بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 1 فبراير 2022

ماهيـــة الجســـم

 

(وقد خلقكم أطوارا
نوح: 14

لعله من المفيد قبل تفصيل القول في ماهية الجسم، توضيح الفرق بينه وبين الجسد والبدن:

- فالجسم: هو الهيكل الذي يتضمن أعضاء خارجية وداخلية (أحشاء)، تُمكّنه من أكل الطعام والمشي في الأسواق كما هو حال الإنسان. ويتحول الجسم إلى جثة تُقبر حين يفقد مقومات الحياة.../...

- والجسد: هو الهيكل الذي له أعضاء خارجية دون الداخلية، بحيث لا يستطيع أكل الطعام كحال الملائكة عندما يتجسدون في صورة الإنسان لقوله تعالى في شأن الملائكة الذين أرسلهم إلى إبراهيم عليه السلام ليبشرونه بإبادة قوم لوط: (فلما رأى أيديهم لا تصل إليه – أي إلى الطعام – نكرهم وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف إنا أُرسلنا إلى قوم لوط) هود: 70.

 - أما البدن: فهو جسم من بدون رأس ولا أطراف (أرجل وأدرع) مثل حال فرعون الذي أغرقه الله وأنقذ بدنه ليكون عبرة لمن كان يعتقد من قومه أنه إله، لقوله تعالى: (فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية) يونس: 92.

 ونأتي للسؤال الأساس والمتمثل في: كيف خلق الله الخلق أول مرة؟... 

يستفاد من مختلف آيات القرآن الكريم، أن الله تعالى عندما قرر خلق البشر، أخضع العملية لمرحلتين فارقتين، مرحلة الخلق وتنقسم إلى قسمين، ومرحلة الإصطفاء.

1. مرحلة الخلق

أ‌. القسم الأول: في هذه المرحلة، أخبر تعالى الملائكة بقراره لقوله: (إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين * فإذا سوّيته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين) ص: 71 – 72. 

وللإشارة فهذه من الآيات المحكمات، وكل ما سيأتي في شرحها من آيات تعتبر من المتشابهات التي لا تعدو عن كونها تفصيلا يُوضّح فحواها.

والسؤال الذي يطرح بالمناسبة هو: كيف تم هذا الخلق؟ ولماذا يخبرنا تعالى في القرآن الكريم بالقول مرة أنه خلق الانسان من تراب، ومرة يقول أنه خلقه من طين، ومرة يقول أنه خلقه من حمأ مسنون، ومرة يقول أنه خلقه من صلصال؟

لتوضيح الفروق القائمة بين مرحلة وأخرى يقول تعالى: (وقد خلقكم أطوارا) نوح: 14. وهذا يعني أن الله سبحانه وتعالى، وبخلاف ما روج له فقهاء الظاهر، لم يخلق البشر دفعة واحدة، فالله ليس بساحر يملك عصا سحرية يوجد بها الإشياء والكائنات بمجرد إشارة، بل وضع لكل شيئ سنن تحكمه وقوانين يتطور بموجبها عبر مراحل.

وخلق البشر ليس استثناءا، ذلك أن المسألة وفق ما يؤكد القرآن خضعت لعملية تصنيع طويلة، وهو ما يؤكده قوله تعالى في الآية المحكمة التي استشهدنا بها (ص: 72)، حيث تفيد كلمة "سوّيته" الاسترخاء في الزمن طور بعد طور. وهذه الأطوار قد بيّنها تعالى في الآيات المتشابهات كالتالي: 

الطور الأول: أوجد الله المادة الخام التي هي التراب من عدم أو من لا شيئ حسب التعبير القرآني لقوله تعالى: (كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون) آل عمران: 59. ما يعني أن أمر التكوين كان في البدأ على التراب الذي مر بأطوار إلى أن اكتملت الصناعة، وسمي البشر الأول آدم لأن أصله من أديم الأرض، أي من ترابها.

الطور الثاني: صبّ الماء على التراب فأصبح طينا لازبا لقوله تعالى: (إنا خلقناهم من طين لازب) الصافات: 11. والطين اللازب هو الطين المتماسك كالعجين، فهو وسط بين الصلابة والسيولة، لاصق ببعضه ككتلة ليّنة قابلة للتحول إلى أشكال مختلفة على يد الصانع، ومنها شكل الإنسان والطير والقدر وغير ذلك من أدوات الفخار. 

الطور الثالث: يقول تعالى: (وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمأ مسنون) الحجر: 28. ومعنى الصلصال الطين اليابس بفعل الحرارة بعد أن اتخذ شكله النهائي، أما الحمأ المسنون فهو الطين الأسود المُتغيّر، ومسنون يعني أنه اتخذ الهيأة النهائية التي أرادها له الصانع، أي هيأة الآدمي.

الطور الرابع: وهي مرحلة التسوية لقوله تعالى في الآية موضوع البحث: (فإذا سوّيته)، والتسوية هنا تفيد بث النفس في الهيكل الآدمي المكتمل، لقوله تعالى: (ونفس وما سوّاها * فألهمها فجورها وتقواها) الشمس: 7 – 8. وبالتالي، أصبحت النفس تتمتع بحرية الإختيار بين التقوى والفجور، تحضيرا لها لخوض التجربة الحياتية في خطم الصراع الأزلي بين الخير والشر، بين الهدى والضلال، بين النور والظلام.

الطور الخامس: وهي مرحلة نفخ الروح في الجسم لقوله تعالى في نفس الآية موضوع البحث: (ونفخت فيه من روحي). عند هذه المرحلة دبت طاقة الحياة في الجسم وأصبح البشر كائنا حيا كما أراده الله أن يكون، فأمر الملائكة بالسجود له. والسجود هنا لا علاقة له بالسجود المعهود في الصلاة، بل يعني حرفيّا إلقاء التحيّة أكبارا وإجلالا واحتراما لهذا المخلوق الجديد. 

وواضح أنه عند اكتمال هذه المرحلة سجدت الملائكة لآدم ممتثلة لأمر ربها دون سؤال، باستثناء ابليس الذي امتنع عن ذلك فكان من الكافرين، لقوله تعالى: (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين) البقرة: 34. وعندما سأله ربه عن سبب امتناعه أجاب (قال ما منعك أن تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين) الأعراف: 12.

هذه الواقعة تؤكد مجموعة حقائق حصل بشأنها لبس كبير في التراث:

- أولا: أن إبليس ليس ملاكا خلقه الله من نور، بل شيطان من الجن خلقه الله من مارج من نار كما يؤكد القرآن ذلك (وخلق الجان من مارج من نار) الرحمن: 15. والمارج هو اللهب.

- ثانيا: أن هذا الحدث وقع في الأرض لأن الله خلق آدم من أديم الأرض (التراب)، ولم يكن قد خلق الجنة بعد والتي لن توجد إلا بعد أن تبدل والسماوات غير السماوات والأرض غير الأرض وفق ما يؤكد القرآن الكريم. ويدل على أن الأحداث وقعت في الأرض حضور إبليس مع الملائكة من جهة، واستحالة تسلل الأخير إلى الجنة دون علم الله على افتراض وجودها، وهو ما لا يقبل به عقل ولا يسلم به منطق.  

- ثالثا: أن سبب رفض إبليس المتمرد على أمر الله هو التكبّر والتاعلي والغرور، وهي صفات مذمومة تسبّبت في طرده من رحمة الله. فإبليس لم يشرك بالله، بل يخافه لمعرفته به، لكنه عصى أمر الله التكليفي لا التكويني، فحقّت عليه اللعنة إلى يوم يُبعثون، بدليل قوله تعالى: (كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلمّا كفر قال إني بريئ منكم إني أخاف رب العالمين) الحشر: 16.  
 
وتجدر الإشارة للأهمية، أن المخلوق الذي خلقه الله تعالى في هذه المرحلة الأولى كما تؤكد الآية المحكمة موضوع البحث كان "بشرا" لا "إنسانا". ولم يذكر الله تعالى في نفس الآية أن إسمه آدم، أي آدم الإنسان العاقل والأخلاقي الأول.

وهذا ما يؤكده العلم الحديث بفضل الحفريات (الأركيولوجيا) وتاريخ الشعوب (الأنتروبولوجيا) حيث كشفت المعطيات الموثّقة عن وجود مرحلتين فارقتين في تاريخ البشر. مرحلة البشر البدائي المتوحش (النياندرتال)، ومرحلة الإنسان العاقل (هومو سابينس).

ففي حقبة ما قبل التاريخ، وتحديدا قبل مرحلة الإصطفاء، كان هناك ألف ألف آدم كما أكد الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم في حديث مشهور، ما يشير إلى أن هذه المرحلة الأولى استمرت آلاف إن لم تكن ملايين السنين. والحديث هنا عن الجنس البشري البدائي الذي اكتشفه علماء الإنتربولوجيا وسموه "النياندرتال" الذي كان يشبه إلى حد بعيد نوع من أنواع القردة، من دون أن يعني ذلك أنه من سلالة هذا الحيوان، فحتى داروين صاحب نظرية "النشأة والرقي" لم يقل أبدا أن أصل الإنسان قرد كما يتهمه بذلك الإسلامويون دون دليل. 

وما نعرفه عن هذه المرحلة وفق ما أكدته البحوث العلمية، هو أن البشر صدموا بظاهرة الموت، وبادروا إلى دفن الأموات بصحبة طقوس ابتكروها، وكانوا مرعوبين من الموت وفقدان الأحبة دون أن يدركوا لماذا يموت الإنسان خارج دائرة الصراع من أجل البقاء حيث يمكن أن يسقط بين أنياب وحش مفترس أثناء الصيد، أو ضحية لكارثة طبيعية أو مرض أو حادث فجائي. 

وكل ما نعرفه اليوم عن تلك الحقب هو أن البشر كانوا يضعون في قبور ذويهم من الأموات، عدداً من الأدوات والأسلحة البدائية والملابس والأطعمة الضرورية للاستمرار في " رحلة ما بعد الموت" لمساعدتهم على اجتياز مغامراتهم الغامضة، والخوض في المجهول الذي ينتظرهم من وراء جدار الحياة. وكان ذلك بمثابة تجسيد لأمل ميتافيزيقي. وقد تم اكتشاف آثار تدل على ذلك في مغارات منتشرة في ربوع أوروبا وآسيا وإفريقيا. ولكن علماء آلأنثروبولوجيا لا يعرفون الكثير عن أساطير البشر النياندرتال. ومن الواضح أن هؤلاء الأقوام الأوائل صمموا أو ابتكروا نظاماً معيناً من المعتقدات يوفر لهم نوعاً من الاطمئنان والسكينة، بحيث يمكن أن يقهروا الموت أو يتغلبوا عليه دون أن يفلتوا منه، وذلك بالذهاب إلى ما وراء الموت. وهذا يعني أنهم توصلوا إلى أن عالمهم ليس عبثي أو فوضوي، بل هو عالم محكوم بقوى غيبيّة غير مرئية، لكنها مُنظّمة، حيث يمكنهم، بطريقة ما، وببعض الممارسات، التعرف عليها، وربما تطويعها لخدمتهم. واعتقدوا أنه يمكن أن يناشدوا تلك القوى عن طريق ممارسات تدل على خضوعهم وانصياعهم لها كتقديم القرابين، وقد تم العثور على آثار لتلك الطقوس في الكهوف والمغارات المكتشفة مؤخراً ويعود تاريخها إلى 250 ألف سنة قبل الميلاد. 

إن خوف البشر من ظواهر الطبيعة الغامضة جعلهم يبحثون عن حلول لتلك الألغاز في قصص نسجوها وصرنا نسميها اليوم أساطير الأولين. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن البشر البدائي وبفضل الفطرة، اهتدى لوجود حياة بعد الموت.

ب‌. القسم الثاني: بعد خلق آدم (البشر الأول) من طين عبر الأطوار التي سبق ذكرها، خلق الله منه زوجه، ومنهما نسله من خلال عملية الولادة الطبيعية لقوله تعالى: (والله خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم جعلكم أزواجا وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه وما يُعمّر من معمّر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب إن ذلك على الله يسير) فاذر: 11). وأوضح تعالى أن عملية الولادة الطبيعية تمرّ بدورها من أطوار متعددة: (نطفة تُمنى، فعلقة، فمضغة مخلّقة، تنتهي بالتحول إلى جنين، فطفل عند الولادة) الحج: 5.

2. مرحلة الاصطفاء:

وتتميّز هذه المرحلة عن سابقتها باعتبارها بداية عهد المعرفة التي حوّلت الكائن من بشر بدائي جاهل ومتوحش، إلى إنسان أخلاقي حرّ ومسؤول، يؤمن بالقيم الإنسانيّة والأخلاق الدينيّة، قابل للتعلم بما أودع الله فيه من قوة الأسماء التي هي مطلقة عند الله مقيّدة عند الإنسان، وبذلك أصبح الكائن الجديد قابل للتطوّر بفضل ما وهبه تعالى من خيال خلاّق ميّزه عن بقية المخلوقات بما في ذلك الملائكة، فأصبح يمتلك القدرة على التفكير، والحلم، واستعمال الخيال الخلاق بلا حدود ولا قيود، الأمر الذي ساعده على اكتساب المعرفة والابداع في الابتكار. 

يقول تعالى في محكم التنزيل: (وإذ قال ربّك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون) فاطر: 30.

تعتبر هذه الآية الكريمة من المحكمات أيضا لما يترتب عن معانيها من تفصيل ضمّنه تعالى في عديد الآيات المتشابهات التي توضّح معناها بشكل لا لبس فيه.

والكلمتان الفتاح في الآية الكريمة موضوع البحث هما: "الجعل" و "الخليفة". ذلك أن الأمر هنا لا يتعلق بـ "الخلق" كما سبق القول في الآية المحكمة السابقة، لأن الجعل بقوله (إني جاعل) تعني فاعل الآن وليس مستقبلا أو عبر أطوار ومراحل، وهو ما يفيد بما لا يدع مجالا للشك، أن الإصطفاء قد تم من بين فصيلة البشر البدائي الذي كان موجودا حينها (النياندرتال)، حيث اصطفى الله منه آدم ليُحوّله إلى إنسان عاقل بفضل الأسماء التي علمه إياها وملك العقل التي طورها لديه، فأصبح يسمى "الإنسان العاقل" و"الإنسان الأخلاقي".

أمّا الخلافة، فلا تعني بحال من الأحوال خلافة الله كما ذهب إلى ذلك معظم فقهاء القشور، ولا تعني أيضا خلافة "الجن" الذي كان قبله وفق ما قال بذلك بعض فقهاء الرسوم، لأن الخلافة لا تكون إلا من نفس الجنس من جهة، ولأن لا أحد في الوجود يمكنه خلافة الله الحي الذي لا يموت، القائم على ملكه، الحاضر الذي لا يغيب، يُدبّر الأمر بين السماء والأرض وفق إرادته ومشيئته. لأن الخليفة لا يكون خليفة إلا عن الميت أو الغائب، وهو وما لا يصح عن الله تبارك وتعالى عما يصفون. 

ونعيد التذكير بالمناسبة، أن الله تعالى عندما قرر خلق آدم من طين وأمر الملائمة بالسجود له بعد تسويته أول مرة، لم يستنكر أحد من الملائكة ذلك بحجة أن المخلوق الجديد سيفسد في الأرض ويسفك الدماء، بسبب أن الملائكة لا تعلم الغيب، بل حدث ذلك بعد أن قرر الله تعالى اصطفاء آدم من بين فصائل البشر المتوحشين وجعله خليفة في الأرض، هنا أثارت الملائكة مسألة الفساد وسفك الدماء لما علمته من تصرف البشر البدائيين من قبل، وهو ما يؤكد أن خلافة آدم هي لجنس البشر الذي سبقه، لا لله ولا للجن كما زعم فقهاء الظاهر.

وجوابا على سؤال الملائكة، قال تعالى: (إني أعلم ما لا يعلمون) البقرة: 30. فما الذي قصده تعالى بقوله هذاّ؟

الجواب العملي نجده في الآيات 31 – 32 – 33 من نفس السورة، حيث علّم الله آدم الأسماء كلها ثم عرض المُسمّيات على الملائكة وقال: (أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنت صادقين) البقرة: 31. هنا وقف الملائكة حائرين مندهشين وعاجزين، فاعترفوا بعدم معرفتهم وقالوا (سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم) البقرة: 32. فأمر آدم بأن يُنبئهم بأسمائهم، فلمّا فعل قال لهم تعالى: (ألم أقل لكم أنّي أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون) البقرة: 33.

والسؤال الذي يطرح بالمناسبة هو: ما الذي تغيّر فأصبح آدم الجديد أفضل من آدم القديم؟

السّر يكمن في المعرفة، لأنها الحد الفاصل بين البشر القديم والإنسان الجديد. البشر القديم كان يعيش على الغرائز مثله مثل الحيوانات يكاد لا يفرُق عنها، فيما الإنسان الجديد بعد أن علّمه الله، علّمه بالقلم ما لا يعلم، أصبح كائنا عاقلا وأخلاقيا. عاقلا قابلا للتعلم واكتساب المعرفة والتفكير والابتكار، وأخلاقيا يؤمن بالتوابث الدينية والقيم الإنسانية التي تمنحه القدرة على عمار الأرض ونشر الخير والعدل.

فبفضل المعرفة قرر الله تعالى جعل آدم الإنسان العاقل خليفة في الأرض لمن سبقه من أقوام. فالله تعالى لم يقل "إني جاعل آدم خليفة لي في الأرض"، بل قال (إني جاعل في الأرض خليفة) لأنه في السماء إله وفي الأرض إله، وهو معنا أينما كنا، لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار، محيط بكل شيء، ولا يخرج شيء عن إرادته التي هي من مجال "القضاء" المبرم بأمر "كن"، ولا مشيئته التي هي من مجال "القدر" بحكم السنن لقوله تعالى: (وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين) التكوير: 29، قائم في ملكه بالحق.. وبالتالي، إذا كانت الخلافة لا تصح إلا للفرع في غياب الأصل، والغياب لا يصح في حقه تعالى، فكيف التسليم للإنسان بخلافته وهو الأول الموجود من دون غياب، والآخر بعد الفناء حيث لا يبقى إلا وجهه، والظاهر لنفسه قبل الخلق، والباطن بحجب الغيب بعد الخلق، لا يحتاج لخليفة يخلفه بحكم حياته ودوامه وعلمه وقدرته. وهو ما فهمه الخليفة الأول عندما اختلاف ما يسمى بأهل العقد والحل حول اللقب، بين من يقول بجواز "خلافة الله" من قبل الآدميين، وبين من يقول بعدم جوازه، غير أن أبو بكر الصديق رفض أن يطلق عليه هذا اللقب، وأوضح ذلك بقوله: "إنني خليفة رسول الله لأن الاستخلاف إنما يكون في حق الغائب وليس في حق الحاضر الذي لا يغيب". غير أن اختيار أبو بكر لاسم "خليفة رسول الله" لم يكن صائبا لما يعنيه أسم الرسول، لأن اصطفاء الرسل مجال من مجال الله وحده دون سواه، فلا يصح بالتالي خلافتهم في حمل الرسالة ما دام الله لم يأمر بذلك.

    ولأن الخليفة يجب أن يكون من نفس جنس المستخلف، فالآية تشير للخلق البشري الأول الذي سجدت له الملائكة وكان موجودا قبل آدم لعلم الملائكة بتجربته التي انتهت بالفساد وسفك الدماء كما سبق القول، خصوصا وأن الله حين قال إني جاعل في الأرض خليفة، فهمت منه الملائكة أن "الجعل" هو غير "الخلق" بما يعنيه من انتقاء واصطفاء لعنصر من جنس الموجودات البشرية البدائية التي كانت تعيش كالحيوانات المتوحشة على الأرض في بدايات الحياة، فاختار من نسلها آدم الذي بلغ مرحلة التسوية البيولوجية في أبهى صورة، ونفخ فيه من روحه ليجعل منه إنسانا يرتقي بالإيمان والعلم والمعرفة في مراتب الكمال. وهذا ما تؤكده النظريات العلمية اليوم استنادا إلى عديد الاكتشافات الأركيولوجية. وللرسول الكريم صلى الله عليه وسلم حديث شهير يقول: (قبل آدم كان في الأرض أكثر من ألف ألف آدم) كما سبق القول، ما يستوجب التفريق بين خلق آدم الأول من تراب لما تعطيه كلمة "آدم" من معنى له صلة بأديم الأرض، وبين اصطفاء وانتتقاء واختيار أرقى فصيل بشري تطور عبر العصور والدهور لجعله يخلف غيره من الفصائل البشرية البدائية المتوحشة التي أهلكها الله بسبب جهلها وفسادها وسفكها للدماء في الأرض. فأودع تعالى في آدم الذي اصطفاه علم الأسماء كلها، لتنتقل البشرية إلى طور جديد من الحياة فيما عرف بمرحلة ما بعد الجنة.

وبهذا المعنى، فآدم البشري الذي اصطفاه الله من بين سلالة البشر القديمة ليجعل منه إنسانا عاقلا وأخلاقيا مؤمنا قادرا على حمل الأمانة، لا يمكن أن يخلف جنس الجن كما ذهب إلى ذلك عديد المفسرين، لاختلاف الطبيعة التكوينية بينهما، بدليل أن الله تعالى نفى أن يخلف جنس الإنسان جنسا آخر لقوله: (إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز) إبراهيم: 19 – 20، أي يأتي بجنس جديد من نفس الخلق الأول غير مختلف عنه، لأن الخلف يطلق على من يأتي من نفس الجنس كما يؤكد القرآن ذلك لقوله تعالى: (ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم للنظر كيف تعملون) يونس: 14، في إشارة إلى الأمم السابقة التي أهلكها الله لقوله تعالى: (ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لمات ظلموا) يونس: 13. كما أن العقل يرفض القبول بمثل هذا الفسير الغريب  الذي يقول بخلافة الجن والشياطين لسبب وجيه، وهو أن الجن لم ينقرضوا بالمطلق ليخلفهم آدم في الأرض، ما دام الوحي يؤكد أنهم يعيشون بيننا ويروننا من حيث لا نراهم، ويستمعون إلى القرآن حين يُتلى، ومنهم أمة مؤمنة تخاف الله، وكانوا يخدمون سليمان عليه السلام ويحاربون معه، فكيف للإنسان أن يخلف من ليس من جنسه ولم ينقرض أبدا؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق