بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 2 فبراير 2022

نظرية الفناء في الخطاب الصوفي

 


(كل من عليها فان * ويبقى وجه ربك ذو الجلال والاكرام)

الرحمن: 26 - 27

الفناء هو عكس البقاء، ويعني لغة الزوال والهلاك. أما اصطلاحا فيعني ذهاب الحس والوعي وانعدام الشعور بالذات وبالعالم الخارجي. أما المعنى الصوفي فيفيد الذوبان في المتعالي لجهة اتحاد الروح بصاحبها. من هنا وجوب التفريق بين من هو مادة (قالب)، وما هو جوهر (قلب)، وما هو طاقة مُولّدة للحياة (النور). لقد سبق معنا القول في تعريف المادة أنها لا تفنى لتخرج من الوجود في الحياة الدنيا، بل تتحول من تركيبة إلى أخرى، وهذا ما تؤكده النظريات الفيزيائية. وبالتالي فلا تعارض بين العلم والدين، لكن الأمر يختلف تماما عند حلول أجل الكون حيث يفنى كل شيء عدى وجه الله كما يؤكد ذلك القرآن الكريم.../... 

لقد وردت كلمة الفناء في الآية 26 من سورة الرحمن حيث يقول تعالى: (كل من عليها فان) وتعقبها مباشرة الآية 27 لتُكملها بالقول: (ويبقى وجه ربّك ذو الجلال والإكرام). والفناء هنا لا يعني الخروج من الوجود بالمطلق، لأن استعمال الله في مقدم الآية 26 لضمير "عليها" يفيد من يتواجد على الأرض من الثقلين (إنس وجن)، ومعنى المعنى انقطاع أمد النشأة في الدنيا بانتهاء أمد التجربة الأرضية إيذانا ببداية حياة جديدة سماها القرآن بالحياة الآخرة التي هي موعد المساءلة والحساب. ففي هذه اللحظة الفارقة من التاريخ القدساني التي تشير إليها الآية الكريمة، تنتهي الدنيا ومن عليها ولا يبقى سوى وجه الله ذو الجلال والإكرام.

واستعماله تعالى لهذه الصفات الحسنى يقصد بها التوسط بينه وبين خلقه لما تحتويه من عظمة وقدرة وعلم وحياة وبركات، ما دامت كل أسمائه وصفاته هي وسائط بينه وبين خلقه. فالجلال صفة للعلو والترفع والكبرياء والعزة والغلبة والقهر. أما الإكرام فيكون بمعنى الحسن والبهاء والمغفرة والرحمة والجود والعطاء بلا حدود، وهي من صفات الجمال المطلق. وبالتالي فالمعنى القرآني للفناء في الآية السالفة الذكر جاء بمعنى الهلاك، أي الزوال، ويؤيد ذلك ما ورد في الآية 88 من سورة القصاص لقوله تعالى: (كل شيء هالك إلا وجهه) أي زائل من الدنيا، وبخلاف الفناء الذي يقصد به زوال الثقلين وانتهاء دورة نشأتهما وتكاثرهما كما ورد في الآية 26 من سورة الرحمن، فإن الهلاك الوارد في الآية 88 من سورة القصاص يقصد به هلاك وزوال كل شيء بما في ذلك السماوات والأرض، لقوله تعالى في الآية 48 من سورة إبراهيم: (يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهّار). والمعنى واضح لا يحتاج لكثير تفصيل.

أما الفناء في الفكر الصوفي، فلا يعني القالب الذي هو الجسد ولا يهتم به، بل يفيد الجوهر الذي يكمن في تهذيب النفس بالجهد والمجاهدة وتزكية الروح بالفضائل وصولا إلى الفناء في المتعالي، بما يعني الذوبان في الحق بعد أن تسقط عن الصوفي الأوصاف المذمومة لتحل محلها الأوصاف المحمودة. أي أن الصوفي يفنى عن حظوظه ويبقى بحظوظ غيره. ولا يتم ذلك إلا إذا تجلى الصوفي بالأخلاق القويمة وتخلى عن الرذائل الدنيئة، لأن من فني عن جهله بقي بعلمه، ومن فني عن شهواته بقي بإنابته. وبذلك يكون الفناء هو الهدف الأسمى للصوفي في طريقه إلى الله، أي أنه يرتقي من الفناء إلى البقاء. فالأول، أي الفناء، لا يتم إلا بكثرة الجهد والمجاهدة والذكر لدرجة فقدان الإحساس بعالم الملك. أما الثاني فيكون بالاستغراق في عظمة البارئ لمشاهدة عالم الملكوت. وحين يصل الصوفي إلى هذا المقام يسقيه ربه ما يسقيه ويطعمه ما يطعمه ويزرع فيه ما يزرع فيحفظه بوظائف الحق. 

هذا ما تقوله الطائفة الأولى من الصوفية وعلى رأسهم عبد القادر الجيلاني والكلابادي والقشيري والجنيد والغزالي على سبيل المثال لا الحصر، أي من يُوصفون من قبل أهل السنة والجماعة بالاعتدال.

هذه الطائفة طوّرت طريقة وضعت لها مراحل ثلاث، وهي: مرحلة التخلي، تليها مرحلة التحلي، وتنتهي بمرحلة التجلي.

وبمعنى آخر، فإن الصوفي في معراجه نحو المتعالي يمر بالمراحل التالية:

- أولا التخلي: ويبدأ بالتخلي عن كل شيء من شأنه ألا يتماشى مع عالم الحق الذي ارتضاه الله سبحانه وتعالى لنفسه، فيترك الشهوات والملذات، وكل شيء له علاقة بإشباع الغرائز الحيوانية المتعلقة بالجسد المادي، وهو الأمر الذي يتطلب الكثير من الجهد والصبر والتقوى، دون أن يعني ذلك التفريط أو الإفراط والمبالغة في حرمان الذات، بل الوسطية والاعتدال في تناول النعم والمتع الحلال.

- ثانيا التحلي: في هذه المرحلة تكتسب النفس الإنسانية صفة التحلي، أي أنها تتحلى بأخلاق ومميزات عالم الحق، فتدخل فيما يعرف بالتجريد، أي أن النفس تتخلص من كل عوامل الضعف التي تشدّها إلى عالم الملك السفلي لتصعد في سلم الـترقّي إلى الملكوت الأعلى.

- ثالثا التجلي: في هذه المرحلة الأخيرة، تدخل النفس بعد التطهير والتجريد في فضاء الذات العارفة بالله. وهنا تبلغ مرتبة التجلي، وهي المرتبة القادرة على الاتصال بعالم الملكوت حيث الحقيقة المطلقة بدون وسائط ولا حجب اللهم إلا حجاب النور الإلهي الأقدس. فيُكشف لها المستور عن طريق الفيض، فترى اليقين التي لا يراه الإنسان إلا بعد موته. وهو ما يُعبّر عنه الصوفية بالقول، "إنها مرحلة الشهود الروحي الإطلاقي الفائض على عالم الذات العارفة مما يجعلها تفنى في عالم الملكوت الرباني شكلا ومضمونا". 

أما الطائفة الثانية والتي تمثل ذروة الفكر الصوفي، ويُتّهمون من قبل فقهاء القشور بالتطرف والغلو، وعلى رأسهم شهيد العشق الإلهي الحلاج والشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي، فلهما رأي آخر يختلف عن رأي الطائفة الأولى جملة وتفصيلا.

فابن عربي مثلا لا يعتبر التصوف مذهبا ولا طريقة، بل تجربة خاصة، لأن الطريق إلى الله ليست واحدة بل بعدد أنفاس الخلائق. والفناء عنده ليس ثمرة ضرورية لازمة لا تأتي إلا نتيجة لرياضة الصوفي وبذله للجهد والمجاهدة كما تزعم الطائفة الأولى. فهو (أي الفناء) لا يخضع لنسق معين ولا لطريقة مبتدعة. لأن الظواهر الانفعالية، أو ما يسمى بالحال في اللغة الصوفية، والتي تسبق أو تصحب الفناء تتميّز بالمفاجأة في الظهور، وهي فضل من الله وموهبة يمنحها لمن يشاء من عباده. ويرى ابن عربي أن الفناء الصوفي هو الحال التي تتوارى فيها آثار صفات النفس المذمومة التي هي وليدة الهوى والشهوة لتحل محلها الصفات المحمودة. بمعنى أنه متى شعر العبد أنه فني من أوصافه المذمومة إلا وحلّت محلها الصفات المحمودة.

وابن عربي لا يعتبر الفناء خروج عن البقاء لدخول حالة الحلول أو الاتحاد، أي حلول الله في الإنسان أو الاتحاد به. بل يثبت ابن عربي الإثنيّة فيفرّق بين الخلق والخالق. هذا في حين يقول الحلاج بالحلول والاتحاد لتصبح نظرة الصوفي العارف إلى العالم على أنه واحد لا كثرة فيه، وكل ما نراه هو مجرد صورة للحقيقة في تعددها والتي تدل على الواحد الأحد الذي هو الله، وهذا هو معنى الواحد الكثير والكثير الواحد.

فالحلاج مثلا يقول: "إنه إذا أراد الله أن يوالي عبدا من عباده فتح عليه باب الذكر، ثم فتح عليه باب القرب، ثم أجلسه على كرسي التوحيد، ثم رفع عنه الحجب، فيريه الفردانية (الأحادية)، ثم كشف عنه الكبرياء والجمال، فإذا وقع بصره على الجمال بقي بلا هو، وحينئذ صار العبد فانيا وبالحق باقيا فوقع في حفظه سبحانه ويرى من دعاوي نفسه". (مدخل إلى التصوف الإسلامي – أبو الوفا الغنمي التفتازاني – الطبعة الأولى، صفحة 126- دار الثقافة والنشر والتوزيع).

ويشار إلى أن أبو الوفا التفتازاني يعتبر من منتقدي التصوف، وهو من شيوخ الأزهر المتطرفين الذي لا يُؤمنون إلا بالظاهر دون الباطن وبالتفسير دون التأويل. ورأيه لا يعتد به، لذلك لم نذكر تعليقه المتحامل على قول الحلاج.

ذلك أن فكرة الحلول عند الحلاج تختلف عن نظرية وحدة الوجود المثيرة للجدل، فالحلاج يقرّ بالثنائية أصلا مثله مثل ابن عربي ويفرّق بين الخلق والخالق. والحلول عنده يقصد به حلول الصفات الإلهية الحميدة بديلا عن الصفات البشرية البديئة، ولا علاقة له بحلول الذات في الذات. والفرق بين الحلاّج وابن عربي أن هذا الأخير يعتبر "أن الفناء يتحقق باتحاد موجود بالفعل ولا ينكشف إلا للعارفين بالله، وليس مجرّد تحوّل في الصفات ولا صيرورة ولا حلولا، وإنما هو تحقّق من صور الفاني وبقاء الذات الأبديّة". (أبو العلا عفيفي – التعليقات، دار الكتاب العرب، بيروت، الطبعة الثانية، ص: 17).

ومعنى المعنى أن الله هو الواحد الواجب الموجود الحق ولا وجود لموجود سواه، وبالتالي، لا يمكن أن يحل من هو غير موجود فيمن هو موجود أصلا. وبذلك يكون الفناء في فلسفة ابن عربي هو التحام الذات الفردية وفنائها في عالمها الأوحد بنوع من الحضور يؤكد طبيعة الوحدة الوجوديّة الناتجة عن التجلّي الإلهي، لأن كل الموجودات العنصرية (المادية) والروحية ليست إلا تجليات للأسماء والصفات الإلهية ولا تتمتع بوجود مستقل عن الله أو معه، لأن الاعتقاد بهذا الوجود المستقل يعتبره ابن عربي مبدأ شرك بالمفهوم الغليظ. 

إن لحظة الفناء الصوفي من منظور ابن عربي، تكمن في "أن العارف لا يدرك إلا حقيقة واحدة، حقيقة الحق المُتعيّنة في كل الموجودات، وهي لا تدرك إلا كشفا بعد أن ينزع عن قلبه كل الحجب الساترة للحقيقة الإلهية. فالعارفون عند ابن عربي هم الذين يدركون هذه الحقيقة في الدنيا، أما عامة المؤمنين فهم يدركونها بعد الموت. فالفناء هو نوع من الغيبة يصحبها كشف وشهود، أو قل معرفة غايتها الفناء عن شهود الكثرة وليس نفيا لها، وتقتضي نظرية التجلي الإلهي أن الله يشتاق إلى عبده كما يشتاق العبد إليه، فالحب والشوق والحنين إلى اللقاء حقيقة موجودة على الدوام لأن الحق دائم الظهور في صور الخلق" (محمد المنصف بن البشير، فلسفة ابن عربي في المعرفة والوجود، دراسة تحليلية نقدية، الطبعة الأولى 2016، صفحة 205، عالم الكتب الحديث للنشر والتوزيع).

في المحصّلة نستطيع القول، إن الفناء في الخطاب الصوفي هو عبارة عن تجربة يخوضها الصوفي للتقرب من خالقه تعبيرا عن مدى حبه وعشقه له، وكحال كل عاشق، يصل الصوفي عن طريق الحال في لحظة صفاء ونقاء بعد أن يمر بطريق شاقة من المجاهدات، فيطّلع في النهاية على الحقيقة الوجودية التي ليست سوى الطبيعة الإلهية، فيدرك بيقين أن الحق واحد، وأن لا وجود لموجود في الوجود سوى واجب الوجود، والكثرة وهم.

تجربة أبراهيم عليه السلام مع التجلي الإلهي

لعل أول من عرف التجلي في التاريخ قبل ظهور ما أصبح يعرف بالتصوف هو أبو الأنبياء والرسل إبراهيم الخليل عليه السلام، وسمي خليل الله لأن روحه تخللت مع روح خالقه، فكشف الله له أسرار ملكوت السماوات والأرض لقوله تعالى: (وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض ليكون من الموقنين) الأنعام: 75.

فكيف وصل إبراهيم عليه السلام  بالتجربة إلى مرحلة التجلي؟

يقول تعالى في محكم التنزيل: (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِين) الأنعام: من 76 إلي 79.

هكذا عرف إبراهيم ربه من خلال تجربته التأمُّلية الفريدة... وإذا كان آدم في القرآن يمثل الأب الجيني البشري بطبيعته المادية، فان إبراهيم هو الأب الروحي الذي نجح عبر معراجه الفلسفي الجدلي في نقل الخلق من حالته البشرية البدائية إلى أرقي حالات النضج في سلم الكمال الإنساني.  

السماء لم تتصل بإبراهيم لتخبره أن له ربا خالقا ومدبرا كما فعلت مع نوح في وقت لم يكن البشر ناضجا بعد...  بل إبراهيم وبمبادرة منه، هو من بدأ رحلة البحث عن ربه في المحسوسات أولا... ولما لم يجده في الموروث من الأصنام التي قيل له أنها تجسد روح الآباء و الأجداد من أبناء نوح وآدم، هجر قومه و توجه إلى السماء بحثا عن نور الحقيقة في لحظة تعقّل فارقة في تاريخ البشرية... لكن دون جدوى، فإبراهيم رغم كل ما بدل من جهد حسّي و عقلي جبّار بمقاييس عصره،  لم يهتدي إلى وجود ربه في النجوم المضيئة والكواكب المنيرة على حد سواء، لأن أفولها كان السبب الرئيس في عزوف إبراهيم عنها كما نفهم من الآيات السالفة... وفي عزّ حيرته وأوج ضلاله.. جاء الكشف، فقذف الله نور الحقيقة في روعه، فعرف إبراهيم أخيرا من هو ربه فقال: (إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين). لقد كشف الله عن إبراهيم عليه السلام حجب الجهل الكثيفة التي كانت تحول بينه وبين معرفة الحقيقة معرفة يقينية لا يرقي إليها الشك، فتذكر فجأة ميثاق ربه الذي عقده معه في عالم الذر، وأطلعه تعالى على أسرار الأجرام السماوية، أي على ملكوتها الخفي كما يقول ابن رشد في تهافت التهافت (ص: 52): (وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين).   

وبذلك، أصبح إبراهيم الفيلسوف العقلاني والزاهد الصوفي الأول في تاريخ البشرية، فاستحق أسمى الدرجات وأرقي الألقاب الربانية. لأنه إذا كان آدم يوصف بأنه "صفي" الله، ونوح "نجيّه"، وموسى "كليمه" وعيسى "كلمته وروحه"، ومحمد "حبيبه"، فان إبراهيم جمع أكثر من صفة، فجعله الحق سبحانه "صدّيقا" و"نبيأ" و "رسولا" و "تقيّا" و "وفيّا" و "إماما" و "أمّة" لوحده...  وإذا كان يشترك في هذه الصفات مع الرسل والأنبياء كافة من ناحية الفضل، فان صفة "خليل الله" لم يصف بها الله تعالى نبيّا أو رسولا قبله لقوله (واتخذ الله إبراهيم خليلا) 4: 125. 

      وأصل الخليل لغة: "الصاحب الحميم"، و "الرفيق الوفي الملازم" وهي معاني لغوية لا تستقيم مع عقيدة التوحيد من قريب أو بعيد ما دام الله ليس له صاحب ولا رفيق.  ذلك أن التخلّل هو امتزاج الشيء بالشيء، كما في حالة الماء والخمر مثلا، حيث يعني الامتزاج والاختلاط استحالة تمييز الواحد عن الآخر لفرزه. غير أن هذا المعني المجازي المتداول لغويا عند العرب، يطرح أكثر من إشكال لجهة تعارضه مع مفهوم التوحيد كما عرف ظاهريا في التراث الإسلامي، حيث لا يمكن القبول بأن يكون لله صاحب أو رفيق أو ولد، ولا أن يحل الله في بشر أو يتحد معه مخلوق.  وكل ذلك، مع التسليم بأن له ما في السماوات والأرض من دون أن يكون له شريك في الملك أو الحكم من خارجه أو معه، وهذا هو معني "لا إله إلا الله".  وحيث أن الأمر كذلك: 

- فما معنى أن يُسمّي الله إبراهيم خليلا ؟  

بالبحث في التراث، من خلال أمهات التفاسير التي بين أيدينا اليوم (الطبري، الزمخشري، الطبرسي، الرازي، القرطبي، ابن كثير، البيضاوي، العياشي، السيوطي، الشوكاني ... وغيرهم...)، نكاد لا نجد شرحا شافيا لكلمة "خليل" الواردة في الآية 125 من سورة النساء.  والحقيقة أن ما من مفسر لاحق إلا ونقل عن السابق شيئا ممّا أورده، فيما استعان البعض بمبضع التأويل لرد ما أثير من تناقض حول المفهوم بسبب معناه الصادم للعقل السنّي، بينما حاول البعض الأخر عبثا، تأصيل المعني بناء على عدد من الأساطير والخرافات التي لا نجد لها في كتاب الله وسنة رسوله أصلا ولا فصلا. وهناك من بلغ به العجز حد القول إن الجملة في الآية اعتراضية ولا محل لها من الإعراب (هكذا)، وكأن الله يتكلم لكيلا يقول شيئا، سبحانه وتعالى عما يصفون. 

وخلاصة القول إن مفهوم الخليل قد أخد العديد من المعاني عند المفسرين الأوائل، كالولي، والحبيب، والمساير في الطريق، والمُتّبع للشرع، والمُتخلّق بخلق الله، والإمام...الخ... وهي في مجملها أوصاف مشتركة بين الأنبياء والرسل جميعا، بل وبعضها تخص المؤمنين أيضا. وبالتالي، فإننا لا نكاد نجد تفسيرا مميّزا يُعطي لصفة "الخليل" مدلولها الحقيقي الذي خص الله به أبو الأنبياء والرسل إبراهيم عليه السلام. ومرد ذلك، يعود في اعتقادنا إلى إشكالية المعنى الصادم الذي تفصح عنه الكلمة من جهة، وتعارضه مع المفهوم السطحي السائد عن التوحيد كما أصّله فقهاء الرسوم من جهة أخري.  لكن الأمر يختلف تماما عند الصوفية، فمحيي الدين ابن عربي مثلا يقول في شرح معني الخليل:

 "قال الله تعالى واتخذ الله إبراهيم خليلا وقال النبي صلَّى الله عليه وسلَّم لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا  ولكن صاحبكم خليل الله والمخاللة لا تصح إلا بين الله وبين عبيده وهو مقام الاتحاد ولا تصح المخاللة بين المخلوقين وأعني من المخلوقين من المؤمنين ولكن قد انطلق اسم الأخلاء على الناس مؤمنيهم وكافريهم قال تعالى الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدوّ إلا المتقين فالخلة هنا المعاشرة وقد ورد أن المرء على دين خليله وقيل في مقام الخلة قد تخللت مسلك الروح مني وبذا سمى الخليل خليلا وإنما قلنا لا تصح الخلة إلا بين الله وبين عبده لأن أعيان الأشياء متميزة وكون الأعيان وجود الحق لا غير ووجود الشيء لا يمتاز عن عينه فلهذا لا تصح الخلة إلا بين الله وعبيده خاصة إذ هذا الحال لا يكون بين المخلوقين لأنه لا يستفاد من مخلوق وجود عين فاعلم ذلك واعلم أن شروط الخلة لا تصح بين المؤمنين ولا بين النبي وتابعيه فإذا لم تصح شروطها لا تصح هي في نفسها ولكن في دار التكليف فان النبي والمؤمن بحكم الله لا بحكم خليله ولا بحكم نفسه ومن شروط الخلة أن يكون الخليل بحكم خليله وهذا لا يتصوّر مطلقا بين المؤمنين ولا بين الرسل وأتباعهم في الدار الدنيا والمؤمن تصح الخلة بينه وبين الله ولا تصح بينه وبين الناس لكن تسمى المعاشرة التي بين الناس إذا تأكدت في غالب الأحوال خلة فالنبي ليس له خليل ولا هو صاحب لأحد سوى نبوّته وكذلك المؤمن ليس له خليل ولا صاحب سوى إيمانه كما أن الملك ليس هو صاحب أحد سوى ملكه فمن كان بحكم ما يلقى إليه ولا يتصرّف إلا عن أمر إلهيّ فلا يكون خليلا لأحد ولا صاحبا أبدا فمن اتخذ من المؤمنين خليلا غير الله فقد جهل مقام الخلة وان كان عالما بالخلة والصحبة ووفاها حقها مع خليله وهو حاكم فقد قدح في إيمانه لما يؤدى ذلك إليه من إبطال حقوق الله فلا خليل إلا الله فالمقام عظيم وشأنه خطير والله الموفق ".(الفتوحات:  2 ص 22). (يشار إلى نصوص ابن عربي لا تتضمن النقط والفواصل).

إذن بالنسبة لابن عربي، يعتبر مقام "الخليل" مقاما عظيما وشأنا خطيرا، فالخلة كما يقول لا تصح بين الناس، بل فقط بين الله وعباده، واستشهد بحديث للرسول مفاده، أنه صلى الله عليه وسلم "خليل" الله، وأن الخلة لا تصح بينه وبين غير الله، اذ لو كان متخذا من الناس خليلا لأتخذ أبو بكر خليلا كما قال.  ويستفاد من كلام ابن عربي، أن الخلة هي في حقيقتها مقام "اتحاد" بين الله والعباد، وهو ما لا يمكن التسليم له به من قبل فقهاء الرسوم وحراس العقيدة، الذين يعتبرون مثل هذا القول كفرا وهرطقة، هذا في الوقت الذي يطرح فيه القرآن مفهوم "الخليل" باعتباره حقيقة عارية مجردة، ليجوهر به المعنى الحقيقي للتوحيد في الإسلام، وسر علاقة الاتحاد التي تربط بين الله وعباده، مرموز إليها بعملية "التخلل" القائم بين الله وإبراهيم عليه السلام. غير أن مثل هذا الكلام التفصيلي المركب، الصادر عن صوفي عارف بخبايا الأمور وبواطن الأسرار كالشيخ الأكبر، يبوح بالكثير دون أن يفصح عن شيء يذكر فيما له علاقة بمعني الكلمة على وجه التحديد. بل إنه وفي سياق تفصيله لمختلف أوجه الخلة، ومع من تصح أولا تصح، يتبيّن أنه يتهرّب من الاقتراب من المدلول ولو من باب التأويل.. ليساعدنا على إدراك طبيعة العلاقة التي يؤسسها بين الله وإبراهيم بصفة خاصة، وبين الله والمؤمنين بصفة عامة، وذلك من خلال مقاربة حقيقة التخلل الموجود بينهما، كما أنه لا يشير من قريب أو بعيد إلى معنى "الخليل"، سواء المعنى اللغوي الظاهر من تراكيب الخطاب، أو المعنى الاصطلاحي الكامن في تفاصيل كيميائه.  وكأن ابن عربي بموقفه هذا، يريد أن يستأثر بالمعني اللطيف لنفسه، ويرفض أن يتقاسمه مع غيره من باب التقيّة خوفا من سيف التكفير.  فهل الأمر يتعلق فعلا بما يقال عن أنه اللغز الخفي، أو سر الأسرار الذي لا يدرك بالعقل، بل فقط بالذوق؟  الجواب يصعب استنباطه من تعابير ابن عربي، لأن هذا العالم بما هو عالم – والتعبير لابن رشد – ليس قصده إظهار الحقيقة مُجرّدة للعيان، بل التستّر وراء لغة الرمز والإشارة، تلافيا لإثارة الشكوك وتحيير العقول على ما يبدو، وان كان أحيانا يستعمل بعض المصطلحات الصادمة لإيمان العامة، كمقام "الاتحاد" مثلا، والذي يعتبر من حيث الظاهر صادما لعقيدة العامة كما أصّلها فقهاء الرسوم.

والحقيقة أن مثل هذا النوع من التساؤل يستمد شرعيته من طبيعة ما كان يبحث عنه إبراهيم الخليل عليه السلام في الكواكب التي كان يتأمّلها، هل هو شكلها وحجمها أم طبيعة النور الذي كان يصدر عنها فيتخلل حاسة الإبصار التي تدرك الأشياء فتعقلها؟  يقول الغزالي في رحلته المعرفية انطلاقا من المحسوس، مرورا بالعقل، وانتهاء بالذوق ما مفاده: "أن حاسة البصر تنظر إلى الكوكب فتراه صغيراً في مقدار دينار، ثم الأدلة الهندسية تدل على أنه أكبر من الأرض في المقدار، وعليه فان الحسيات غير يقينية ولا توجب أن نسلم بها بصورة قاطعة". وبذلك، فلا يعقل أن تُختزل تجربة إبراهيم عليه السلام في البحث عن الله عن طريق معرفة حقيقة حجم الكواكب بقياسات العقل من خلال قوله (هذا ربي هذا أكبر)، لأن الكبر هنا لا علاقة له بالحجم، بل بقوة الضياء في الشمس مقارنة مع خفوت النور في حالة القمر. فالذي كان يبحث عنه إبراهيم عليه السلام بالتحديد، هو منبع النور الحي الدائم، أي نور الأنوار ومصدر كل الأنوار الوهاجة منها واللطيفة. ولو لم يقذف الله شيئا من نور علمه في قلب إبراهيم عليه السلام، لما عرف إبراهيم ربه على حقيقته وولّي وجهه شطره حنيفا، مُعرضا عن نور الكواكب وضياء النجوم الآفلة، رافضا أن يعتبرها آلهة تعبد مع الله فيكون بذلك من المشركين.. لأن إله إبراهيم أكبر وأقوي من كل ما يُري من حوله، انه بتعبير إبراهيم (فاطر السماوات والأرض)، أي أصل الخلق والمخلوقات.. وهذا الأصل هو الطاقة الهائلة الناجمة عن النور، لذلك عّرف تعالى نفسه بأنه نور السماوات والأرض كما ورد بصريح العبارة في الآية: 35 من سورة النور. 

من اللافت هنا مقارنة تجربة الغزالي وابن عربي مع تجربة إبراهيم الروحية.. خصوصا وأن الغزالي وابن عربي كما يستشف من كتاباتهما، لم يهتديا إلى الحقيقة عن طريق النقل (الموروث)، ولا عن طريق العقل بأدوات الجدل الفلسفي (منهج الشك والاستدلال المنطقي) وفق ما يؤكدان في العديد من نصوصهما، وإنما عرفا الحقيقة عارية مجردة تنطق بما فيها عن طريق ثالث يعتمد الخلوة والمجاهدة، أي الانقطاع إلى الذكر والتأمل العميق في انتظار الكشف الذي يتم بواسطة قذف نور المعرفة اللدنية في قلب السالك. ففي كتابه: "المنقذ من الضلال" صفحة 60، يقول أبو حامد الغزالي: "أن العلم اليقيني هو الذي يكشف فيه المعلوم انكشافاً لا يبقى معه ريب ولا يقارنه إمكان الغلط والوهم". هذا النور الإلهي اللطيف الذي يمنحه الله لمن يشاء من عباده فتتكشف له البديهيات والحقائق الأولى، هو "مفتاح أكثر المعارف". ويستدل الغزالي على جوهر هذا النور بالقرآن والحديث. يقول تعالى: (فمن يُرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام)، ولما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شرح هذه الآية قال: (نور يقذفه الله في القلب).  فقيل وما علامته؟ قال: "التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود". فمن ذلك النور ينبغي أن يُطلَب الكشف، وهو ينبجس من الجود الإلهي في بعض الأحايين، فيجب الترصد له كما قال عليه السلام: "إن لربكم في أيام دهركم نفحات، ألا فتعرّضوا لها، فمن يصيبها لن يشقى بعدها أبدا".

وبهذا المعنى، يكون إبراهيم الخليل عليه السلام، هو أول من عرف الحقيقة اللدنية معرفة يقينية، لم يبقي معها درّة من شك أو ظلّ من وهم.  ولم تأتي هذه المعرفة بمحض الصدفة، بل حصلت بعد أن أعياه النظر بالحواس وأعجزه التدبر بالعقل، فكافأه الله على جهده واجتهاده وتقرّبه بأن قذف نور الحقيقة في قلبه، فامتلك الخليل عليه السلام بذلك "مفتاح أعظم المعارف"، حيث انكشفت له حقيقة الحقائق وسر الأسرار.. الذي ليس في نهاية الأمر سوى طبيعة الله الذي هو نور السماوات والأرض ومصدر كل الأنوار... فقال عليه السلام بمنتهي العزم والثقة: (إني وجّهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين). 

وبهذا المعني، يكون إبراهيم الخليل، أول صوفي عرفه التاريخ البشري، ويكون الطريق كما اتّبعه وبيّنه الصوفية من خلال تجاربهم الروحية، هو المسلك الوحيد والصحيح لمن أراد معرفة الحق والحقيقة معرفة قلبية يقينية على غرار سنة أب الأنبياء وسيد الصوفية وإمام الحنفية الموحدين إبراهيم الخليل عليه السلام، رمز الإنسان المُتعقل، الناضج في مسعاه نحو الكمال.  وهو ذات الإنسان الذي تجمّعت فيه كل الحقائق الإلهية الظاهرة والخفية، باعتباره المجلي المظهر للحق، كما يقول ابن عربي في بيانه لمرتبة "الخليل". فالحق يتخلل صورة إبراهيم وإبراهيم يتخلل جميع ما اتصفت به "الذات الإلهية". فهناك تبادل في فعل التخلل، والدليل عليه تبادل ظهور كل من الحق والخلق بصفات الآخر، وليس المتخلّل (بكسر اللام) والمتخلّل (بفتح اللام) سوى الظاهر والباطن.. يقول ابن عربي في هذا الصدد: "إنما سُمّي الخليل خليلا لتخلّله وحصره جميع ما اتصفت به الذات الإلهية..." هنا يتكلم ابن عربي عن الذات الإلهية بالمرموز، فخطابه المُركّز، يوحي بأنه يعرف ماهية هذه الذات، من دون أن يفصح عن طبيعتها الحقيقية. ثم يسترسل بالقول: "قال الشاعر: 

قد تخلّلت مسلك الروح مني          وبه سُمّي الخليل خليلا

فالأمر كما يتخلّل اللون المتلوّن... أو لتخلل الحق وجود صورة إبراهيم عليه السلام... ألا تري الحق يظهر بصفات المحدثات... ألا تري المخلوق يظهر بصفات الحق... فالمتخلل محجوب بالمتخلل... فاسم المفعول هو الظاهر، واسم الفاعل هو الباطن المستور" (فصوص الحكم 1 ص: 80 – 81).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق