكفل بتلقين رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم طريقة قراءة القرآن وفق الترتيب الذي وضعه بمعرفته إن على مستوي الآيات أو السور.

أما ما ذكره ابن كثير حول معنى الجمع الذي يفيد وفق رأيه (جمعه في صدرك)، فهو معنى لا يستقيم تماما مع سياق الآيات التي تفيد الجمع في السور والقراءة على الترتيب الذي أراده الله وبلغه لرسوله عن طريق الروح الأمين، وإن كان ذلك لا ينفي الحفظ. ولقد أوضح القاضي أبو بكر الباقلاني (الإتقان: 1/155)، المراد من الآية بقوله: "يراد جمعه، أي جمع القرآن الكريم على جميع الوجوه والقراءات التي نزل بها، (...) ويراد به: تلقيه من رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا واسطة، ويراد به كتابته". وهذا الكلام يعبر عن رأي البقلاني ولا يمثل المراد من كلام الله.
  
وبالبحث في طرق جمع القرآن وأسباب ترتيب آياته وسوره قديما وحديثا، نجد اختلافا كبيرا بين الفقهاء والباحثين على حد سواء.  فمنهم من يعتبر الترتيب العثماني للمصحف ترتيبا توفيقيا من اختيار أصحاب رسول الله زمن الخليفة عثمان، وآخرون يقولون أنه من ترتيب الرسول  والملك  جبريل عليهما السلام، ومنهم من يدعي أن المسلمون يقرؤون القرآن بالمقلوب لعدم اعتماد ترتيب السور وفق ترتيب النزول (محمد عابد الجابري – مدخل الي القرآن الكريم ج 1) برغم استحالة ذلك عمليّا، ومنهم من ذهب إلى أن ترتيب المصحف الذي بين أيدينا اليوم، وضع خصّيصا لخدمة مصلحة شرفاء قريش من "أهل السنة و الجماعة" على حساب "أهل البيت" بسبب الصراع الخفي الذي نشأ بين وجهاء مكة على السلطة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم (عبد الله العروي – الإصلاح والسنة)، وهو قول مجانب للحقيقة جملة ومتفصيلا.

 ويلاحظ أن معظم الباحثين في هذا الشأن ينطلقون مما يعتبرونه سؤال النشأة والتكوين، الذي يشمل كيفية إعداد المصحف العثماني الذي بين أيدينا اليوم، بعد أن كان يتنزّل على الرسول صلى الله عليه وسلم مُنجّما (مُفرّقا) حسب مقتضى الأحوال لمدة تزيد عن العقدين (23 سنة). وطبيعي أن تتناسل عن هذا التساؤل العام أسئلة فرعية عديدة تتضمن على سبيل المثال:  طريقة نقل القرآن من حالة الوحي القلبية إلى حالة القراءة اللسانية، ومسألة ترتيب الأجزاء بالنسبة لسابقاتها في النزول، ومسألة التدوين، وكيف تم نقل ما نزل بمكة إلى المدينة عند الهجرة؟ ومتى بدأ جمعه؟ وكيف تم ترتيبه في المصحف؟ وما قيل عن الزيادة والنقصان فيه.

والحقيقة أن مثل هذه الأسئلة تعتبر بالنسبة للمؤمن أسئلة عبثية تطرح من باب الجدل الفكري الذي لا يغني عن الحق شيئا. ومرد ذلك أن أصحاب هذا الطرح، ينطلقون من أسئلة خاطئة يترتب عليها خطئ كل ما يتناسل عنها نتائج. فالقول بأن القرآن كان يتنزّل على الرسول صلى الله عليه وسلم مُفرّقا حسب مقتضى الأحوال، هو مغالطة كبيرة، الغاية منها محاولة ربط  نشأة وتكوين القرآن بمسار حياة النبي محمد في زمانه، ومن ثم القول بتاريخانية النص المقدس. وهو ما لم يستطع أحد أن يثبته بالدليل التاريخي القاطع أو الاستدلال العقلي الموضوعي.

 كمؤمنين، لا يمكننا إلا التسليم بأن التنظيم الحالي للمصحف كما وصلنا، هو من وضع وحفظ رب العالمين لدلالة الآيات على ذلك. فقوله تعالي: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) الحجر: 9. تفيد بما لا يدع مجالا للشك، أن الله تعالى الذي أنزل الذكر، تكفل بحفظه من التحريف و التزوير و التغيير بالزيادة أو النقصان، وكل قول يخالف هذه الحقيقة لا يعدو أن يكون ضربا من الهراء، وتكفي مراجعة ما ورد في الأثر من ادعاءات حول سقوط بعض الآيات من مصحف عثمان، ليتبين لكل باحث موضوعي هشاشة هذا الطرح إن على مستوي ركاكة الأسلوب أو تضارب المعانى، كقضية الآية المزعومة التي تقول "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما" والتي زعم بعض الشيعة المتطرفين أنها سقطت من المصحف، في حين أن حكم الزانية غير المحصنة هو الجلد، على أن تُطلّق المحصنة أو يُفوّض أمرها إلى ربها ليتولي شأنها بمعرفته وحكمته تعالى، ولا وجود للرجم في القرآن بالمطلق، بل هو حكم مُستمّد من شريعة اليهود التي تحوّلت إلى عُرف زمن الجاهلية الأولى. لأنه لا يعقل بتاتا أن يفرق الله العادل في حكمه بين عباده وفق أعمار المكلفين من جهة، أو أن يشرع الرسول الكريم خلاف ما أقره الله في كتابه من جهة ثانية.

وكذلك بالنسبة لما راج من قبل بعض المراجع الشيعية في حينه، حول مسالة أحقية ولاية الإمام عليّ كرم الله وجهه في تولي الخلافة بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، بالرغم من أن المسألة سياسية لا دينية. فقد ذهب الشيخ محمد تقي نوري  الطبرسي (1320 هجرية) في كتاب له أسماه "فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب": أن القرآن كما هو في مصحف عثمان، قد زيد فيه ونقص منه"،  والملاحظ، أنه لم يجادل في مسألة ترتيب السور كما هي في مصحف عثمان المعتمد من قبل كل المسلمين. وحين أنكر عليه بعض العلماء قوله، رد بكتاب آخر بعنوان "رد بعض الشبهات عن فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب". فأورد نصوصا غريبة زعم أنها من القرآن الكريم، ومنها سورة تحمل اسم "سورة الولاية" تقرر أن عليّ ابن أبي طالب رضي الله عنه هو الولي بعد النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه الخليفة من بعده. وقد ورد في السورة وفق زعمه: "يا أيها الذين آمنوا بالنبي والولي اللذين بعثناهما يهديانكم إلى الصراط المستقيم، نبي وولي بعضهما من بعض وأنا العليم الخبير. إن الذين يوفون بعهد الله لهم جنات النعيم، والذين إذا تليت عليهم آياتنا كانوا بآياتنا مكذبون إن لهم في جهنم مقاما عظيما، إذا نودي لهم يوم القيامة أين الظالمون المكذبون للمرسلين ما خلفتهم المرسلين إلا عني، ما كان الله ليظهرهم إلى أجل قريب وسبح بحمد ربك وعليّ من الشاهدين". وواضح الفرق بين أسلوب القرآن وهذا النوع من الكتابة التي يشتم منها رائحة التكلف والركاكة من فرط الصناعة، ناهيك عن بعض الإضافات تحت ذريعة أنها حذفت من القرآن، كقول الإمام الباقر وفق ما ورد في "أصول الكافي" للكيلاني، من أن اسم عليّ بن أبي طالب كرم الله وجهه حذف من الآية 23 من سورة البقرة: "وان كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا (في علي) فاتوا بسورة من مثله" – المحذوف: (في علي).  لكن وكما أشار الي ذلك الدكتور محمد عابد الجابري في كتابه "مدخل الي القرآن الكريم – ج:1 – ص: 206"، فان مراجع أخرى شيعية معتبرة تنفي أن يكون المقصود بالذكر هو عليّ  في مثل هذه الروايات، وبالتالي، فما ذكر من أن اسم عليّ محذوف لا يعدو عن كونه قرآن على مستوي التأويل وليس على مستوي التنزيل، وأورد مقولة الخوئي من أن بعض التنزيل كان من قبيل التفسير للقرآن وليس من القرآن نفسه.

ومهما يكن من أمر، فقضية الزيادة والنقصان في القرآن الكريم ومسألة ذكر عليّ رضي الله عنه قد أخذتا من الجدل بين السنة والشيعة حظها الوافر، وهو جدل طغى عليه الطابع السياسي والإديولوجي على حساب الموضوعية، وانتهي إلى الاتفاق بين الأفرقاء على أن القرآن كما هو في مصحف عثمان، يعتبر نصا كاملا، لم يأتيه الباطل من أية جهة كانت، وأن كل ما قيل خلاف ذلك هو من باب الشرح والتأويل للتنزيل ليس إلا. 

 لكن ما يهمنا هنا بالدرجة الأولي، هو ما صاحب قضية جمع وترتيب القرآن الكريم بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم من أخد ورد، واختلاف الفقهاء حول ترتيب السور في المصحف العثماني مقارنة بترتيب النزول، باعتبار من قال أن ترتيبها كان توفيقيا من الصحابة، لكن دون الاختلاف حول مسالة ترتيب الآيات الواردة في إطارها، والتي حظيت بإجماع مطلق، نظرا إلى أن ترتيبها كان توقيفيا من الرسول صلى الله عليه وسلم بوحي من الله تعالى عن طريق الملك جبريل عليه السلام كما هو ثابت في الأثر.

وفي هذا الصدد، يقول الإمام عليّ عليه السلام ما مفاده: "إن الطريقة التي تم بها جمع القرآن الكريم في المصحف الشريف (يقصد مصحف عثمان)، لا تمس الأهداف السامية للنص المقدس، ما دام تفسير أو تأويل أية آية من الآيات، يتطلب الأخذ بعين الاعتبار جملة الآيات التي تشترك معها في نفس المعني".  ويعتبر هذا الكلام بامتياز، المصداق العملي لمنهجية الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في تفسير القرآن بالقرآن.

في كتابة القرآن

قبل التطرق إلى طريقة جمع القرآن في المصحف العثماني وما طرحته مسألة إتلاف مصاحف الصحابة من لغط للتشكيك في ترتيب القرآن الكريم كما هو بين أيدينا اليوم، لا بد من التطرق لموضوع النسخ أو التدوين زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، والذي اعتمد كأساس لوضع مصحف عثمان إلى جانب مسألة الحفظ.

فقد عرف العرب وسائل الكتابة قبل الإسلام، وخصوصا على الجلد والرق والورق وغيرهما من المواد الأولية، بحكم أن مكة كانت مركزا تجاريا مهما، تقوم فيه التجارة على توثيق العقود وتدوين الحسابات، بدليل قوله تعالى: (إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمي فاكتبوه) البقرة: 282. وورد في التراث أن صحيفة قريش، وصلح الحديبية، ورسائل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الملوك والأمراء كتبت في مقاطعة بني هاشم، ما يدل على أن النبي كان قد عيّن كتبة ملازمين له يكتبون عنه كل ما يأمر به. هذا بالإضافة إلى أن العرب قبل الإسلام اشتهروا بكتابة المعلقات ووضعها على حيطان الكعبة، كما أنهم جاوروا طويلا أهل الكتاب وكانت بأيديهم كتب يتدارسونها. وقد تكررت إشارات الوحي إلى هذه الكتب في أكثر من سورة وآية. كما خاطب القرآن الكريم العرب بأسماء المواد اللينة التي كانت تستعمل في حينه في الكتابة، كالصحف والقراطيس لقوله تعالى: (إن هذا لفي الصحف الأولى * صحف إبراهيم وموسى) سورة الأعلى – آيات: 18/19، ما يؤكد أن الكتابة كانت قائمة منذ عرف الناس صناعة التدوين. وفي الأثر ورد عن إسلام عمر رضي الله عنه، أن أوائل سورة (طه) كانت مكتوبة في رقعة في بيت فاطمة بنت الخطاب أخت عمر، ولم تكن هذه الصحيفة إلا واحدة من صحف كثيرة متداولة بين المسلمين زمن نزول الوحي في مكة يقرؤون فيها القرآن.  (السيرة النبوية لابن هشام: 1/367 – 368). 

وتذكر كتب السيرة ، أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان له مجموعة من الكتبة مختصون في كتابة الوحي عنه حال نزوله، فقد ورد عن زيد ابن ثابت أنه قال: "كنت أكتب الوحي عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يملي عليّ، فإذا فرغت قال: اقرأه، فأفعل، فان كان فيه سقط أقامه، ثم أخرجُ به إلى الناس" (المعجم الأوسط للطبراني – حديث رقم: 1943 : 2/257). وقد اختلف الرواة في عدد كتاب الوحي ومسألة استمراريتهم ومواظبتهم على تدوينه كاملا من دون انقطاع. فذكر البلاذري في (فتوح البلدان: 66) أسماء أحد عشر كاتبا هم: "أبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن سعيد بن أبي سرح، وعثمان بن عفان، وشرحبيل بن حسنة، وجهيم بن الصلت، وخالد بن سعيد، وأبان بن سعيد، والعلاء بن الحضرمي، ومعاوية بن أبي سفيان، وحنظلة بن الربيع "، لكنه لم يذكر الإمام علي رضي الله عنه، وهو أمر غريب. وذكر الطبري أسماء عشرة من كتاب الرسول صلى الله عليه وسلم، مضيفا إلى قائمة البلاذري الإمام عليّ ومختزلا شرحبيل بن حسنة، وجهيم بن الصلت. أما المسعودي، فقد ذكر ستة عشر إسما مضيفا إلى القائمتين السالفتين أسماء كل من المغيرة بن شعبة، والحصين بن نصيرة، وعبد الله بن الأرقم، والعلاء بن عقبة، والزبير بن العوام، وحذيفة بن اليمان، ومعيقب الدوسي. وأوضح المؤرخ المسعودي في كتاب (التنبيه والإشراف: 246) رأيه بقوله: "وإنما ذكرنا من أسماء كُتّابه صلى الله عليه وسلم من ثبت على كتابته، واتصلت أيامه فيها وطالت مدته، وصحت الرواية على ذلك من أمره دون من كتب الكتاب أو الكتابين والثلاثة، اذ كان لا يستحق بذلك أن يسمي كاتبا ويضاف إلى جملة كتّابه" (جمع القرآن: 40/41 – د. أكرم عبد خليفة الدليمي –– المكتبة العلمية - بيروت: 1971).

ويفهم من كلام المسعودي أن الذين ذكروا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان له أزيد من أربعون كاتبا (أوصلهم العراقي إلى 42 كاتبا في التراتيب الإدارية: 1/115)، إنما خلطوا بين كتبة الوحي وكتبة الرسائل والمغانم والمعاملات والمداينات والإحصائيات وغيرها. وفي هذا الصدد ورد في نفس المرجع السابق عن الإمام الدميري أنه قال: "كان الزبير بن العوام وجهم بن الصلت يكتبان أموال الصدقات، وحذيفة بن اليمان حوض النخل، والمغيرة بن شعبة والحصين بن نمير يكتبان المداينات والمعاملات، وشرحبيل بن حسنة يكتب التوقيعات إلى الملوك" (هدي أهل الايمان إلى جمع الفقهاء الراشدين القرآن: 23). أما عبد البر، فقد سمي في (الاستيعاب: 1/29 – 30) ثلاثة وعشرين كاتبا، وإذا استبعدنا من قائمته الذين ذكرهم كبار المؤرخين لتلك الفترة كالبلاذري والطبري والمسعودي، نجد أنها تزيد عليهم بالأسماء التالية: أبو بكر، وعمر بن الخطاب، وخالد بن الوليد، وعبد الله بن رواحة، ومحمد بن مسلمة، وعبد الله بن عبد الله بن أبي ابن سلول، وعمرو بن العاص.  وذكر الديار بكري أسماء أربعة وثلاثين كاتبا استوعبت كل القوائم المشار إليها آنفا مع زيادة الأسماء التالية: طلحة بن عبيد الله، وسعد بن أبي وقاص، والأرقم بن أبي الأرقم، وعبد الله بن زيد بن عبد ربه، وسعيد بن العاص، وحويطب بن عبد العزي العامري، وأبي سلمة بن عبد الأسد، وحاطب بن عمرو بن حنظلة، وقال: " قيل: إن كتابه نيف وأربعون، وأكثرهم ملازمة له زيد بن ثابت ومعاوية بن أبي سفيان بعد الفتح " (تاريخ الخميس: 22/181) وفق ما ذكر د. أكرم عبد خليفة الدليمي في (جمع القرآن: 41 – 42 دار الكتب العلمية – بيروت 1971).

وبذلك يمكن القول، أنه وباستثناء الخلفاء الراشدين الذين يشهد لهم الجميع بالحرص على حفظ وتدوين القرآن الكريم، وبعض من الصحابة الكرام الذين يُعدّون على أصابع اليد الواحدة، والذين كانت لهم مصاحف خاصة كتبوها باجتهاد منهم بعد وفاة الرسول الأعظم، فإننا نصطدم بخلط كبير واختلاف كثير في المرويات التي يزخر بها التراث حد التخمة في هذا الباب، وبشكل يكاد يكون مجترّا ومكرورا من مؤلف لآخر. ولقد قدمنا ما سلف من أقوال للدلالة على هذه الحقيقة المؤسفة، ألا وهي عدم وجود اتفاق بين المراجع الإسلامية حول العديد من القضايا الدينية التي تهم الأمة، منها هذه المسالة التي يفترض أن تكون مضبوطة ومتفق عليها بحكم ممارسة العرب لصناعة التدوين قبل وأثناء وبعد زمن الرسالة. هذه هي الإشكالية الحقيقية التي تواجه الباحث عند لجوئه للتراث. 

ومهما يكن من أمر، فحسبنا إيمانا ويقينا، أن هذا المصحف الذي بين أيدينا اليوم، هو القرآن الكريم كاملا غير منقوص ولا مضاف إليه مهما ادعى المغرضون، لقوله تعالي: (إنا نحن نزّلنا الذكر وإنا له لحافظون) سورة الحجر – آية: 9. ويستحيل كذلك أن يكون قد مسّه التحريف أو التزوير بدليل قوله سبحانه: (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه) سورة فصلت – آية 42. جفت الأقلام ورفعت الصحف.

خصوصا وأن الثابت من السيرة النبوية وما ورد من حديث شريف في هذا الشأن، أنه في آخر أيام الرسول صلى الله عليه وسلم، كانت كل آيات القرآن منسوخة (مكتوبة) مرتبة في سورها، والسور مكتملة بفواصلها (البسملة) كوحدات مستقلة قائمة بذاتها، لكنها مفرقة في أكثر من مكان. ومعلوم أن جبريل عليه السلام كان يُقرئ الرسول صلى الله عليه وسلم في رمضان القرآن كاملا، وأنه في رمضان الأخير من عمره الشريف أقرأه القرآن مرتين، غير أن السيرة لا تذكر شيء يفيد ترتيب السور الذي اعتمده الرسول صلى الله عليه وسلم أثناء هذه القراءة، والسبب في ذلك يعود وفق الرأي الراجح، إلى قناعة المسلمين عامة بأن الأمر يتعلق بنفس القراءة المتواترة التي انتظمت فيما بعد في المصحف العثماني، ودليلهم على ذلك، أن تنظيم القرآن وفق الترتيب الذي اعتمده الخليفة عثمان وأقره الصحابة الكرام من أنصار ومهاجرين، لم يلقى معارضة تذكر من أحد، بمن فيهم الإمام علي رضي الله عنه – وهو أقرب إلى تجربة الوحي من غيره – والذي أقر صحة الترتيب الذي اعتمد في مصحف عثمان كما سبق القول، بالرغم ممّن قالوا أنه كتب مصحفه الخاص وفق ترتيب النزول وضمّنه التأويل على حواشي التنزيل لتبسيط الفهم للمسلمين، وهو قول فيه نظر ولا يستقيم من الناحية المنهجية والموضوعية على حد سواء، وسيأتي تبيان ذلك عند الحديث عن مصحف عليّ كرم الله وجهه. 

إن الثابت من المرويات التي وصلتنا، أن كتابة القرآن قد تمت في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم. يقول الحارث المحاسبي في هذا الشأن في كتاب (فهم السنن) ما مفاده: "إن كتابة القرآن ليست بمحدثة، فانه صلى الله عليه وسلم كان يأمر بكتابته، ولكنه – أي القرآن - كان مفرقا في الرقاع والأكتاف، والعسب، والقرطاس" (الإتقان في علوم القرآن للسيوطي: 1/129). وقد ذكر ابن حجر: "أن القرآن كان كله قد كتب في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في الصحف والألواح والعسب، لكن غير مجموع في موضع واحد، ولا مرتب": (فتح الباري: 9/15). وجاء في الإتقان: "وإنما لم يجمع في مصحف منظم في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم لأن القرآن كان ينزل مُفرّقا، ولأن السورة ربما نزل بعضها ثم تأخر نزول تتمتها، فكان القرآن يكتب على القطع حتى إذا توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ألهم الله الخلفاء الراشدين جمع القرآن على نسق ما كان يُقرأ في زمن النبي من القطع التي كتبت بين يديه" (الإتقان: 1/136).

ويستفاد من هذه الشهادات التاريخية، أن الذي تمّ بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم هي عملية جمع كل آيات القرآن المفرقة والمكتوبة على المواد والأدوات التي كانت تستعمل للكتابة في عصر الرسالة في مكان واحد على شاكلة "صحف" (قطع مُجمّعة).  وتذكر السيرة النبوية كذلك، أن الرسول صلى الله عليه وسلم، كان له فريق من الكتبة كما سبقت الإشارة، مكلفون بتدوين آي القرآن مباشرة بعد نزوله.  يقول السيوطي في هذا الصدد: "كل آي القرآن كان مكتوبا في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، لكنه لم يكن منظما ولا مجموعا في مكان واحد". لكن مثل هذا الكلام، لا يعني أن القراءة لم تكن منظمة وفق ترتيب معين للسور بتوقيف من الملك جبريل للرسول الكريم كما سبق القول، وحسب الترتيب الذي أرادع الله، بدليل ما هو ثابت بنص كلامه سبحانه وتعالى في سورة القيامة: الآيات من 18 إلى 19، والتي تفصل القول في هذا الأمر بشكل لا يدع مجالا للشك.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق