بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 10 فبراير 2022

ماهيـــة النفـــس

 


(ونفس وما سوّاها * فألهمها فجورها وتقواها)

 الشمس: 7-8

1. النفس في الفلسفة

حيث أن لا معنى للتاريخ إذا لم يكن موضوعه الأفكار، فإن ما يستشف من دراسة تطور الأفكار بشأن النفس من خلال الفلسفة، أنها مرت بمراحل ثلاثة:

المرحلة الأولى: حاولت الفلسفة الإغريقية تحديد مفهوم النفس بالمنطق الاستدلالي القائم على الجدل العقلي، أو ما يسمى بـ "العلم الظني"، لكن من دون جدوى، والسبب أن الفلاسفة الإغريق خلطوا بين النفس والعقل من جهة، وبين النفس والروح من جهة ثانية، فاعتبروا العقل موطن الروح، واعتبروا الروح والنفس شيئا واحدا…/… 

ولعل الفيلسوف أرسطو هو أول من وضع بحثا مستفيضا عن النفس جمع فيه أقوال من سبقوه من الفلاسفة محاولا الخروج بتعريف مُحدّد، لكنه اعترف في النهاية أن "الحصول على معرفة وثيقة عن النفس أمر – على الإطلاق – ومن كل وجه، شديد الصعوبة" (كتاب النفس لأرسطو، ص: 13). ومرد الصعوبة تكمن في محاولته معرفة ماهية النفس عن طريق العقل، وهو أمر مستحيل ما دامت النفس جوهر مُركّب باطن لا عضو جسدي مُجرّد ظاهر يمكن ملاحظته.

المرحلة الثانية: أو ما يعرف بمرحلة الفلسفة الإسلامية التي لم تقدم شيئا جديدا في الموضوع، فقد ذهب ابن سينا مذهب أرسطو في تعريفه للنفس دون تمييز بينها وبين الروح، فيما ميّز الغزالي بينهما، معتبرا أن الروح مشتركة بين الإنسان وبقية المخلوقات بخلاف النفس، وعرفّ الروح على أنها شعلة الحياة في الكائن الحي من إنسان وحيوان، مشيرا إلى أن النفس جوهر لطيف قائم بذاته، ليس في موضع، أي أنها جوهر لا يتلبّس بالجسد كما تتلبّس الروح به، والنفس وفق رأيه خاصة بالإنسان دون سائر الأحياء. وهذا الرأي قال به أيضا الجاحظ وإخوان الصفاء وخلان الوفاء. واتفقوا جميعا على أن الإنسان يُكلّف ويُخاطب لأجل النفس. لكنهم سقطوا في الخلط بين النفس والروح، خصوصا حين خلصوا إلى أن الروح الإنساني هو النفس الناطقة التي ليست بجسم ولا عرض، وأنها من أمر الله، والحديث هنا هو عن الأمر لا العلم، لأن الأمر بطبيعته جوهر ثابت يخضع لكلمة "كن"، لذلك فالروح لا تقبل الفساد، ولا تضمحل، ولا تفنى فيطالها الهلاك، ولا تموت فيحل بها الزوال، بل تفارق البدن لتعود لصاحبها الذي صدرت عنه. والتناقض الظاهر في أقوالهم يكمن في اعتقادهم بحدوث الروح، أي أنها مخلوقة وليست بأزلية، وهذا قد ينطبق على النفس، لكنه لا يستقيم مع الروح المقدسة التي هي نفخة صادرة عن الذات الإلهية الأزلية، وبالتالي فهي غير مخلوقة كما هو حال النفس لأنها من روح الله الأقدس.

أما ابن مسكويه، فكان يجتهد عن طريق العقل لإثبات أن هناك نفس في كيان الإنسان لا سبيل إلى إنكارها أو تجاهلها. ويقول إنه إذا كانت الروح عامة ومشتركة بين جميع المخلوقات، فإن النفس تختلف عن الروح لأنها لا تقبل أكثر من صورة. فإذا كان لكل إنسان صورة خاصة به فنفسه لا تقبل إلا هذه الصورة التي سكنت فيها دون غيرها فتجعل لها ذاتية خاصة تميّزها عن بقية الصور. وهذا التعريف وإن كان منطقيا من حيث الطرح ويتساوق مع تعريف علم النفس الحديث الذي يوازي بين النفس و "الأنا الذاتية"، إلا أنه لا يفصح لنا عن مصدر النفس ومن أين جاءت؟ أهي مُنزّلة من العالم العلوي أم محدثة مثلها مثل الجسم؟  وللهروب من الجواب، يفضل ابن مسكويه عدم التفريق بين النفس والعقل لما بينهما من مشترك لجهة الحواس، كالسمع والبصر والشم واللمس، وهي حواس من خصائص العقل كما أكد العلم ذلك، ما يعني أن العقل بدوره ما هو إلا أداة تستعملها النفس مثله مثل القلب والفؤاد والجسم.

أما الفيلسوف الهندي المعاصر محمد إقبال، فقد خرج برأي مغاير بعد دراسته لما سبق وقيل في شأن النفس من قبل الفلاسفة والمتكلمين، وبسبب تأثره بالفلسفة الهندية، اعتبر أن النفس ليست مُنزّلة من مصدر علوي، لأن أصل الحياة النفسية مادّي صرف، وإذا كانت المادة تضمحل وتتحلّل، إلا أن الأمر ليس كذلك بالنسبة للنفس التي غادرت أصلها المادي وتطورت إلى جوهر لطيف أصبح يتحكم في كل ما هو ماديّ، وقد بنى مقولته هذه انطلاقا من نظرية النشأة والرقي التي قال بها داروين، لكن داروين نفسه لم يقل بإمكانية تحوّل عضو بشري مادي إلى جوهر لطيف غير عضويّ. ومرد هذا التوجه عند إقبال يكمن في إيمانه العميق بالطبيعة القادرة الخلاّقة المبدعة إلى ما لا نهاية بحكم ما أودعه الله فيها من سنن وقوانين تشتغل بموجب طاقة عاملة فاعلة وفعّالة. لكن إقبال حين يقول أن: "الذات الأولى التي تجعل المولود يتوّلد حاضرة في الطبيعة حالّة فيها، مستشهدا بقوله تعالى هو "الأول والآخر والظاهر والباطن"، يكون قد انحاز لمذهب الحلول ووحدة الوجود، وفي ذلك غلوّ وتحريف لكلام الله لا يقبله عقل ولا دين، ولا تُؤيّده الآية التي استند إليها، ذلك أن الله أزلي لا يحدّه مكان ولا يسري عليه زمان بخلاف المادة والنفس المحدثتان. 

المرحلة الثالثة: وتُعرف بالعصر الذهبي للفلسفة العقلانية في القرن السابع عشر ميلادي. ففي هذه المرحلة، حاول الفلاسفة العقلانيون والمثاليون معا التمييز بين النفس والروح من خلال القول إن جوهر الإنسان ليست الروح المشتركة بين المخلوقات جميعا، بل الشعور الذي يُميّز بينهم ومركزه العقل. فالشعور هو الذي يحدد ذاتية الإنسان وفردانيته. وهو تعريف لا يميّز بين العقل والإحساس، لأن ما يميّز بين الإنسان وبقيّة المخلوقات ليس الشعور الذي هو ملكة يتمتع بها كل كائن حيّ، ولا الإدراك الواعي الذي هو وظيفة من وظائف العقل عند البشر، بل والإدراك الباطني أيضا والذي هو خاصية يتميّز بها قلب الإنسان دون غيره. 

لكن اللافت في مسيرة تطور الأفكار، ظهور ولأول مرة في القرن الثامن عشر، رؤية جديدة تسمى "الرؤية الجوهرية"، قال بها الفيلسوف وعالم الاجتماع البريطاني 'جورج بيركلي'، والذي زعم أنه لا يوجد شيء اسمه مادة على الإطلاق، وأن ما يراه البشر ويعتبرونه عالمهم المادي لا يعدو أن يكون مجرد فكرة في عقل الله. ومنذ إذن، أصبحت فكرة أن العقل الإنساني مثله مثل النفس جوهر، أكثر قبولا، وأنه ليس مجرد وظائف دماغية.

أما علم النفس الذي يعنى بدراسة السلوك، فلم ينجح في تحديد ماهية النفس، واعتبر دورة (الأفكار – المجاز – السلوك) خاصية تميّز النفس، وذهب بعضهم حد الجزم بأن مركز النفس هو الدماغ، متجاهلا القلب والفؤاد بالمطلق، بالرغم من الفرق القائم بينهما بالمفهوم القرآني الدقيق. وطوّر سيغموند فرويد في أوائل القرن العشرين نظرية "العقل اللاواعي" والتي تقول بأن العمليات العقلية التي يؤديها الأفراد بوعيهم تشكل جزءا بسيطا جداً من الفعالية العقلية التي تؤديها أدمغتهم. وبذلك، أعاد فرويد إحياء ما يسمى بـ "المذهب الجوهري للعقل"، حيث أضفى على أعماله الطابع العلمي، بالرغم من أنه لم ينكر أن العقل هو وظيفة دماغية، والجديد الذي قال به فرويد في هذا المضمار، هو أن العقل له وظيفة خاصة لسنا واعين بها ولا نستطيع التحكم بها ولا الولوج إليها إلا عن طريق التحليل النفسي الذي يكون موضوعه الأحلام. غير أن هذه النظرية برغم قبولها في الوسط العلمي بشكل واسع، إلا أنها ظلت وإلى اليوم مستحيلة البرهنة تجريبيا من الناحية العلمية، خصوصا إذا علمنا أن فرود طوّر نظرياته المزعومة على المرضى النفسانيين وحاول تعميمها على الكائن البشري الطبيعي.  

وعموما، فقد سقطت معظم نظريات علم النفس التي قال بها فرويد في العصر الحديث، مع نشوء ما أصبح يعرف بـ "الذكاء الاصطناعي"، والذي يعتبر العقل ظاهرة إحيائية تبزغ من الشبكة العصبية للدماغ. وهو ما جعل مفهوم الذكاء الاصطناعي يؤثر بشكل كبير على مفهوم العقل وما دار حوله من جدل قديما وحديثا. بحجة أنه لو كان العقل أعلى من الدماغ ومنفصل عنه وظيفيا، لما استطاعت أي آلة مهما بلغ تعقيدها، ان تشكل عقلا، وتحوّل العقل إلى مجرّد جهاز يراكم الوظائف الدماغية كما يقول بذلك علم النفس. 

2. النفس في القرآن الكريم:

مما سلف نخلص إلى أنه إذا كان العقل هو مجموعة من القوى الإدراكية التي تتضمن الوعي الذي يتم عن طريق التعلم والتفكير والتمييز واللغة والذاكرة، وجميعها تتم عن طريق الحواس من سمع وبصر وشم ولمس، فإن هذه القوى الإدراكية لا تعدو عن كونها قنوات تستعملها النفس لمعرفة العالم الخارجي المحيط بها، فيما يعتبر القلب مركز الإلهام والمصدر الأساس للمعرفة الباطنيّة اليقينيّة، ما يجعل العقل مجرد قناة تستعملها النفس في تكوين وتعزيز قناعاتها التي تحدد سلوكياتها. وبهذا المعنى يعتبر العقل بوابة النفس، فيما يعتبر القلب موطنها لما يكنزه من فطرة في أصل خلقها، أما الفؤاد فيُعرّفه القرآن الكريم على أنه موطن الشهوات والهوى، دون أن يعني ذلك أن النفس عضو من أعضاء الإنسان، بل جوهر غامض أودعه الله في الإنسان دون بقية المخلوقات.

وبالتالي، يستحيل تحديد ماهية النفس ما دام الأمر يتعلق بجوهر معنوي لا يخضع في التحديد للحواس، وإن كانت النفس بطبيعتها مباينة للجسم الإنساني، وبوظيفتها مسيطرة عليه ومُوجّهة له.

لقد وردت مفردة النفس أكثر من 360 مرة في القرآن الكريم، بمعاني ودلالات مختلفة، مرات تدل على الإنسان في كليته، ومرات على طبيعته، وأخرى على ضميره، لكن لا تقبل النفس إلا الصورة التي أرادها تعالى أن تسكنها دون سواها. وقد تناول القرآن الكريم النفس بتفصيل شمل ما تتسم به من أوصاف، لعل أبرزها أنها مجبولة على الهوى، ولديها قابلية للفجور والتقوى، متقلبة الأحوال، متسرّعة، قابلة للتزكية والضلال، ينتابها البخل والشح، ويسكنها الخوف والهلع، ويستبد بها الأمل والرجاء. وقد ذكر تعالى مختلف المراتب التي تمر منها النفس في تجربتها الدنيوية.

وإذا كان علم النفس الحديث يعتبر النفس بمثابة ذات الإنسان الواعية التي يُرمز لها مجازا بـ "الأنا الفردانية" التي تميّزها عن غيرها من الذوات الواعية، فإن النفس وفق ما يستفاد من آيات الذكر الحكيم جوهر ذاتي لا يقبل الاتحاد ولا الحلول مع أو في غيره من الذوات التي قدّر الله لكل نفس أن تسكن فيها. وقد أقسم تعالى بالنفس وما رتبها به من قدرة وعلم وحكمة، فألهمها فجورها وتقواها لقوله تعالى: (ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها) الشمس 7 – 8. وبذلك أصبحت مسؤولة أمام ربّها تتمتع بالحريّة والإدراك بخلاف بقية الكائنات، وجعل خلاص الإنسان منوط بتزكيته للنفس بالتقوى، وجعل هلاكه منوط بتركه للنفس سائبة تسرح وتمرح في الفجور والضلال:

- الحريّة: بحكم الفطرة المودعة في النفس والتي تسمح لها بالاختيار بين الإيمان والكفر، بين الهدى والضلال، بين الخير والشر، بين الخطأ والصواب، بين أن يُسلّم الإنسان وجهه لله حنيفا غير مشرك، وبين أن يكفر بمن عقد معه الميثاق في عالم الدر والأنوار العلوية كشرط للخروج من العدم إلى الوجود لخوض التجربة الأرضية. 

- الإدراك: لما يقتضيه حمل أمانة التكليف من مسؤولية تستوجب فهم الدين والدنيا لضمان نجاح الإنسان في تجربته الأرضية تحقيقا لرؤية الله للحق والخلق.

وعلى أساس ما سلف، قرر تعالى اختبار صدق النفس وإخلاصها في ولائها ووفائها لعهدها، ففسح لها المجال لخوض التجربة الدنيوية في الزمان والمكان المقدّر لها العيش فيهما، لتتم مساءلتها ومحاسبتها بشكل فردي على ضوء النتائج المُحصّل عليها يوم القيامة لقوله تعالى: (كل نفس بما كسبت رهينة) المدثر: 38.

وحتى تتمكن النفس من خوض تجربتها بنجاح، وهبها الله تعالى مجموعة أدوات تساعدها على القيام بذلك: الجسم، العقل، القلب، الفؤاد.

وإذا كانت وظيفة النفس الأساس في الحياة الدنيا هي بذل الجهد والمجاهدة في السعي والعمل، فقد وهب الله لها الجسم ليساعدها على ذلك، سواء من خلال أعضائه الخارجية التي تمكّنها من الحركة، أو أعضائه الباطنية التي تُمكّنها من النمو والتطور بفضل الشعور والتفكير والإدراك لتقويم سلوكها وتوجيهه الوجهة السليمة التي تضمن لها السعادة في الدنيا والخلاص في الآخرة.

نخلص مما سبق إلى أن النفس هي الأنا الذاتية للإنسان بتعبير علم النفس، ومركز الشعور والإدراك الذي يتم عن طريق العقل الظاهر في الدماغ، ومركز الفطرة والإحساس الذي يتم عن طريق العقل الباطن في القلب والفؤاد، أو موطن الذاكرة الوجودية بالتعبير القرآني. ومن خصائصها وفق ما يستفاد من آيات الذكر الحكيم:

- أنها مخلوقة من رب العالمين: (ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها) الشمس: 7 - 8.

- أنها تخطط وتملي على الإنسان أفعاله وسلوكه: (بل سوّلت لكم أنفسكم أمرا)        

  يوسف: 18 و83. وطه: 96. 

 - أنها تأمر الإنسان بالفجور: (إن النفس لأمارة بالسوء) يوسف: 53.

- أنها مسؤولة عن نتائج أفعال الإنسان: (كل نفس بما كسبت رهينة) المدثر: 38.

- أنها تموت: (كل نفس ذائقة الموت) آل عمران: 185 والأنبياء: 35 والعنكبوت: 57. 

- أنها تحاسب يوم الدين: (يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا) آل عمران: 30 والنحل: 111 والزمر: 70.

واعتبارا لما تتطلبه تجربة الحياة الدنيا لمعرفة الذين صدقوا في إيمانهم من الذين كذبوا، فقد جعل الله تعالى الفتنة وسيلة لهذا الاختبار لقوله تعالى: (كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون) الأنبياء: 35. وسمح للشيطان بأن يستعمل سلاح الفتنة لينفذ للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وليجعل الظالمين في شقاق بعيد (الحج: 53). وبالتالي، فالنفس وفق ما يستفاد من مجمل آيات الذكر الحكيم هي البوابة التي ينفذ من خلالها الشيطان لقلب الإنسان فيملي عليه أفعال الفجور والضلال والعصيان والتكبر والطغيان. 

وإذا كانت الحياة تجربة ابتلاء كما أوضح تعالى في محكم التنزيل، فقدر الإنسان أن يعيش في حرب مفتوحة مع نفسه لا تنتهي إلا بانتهاء العمر المقدّرّ له، فمن حارب نفسه هزم الشيطان وقبيله، وسدّ عليهم بوابة الغواية، وعطّل أسلحتهم الفتاكة، وأفشل حيلهم الخبيثة.. ممّا يجعل جهاد النفس في قمة مراتب الجهاد بإجماع العارفين بالله. أما من هُزم أمام نفسه فيتحوّل قلبه حكما إلى عرش للشيطان ومرتع للضلال والظلام. وبالتالي، فإذا لم يكن الإنسان مبتهجا بالطاعة والعبادة فسيعيش العمر ميتا قبل الموت بدليل قوله تعالى: (أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون) الأنعام: 122. لذلك، يعتبر الصوفية أن من عاش في كنف الله عاش حيّا بنوره، ينعم برحمته إلى أن تبشره الملائكة بنهاية أجله وحلول وقت رحيله إلى النعيم الدائم المقيم. وبذلك يتحول الموت بالنسبة للمؤمن إلى عرس بهيج يقام في الملأ الأعلى، وإن كان أهله يعيشون الحزن عليه بسبب الفراق لأنهم لا يشعرون بما هو فيه من فرح وسرور بلقاء ربه وعيش الأبديّة في كنفه. 

وقد صنّف القرآن الكريم النفس الإنسانية إلى ثلاثة أنواع:

- النفس الأمارة بالسوء: وهي النفس التي تأمر صاحبها بالخيانة والعصيان وارتكاب الفواحش والمحرمات وكل فعل فاجر مذموم يتعارض مع الأخلاق الدينية والقيم الإنسانية. لقوله تعالى: (إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي) يوسف: 53.

- النفس اللوامة: وهي التي تعيش الحيرة فلا تثبت على حال، تتقلب بين الخير والشر، تقع في الذنوب وتندم، تعيش الصراع والتجاذب بين العمل الصالح والعمل الطالح، بين ما تعرفه من هداية وما فرطت فيه بحق الله. فهي نفس مؤمنة لكنها مترددة غير ثابتة. ولهذا أقسم تعالى بها لقوله: (ولا أقسم بالنفس اللوامة) القيامة: 2. وتعتبر هذه المرحلة حاسمة في حياة النفس بين السقوط في الهاوية أو النجاة منها. وتمثل النفس اللوامة ضمير الإنسان الحيّ.

- النفس المطمئنة: هي النفس المؤمنة المستقرة الثابتة والمتيقّنة التي تخلت عن الذنوب والمعاصي وتحلّت بالأخلاق الحميدة والقيم النبيلة، مُفعمة بالمحبة والرحمة، لا تتردد في فعل الخير واجتناب الشر، تمضي في طريقها واثقة من رحمة ربها، لا ينتابها القلق في كل أحوالها سواء في السّراء أو الضرّاء. راضية بما قسّم الله لها، قابلة لقضائه، مستسلمة لقدره، صابرة على الابتلاء لا تتذمر أبدا، متوكّلة على الله ومفوضة الأمر له في سعيها نحو تغيير قدرها، تحمد وتشكر وتدعو لتتقرّب من الله في كل وقت وحين، ناظرة التوفيق والرضا والمغفرة والرحمة منه تعالى. وهي التي خاطبها المولى جلّ وعلى بالقول: (يا أيتها النفس المطمئنة * ارجعي إلى ربك راضية مرضية * فادخلي في عبادي * وادخلي جنتي) الفجر: من 27 إلى 30. وذلك الفوز العظيم.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق