بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 22 فبراير 2022

الدين في خدمة السياسة (2/1)

 

(ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب)

النحل: 116

في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء من بعده، لم يكن هناك اهتمام بشيء اسمه "الفقه"، ولم يذكر أحد من الصحابة المقربين أو التابعين حاجة المسلمين الي "أصول الفقه" لوضع مناهج للتشريع الاسلامي. وإنما نشأت الحاجة إلى مثل هذه القواعد، وفق ما ادعاه أصحاب المذاهب، من الخوف على الوهن الذي قد يصيب اللغة العربية بسبب المدّ الاسلامي واختلاط العرب بغيرهم من الأمم من جهة، والحاجة الي منظومة تشريعية كضرورة زمنية فرضها واقع اتساع جغرافية الأمة، وما نجم عن ذلك من كثرة تجدد الحوادث وتعقد المسائل بسبب تنوع مسالك الحياة وتشابك العلاقات.../...


غير أن مثل هذه المقولة التبريريّة، قد سقطت في شقها الأول، عندما تبيّن لاحقا أن اللغة العربية ليست من "علم الأصول" ولا تستخدم على هذا النحو، وبالتالي فلا يمكن اعتبارها أصلا من الأصول (الموافقات – ج: 1 – ص:18). مما اضطر الفقهاء للاكتفاء بالتركيز على الشق الثاني المتمثل في ضبط قواعد استنباط الأحكام على أساس القياس الاقتراني أو دليل الملازمة في القياس الاستثنائي.. هذا بالرغم من أن الفتوحات الإسلامية انطلقت في زمن الخلفاء الراشدين، في حين أن زمن ظهور المذاهب الكبرى نفسها، جاء متأخرا جدا عن مرحلة التأسيس الأولى وما تلاها من اتساع لجغرافية المسلمين التي اتخذها الفقهاء لاحقا كحجة لوضع أصول التشريع. 

ولذلك، تعتبر الاتجاهات المذهبية في مجملها، أدوات سياسية بامتياز وان ارتدت لبوس الدين، حيث جاءت بمثابة استمرار للخديعة السياسية الكبرى التي استغل فيها الدين في خدمة السياسة، والتي تمثلت أول مرّة في رفع المصاحف لوقف القتال بين معاوية والإمام علي في موقعة صفّين، واتفاق أبي موسي الأشعري وعمرو بن العاص على التحكيم بذريعة حقن دماء المسلمين. وهو ما أصّل لسابقة فقهية خطيرة تجيز الخروج على الجماعة الإسلامية في المواقف السياسية الدقيقة باسم الدين. وكان من الطبيعي والحال هذه، أن ينتُج عن هذه الفاجعة، والتي عرفت بالفتنة الكبرى، ظهور تيار "شيعة علي" الذين تعرّضوا للخديعة، في مواجهة ما اصطلح على تسميتهم في حينه بـ: "أهل السنة والجماعة" المؤيدين للداهية معاوية بن أبي سفيان. فانقلبت بذلك معادلة سمو الدين على السياسة، لصالح هيمنة السياسة على الدين. 

وتذكر كتب السير أن الإمام علي لم يكن يرغب في الخلافة، بل هرب منها كما فعل بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث ظل بجانب جثمانه الطاهر منشغلا بإعداده للدفن، في الوقت الذي كان فيه حزب نبلاء قريش مجتمعا في سقيفة بنو ساعدة يتداول في أمر الخلافة كما هو معلوم.

وبعد مقتل عثمان بن عفان نتيجة حملة تحريض مُغرضة، اتخذت طابعا دينيا تكفيريا، قادتها عائشة وثلة من كبار الصحابة: (طلحة بن عبد الله و الزبير بن العوام وعمر بن العاص و عبد الرحمن بن عوف و عبد الله بن عباس و عمار بن ياسر و أبو ذر الغفاري و محمد بن حذيفة و سعد بن وقاص...) وغيرهم ممن وردت أسمائهم في صحيح الأثر: (المصنف للصنعاني: ج1، ص447)، و (الطبقات الكبرى: ج3 ص292 ) و بن حنبل في (المسند: ج42 ص84)، ورواه بن كثير بإسناد صحيح في تاريخه: (البداية والنهاية: ج7 ص218 ) وفي: (غريب الأثر: ج 5 ص 68)... وغيرها من المراجع التي تزخر بها المكتبات الإسلامية وتتفق معظمها علي أن ذبح عثمان بن عفان الذي أخطأ في السياسة على يد الخوارج، كان نتيجة تحريض ديني واضح من عائشة التي خرجت في الناس رافعة قميص الرسول صلى الله عليه وسلم، متهمة عثمان بأنه بدّل سنّة نبي الإسلام قبل أن يبلي قميصه.. فاغتنم معاوية بن سفيان مقتله مطالبا بالثأر لدمه، والتحقت به عائشة، لكن هذه المرة لترفع قميص عثمان، مُطالبة بمعاقبة قاتليه.   

وفي خضم فوران نار الفتنة الصغرى التي نشبت على خلفية مقتل عثمان، اجتمع المسلمون على مبايعة الإمام علي، فقادوه الي المسجد ثم خانوه لصالح معاوية الذي قدم لهم العهود العظيمة وأقسم لهم بالأيمان الغليظة، إلا أنه نكث بوعوده وعهوده كلها، فغدرهم بعد أن تمكن من الأمر، وعثا فيهم ظلما وقتلا وتنكيلا... وجاء بعده ابنه اليزيد ابن معاوية الذي أحرق القرآن وقصف الكعبة بالمنجنيق والزيت والنار، وذبح آل البيت كما تذبح الخراف.. فكانت كربلاء التي استشهد فيها الحسين، واعتبرت من قبل الشيعة معركة الشهادة التي انتصر فيها الدم على السيف، وقال عنها الشريف الراضي أنها كانت للمسلمين "كرب وبلاء". 

وبسبب هذه الأحداث السياسية الدامية والحزينة في تاريخ المسلمين والتي تطورت من فتنة صغري إلى فتنة كبرى، وقعت مجموعة شروخ في الجماعة الإسلامية، فاعتزل بداية عدد من الصحابة الأوائل، تحت ذريعة عدم معرفة الحق في الصراع الدائر بين معاوية وعلي، فيما انقسم بقية المسلمين إلى فرق واتجاهات فكرية مختلفة، منها ما سُمّي بتيار "الإرجاء" المعروف بخطه المهادن والمساير للأمر الواقع المفروض بسيف السلطة القائمة. وتلى ذلك ظهور سيل من المفكرين والفلاسفة من أهل "الكلام"، فحاول كل من جهته إعادة فهم الدين على أسس عقلانية، دون إغفال معطيات الواقع، وهم المعتزلة "الأصوليين" كما كانوا ينعتون من قبل خصومهم، لتمسّكهم بمنهج العقل في تأصيل العقيدة والشريعة بدل منهج النقل. ومن رحم الاعتزال، خرج تيار "الأشاعرة" الذي سوّق نفسه كتيار وسطي معتدل، بين "المعتزلة" أهل البرهان و "السنة والجماعة" أهل البيان المنضوين تحت لواء "التيار السلفي" الذي اشتهر بتكفيره للمخالفين له في العقيدة، ومحاربة المعارضين له في السياسة. وقد قامت العقيدة الأشعرية أساسا على مبدأ عدم تكفير المسلمين لبعضهم البعض وحرمة دمهم. كما ظهر تيار آخر تخلي عن اعتماد منهج النقل أو إعمال آليات العقل في فهم الحقيقة الدينية، لحساب الجبر والتسليم بالقضاء والقدر، وهم "القدريّة". ومن المفارقات الغريبة، أن يكون معاوية ابن أبي سفيان هو أول من قال بالجبر والتسليم بالقضاء والقدر، وأن توليه لشؤون الناس كان بإرادة من الله وقضائه. وهو ما استنكره الشيعة، الذين كانوا على غرار المعتزلة، يُسوّقون لمبدأ مسؤولية الانسان عن أعماله، وحرّيته في تقرير مصيره، إلا أنهم خالفوهم في مسألة أحقية آل البيت بالإمامة دون سواهم من المسلمين، وهو ما ميّزهم في السياسة عن بقية الاتجاهات الفكرية التي كانت قائمة آنذاك.

ومن أبرز الفرق التي ظهرت في خضم هذا الصراع السياسي: فرقة "الخوارج". وتعتبر هذه الفرقة من أشد الفرق تعصبا لموقفها القائل ب "البراء"، والرفض للخليفة عثمان وعلي وحكام بنو أمية أجمعين، بسبب إيثارهم لحكم الدنيا ورفضهم إيقاف الاحتقان، وتميّزت دعوة الخوارج بإعمال مبدأ الشورى والاختيار في البيعة على قاعدة انتقاء الأكفأ والأصلح من بين المسلمين، بغض النظر عن الحسب والنسب، والمال والجاه، واللون والعرق، مع ضرورة مسائلة أمير المؤمنين عن كل صغيرة وكبيرة، وعدم حاجة الأمة إلى خليفة زمن السلم. وقد تميز فكر الخوارج عموما بمبدأين أساسين:

- الأول: تحكيم ظاهر النص من كتاب وسنة، حتى لو أدى ذلك إلى نتائج مناقضة لمقاصد الشريعة.

- الثاني: رفض الآخر المخالف، وإسقاط مبدأ الاختلاف من أساسه، حيث جزموا بتلازم الاختلاف في الرأي مع اختلاف الحق في ذاته، وقد أدى بهم ذلك إلى تكفير الآخر، وهدر دمه، بل وعدم قبول توبته.

ونُعت الخوارج بـ "الظاهرية" منذ أن رفعوا شعار: "لا حكم إلا لله" في قضية التحكيم بين معاوية وعلي، وهو شعار ديني مقدس، لا يسع أي مسلم أن يتنكّر له، غير أنه رفع في مواجهة موقف سياسي بحث. وهو ما حدي بالإمام علي إلى رفضه والتعليق عليه بمقولته الشهيرة: "كلمة حق أريد بها باطل". وفسّر الشيعة كلام الإمام، بأنه رفض لموقف مُلتبس، ووقوف في وجه من أرادوا إعمال ظاهر النص لتعطيل العقل في حياة المسلمين. خاصة وأن الإمام علي أعقب مقولته تلك بالتوضيح التالي: " أمّا إنّي أعلم أنه لا حكم إلا لله، ولكن هؤلاء يريدون لا إمرة إلا لله، أما إنه لا بد للناس من أمير، يُجبي الخراج ويكتب الديوان وينكأ العدو". 

والفرق واضح بين الحكم الذي يعني إقامة شرع الله، والإمرة التي تعني تولي شؤون المسلمين الدنيوية. وبذلك يتداخل الديني والسياسي في دور الأمير، ويصعب بالتالي الفصل بينهما في حالات التناقض التي كان يراها الخوارج قائمة لا محالة بين العقل والشرع. وهو الأمر الذي دفع الإمام علي الي رسم الملامح الأولى لما سيعرف فيما بعد بالتجديد والاجتهاد في مجال الدين، انطلاقا مما اصطلح على تسميته عند الشيعة بـ: "الفلسفة النبوية" أو "علم القلوب"، والتي تمزج بين الشرع والعقل في فهم ومعالجة أمور الدين والدنيا معا.

ويستند الخوارج في دعواهم إلى أن النصوص المرجعية من كتاب وسنة، قد قالت كلمتها في كل شيء، وأن دور العقل ينحصر فقط في فهم هذه النصوص في حدود المعاني التي تعطيها ظاهر الآيات والأحاديث، وأن قياس النص على أمر لم يتناوله صراحة، إنما هو عبث وافتئات على الله ورسوله، وأن في النصوص من إعجاز وبيان ما يغني عن الحاجة إلى وجود مصدر تشريعي آخر، ويستدلون في ذلك ببعض نصوص القرآن والسنة من مثل قوله تعالى: (ما فرّطنا في الكتاب من شيء)، وقوله: (ونزّلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء)، وقوله: (كتاب فُصّلت آياته ثم أحكمت من لدن حكيم خبير)، وقوله: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً). وقول الرسول الكريم صلة الله عليه وسلم في إشارة الي القرآن: (تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك)، وقوله المزعوم في إشارة إلى القرآن والسنة معا: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا أبداً كتاب الله وسنتي). غير أن الشيعة رفضوا هذا الحديث وعدّلوه ليتناسب مع عقيدتهم في الإمامة مستبدلين كلمة "سنتي" بـ "عثرتي" التي تحيل على آل البيت، ليصبح نص الحديث: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا أبداً كتاب الله وعثرتي). ويتحجّج من يُسوّق لمثل هذه التهمة، بأن الأصل هو ما استند إليه الخوارج، لحرصهم الشديد على احترام النص والتمسك بحرفيته، ولذلك سُمُّوا بالظاهرية. ومن مفارقات التاريخ أن يستند الإمام مالك فيما بعد، إلى نفس الحديث الذي قال به الخوارج، ليؤسس لمنهجه الفقهي الاستنباطي الذي سيعرف فيما بعد بـ: "المذهب المالكي". 

لكن الجماعة الإسلامية المنتصرة زمن معاوية وما بعده، رفضت فكرة اختزال العقيدة والشريعة في المعاني التي تعطيها ظواهر النصوص، وانفتحت على المقاصد العليا للشريعة باعتماد مبدأ: "حيث ما كانت المصلحة فثم شرع الله".  مما انعكس علي المنظومة التشريعية برمتها، فتجاوزت المصادر أحكام الكتاب، ليتحوّل الحكم بالتالي من "شرع الله" إلى "شريعة الفقهاء"، تحت مُسمّى "الشريعة الإسلامية"، التي جمعت خليط كيميائي مركب من أصول ثلاث: "القرآن – السنة – الاجتهاد" وقد بُني الاجتهاد على القياس، والاستحسان، والاستصلاح، والمصالح المرسلة، والضرورات تبيح المحظورات، والعرف، وشرع من قبلنا من أهل الكتاب، ومذهب الصحابي، وسد الذرائع.. وبذلك سادت مذاهب الفقهاء وانحسر مؤقتا مذهب الخوارج، الذين قال عنهم د. عبد الله العروي في "الإصلاح والسنة"، أنهم كانوا يمثلون النواة الأولي لديمقراطية الشعب، مقابل "ديمقراطية" نبلاء قريش على شاكلة نظام روما التي كانت تمثلها تجربة "أهل السنة والجماعة" المنضوية تحت لواء معاوية، في حين كان الشيعة يسعون إلى إقامة نظام تيوقراطي وراثي.

ويعتبر الإمام مالك بن أنس أول من افتتح مسيرة التشريع في القرن الثاني الهجري في الحجاز، تبعه بعد ذاك الأحناف والشافعية والحنابلة في بغداد. إلا أن أول من دوّن قواعد هذا "العلم" هو الإمام الشافعي من خلال مؤلفه الشهير: (الرسالة)، حيث حدّد الأسس التي تُبني عليها الأحكام، والمقاصد التي ترمي إلى تحقيقها، وأدوات استنباطها، بالإضافة إلى القدرة على فهمها واستيعاب آليات تطبيقها. والغريب أن هؤلاء الفقهاء جميعهم لم يجدوا دليلا واحد من كتاب الله يبرر الحاجة إلى "علم" اسمه "أصول التشريع"، لكنهم في المقابل اكتشفوا بضع أحاديث منسوبة إلى الرسول صلة الله عليه وسلم تأُسّس لذلك، ومنها:

الحديث الأول: رواه معاذ بن جبل، ومفاده أن الرسول لما بعثه إلى اليمن سأله: (كيف تصنع إن عرض لك القضاء. قال: أقضي بما في كتاب الله. قال صلة الله عليه وسلم: فان لم يكن في كتاب الله. قال: فبسنة رسول الله. قال صلى الله عليه وسلم: فان لم يكن في سنة رسول الله. قال: أجتهد برأيي ولا ألو. قال معاذ: فضرب رسول الله صدري ثم قال: الحمد لله الذي وفق رسول، رسول الله، لما يرضي الله ورسوله).

الحديث الثاني: روي البغوي عن ميمون بن مهران أنه قال: (كان أبو بكر الصديق إذا ورد عليه حكم، نظر في كتاب الله تعالى، فان وجد فيه ما يقضي به قضى به، وان لم يجد في كتاب الله نظر في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فان وجد فيها ما يقضي به قضى به، وإن أعياه أن يجد في سنة رسول الله جمع رؤساء الناس فاستشارهم، فإذا اجتمع رأيهم على شيء قضى به. وكان عمر يفعل ذلك).

الحديث الثالث: روي سعيد بن المسيب عن الإمام علي أنه قال: "قلت يا رسول الله، الأمر ينزل بنا لم ينزل فيه قرآن ولم تمضي فيه منك سنة. قال صلى الله عليه وسلم: أجمعوا له العالمين – أو قال: العابدين من المؤمنين – فاجعلوه شورى بينكم، ولا تقضوا فيه برأي واحد).

     وبغض النظر عن السند والمضمون، وعلى افتراض صحة هذه الأحاديث، فان الأول لا يعدو أن يكون حديثا خاصا بنازلة معينة، لا يمكن القياس عليها لتعارضها مع مبدأ الشورى وشرط الإجماع وفق ما يستفاد من الحديث الثاني، وهو نفس المبدأ الذي أكده الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في الحديث الثالث، مما يتوافق مع أمر الله تعالى الوارد في سورة الشورى آية: 38: (وأمرهم شورى بينهم)، وقوله تعالى لرسوله الأمين: (وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم) المائدة: 49، ما يؤكد أن الرسول صلى الله عليه وسلم باعتباره مُبلّغ عن ربّه، وفق ما يعطيه مصطلح "الرسول" من معنى، لم يكن يحكم بما يراه هو، بل بما أنزل الله عليه. 

غير أن الفقهاء كان لهم رأي آخر، فتقولوا على رسول الله ما لم يقله في التشريع لدرجة تعارض عديد الأحكام مع صريح نصوص القرآن، كما أنهم اشتغلوا على التشريع لزمانهم وزمان غيرهم، وبشكل فردي، بعيدا عن الشورى وإجماع المؤمنين. لكن ما حصل، أن الاجتهادات الشخصية لهؤلاء الفقهاء، تحوّلت إلى شرائع اعتمدتها مذاهب تبنّتها على امتداد التاريخ أنظمة بشكل رسمي، فقيّدت بها المجتمعات الإسلامية وفرضت وصايتها على عقيدتها وعقولها. وبذلك أصبحت العديد من التشريعات مباينة لمنهج المنقول، ومخالفة لمنطق العقول، ومناقضة للأصول. 

غير أن المفارقة المثيرة للاهتمام في منهج التشريع، هي اعتماد الفقهاء على أصول ثلاث في استنباط الأحكام كما سبق القول: (القرآن والسنة والاجتهاد). ومشكلة هذا النوع من التصنيف أنه لا يُفرّق بين الأصل والفرع. فإذا كان القرآن هو الأصل بشهادة الرسول صلة الله عليه وسلم وإجماع المسلمين، فكيف يمكن اعتبار السنة أصلا في نفس مستوي القرآن؟ في حين أن الفقهاء أنفسهم يؤكدون أنها مجرد فرع مفسر للأصل ضدا في الحقيقة التاريخية التي تقول أن الرسول لم يفسّر القرآن بالمطلق إلا ما نذر، وأنه لو كان فعل لأصبح نصّا مغلقا غير صالح لكل مكان وزمان. ونفس الشيء يمكن أن يقال بالنسبة للاجتهاد قياسا على السنة. ناهيك عن أن الرسول صلى الله عليه وسلم يستحيل أن يشرع للمسلمين ما يخالف نص وروح كلام الله، وهو الذي قال في إشارة الي القرآن: (تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك). وخطورة هذا النوع من التصنيف الغريب للأصول، أنه أسّس لمنطق مُركّب ومُخادع، مفاده أن الاجتهاد بالمحصلة، هو المنتوج المقدس المبرم والنهائي، المتضمن لشرع الله وسنة رسوله تحت مسمي "الشريعة الإسلامية". 

هذا بالرغم من أن القرآن لم يرد فيه ما يشير إلى شيء اسمه سنة الرسول، بل تكلم تعالي حصريا عن سننه في الكون والخلق، وأمر بإتباع الرسول فيما بلّغه عن ربّه، باعتباره رسولا لا يأتي بشيء من عنده.. بل أمره صراحة بأن يتّبع في طريقته ملّة إبراهيم عليه السلام لقوله: (ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين) النحل: 123. وهو ما يعني إتباع سنة إبراهيم الخليل في التوحيد والعبادة وغيرها من شؤون الدين. إلا أن الفقهاء لمّا عرّفوا السُّنّة بمعني "الطريقة"، أضافوها إلى الرسول محمد ليحصلوا على معادلة جديدة تستبدل سنّة إبراهيم الخليل عليه السلام بسنة محمد صلى الله عليه وسلم، وتشمل: "كل ما أثر عنه من قول أو فعل أو تقرير". وبهذا النوع من التفسير الاصطلاحي، نصبح أمام إشكال يستعص على الحل، ويتداخل فيه الزمني بالمطلق، والتاريخي بالديني، والإنساني بالإلهي، فلا نفرق بين محمد الرسول، ومحمد النبي، ومحمد السياسي، ومحمد القائد العسكري، ومحمد القاضي، ومحمد الانسان الذي كان يأكل الطعام ويمشي في الأسواق.. 

وعلى هذا الأساس، يكون الحل وفق منطق الفقهاء، في العودة للعيش في الماضي زمن قريش، دون إغفال شيء من تفاصيل الديكور، بما في ذلك مظاهر البداوة.. أي الهجرة المعاكسة من المدينة إلى القرية واستبدال الحياة المدنية بالحياة القبلية ضدا في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم الذي هجر قرية مكة إلى مدينة يثرب ليؤسس نظاما مدنيا جديدا بعيدا عن مظاهر البداوة التي كانت تتميز بها القبائل في أم القرى.


يتبـــع...


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق