بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 7 يناير 2019

في معنى لفظ "قرآن"



كما هو الأمر في معظم القضايا الدينية، ليس هناك اتفاق بين المفسرين والباحثين في علوم القرآن حول المعنى الدقيق لكلمة "قرآن". ذلك أنهم اختلفوا حوله فانقسموا إلى أربع فرق:

ü   الفريق الأول يقول: أن لفظ  "قرآن" غير مهموز "قران"، يعني أنه ليس من القراءة باعتبار أنه اسم علم (بفتح العين واللام) - غير مشتق من جذر لغوي  مثل "التوراة" التي هي اسم علم للكتاب الذي أنزل على موسى عليه السلام، ومثل الإنجيل الذي هو أيضا اسم علم للكتاب الذي أنزل على عيسى عليه السلام... / ...

 ومن هذا الفريق نجد على سبيل المثال:

   -  الإمام الشافعي: الذي يقول أن لفظ "القرآن" المعرّف بـ (ال) ليس مشتقا ولا مهموزا، بل ارتجل ووضع علما على الكلام المنزل على النبي صلى الله عليه وسلم، وبالتالي، لا يعتبر الشافعي أن كلمة القرآن قد أخذت من الجذر العربي "قرأ" بمعني "تلى"، لأن الأمر لو كان كذلك لكان كل ما قرئ قرآنا، ولكنه اسم علم مثل التوراة والإنجيل (لسان العرب لابن منظور، مادة قرأ: 3/42).

ü   الفريق الثاني يقول: بأن القرآن لفظ مشتق من "القرءة" بمعنى "التلاوة".

ومن هذا الفريق نجد على سبيل المثال:

   -  اللحياني: الذي يقول انه مصدر مهموز بوزن الغفران، مشتق من (قرأ) بمعني تلا، سُمّي به المقروء تسمية للمفعول بالمصدر (الإتقان في علوم القرآن للسيوطي: 1/113).

   -  والزرقاني: الذي يقول أن لفظ القرآن في اللغة مصدر مرادف للقراءة، ومنه قوله تعالى: (إن علينا جمعه وقرآنه * فإذا قرأناه فاتبع قرآنه) سورة القيامة: 17 - 18.  حيث نقل المعنى من هذا المصدر وجعله اسما للكلام المعجز المنزّل على الرسول محمد صلى الله عليه وسلم من باب إطلاق المصدر على مفعوله. هذا هو ما اختاره الزرقاني استنادا إلى موارد اللغة وقوانين الاشتقاق وفق قوله. ويضيف في ذات السياق، أن لفظ "قرآن" في الأصل مهموز، وإذا حذف همزه فإنما ذلك للتخفيف، وإذا دخلته (ال) بعد التسمية فإنما هي للمح الأصل لا للتعريف (مناهل العرفان للزر قاني: 1/14).

ü   الفريق الثالث يقول: بأن لفظ "قرآن" مشتق من "قرائن"، لأن آياته تشبه بعضها بعضا.

ومن هذا الفريق نجد على سبيل المثال:

-       أبو زكريا الملقب بالفراء، وهو من من علماء الكوفة وكان وأبرع أهل زمانه نحوا ولغة وأدبا، ولُقّب بالفراء لأنه كان يفري الكلام أي يصلحه، وهو صاحب مقولة أن لفظ "قرآن" مشتق من قرائن (جمع قرينة)، لأن آياته يشبه بعضها بعضا، فبعضها قرينة على بعض، وأن النون في قرائن تعتبر أصيلة (المدخل لدراسة القرآن الكريم – محمد أبو شهبة - ص 19).

ü   الفريق الرابع يقول: أن لفظ "قرآن" مهموز، لكنهم اختلفوا في صيغته. فمنهم من قال أنه بمعني "الجمع": قرأت الماء في الحوض: أي جمعته. وسمّي "قرآن" لأنه جمع للسور بعضها إلى بعض. وآخرون قالوا أنه لا يقال لكل جمع قرءان، إنما سمّي قرءانا لكونه جمع ثمرات الكتب والرسالات السابقة له. وقيل لأنه جمع أنواع العلوم كلها. وقال آخرون أنه سمي قرآنا لأن القارئ يظهره ويبيّنه، والقرآن يلقطه القارئ من فمه ويلقيه فسمّي قرآنا. (مدخل إلى القرآن الكريم – ج 1 –  د. محمد عابد الجابري).

ومن هذه الفريق على سبيل المثال:

-  إبراهيم السري الزجاج، المكنّي بأبي إسحاق: الذي يقول إن لفظ (قرآن) مهموز على وزن فعلان، مشتق من (القرء) بمعني الجمع، ومنه قرأ الماء في الحوض إذا جمعه، لأنه جمع ثمرات الكتب السابقة (الإتقان في علوم القرآن للسيوطي: 1/113).

ومهما يكن من أمر، فالذي يتبين من الثرات هو أن علماء السلف قد تعذر عليهم تحديد المعنى الدقيق للقرآن الكريم بالتعاريف المنطقية، استنادا إلى أجناس وفصول اللغة، والأصل عندهم هو الترجيح العقلي بين مختلف المعاني كما حدث مع التفسير أيضا.

والحقيقة أن كل كتب التراث لا تساعد على تحديد لفظ القرآن بالمعنى الذي يقطع الشك باليقين ويتفق عليه الجميع، وسبب ذلك أن العربية وإن كانت لغة العرب الشفهية، إلا أنه لا يوجد إجماع منطقي حول المعاني التي تعطيها الكلمات بإسنادها إلى جذرها اللغوي، بسبب الفرق القائم بين المعنى المعجمي (اللغوي) من جهة، والمعنى الاصطلاحي (المتعارف عليه بين القوم) من جهة ثتنية، والمعنى المحوري الذي يفيده التركيب في إطار الكلام من جهة ثالثة. وهذا ما يتبين من عديد المراجع اللغوية بما في ذلك المعاجم على كثرتها.

لكن أحسن ما يمكن الاعتماد عليه لتفسير مفردات القرآن الكريم بشكل دقيق هو كتاب "مفردات القرآن الكريم" للراغب الأصفهاني، و"معجم مقاييس اللغة" لابن فارس الذي أبدع في منهج البحث عن "الدلالة المحورية للجذر اللغوي"، أي الدلالة التي تدور حولها كل استعمالات اللفظ بمختلف اشتقاقاته. ذلك أنه إذا كانت أفضل وسيلة للوقوف على الدلالة اللغوية للفظ عربي هي بالعودة إلى المعنى الذي يعطيه الجذر، فإنه بالنسبة للقرآن تعتبر أحسن وسيلة لفهم المفردة القرآنية هي بالعودة إلى القرآن نفسه من خلال تجميع جميع الآيات المحتوية على نفس المفردة، ومن ثم محاولة الوقوف على معناها الحقيقي من خلال طريقة استعمالها في مختلف السياقات، وهذا لعمري هو المنهج الذي أوصانا به الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بقوله (القرآن يفسر بعضه بعضا)، ولم يقل أن قواعد اللغة هي من تفسره، لأن القواعد اللغوية لم تكن موجودة زمن التنزيل، بل استنبطت من نصوص الشعر الجاهلي والقرآن من بعده في زمن متأخر، وهذا يعني أن القرآن ليس منتجا ثقافيا عربيا تأثر باللغة كما ذهب إلى ذلك بعض الباحثين الحداثيين كنصر حامد أبو زيد نقلا عن الدراسات الغربية التي تناولت الأناجيل باعتبارها منتوجا ثقافيا بشريا، لأن القرآن باعتباره كلاما إلهيا، لم يتقيد بالدلالة القديمة التي تعطيها اللغة في أصلها، بل استعمل اللغة وهيمن عليها لينتج دلالته الجديدة الخاصة به في إطارها، فأثر في اللغة وفي الثقافة على حد سواء.

وكمثال على منهج البحث عن "الدلالة المحورية" الذي أشرنا إليه إعلاه، فإنك لو استجمعت كل الآيات التي وردت فيها كلمة "دين"، فستكتشف أن هناك دينين فقط، دين الإسلام ودين الكفر، ولا وجود لشيئ إسمه الديانة اليهودية والديانة المسيحية أو غيرهما من الديانات كما دأب المسلمون على تسميتها. ونفس الشيئ يقال بالنسبة للإسلام، باعتباره الدين الوحيد الذي ارتضاه الله للعالمين، وكل من آمن بالله منذ آدم صعودا وإلى محمد هبوطا مرورا بكل الأنبياء والرسل عليهم السلام جميعا كانوا مسلمين بشهادة القرآن، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم لم يأتي بدين جديد إسمه الإسلام كما زعن عديد الفقهاء، بل أكمل نفس الدين بمكارم الأخلاق. وهكذا الأمر مع بقية المفردات وإن اختلفت السياقات التي وردت فيها.

لا يسمح المجال هنا للخوض في مثل هذه التفاصيل لرصد مجمل الفروقات القائمة لدى المسلمين بين الدلالة القرآنية للكلمة وما رسخ في أذهانهم من تعاريف خاطئة، فقد يتطلب الأمر كتابة آلاف الصفحات في هذا الشأن، وهو عمل ليس بالسهل ويتطلب جهدا جماعيا.

وعودة للفظ القرآن الذي هو موضوع مبحثنا هنا، وبعد أن رصدنا الاختلاف حول معناه بين الفقهاء، ى يسعنا إلا أن نترك جانبا تعريف الإمام الشافعي الذي قال أن القرآن اسم علم كالتوراة والإنجيل، لأنه تعريف مجانب للمنطق اللغوي لم يقل به أحد من الأعلام غيره، سنكتفي بطرح معنيين: الأول لغوي صرف والثاني محوري، بسبب ما تطرحه إشكالية الجذر من صعوبة:

-       المعنى اللغوي:

يقول أصحاب هذا المذهب أن لفظ "قرآن" مشتق من الجذر الثلاثي "قرأ" الذي يفيد القراءة كما سبقت الإشارة، لأن الكلمة هنا وفق المدافعين عن هذا المعنى من الباحثين الغربيين مثلا، مصدرها الأصلي لفظ "قريانا" في اللغة السريانية، أي "قراءة الكتاب المقدس" أو "قراءة الدرس". وهذا تعريف صحيح يتضمن مغالطة كبيرة، لأنه إذا كنا نتفق معهم على أن القراءة لا تعني التلاوة بقدر ما تعني الدراسة للتعلم كما يستفاد من نصوص القرآن، إلا أن اللفظ لا علاقة له باللغة السريانية. ذلك أن العربية لغة أصلية غير مشتقة من أي لغة قديمة أخرى، بل هي أم اللغاة وعمرها زهاء 8 ألف سنة، ومنها اشتقت اللغات جميعها بما في ذلك العبرية، لشمولها على 16 ألف جدر، في حين أن العبرية التي عمرها زعاء 4 ألف سنة لها 2500 جذر فقط. والعربية هي أقدم اللغات التي عرفت في تاريخ البشرية منذ عصر ما بعد الجنة.

وبخلاف المعنى الذي يفيد الدراسة الذي أخذ به الباحثون الغربيون، نجد خلاف ذلك في تراثنا، ذلك أن عديد الفقهاء اعتبروا أن "القراءة" تعني "التلاوة" كالطبري والطبرسي على سبيل المثال لا الحصر، لقول الأخير: أن "القرآن: معناه القراءة في الأصل، من مصدر "قرأت" بمعنى "تلوت" استنادا إلى رواية قال بها ابن عباس جد العباسيين الذي لم يكن فقيها في اللغة ولم يكن أيضا من الصحابة الذين عايشوا مرحلة التنزيل، لأن عمره عند وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم كان 12 سنة فقط. لكنه أصبح مرجعا يعتد به في الحديث والتفسير والتأويل بسبب ما أحيط به من هالة خلال عصر الخلافة العباسية استنادا إلى دعاء منسوب للرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل)، وهو حديث مروي عن معاوية بن صالح عن طريق علي بن أبي طلحة، اعتمد عليه البخاري كثيرا في شرحه لآيات القرآن الكريم، هذا علما أن معاني ودلالات القرآن ليست محصورة في ما قاله ابن عباس أو غيره، لأن كلام الله كنز لا ينفذ من المعاني المتاحة لكل من عمل على تدبر آياته عبر العصور والدهور، بدليل أن الإمام عليّ عليه السلام، وقد كان أقرب الناس لتجربة الرسول الكريم صلى الله عليه ةوسلم مع الوحي، إلا أنه حين سُئل: هل خصّكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيئ من الوحي؟ قال: (لا والذي خلق الحبة وبرأ النسمة، إلا فهما يؤتيه الله رجلا في كتابه".

وبالتالي، فكل ما قيل عن صحة تفسير السلف لا قيمة علمية له لأنه يضع النص في معاني مغلقة تجعله غير صالح لكل مكان وزمان، هذا فيما فهمه يتوقف على تدبر آياته وفق صيرورة التطور ومستجدات الواقع من زمان إلى آخر، وذلك من خلال القراءة التي تعني حرفيا أن يقبل المؤمن على التعلم في مدرسة الله وعلى يده ليوحي له ما يشاء من معاني تستقر في  روعه فيحصل له الفهم الذي يقبله العقل ويرتاح له القلب ويساعده على فهم متغيرات الواقع والتعامل معها بوعي ومسؤولية. لأن الله هو من علّم الإنسان ما لم يعلم، وهو القائل في كتابه الكريم: (فتعالى الله الملك الحق ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل ربي زدني علما) طه: 114. وواضح أنه لو كانت معاني الوحي محدودة لما حث الله عباده على طلب الزيادة في العلم منه شخصيا لا من الفقهاء.

والذين أخذو بالمعنى اللغوي من المفسرين العرب استنادا إلى اشتقاق اللفظ من (قرأ - يقرأ - قراءة - وقرءانا)، يستدلون على ذلك بما ورد في أول آية من أول سورة نزلت من القرآن لقوله تعالى لرسوله الكريم: (اقرأ باسم ربك الذي خلق) العلق: 1،  وهو ما يفيد - وفق زعمهم - أن أمر القراءة باللسان جاء بمعنى التلاوة، ويؤكد هذا المعنى - وفق رأيهم - عديد الايات مثل قوله تعالى: (وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القران والغوا فيه لعلكم تغلبون) فصلت: 26، الأمر الذي يشير إلى معنى السماع لكلام يُتلى باللسان. وقوله: (وقرآنا فرّقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا) الإسراء: 106. وقوله (فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم) النحل: 98.

لكن مشكلة هذا النوع من التفسير الظاهري والسطحي، أنه يخلط بين القراءة والتلاوة برغم اختلاف المعنى بينهما لورودهما في القرآن بمعنيين مختلفين، ذلك أن القراءة هي غير التلاوة لما يعنيه المصطلح الأول من تعلم بالتدبر للفهم والإدراك والعمل بما تمت معرفته لقوله تعالى: (إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون) الزخرف: 3، وواضح أن الآية تشير إلى الهدف من القراءة الذي هو التدبر بالعقل لحصول العلم والمعرفة. هذا فيما يفيد المعنى الأول التلاوة للتبرك والأجر دون عناء البحث عن المعنى المراد من كلام الله.

-       الدلالة المحورية:

لا يختلف أصحاب المنهج المحوري مع ما ذهب إليه أصحاب المنهج اللغوي من أن مصدر لفظ "قرآن" هو "قرأ"، لكن الاختلاف هو حول معنى الجذر، هذا بالرغم من أن أصله في اللغة القديمة "القرء" بمعنى الجمع والضم، كأن يقال "قرأت الماء في الحوض"، بمعنى الجمع والضم في مكان واحد. ويقال أيضا في لغة العرب القديمة "ما قرأت الناقة جنينا" بمعنى أنها رحمها يضمّ جنينا".

ويرى أصحاب المنهج المحوري كابن فارس مثلا، الذي يعتبر أن المنهج الذي يعطي للفظ معناه الحقيقي أو "المحوري" هو وحده القادر على تحديد دلالة اللفظ بالدقة المطلوبة، بدليل أن اللفظ إذا ورد في القرآن الكريم يحتفظ بمعناه الجذري في كافة الآيات برغم اختلاف السياقات. وهذا هو المعنى الذي قال به الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في تفسير القرآن بالقرآن، سواء على مستوى اللفظ أو عند إرجاع المتشابه إلى المحكم في عملية التأويل، أي إرجاع المعنى المتشابه إلى أصله الأول الذي يعطيه جذره كما استعمله القرآن.

وبذلك، لا يعتبر تفسير القرآن بالشعر ولغة العرب القديمة تفسيرا دقيقا، بل يجب تأويل معنى اللفظ للوصول إلى الدلالة المحورية من طريقة استعمال القرآن للفظ في الآية. لأن القرآن وإن كان نزل بلسان عربي مبين كما يؤكد الله تعالى في سورة الشعراء –آية: 195، إلا أنه أخضعه لمنظومة دلالات جديدة لم تكن معهودة في ثقافة العرب بالضرورة. ويستشهد أصحاب هذا المنهج على ذلك بما ورد في الآيات من 16 إلى 19 في سورة القيامة لقوله تعالى: (لا تحرك به لسانك لتعجل به * إن علينا جمعه وقرآنه * فإذا قرأناه فاتبع قرآنه * ثم إن علينا بيانه). ما يفيد أن القرآن لا يمكن فهمه بعجالة من خلال سرعة تحريك اللسان بالتلاوة، بل بالقراءة المتأنية والمعمقة التي تعني التأمل والتدبر للتعلم وحصول الفهم المراد من صاحب الكلام. وأن جمعه وقرآنه، أي ترتيب آياته التي نزلت مفرقة في سوره وجمعها في كتاب هو كجمع الماء في الحوض، وقد تم هذا الجمع وفق ما يفهم من الآية بمعرفة الله تعالى، وقراءته على الرسول صلى الله عليه وسلم من قبل جبريل عليه السلام تمت وفق هذا الترتيب الرباني الذي وضعه تعالى وأمر الرسول باتباعه.

وإذا كانت الآيات تبدوا كالنجوم المتفرقة في قبة السماء في الليلة الظلماء لا يستطيع الاهتداء بها إلا من له دراية بعلم الفلك لقوله تعالى (وعلامات وبالنجم هم يهتدون) النحل: 16، فقد وضع الله في القرآن علامات يهتدي بها الدارس إلى المعنى المراد من كلام الله، ما دام سبحانه قد تكفل في الآية 19 من سورة القيامة المذكورة أعلاه ببيان دلالات آياته لمن يتقرب إليه بدراسة قرآنه على يده وفي مدرسته.

وبذلك تكون القراءة هي دراسة ما تم جمعه في الكتاب من خلال التدبر بالعقل ليفتح الله على القارء المعنى المراد من خطابه بنور الوحي الذي يقذفه في الروع كالوميض ليستقر في القلب، بدليل ما ورد في الآية 114 من سورة طه: (ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل ربي جدني علما).

ويؤكد معنى "الجمع" الذي يعطيه الجذر "قرأ" ما ورد في القرآن من ذكر للأولين، سواء من خلال القصص أو السنة بل وحتى الشرائع. ولم يكتفي القرآن بذلك فحسب، بل وجمع أيضا كل حقائق الوجود قبل الخلق وأثناءه وبعده وصور نهاية مرحلة الحياة على الأرض وبداية مرحلة حياة الخلود يوم القيامة، وكل ذلك بصيغة الماضي، وكأن الله يحدثنا عن شيئ وقع في علمه العظيم، ما يعطي للوقائع والحادثات قوة ومصداقية تتجاوز مجال الخيال.

خلاصة لا بد منها

وبالمحصلة نستطيع القول، أن المعضلة التي نتجت عن اختلاف العلماء في تفسير لفظ "قرآن" برغم اتفاقهم حول جذره، تكمن في أن الغالبية العظمى من المسلمين بسبب الجهل الذي نجم عن تحالف الفقهاء والإقطاع، أخذوا بمفهوم التلاوة للتبرك والأجر، مفضلين الركون لما تركه السلف من تفاسير لا تمثل الحقيقة بالضرورة بقدر ما تمثل فهمهم النسبي لكلام الله. هذا بالرغم من أن الله حثهم على تعلم الحقائق من القرآن في مدرسته، من خلال تدبر آياته في الكتاب والكون، ليبيّن لهم المعنى المراد من خطابه، لقوله تعالى: (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوبه أقفالها) محمد: 24. وقد انعكس هذا الوضع سلبا على ممارسات المسلمين التي لا تتطابق قولا وفعلا مع كلام الله كما هو معلوم اليوم للجميع.

وبالرغم من هذه النتيجة السلبية، إلا أن هناك أمر إيجابي جدا يسمح لنا بالاستناد إليه في تحليلنا ونقدنا للتراث في إطار تصحيح وتجديد المفاهيم، ويتعلق الأمر بالقرآن الكريم، لأنه إذا كان تاريخ وثقافة ونصوص المسلمين عرفت نفس معضلة التزوير التي طبعت الثقافة اليهودية والمسيحية بما في ذلك كتبهم المقدسة، فإن النص الوحيد الذي نجى من معول التحوير بالنسبة للمسلمين هو القرآن الكريم. وصدق الله العلي العظيم حين قال: (إنا نحن نزّلنا الذكر وإنّا له لحافظون) الحجر: 9. وبذلك يكون الله هو خير حافظ، وكل شك في جمع القرآن وترتيبه وحفظه كما أنزله تعالى على رسوله هو شك في كلامه نستعيذ بالله من أن نسقط في مستنقعه، وهو الموضوع الذي سنتناوله بإسهاب من خلال الحديث عن جمع القرآن ومصاحف الصحابة التي أثارت الكثير من اللغط وأسالت الكثير من المداد.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق